وهذه الطائفة من الملحدين ومن لا يلحد ولكنه يؤمن بلا إيمان ... وإنما هم أنفسهم بعض آلام الإنسانية، فليس بدعا أن يكون في آلامهم ما يقتدح هذه الحقيقة النارية فيهم، وإلا فكيف يؤلمون الإنسانية إذن؟
على أن أكثر الناس لا يدركون هذه الحقيقة فيصبون عليهم من النسيان ما يصب الغاسل على الميت من الماء ليرسل معه بقية طهارته إلى الآخرة، ولو هم أدركوها لرأوا في هذه الثورة الإنسانية مظهرا عجيبا من حكمة الله، ولرأوا أن كل شيء يتألم حتى الديانات والفضائل، فإنها تتألم بسخط هؤلاء وجحودهم.
وليست كل الهموم التي تصيب الإنسان مما يلوي بها القدر عليه؛ فإن من ذلك سيئات يجنيها الإنسان على نفسه بسوء الخوف من الله واتهام رحمته وقدرته، كالتوقع لما يقع، والحذر مما لا يوقن بوقوعه، ومعالجة المستقبل، والاهتمام للمستحيل أو لشبه المستحيل؛ ثم المصيبة الآكلة التي لا تبقي على النفس إلا أسوأ ما فيها؛ لأنها محاولة استخدام القضاء وتصريف القدر على غير ما يريده الله، وهي الحسد!
فهذا وما أشبهه إنما هو من مصائب العقل الذي يحاول الملحدون تسميته إله الأرض فلا يكون قضاؤه على صاحبه إلا ما ترى.
واعتبر ذلك بأن هذه المصائب لا تكون على أشدها فجيعة وألما إلا في أقوى الناس عقلا وأضعفهم إيمانا، مع أن المؤمن الساذج الذي يكاد يعد في رأي العقلاء ... حيوانا يبيع نفسه ويشتري لها مشتريا - لا يعتريه شيء منها بل هو في أمن من جميعها، وكأن حوله من قلبه سورا مضروبا على الحياة باطنه فيه الرحمة وإن كان ظاهره من قبله العذاب؛ وهذا المؤمن يعرف بفطرته السليمة تلك الحقيقة الناصعة التي يجهلها أكبر الفلاسفة من الملحدين ويجهلها أكثر العقلاء فلا تكون كل المصائب الإنسانية التي ينافح بها القوم بعضهم بعضا إلا عقابا عقليا على هذا الجهل، وتلك الحقيقة هي أن الله لا يمسك عنا فضله إلا حين نطلب ما ليس لنا أو ما لسنا له.
ومع ذلك نظل نخادع أنفسنا بالآمال اللذيذة ونخرج عن الحقيقة ثمنا لوهمها، كما يشتري السكير أحلام نفسه بعقله، ثم تذهب الأحلام والعقل معا، وتتركه الخمر برذائله وجنونه وأمراضه أصح تفسير لها بين العاقلين.
أما المصائب الإلهية فإن الله يرسلها برحمة، فيستلب فيها من الإنسان إحساسه أو أكثره، ويعطيه أسباب العزاء أو أكثرها، ويهيئ له من أمره ما يجعله يتلقى المصيبة بروحها لا بروح النعمة التي أصيب فيها؛ وبذلك لا يشعر أنه ضرب بيد الجبار ولكن بيد الرحيم، ولا يكون إلا كالذي يغمض عينيه عند الوسنة ثم ينحدر إلى الأبدية وقد يتحطم في مهواتها وما أحس من آلام الموت ونزعه أكثر من غمضة العين.
وعلى هذه الصفة الرحيمة يفترس الحيوان ما هو أضعف منه؛ فيستلب إحساس الضعيف حتى لا يدري ما هو من مفترسه، ولا ما كان فيه مما يصير إليه، ثم يكيد بنفسه وكأنه لا يحس أن له نفسا فتزهق روحه كأنما أبت هذه الحياة الميتة. وما أحسب هذا ونحوه إلا (تخديرا) قبل (العمليات) الإلهية، فتبارك الله! لقد وسع كل شيء رحمة وعلما!
والإنسان لم يكن يوما منسيا من الله ولكنه لا يزال ينتبذ المكان القصي من الظن كأنه يريد أن يكون منسيا منه؛ فهو يشك في رحمة الله وعنايته كلما راث عليه الخير
11
ناپیژندل شوی مخ