ملاحظة التيسير والرفق، ولا نقول: إن البلوى بالنحو أعم من الفقه وأشمل، بل حسبنا أن يساوي النحو الفقه في ذلك، وإن كان من الناس غير قليل يستطيعون الاستغناء عن الرجوع إلى هذه المحاكم الفقهية، وليس فيهم واحد فرد لا يعرض للمشكلات اللغوية الكلامية، «وبخاصة حينما نعطي الناس جميعا» حقهم الفطري في التعلم، ومجاوزة الأمية، واستعمال لغتهم في الحياة قراءة وكتابة وكلاما. (ب)
جمع كل ما يوجد من المذاهب النحوية، حيثما وجد، والتوسع في فهمه دون وقوف عند نصوصه. (ج)
عدم التقيد بمذهب نحوي واحد في مسألة بعينها، وعدم التقيد بالأفصح أو الأرجح أو الأصح الذي نصوا عليه. (د)
تخير ما يوافق حاجة الأمة، ويساير رقيها الاجتماعي على ضوء التجارب العملية والخبرة التعليمية والشكاوى الحقة من المصاعب اللغوية.
وليس من الابتداع في شيء مطلقا أن يأخذ بهذه الأصول في اللغة والنحو، أشد المحافظين، بل المتعنتين، بعد الذي سمع أن أصولها محمولة حملا على أصول الشريعة، وأن هذا ما أقرته أصول الشريعة، وأصدرت على أساسه قوانين اعتمدتها السلطة التشريعية المصرية، ولم يرتفع صوت ما بمعارضة أصول هذا التشريع، مع الفرق الهائل، بل البون الشاسع بين الفقه والنحو من حيث الصفة الدينية، والحل والحرمة في الأول، وعدم ذلك تماما في النحو، ومع شدة صلة اللغة بالحياة، ومسايرتها إياها مسايرة قهرية، لا يستطيع أحد الوقوف في وجهها، وهو ما لا يتوافر للشريعة بهذه القوة. (6) اعتدال جامد
إلى هنا، من الحديث عن منهج البحث في هذا الموضوع، رأيتم أن صعوباتنا اللغوية قد تعرض لتذليلها الجيل السابق، أو الأسبق - على بساطة حظه من التجدد - فتحدث عن خطة حرة أو متطرفة، رأينا هنا ألا نأخذ بشيء منها، وتركناها إلى خطة تتأخر عنها خطوة إلى الوراء، بل ربما تأخرت خطوات، فنظرنا إلى أصول النحو كيف أصلها النحاة وأسسوها، وإذا هم قد انتزعوها من أصول الفقه انتزاعا، وإذا أصحاب الفقه اليوم يعملون رسميا لمسايرة الحياة، فقلنا: «إن ما صنعه أصحاب الفقه يتخذ مثله في النحو لتذلل صعوباته، مع ما بين النحو والفقه من فروق، توجب ذلك في النحو أكثر وأقوى وأسبق مما توجبه في الفقه.» وحل لنا اتخاذ هذا الدستور الشرعي للتجديد النحوي، على أن هذه لا تكون منا إلا خطوة محافظة، بل مقلدة لا محافظة فحسب.
لكن ما رأيكم في أنه حتى هذه الخطوة لا نخطوها هنا، بل نرجع إلى ما وراءها أيضا، فإذا كان أصحاب الفقه قد حوروا فلا نحور نحن! وإذا كانوا قد لفقوا فلا نلفق نحن! وإذا كانوا قد التمسوا الحلول حيثما وجدت في غير كتب النحو، فلا نلتمس شيئا من ذلك نحن! بل نلزم أصول النحو بنصها، ونقف عند منطوقها، ونبتغي الحلول من عباراتها! وهو اعتدال جامد، أو هو أكثر من ذلك حقا، فلا يخشى عليه اعتراض فيما أظن.
وعلى هذا الأساس، سنعرض عليكم الرأي والاقتراح، بعد أن تسمعوا قبله عبارة النحويين في أصولهم، وأنها تحله في غير لوم ولا تثريب. •••
والآن وقد أحجمنا عما تقدم إليه الجيل الأسبق قبلنا، ثم تأخرنا عما تقدم إليه أصحاب الفقه حولنا، لا نظن أن حولنا عناصر للرجعية أكثر من ذلك تأخرا، فلننظر بعين هذا الاعتدال الجامد في: (7) حياتنا اللغوية
وإذا قلنا: حياتنا اللغوية، فإنا نقدر تقديرا صحيحا أن حياتنا هذه اليوم إنما هي ثمرة ونتيجة لذلك الماضي الطويل الذي تعرضت فيه اللغة العربية لعوامل ومؤثرات اجتماعية متنوعة، ورحلات وانتقالات بعيدة المدى، وصراع مع لغات أخرى انتصرت فيه حينا وهزمت حينا، وتأثرت ببيئات طبيعية متغايرة، وبيئات معنوية متعددة، فترك فيها كل ذلك وما إليه آثارا في كيانها، وفي علومها، وفي طرق تعلمها، ولا بد لمن أراد فهم المنهج النحوي فهما صحيحا، من التعرض لدرس هذا الماضي السحيق كله، وتتبع آثاره، والتفهم التفصيلي لتلك المؤثرات، فلعله بعد ذلك الدرس يفهم من غوامض هذا المنهج وخفاياه حقائق كثيرة، ويتبين من نواحي خطئه وطرق تحريره ما لا يستطيعه قط المتناول المستعجل، وفي العزم إن شاء الله أن نفرغ لهذا الدرس بعد الآن لنحكم على هذا المنهج حكما دقيقا، ونتحدث في تغييره وتصحيحه، مما يقوم على واقع الحياة وقول التاريخ وسنة الاجتماع.
ناپیژندل شوی مخ