والغناء في تعريف قوم من الفلاسفة فن يقصد به تحريك النفس بتنسيق الصوت وتأليفه على طريقة ترتاح لها الأذن، فتهتز له نفوس أرباب المدارك العالية والأمزجة الصافية، وهو القوة المساعدة لقوة النطق في التأثير في السامع، وكان القدماء يعتبرونه لغة عامة لسائر الناس يفهمونها على اختلاف لغاتهم وألسنتهم، وكان لا بد لطالب الفلسفة عندهم من الإحاطة بفن الموسيقا مع الرياضيات، وقد عبر عنه الحكيمان الكبيران «فيثاغورس» و«هرمز» أنه علم التنسيق لكل شيء، ولذلك أطلقوا عليه لفظة «أرمونيا» ومعناها النظم والتنسيق ومنه الترتيل، وكلهم مجمعون على أن لا شيء في العالم يعادل تأثير الغناء في تهيئة النفوس وتوطئة القلوب لقبول الفضائل والكمالات، وعندهم أن الذي لا يتأثر منه لا بد أن يكون به نقص في الخلقة، والغناء مغروس في طينة الإنسان منذ نشأ في حجر الطبيعة، ومنذ استهل في المهد باكيا فلا يسكن إلا به، ولا يراح عنه إلا بتطريبه، وفضل تأثير الغناء في النفوس على تأثير الكلام كفضل الشعر البليغ في لغته على ترجمته كلاما غير موزون إلى لغة أخرى.
والوقائع كثيرة جمة في التاريخ تشهد بقوة تأثير الغناء، منها أن أهل مدينة إسبرطة كانوا في فتنة اشتد لهيبها وعظم شرها، فعمد جماعة من الموسيقيين إلى مكان الزعماء القائمين بأمرها، فما زالوا يغنونهم حتى طربوا فصفت أرواحهم ورقت نفوسهم ولانت عريكتهم، فانتهوا من أنفسهم عن إشعال نار الثورة فخمدت، وقام صياح الطرب، مقام صياح الشغب، ومنها أن أهل سويسرا كانوا ينزلون عن رءوس الجبال للاحتشاد في الجند، فإذا انعقد جمعهم أغرى العدو بهم من يغني فيهم بلحن لهم معروف يتغنى به الرعاة في قلل الجبال فيشتغل في نفوسهم لهب الوجد، وتهيج فيهم ثائرة الحنين وينزع بهم الشوق إلى منازلهم فيلقي أسلحتهم عن أيديهم، ويذهب بهم على وجوههم، وقد تكرر وقوع ذلك فيهم حتى قرر رؤساؤهم الحكم بالإعدام على كل من تغنى بينهم بذلك الغناء، ومنها حكاية الحكيم أبي نصر الفارابي مع سيف الدولة بن حمدان؛ إذ أضحك أهل مجلسه وأبكاهم ثم أنامهم وتركهم، وقد كان خطباء الدولة الرومانية يتسابقون إلى تنسيق أصواتهم في الخطابة وتتبع النغم لتأثير القول في النفوس، وربما استصحب بعضهم مع أحد الموسيقيين بآلة من آلات الطرب، فيجعله بجانب المنبر حتى إذا وجده خرج عن النغم أو شد نبهه بصوت الآلة فيرجع إلى الأصل، ولسنا نجد بين الأمم أمة في بداوتها وحضارتها وماضيها وحاضرها إلا وعندها الغناء في الجيش آلة من آلات الحرب تعين على ممارسة الأهوال، وتثير إلى منازلة الحتوف، وكان القدماء منذ عهد داود - عليه السلام - يعتقدون أن الغناء يشفي من الأمراض والأسقام، وكان «إيسمين» في مدينة «تيب» يزعم أنه يشفي من عرق النسا بصوت الناي، وكان «هوميروس» و«جالينوس» و«بلوتارك» من بعدهما يؤكدون أن الغناء يشفي من الطاعون ومن داء المفاصل ومن نهش الأفاعي، وقام اليوم جماعة من كبراء الأطباء في أوروبا يقررون بعد كثرة التجارب أن الغناء دواء نافع لكثير من الأمراض، وأطلقوا عليه لفظة «ملوترابيا» يعني العلاج بالطرب، كما قرروا من قبل «الهيدروترابيا» وهي المعالجة بالماء «والاليكتروترابيا» وهي المعالجة بالكهرباء، وقد جرب أطباء فرنسا تأثير الغناء في وظائف الأعضاء بآلة حاسبة، فوجدوا أنه يزيد في دورة الدم وفي حركة التنفس سرعة مقبولة، وذهب بعضهم أن للأخشاب التي تتخذ منها آلات الطرب تأثيرا آخر على المريض مثل اتخاذ الناي من خشب الكينا فإن سماعه يشفي من الحمى، وبلغت العناية بهذا الفن في ألمانيا أنهم جعلوه درسا من الدروس الأساسية يبتدئ به التلامذة ابتداءهم بحروف الهجاء، وينتهون منه انتهاءهم من دروس الفلسفة.
وجماع القول في هذا الباب من جهة البحث والنظر أن الخالق جلت عظمته قد جعل من فضله ونعمته على الإنسان لكل حاسة لذة؛ فلذة النظر في تناسق المرئيات وترتيب أجزائها وذلك هو الجمال، ولذة الذوق في ائتلاف الطعوم وذلك هو العذوبة، ولذة الشم في لطف الرائحة وذلك هو الطيب، ولذة اللمس في تناسب أجزاء الملموس وذلك هو النعومة، ولذة السمع في اتساق الصوت وحركة توقيعه وذلك هو الغناء.
وأما القول فيه من جهة الدين فقل أن تجد دينا من الأديان في أنحاء العالم إلا ويستعان فيه على العبادات بالترتيل والترنيم والتنغيم، لما ينشأ عن ذلك من صفاء النفوس وانتعاش الأرواح للتجرد والاتصال بالعالم الروحاني، وما كان الدين الإسلامي وهو دين الأذان لينكر سماع الغناء ويحكم بكراهته، وشأنه في فطرة الإنسان على ما بينته لك، وناهيك بما ورد في الخبر الصحيح أن النبي
صلى الله عليه وسلم
سمع نسوة يتغنين في وليمة عرس، فلم ينكر ذلك عليهن، وقد استقبله - عليه السلام - نسوة من الأنصار عند مقدمه من إحدى الغزوات بالدفوف والمزاهر وهن يتغنين على الإيقاع بقولهن :
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
ناپیژندل شوی مخ