إني أريد أن أهتدي بهديك في باب سماع الغناء وتقرير كراهته أو إباحته، فلا تبخل علينا بفضلك وعلمك، والوقت وقت مسامرة، فإن أردت أن نقضي جانبا منه فيما ينفع ويفيد فقد أديت واجبا عليك في الدين، وجعلتنا لك من الشاكرين.
الشيخ المتخلف :
اعلم أن طرب الغناء أمر غريزي راسخ في طبيعة الحيوان، ومن الحيوانات العجم وضواري الوحوش ما تسمع الغناء فتحن إليه وتسكن به، فيضعف من قسوتها ويكسر من حدتها، وربما ذلت به رقابها وأمكن قيادها، وهذه الفيلة وهي من أكبر الحيوان أجساما وأشدها بطشا إذا سمعت صوتا مرنما أو كلاما منغما لم يلبث هذا الجسم العظيم أن يتمايل ترنحا ويهتز طربا - ولو كان في مواقف النيران - اهتزاز الحمامة المطوفة على فنن من الأفنان، وهذه الإبل المعروفة بأنها أغلظ الحيوان أكبادا تراها إذا براها السرى وأضناها التعب وأهلكها الظمأ فتغنى لها الحادي ذهلت في الحال عما أصابها، وتعللت بالغناء عن مناهل الماء، وهي على الخمس في ظمئها أو العشر،
1
ونشطت به تستعيد القوى لاستئناف السرى، وطالما شاهد المشاهدون هوام الأرض ودوابها تخرج من كهوف الجبال وبطون الرمال، فتجتمع جيوشا تتبع جيوش الحرب في مسيرها، وقد ظهر لأحد الباحثين من علماء الطبيعة عن علة ذلك الاتباع أن صوت الموسيقى أمام الجيوش هو الجاذب لها، والدافع بها للخروج من أوكارها وأحجارها للمسير خلف الجيش، ومن الروايات العتيقة أن أحد الموسيقيين من الفلاسفة كان عند شاطئ بحر يبغي الشاطئ الآخر ولا يجد ما يحمله إليه فجلس يلهي نفسه بالغناء وإذا بدلفين
2
قد شق أمواج البحر يتدنى من صاحب الصوت، فلم يزل في تدنيه والفيلسوف في تغنيه حتى حاذى الشاطئ وسكن يستمع، فأيقن الفيلسوف أنه استهواه بتأثير الغناء وذلله بقوة الطرب فامتطاه يسخره كيف شاء، فوق عباب الماء، كأنه مطية وجناء،
3
تسير في عرض البيداء على توقيع الحداء، وحكاية إبراهيم بن المهدي في اقتياده الوحوش الضارية بسحر غنائه مشهورة مذكورة.
هذا بعض ما يقال في تأثير الغناء في الحيوانات العجماء مع ضعف إدراكها وكثافة إحساسها ونقص خلقها، فما بالك بتأثيره في الإنسان وهو أسمى الحيوان رتبة، وأكمله خلقة، وأعظمه إدراكا، وأصفاه جوهرا، وألطفه روحا؟
ناپیژندل شوی مخ