ثم تنطلق سيقانه المقوسة الرفيعة تجري وتسبقني إلى المكتب.
ومرة لمحت في عين عم محمد دمعة؛ دمعة صغيرة دقيقة وكأنها آخر دمعة في حصالة عينيه، وكانت على أثر قلم سريع خاطف ناله من المعلم، كان قد ارتكب خطأ ما؛ إذ حين ذهبت لأكشف على متوفى لم يكن قد خلع عنه كل ملابسه، وقبل أن ألوم المعلم على هذا الإهمال أو أؤنبه، كان هو قد هوى بكفه على صدغ عم محمد في صفعة سريعة خاطفة وكأنما ليقرر بها أن الذنب ذنب صبيه، ويريني أن العقاب قد أنزل ولم يعد هناك داع لكلمة لوم واحدة مني، وتولاني غضب جامح، أما عم محمد فالعجيب أنه لم يثر، ولم يحتج، ولم يترك الغرفة، بل وقف ويده مثبتة فوق مكان الصفعة، وعلى وجهه إحساس بالذنب، تماما كما يفعل أي صبي صغير حين يخطئ ويعاقبه المعلم.
وذهبت إلى المكتب مرة فوجدت حشدا كبيرا من العم محمدات، وكانوا يبدون إذا وقفوا معا وسط ما يحفل به المكتب من نساء صغيرات وأطفال ورجال، يبدون كقبضة من قش الأرز في وسط باقة من الزهور، وكانوا إذا وقفوا معا لا يتحدثون كما تفعل جماعات الناس، بل يقفون ساكتين صامتين وكأنهم من طول ما تكلموا في أعمارهم الطويلة قد ملوا الكلام.
واستغربت؛ إذ لم أتعود وجودهم في جماعات كبيرة كتلك، وما إن رآني المعلم الشاب حتى أقبل هاشا باشا متهلل الوجه مصبحا بالفل والياسمين والقشطة ومقبلا الأيادي، ولم يسلم الأمر من ضحكة عريضة جوفاء رددها، ثم بدا عليه تأثر مفاجئ وضم قبضته على بطنه وقال: «اسكت يا شيخ!» - «إيه؟!» - «مش الراجل مات!» - «راجل مين؟»
قلتها وأنا أكاد أضحك، فقد كان من عادة المعلم أن يحدثني عن أشياء لا أعرفها وكأني أعرفها، ولكنه قال: «الصبي بتاعنا.» - «عم محمد؟!» - «تعيش انت.»
وفي الحال اتخذت سيماه طابع العمل وقال: «بس والنبي يا دكتور، عايزين تخلص لنا تصريح الدفن بتاعه بسرعة، إنت عارف، الدنيا صيف، وده راجل عضمة كبيرة.»
وضحكت، فلم أصدق أن عم محمد مات حقيقة، فقد كان معي بالأمس يجري أمامي وخلفي وعلى جانبي، ثم لما تصورته ميتا ضحكت، لا لأني لم أحزن، ولكن لأن هناك نوبات من الحزن تأتي على هيئة ضحكات، ثم إن معلمه كان يستعجل تصريح دفنه بنفس الطريقة التي يستعجل بها تصاريح الزبائن!
وقال المعلم وهو يستحثني: «هيه يا بيه! قلت إيه؟»
فقلت: «بقى الراجل يعملها ويموت؟!»
فقال المعلم: «أيوه، ولولا ربنا بعت لنا صبي غيره كانت بقت وقعة النهارده!» - «صبي غيره؟!» - «أهه، تعال يا جندي.»
ناپیژندل شوی مخ