102

حديث عيسى بن هشام

حديث عيسى بن هشام

ژانرونه

برب التاج والسرير، نعم حيث يكون المقعد الموروث، عن النبي المبعوث، وحيث يعمل بالسنة وآي الكتاب، فينتصر للذليل على العزيز، ويقتدى فيه تارة بسيرة عمر بن الخطاب، وأخرى بسيرة عمر بن عبد العزيز ، وحيث يكون مقر المهابة والجلال، ومصدر الوقار والكمال، وموضوع الطهارة والأمان ومنبع العفة والصيانة، وقبلة القنوت والخشوع، ومقام الطاعة والخضوع.

ولما وصلنا إلى هذه المحكمة وجدنا ساحتها مزدحمة بالمركبات، تجرها الجياد الصاهلات، وبجانبها الراقصات من البغال والحمير، عليها سرج الفضة والحرير، فحسبناها مراكب للعظماء والأمراء، في بعض مواكب الزينة والبهاء، وسألنا لمن هذي الركاب، فقيل لنا: إنها لجماعة الكتاب، فقلنا: سبحان الملك الوهاب، ومن يرزق بغير حساب، ونحونا نحو الباب، في تلك الرحاب، فوجدنا عليه شيخا حنت ظهره السنون، فتخطته رسل المنون، قد اجتمع عليه العمش والصمم، ولج به الخرف والسقم وعلمنا أنه حارس بيت القضاء، من نوازل القضاء، ثم صعدنا في السلم فوجدناه مزدحما بأناس مختلفي الأشكال والأجناس، يتسابون ويتشاتمون، ويتلاكمون ويتلاطمون، ويبرقون ويرعدون، ويتهددون ويتوعدون، وأكثرهم آخذ بعضهم بتلابيب بعض، يتصادمون بالحيطان، ويتساقطون على الأرض، وما زلنا نزاحم على الصعود في الدرج، والعمائم تتساقط فوقنا وتتدحرج، حتى من الله علينا بالفرج، ويسر لنا المخرج، في وسط هذا الجمع المتلاصق، والمأزق المتضايق، ووصلنا إلى القاعة السفلى، فوجدنا عندها امرأة حبلى، تتقلب على الأرض كالثعبان، وتستشهد بالأهل والجيران، أن بعلها أنكر حملها، وحاولنا أن نخطو خطوة إلى الأمام، فلم نستطع من شدة الزحام، وكيف بالتقدم في عباب موج ملتطم، ومنحدر سيل مرتطم، من نساء صائحات مولولات، ونائحات معولات، ونادبات باكيات، وصارخات شاكيات، كأنهن قائمات في مأتم على مدافن الأموات، تقرحت فيه العيون، وبحت الأصوات، وفيهن المسفرة والمتقنعة، والمضطجعة والمتربعة، والحاسرة عن الذراع والرأس، وأختها تفليها في وهج الشمس، ومنهن الكاشفة عن ثدييها ترضع طفلا على يديها، وغيرها ترضع طفلين في حذاء، وزوجها يضرب رأسها بالحذاء، وأخرى آخذة بضفيرة ضرتها، ورضيعها يتلهف على ضرتها.

ومن بينهن من يتقدمها طليقها، ويتبعها عشيقها تشيع الأول باللعن والسباب، وتغمز الثاني بكف مزدانة بالخضاب، ورأينا العقيلة المخدرة مع «الأغا» لا يستطيع أن يحميها في حرمة هذا الوغى، وشاهدنا في الجمع جماعة من فجار الخلعاء، وتباع النساء، يغازلون كل غانية هيفاء، ويغامزون كل غادة غيداء،

3

ويتعرضون لفض النزاع بين ذوات القناع، وفصل العناد والشقاق بين الطاعنات بالأحداق، فتختلط غمزات الطرف بهمزات الكف، فيزول ما هنالك من الجدال والخصام، ويصيرون جميعا إلى الحسنى والرقيق من الكلام، ورأينا فيما رأينا من غرائب البشاعة، وعجائب الشناعة، رجلا وامرأة يتسابقان في ألفاظ الفحش والهجر،

4

ويتباذان في أقوال البذاءة والنكر، وهما يتجاذبان في أيديهما غلاما، كأنما يحاولان له اقتساما، ليأخذ كل منهما من أعضائه بنصيب، والغلام يبكي من شدة الألم والتعذيب، فاستعذنا بالله السميع العليم، من موقف هذا الجحيم، وسمعنا من أفظع ما سمعناه امرأة تنتحب وتقول، ونقابها بماء العين مطلول: «لو كان للنساء قضاة من النساء لما وصلنا إلى هذه الحالة التعساء، فإن الرجال يميلون لجنس الرجال، ويتناصرون لبعضهم على ذوات الحجال»، فاستعنا برب المثاني،

5

وصعدنا في السلم الثاني، فإذا هو كالأول يتموج بالناس كبيوت النمل، أو خلايا النحل، وانتهينا منه إلى قاعة ممتلئة بصنوف الباعة، هذا يصيح: «الخبز والجبن»، وذاك ينادي «الدخان والبن»، وآخر يقول: «الزبدة والعسل»، وبعضهم يردد: «الفول والبصل»، وبائع الضأن يفتت بسكينه جماجم الرءوس، والثلاج يصفق بأكواز «العرقسوس»، وهناك «قهوة» يدب فيها الشهود بالعشرات، كدبيب الحشرات فيعرضون أنفسهم على الخصوم للشهادة أو التزكية بأجر معلوم، وغلمان المحامين يروحون بين الجموع ويغدون، فيمكرون بهم ويكيدون، ويتقلبون بين الخصوم ويحتالون، فيخدعون ويغتالون، ودخلنا حجرة صغيرة من حجرات الكتاب، فثار في وجهنا ما على أطباق الباعة من جيش الذباب، فرجعنا على الأعقاب، ونجونا من الأوصاب، ثم انحدرنا مع غلام المحامي إلى حجرة كبيرة الساحة، فقال: اجلسوا هنا للاستراحة، فأجلسنا في صدر المكان، بين الكتبة والغلمان.

ولا بد لكل كاتب هناك من غلام، يقوم مقامه في تدوين الأحكام، فسمعت الكاتب الجالس عن اليمين، يقسم على أقواله بكل يمين، بأنه لولا اعتراض مركبات الكهرباء وضيق الميدان، لما تأخر حماره عن حمار فلان، وسمعت صاحبه بجانبه، يحلف بجده وأعز أقاربه، أنه لولا حبسه للعنان، لسبق كل الحمير في يوم الرهان، ويقول له وهو يتلفف في العباء: «قد بلغنا عن الأجداد والآباء، أنه إذا صحت الشعرة الخضراء، لم يتعلق بذيل الحمار الهواء»، ثم التفت ذات الشمال فوجدت كاتبا منهم غض الشباب، عظيم التأنق في لبس الثياب، فهو يتلألأ ويتألق، في سندس وإستبرق، كأنما خاطوا له قباء من أزهار بستان، مختلفة الأشكال والألوان، يفعم الأنوف بعطره، ويعبق الجو بنشره، وأمامه رجل في يده صرة ثياب ينشرها ويطويها، فيأخذها «السيد» منه ويرميها، ويقول له في حدته، وشدة سورته:

ناپیژندل شوی مخ