١٣٢ - قال إسحق بن إبراهيم حدثني ابن عائشة عن يونس النحوي قال: مات رجل من جند أهل الشام فحضر الحجاج جنازته، وكان عظيم الوجاهة، فصلى عليه الحجاج، وجلس على شفير قبره وقال: لينزل في القبر بعض إخوانه، فنزل نفر منهم، فقال أحدهم وهو يسوي المبن عليه: يرحمك الله أبا قنان إن كنت ما علمت تجيد الغناء وتسرع رد الكأس، ولقد رفعت في موضع سو لا تخرج منه أبدًا إلى يوم الذكر! قال: فلم يتمالك الحجاج أن ضحك، وكان الحجاج قليل الضحك في الجد والهزل، وقال: هذا يوم ذا لا أم لك، قال: أصلح الله الأمير، فرس حبيس في سبيل اله لو سمعته وهو يغني:
يا لبينى أوقدي النارا ... إنَّ من تهوينَ قد حارا
ربَّ نارٍ بتُّ أرمقها ... تقضمُ الهنديَّ والغارا
عندها ظبيٌّ يؤرِّثها ... وتخالُ الوجهَ دينارا
لطربت على غنائه، فقال الحجاج: أخرجوه من القبر لعنه الله! ثم قال: يا أهل الشام ما أبين حجة أهل العراق في جهلكم! ولم يبق أحد حضر الموضع إلا استفرغ ضحكًا.
١٣٣ - وحكى لي الرئيس أبو الحسين والدي قال: كنت عند الشريف أبي الحسن محمد بن عمر العلوي وقد حضر بعض متقدمي نواحيه بشكوى فأحضره وقال له: مالك؟ فقال: يا سيدنا هو ذا نصفع اليوم سبعة أيام على رأسك؟ فضحك منه وقال: أخرج قبحك الله! فأخرج وضحك الحاضرون.
١٣٤ - وحدثني بعض الأصدقاء قال: جاء ني .. الملقب بفخر الحجاب أحد حجاب الدار الخليفية يعزيني عن ولد لي، فقال لي: أيها السيد قال الله تعالى: إن تذهب الجلةُ فالسخلُ هدر! قال: فضحكت وضحك من كان حاضرًا، ونهضت!.
١٣٥ - لما مات عبد الملك بن مروان جاه الوليد ابنه، فأنشد هشام بن عبد الملك، وكان أصغر ولده:
فما كانَ قيسٌ هلكهُ هلكُ واحدٍ ... ولكنَّهُ بنيانُ قومٍ تهدما
فلطمه الوليد على فمه وقال: اسكت يا بن الأشجعية، فإنك أحول أكشف تنطق بلسان شيطان! ألا قلت:
إذا مقرمٌ منا ذرا حدُّ بهِ ... تخمَّطَ فينا نابُ آخر مقرمِ
١٣٦ - وأنشد جرير لعبد الملك بن مروان بعد أن أقام دهرًا على بابه، وتسأله قيس وتشفع فيهن وهو لا يجيب إلى مسماع شعره ومدحه، ثم أذن في ذلك، فابتدأ وأنشد:
أتصحو بل فؤادك غيرً صاحِ ... عشيَّةَ همَّ صحبكَ بالرواحِ
فقال عبد الملك: بل فؤادك يابن اللخناء! فحصر جرير واغتم كيف اتفق له مثل ذلك بعد امتناعه من سماع إنشاده!.
١٣٧ - وحدث زياد بن عبيد الله الحارثي قال: خرجت وافدًا إلى مروان بن محمد في جماعة، فلما كنا ببابه دفعنا إلى ابن هبيرة، وهو على شرطته وما وراء بابه، فتقدم الوفد رجلًا رجلًا، كلهم يخطب ويطنب في مروان وابن هبيرة، فجعل ابن هبيرة يبحثهم عن أنسابهم، فكرهت ذاك وقلت: إن عرفني زادني ذلك عنده شرًا، فلطيت وجعلت أتأخر رجاء أن يمل كلامهم فيمسك، حتى لم يبق غيري، فقدمني، فلو أجد بدًا ما كرهت، فتكلمت بدون كلامهم، وإني لقادر على الكلام، فقال: ممن أنت؟ فقلت: من أهل اليمن، قال: من أيها؟ قلت: من مذحج، قال: إنك لتطمح بنفسك، اختصر! قلت: من بني الحارث بن كعب، قال: يا أخا بني الحارث إن الناس ليزعمون أن أبا اليمن قردٌ فما تقول في ذلك؟ قلت: وما أقول أصلحك الله! إن الحجة لفي هذا لغير مشكلة، فاستوى قاعدًا، وقال: وما حجتك؟ قلت: تنظر كنية القرد فإن كان بكنى "أبا اليمن" فهو أبوهم وإن كان يكنى "أبا قيس" فهو أبو من كني به! فنكس وندم ونكت الأرض وتعلم أنه هفا فيما واجهني بهن وجعلت اليمانية تعض على شفاهها، تظن أن قد هربت، والقيسية تكاد تزدردني، ودخل الحاجب إلى مروان، ثم رجع، وقام ابن هبيرة فدخل عله أيضًا ثم لم يلبث أن خرج، فقال الحارثي: فقمت على مروان وهو يضحك، فقال: إيه عنك وعن ابن هبيرة! فقلت: قال كذا وقلت كذا، فقال: أيم الله لقد حجبته، أو ليس أمير المؤمنين يزيد الذي يقول:
تمسك أبا قيسٍ بفضل عنانها ... فليسَ عليها إن هلكت ضمانُ
فلو أرَ قردًا قبلنا سبقتْ به ... جيادَ أميرِ المؤمنين أتانُ
وهذان البيتان ليزيد بن معاوية، وذاك أنه حمل قردًا على أتان وحشية، وسبق بينها وبين خله، فسبقت الأتان وعليها القرد قال زياد:
1 / 32