ويرجع عهد معرفتي بها إلى يوم من أيام عام 1920، وكنت آنئذ طالبا في السنة الأولى بمدرسة الزراعة العليا، استيقظت ذلك اليوم في الصباح المبكر كعادتي، فجاءتني والدتي وقالت لي: حسونة .. أرى أن أخبرك أن ضيفة نزلت ببيتنا، وأنها ربما أقامت بيننا إلى أجل غير مسمي.
فنظرت إليها بغرابة وقلت لها: من هي؟ - زينب هانم زوج اليوزباشي محمد راضي جارنا.
فاستولت علي الدهشة وقلت: لكنها ما زالت عروسا في شهر العسل .. أليس كذلك؟ - هو ذلك يا بني، والظاهر أنها تعسة الحظ؛ لأنها اضطرت إلى هجر بيتها والالتجاء إلي في الصباح الباكر، وزوجها ولا شك رجل غليظ فظ لا تسهل معاشرته، وإلا ما تركها تهيم على وجهها وهو يعلم أن لا أقارب لها في القاهرة.
وكانت والدتي شديدة التأثر، فقلت: مسكينة.
فقالت بانفعال: كانت أم هذه الشابة صديقة صباي، وإني أرجو صادقة أن تعيش بيننا سعيدة.
ثم أردفت بلهجة ذات مغزي: وأن تكون لها يا حسونة أخا كريما.
وبادرت قائلا: طبعا .. طبعا .. يا أماه.
وذهبت إلى المدرسة وأنا أتذكر كلمة والدتي الأخيرة واللهجة التي قالتها بها، وأحسست بمزيج من الخجل والغضب. ترى هل تشفق والدتي من سلوكي علي ضيفتنا؟ ثم خطر لي أن أتساءل: «هل هي جميلة إلى حد تبرير مخاوف والدتي؟» .. حامت أفكاري حول ذلك طول الطريق من مصر الجديدة إلى الجيزة. والحق أن كلمة والدتي البريئة أوجدت في نفسي منذ البداية الاستعداد الذي كانت تشفق منه أيما إشفاق.
كان جو بيتنا غاية في الهدوء؛ فوالدي كان حينذاك قاضيا بمحكمة طنطا الأهلية، وكان يقيم نصف الأسبوع في القاهرة ونصفه الثاني في محل عمله، وكان أخي علي في المدرسة الحربية، وأخي عادل في بعثة مدرسة الطب بالنمسا. وفي ذلك الجو المغمور بالهدوء والسكينة عرفت زينب هانم العروس التعسة .. وقد خيل إلي وأنا ألقي عليها النظرة الأولى أني أرى صبية صغيرة. نعم كانت بضة ممتلئة بادية الأنوثة، ولكني قرأت في عينيها العسليتين نظرة براءة وسذاجة، بل طفولة كاملة لولا ما يلوح فيهما بين الحين والحين من الحزن العميق الذي لا تعرفه الطفولة الحقة.
وكان الشباب في ذلك العهد غيرهم الآن، كانوا أعظم استقامة، وأدنى إلى العفة والطهر، وأرعي عهدا للتقاليد، وكانت المرأة المصونة تبدو دائما وكأنها محاطة بسياج من الأسلاك الشائكة، وكان الحب بعيدا نسبيا عن التهتك والابتذال اللذين صرعاه أخيرا وأورداه الإباحية والجنون؛ فكانت العواطف تزدهر في القلب وتنبت الآمال والأماني، وتنصهر في العقل وتخلق الأخيلة والأحلام، وتكتسي بحلي نادرة من صنع الأوهام والأطياف.
ناپیژندل شوی مخ