وكان يتكلم بلهجة جدية لا تترك أثرا للشك في نفس السامع؛ فجحظت عينا السيدة دهشة وانزعاجا، وعلا ضحك صاحباتها، وتأملنه بإمعان وهي تكاد تجن من الدهشة، وسألته: ألست أنت الشاعر؟
فأجاب بهدوء: كلا يا سيدتي .. أنا موظف بوزارة الزراعة. - ألم تقابلني قبل الآن؟ - لم يحصل لي هذا الشرف يا سيدتي.
قال علي أفندي ذلك وأحنى رأسه تحية وذهب تاركا السيدة لصديقاتها الضاحكات، وقالت السيدة الأخرى: إني أعجب كيف يخدعك بصرك إلى هذا الحد، ألا ترين أني فطنت إلى الحقيقة من النظرة الأولى؟!
فقالت الأرملة الذاهلة تداري خجلها: ما أعجب الشبه بينهما!
فقالت الأخرى: ولكن شتان ما بين قامتيهما.
وقالت أخرى ساخرة: سيغضب «صديقك» الشاعر حين يعلم بهذا الخطأ الغريب.
وغادر علي أفندي المعرض مضطربا. ولما تنسم الهواء الطلق انفجر ضاحكا حتى دمعت عيناه، على أن الموقف لم يكن يخلو من دواعي الأسف ما دام قد خسر الموعد المنتظر، وكان يمني نفسه بأكثر من ليلة واحدة.
الشريدة
الغالب على أحاديث الشبان في هذه الأيام أن تتجه نحو غرضين؛ النساء والسياسة، وحول هذين الموضوعين دار الحديث في مجتمع من الأصدقاء كان من حظي المشاركة فيه محدثا ومنصتا. وقد بدأ الحديث فاترا مبتذلا فلم يستطع أن يجذب إلا بعض انتباهي، حتى تكلم ذلك الصديق البارع وتدفقت الذكريات على لسانه الذرب، فألقيت إليه بانتباهي كله؛ لأن حديثه كان قصة مستوفاة العناصر، ومثل هذا الحديث يستبد بمشاعري استبداد المال بقلب اليهودي الشحيح، وإليك ما قصه صاحبي، قال:
لا يكاد يخلو تاريخ شاب من امرأة، ولكنه قد يخلو من المرأة المؤثرة التي تترك وراءها شاهدا عميقا لا ينال منه طمس السنين كالوشم في اليد أو الصدر. وقد عرفت نساء كثيرات لا أذكر منهن إلا أثرا ذاهبا من اللذة أو الألم، أو أطيافا في الظلام والنسيان، إلا امرأة بدت في فترة من حياتي كالكوكب الدري ينير أبدا ويضيء ما حوله، فلا أنساها ولا يغمر النسيان حياتي التي غمرتها بروحها الرقيق .. لماذا؟ .. ألأنها كانت أجمل من عرفت .. أو أحبهن إلى قلبي؟ لا أعتقد هذا، ولكن ربما لأنها كانت أتعسهن جميعا، ولأن تعاستها هذه كانت السبب الخفي في سعادتي بها زمنا طيبا لن يعود أبدا.
ناپیژندل شوی مخ