هذا النحو
هذا النحو
هذا النحو
هذا النحو
تأليف
أمين الخولي
هذا النحو1
بقلم أمين الخولي
معالم البحث (1)
من النواميس الاجتماعية أن تعد الفكرة حينا ما كافرة تحرم، ثم تصبح عقيدة تعتنق، وقد جرى هذا أمامنا في حياة الفقه الإسلامي حديثا. (2)
عملنا لغوي، والحياة تقتضينا فيه تجددا، وإنما بدأنا بذكر الفقه؛ لأن أصول هذا النحو تبنى عليه عند القدماء، فحديث تجدده يمهد للتجدد اللغوي. (3)
طرائق الإصلاح اللغوي متعددة: منها الحر الطليق - المتطرف - والمتوسط المعتدل الذي يقفي على أثر التجدد التشريعي، وقد خطا التجدد التشريعي أخيرا خطوات فسيحة، وثم من طرائق الإصلاح اللغوي ما هو مسرف في الاعتدال حتى يكاد يكون جمودا، وهو الطريق الذي نسير فيه هنا الآن. (4)
حياتنا اللغوية ومشكلاتها، ومحاولات المحدثين في التدبير لها. (5)
تيسير النحو والرأي فيه: ما نأخذه منه، وما ندعه. (6)
صعوباتنا اللغوية اليوم ليست ما رآها أصحاب تيسير النحو، بل هي غير ذلك، فهي: المعيشة بلغة، وتعلم لغة أخرى، وهي اضطراب إعراب هذه الفصحى التي نتعلمها، ثم هي اضطراب قواعدها. (7)
التدبير لحل هذه العقد، والأصل العام لهذا الحل. (8)
معالجة اضطراب الإعراب: في الأسماء الخمسة، والمثنى، وجمع المذكر السالم، والجمع بألف وتاء، والأسماء المنقوصة، والأفعال الخمسة، والمضارع المعتل الآخر. (9)
معالجة اضطراب القواعد، ومحاولة طردها بمعونة أصول الأقدمين النحوية. (10)
مناقشة ما يمكن أن يورد على هذه الحلول من شبه؛ مثل: صلتنا بالقرآن، وحال تلاميذنا مع هذه الحلول أمام التراث القديم، وروابط الشعوب التي تتكلم العربية.
هذا النحو
(1) نواميس اجتماعية
منذ أكثر من عشرين عاما كنت أتولى تحرير مجلة «القضاء الشرعي»، فنشرت فيها مقالا من رسالة لأحد أبناء المدرسة عن «اجتهاد عمر» خاصا بالتطليق ثلاثا بلفظ واحد، وأغضب هذا المقال من أغضب، حتى استدعيت من الريف سريعا لأدرك المجلة وقد تعرضت لخطر مخيف على حياتها، فكتبت في افتتاحية العدد التالي (صفر سنة 1341ه) كلمة أهدئ بها النفوس، كان مما قلت فيها:
لم تنشر المجلة ذلك رأيا لها أو مذهبا، ولم تعلق عليه باستحسان أو تحبيذ، ولم يجئ في سياق الكتابة نفسها ما يشعر بدعوة إلى جديد، أو حمل عليه، أو تحسين له، ولكنه بحث نظري محض، كتب للخاصة من المتفقهة، يروضون فيه النظر، ويمرنون الفكر، ولهم أن يفندوه وينقضوه، ويردوا عليه بما شاءوا، والمجلة تتقبل ذلك بصدر رحب وقبول حسن، ولا سيما إذا ذكرت أن البحث نظري محوج إلى التمحيص، ويحسن فيه الأخذ والرد ...
إلى كلام آخر في هذا المعنى وما يتصل به. •••
وشاء الله وقضت نواميس الكون الاجتماعية بعد ذلك بأعوام ليست كثيرة في حياة الأمة أن يصبح منع التطليق ثلاثا بلفظ واحد قانونا رسميا معمولا به في المحاكم، ثم قضت بأن يكون الأستاذ كاتب المقال السابق أحد أساطين المختصين بإصلاح تشريع الأحوال الشخصية في مسائل أهم وأبعد مدى من الطلاق الثلاث بلفظ واحد.
وإنها لظاهرة مطردة مكررة في حياة الكائنات المعنوية كلها، وقد عرفتها الدنيا في شواهد جمة ومواطن متعددة، مما له صلة بالتدين والاعتقاد، أو لا صلة له به.
إذ تعد الفكرة حينا ما كافرة تحرم وتحارب، ثم تصبح - مع الزمن - مذهبا، بل عقيدة وإصلاحا، تخطو به الحياة خطوة إلى الأمام.
وعلى أساس من التنبه لهذا الناموس الاجتماعي والثقة به، نعرض لموضوعنا في «هذا النحو». (2) النحو والفقه
ولكن ما دام الناموس الاجتماعي مطردا في حياة الكائنات المعنوية جميعا، ففيم البدء بالإشارة إلى هذا الفقه وما كان من أمره؟! ونحن قوم إنما نشتغل بالشئون اللغوية، وقد قصدنا إلى الحديث في هذا النحو، حين استفاض القول بفساد ما بينه وبين الحياة؛ إذ أقام الصعوبات المحرجة في أوجه الصغار حين يتعلمون الفصحى، فيعكفون على تعلمها مدة لن تقل في حياة واحد منهم عن اثني عشر عاما حتى يحصل على شهادة إتمام الدراسة الثانوية، وقد تزيد ... ثم لا يظفرون منها بطائل، بل يتقدمون إلى الحياة كبارا لا يحسنون استعمال هذه الفصحى والانتفاع بها، وهي أزمة، إن شكاها الأفراد فإن هذه الأمة لتشكو من أنها تعيش بلغة، وتبذل ما تبذل في تعلم لغة تكاد تظل غريبة عنها، فلا تجد فيها ما لا بد منه للأمة، وهو الأداة الطيعة المرنة المواتية للتفاهم والتعامل والتعلم والتفنن، تلك الأداة التي تحقق رغبات الجماعة في ميادين النهضة على اختلافها، وتكون عاملا من أهم العوامل في وحدة الأمة وتماسكها، وإعانتها على مسايرة الحياة والاستجابة لكل تدرج وتطور فيها، والحياة بطبيعتها تدرج ونماء.
ومن أجل ذلك صار الواجب الاجتماعي الأول، على المشتغلين بالشئون اللغوية أن يفكروا تفكيرا نفاذا، في تدبير الوسائل الفعالة لتذليل هذه الصعوبات كلها، وهو ما حاولت بجهدي المتواضع أن أعرض فيه شيئا عن هذا النحو.
وإنما بدأت بالإشارة إلى الفقه لأدل بذلك على خطة من الخطط في بحث مسألة النحو؛ إذ إن للبحث فيه أكثر من خطة؛ فقد يأخذ متناوله بالحرية المسرفة فيقول لكم: إن اللغة - في نظر الاجتماع - أشد التقاليد الاجتماعية لينا، وأقلها صلابة وتحجرا، وأطوعها للتطور، وأكثرها تأثرا بالعوامل المختلفة، وانقيادا لسائر ظواهر الاجتماع وأنظمة المجتمع؛ ومن هنا تعددت اللغات بتعدد الجماعات، ثم تفرعت اللهجات باختلاف البيئات، في وطن الجماعة الواحدة الجنس والإقليم؛ ومن هنا أصابت اللغات الحية ألوانا من التطور حفظت بها حيويتها واستجابت لطلبات الجماعة منها، فكذلك ينبغي أن نتناول لغتنا بإصلاح حر طليق، إذا ما أردنا لها أن تكون في حياتنا، كما يجب أن تكون اللغات في حياة الأمم.
ولا تحسبوا أن هذا الذي أصفه هو احتمال فرضي، أو رأي نظري، فقد كان قولا يقال وينشر في الجيل الماضي، مع أنه حديث عهد بتجدد، فكان من رجاله من أشار بالتخلص من هذا النحو وإعرابه بالوقف مثلا، كما كان من رجاله - وإن لم أثبت اسمه - من قال ما معناه: «إن كانت هذه اللغة التي تريدون أن نعيش بها، ميراثا آل إلينا، فلنا فيه ما للمالك في ملكه من تصرف، فدعونا نتصرف فيها بما يصلحها، وإن كانت عارية لا غير، فخذوها ودعونا نبحث عن لغة غيرها، نستطيع التصرف فيها بما يدفع حاجة الحياة.»
وسواء أكان هذا قولا لشخصي بعينه «هو المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا»، فيما نقل إلي، أم كان صرخة كل فرد مكظوم حين يعاني هذه الصعوبات، فإن واقع الحياة لا يغفل تقديره.
ولكنا - رغم هذا كله - لن نأخذ هنا بشيء من تلك الحرية التي تبدو مسرفة، بل ندع الآن هذه الخطة التي لا تتمسك إلا بحقها في التصرف، دون أن تقيم هذا التصرف على أساس تعينه، ندعها هنا لنأخذ بخطة مسرفة في عكس ما أسرفت فيه الأولى من حرية، مسرفة في الرجوع إلى القديم، والتعمق في البحث عنه، فهي خطة معتدلة محافظة، تقيم نظرها في مسألة النحو، على ما يتكشف لها من تقدير لأصوله البعيدة التي أقام النحاة عليها بناء قواعده، وللنحو أصول كأصول الفقه وأصول القانون، صنعها أصحاب النحو على وجه يبين في تاريخه، والفحص لمناهج درسه، وما دام للنحو أصول فإن الرجوع إليها أمر لا بد منه في فهم كيانه فهما يعين على التحدث فيه عن بصيرة، ويدل على تقدير أصحاب هذه القواعد لها، ومدى ما يجيزونه من التصرف فيها بنفي أو إثبات.
والناظر في هذه الأصول يرى النحاة منذ أول الدهر، قد ربطوا أصولهم بأصول الفقه، بل حملوها عليها؛ فهذا ابن الأنباري - المتوفى سنة 577ه - حين يعد علوم الأدب، يذكر أنه ألحق بها علم أصول النحو، فيعرف به القياس وتركيبه وأقسامه، من قياس العلة، وقياس الشبه، وقياس الطرد، إلى غير ذلك على عد أصول الفقه، فإن بينها من المناسبة ما لا يخفى؛ لأن النحو معقول من منقول، كما أن الفقه معقول من منقول، ويعلم هذا حقيقة أرباب المعرفة بهما.
1
ثم هذا الجلال السيوطي بعده - في القرن العاشر الهجري - إذ يزعم أن صنيعه في كتابه «الاقتراح في أصول النحو» صنيع مخترع، وتأصيله وتبويبه وضع
2
مبتدع، لا يلبث أن يقول هو بنفسه عن هذا الاختراع أنه رتبه على نحو ترتيب أصول الفقه في الأبواب والفصول والتراجم ...
3
إلخ، كما يقول في ثنايا كتاب «الاقتراح»: «هذا معلوم من أصول الشريعة، وأصول اللغة محمولة على أصول الشريعة.»
4
وليست المسألة بنت القرن العاشر أو السادس، بل هي أسبق من ذلك وأقدم ، فابن جني في القرن الرابع - توفي سنة 393ه - قد زاول أصول النحو، كما يقول السيوطي المخترع بنفسه: «إن ابن جني وضع كتابه «الخصائص» في هذا المعنى، وسماه «أصول النحو»،
5
وقول ابن جني: هذا - في صلة النحو وأصوله بالفقه وأصوله - أكثر مما روينا وأوضح؛ إذ ينقل عنه أنه قال في «الخصائص»: «أعلم أن أصحابنا انتزعوا العلل من كتب محمد بن الحسن، جمعوها منها بالملاطفة والرفق».»
6
وفي كل حال، فإن الصلة بين الأصلين، وحمل أصول النحو على أصول الفقه مما استقر أمره في نظر الأقدمين على ما نقلنا، وإن زاد ابن جني على هذا أصول المتكلمين وضمها إلى أصول الفقهاء،
7
ورأى أن علل النحاة أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين،
8
وجعل عللهم في منزلة بين التعليلين: الكلامي والفقهي، فهي متأخرة عن علل المتكلمين، متقدمة علل المتفقهين.
9
وما نقف هنا لنرى رأيا في فقهية هذه الأصول النحوية، أو كلامية العلل النحوية، فربما اطمأننا إلى غير ذلك كله حينما نعرض للبحث النظري فيه تحقيقا للمنهج النحوي وما حوله، وإنما مهمتنا هنا - كما قدمنا - عملية، نلزم النحاة فيها بقولهم، وأول هذا أن نسجل عليهم ما التزموه وقرروه، من حمل أصول اللغة على أصول الشريعة حملا، وأخذها منها أخذا، بل نقدر مع ذلك أنهم تحروا تأليف كتبهم في النحو على غرار ما ألف الفقهاء في فقههم،
10
فننظر أولا مكان: (3) اللغة والشريعة في الحياة
من حيث اتصال كل واحدة منهما بهذه الحياة، ثم من حيث تأثر كل واحدة منهما بها.
فكل من الشريعة واللغة مظهر قديم من مظاهر حياة الجماعات البشرية، ثم اللغة من أقدم هذه المظاهر - إن لم تكن أقدمها - في تقدير أصحاب الاجتماع، وهما متصلتان بالحياة العامة اتصالا وثيقا، بل عنيفا، وربما كانت اللغة في هذا المعنى أشد وثاقة وأقوى ارتباطا؛ لأن بعض التشريع قد يغني عنه القانون الخلقي، ولا غنى لجماعة متقدمة - إلى الآن - عن اللغة، والشريعة تنظم ناحية من نواحي معايش الناس، على حين تتصل اللغة بكل النواحي.
وأما من حيث تأثر الشريعة واللغة بالحياة وواقعها، فإنا نعرف أن الشريعة تعتبر العرف، وهو تركز اجتماعي بطيء التكوين بطيء التغيير، فهي إن لاءمت الزمان والمكان وجعلت أحكامها تناسبهما، إلا أنها في ذلك بطيئة الخطى بطيئة التغيير نوعا ما، ولعله بهذا انخدع الفقهاء حين أقفلوا باب الاجتهاد، وتصوروا أن يجعلوا إقفاله أبديا.
أما اللغة فهي - على ما سمعتم من قول الاجتماعيين عنها - أشد المظاهر الحيوية لينا وأقلها تصلبا وتحجرا، وأطوعها للتطور. وقدماؤنا أنفسهم يدركون هذا واضحا حين يتحدثون عن تهذيب اللغة وعوامله، وحين يقررون أن الاستعمال يحيي ويميت، ويقبح ويحسن، وحين يصفون تداخل اللغات وتحول اللسان، وما إلى ذلك من دلائل الشعور بتأثر اللغة بالحياة تأثرا قويا.
وإذا ما كانت تلك هي صلة كل من الشريعة واللغة بالحياة، وحظ اللغة منها أقوى، ثم إذا ما كان هذا مدى تأثر كل من الشريعة واللغة بالحياة، ونصيب اللغة منه أوفر وأظهر، فإن من حقنا حين نحاول شيئا من تطويع اللغة للحياة أن ننظر أولا في: (4) صنيع أصحاب الفقه اليوم
إذ الواقع قد أجبرهم على صنوف من التدرج والمسايرة، بحكم قاس لا يرد، فنظروا في قواعد التصحيح والترجيح عندهم، وخطة اختيار المذاهب والقضاء بها، وهي القواعد التي تتبعها النحاة تتبعا، وقد قدم الفقهاء من ذلك ما غيروا به التشريع في الأحوال الشخصية، وكانت لهم في هذا محاولات متفرقة، آخرها - وقد يكون أوسعها - صنيع لجنة الأحوال الشخصية التي مضت عليها أعوام تباشر عملها، وقد أخرجت منه ما أصدرته الحكومة قانونا بعدما أقره البرلمان، وهيأت قدرا آخر للإصدار.
وقد آثرت ألا أقول في هذا شيئا من عندي، وإن كنت أستطيع هذا القول، فوجهت سؤالا كتابيا في ذلك إلى أحد أعضائها المحترمين، ليجيب عنه كتابة أيضا، ولعله من حسن الاتفاق أن هذا العضو المحترم هو صاحب مقال «اجتهاد عمر» الذي صدرت هذا الحديث بالإشارة إلى ما كان من أمره، وما انتهى إليه الحال من جعل المحرم بالأمس تشريعا اليوم، وهذا العضو هو حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ محمد أحمد فرج السنهوري، الذي تعرف اللجنة له في عملها أثرا محمودا ونشاطا بارعا.
قلت له في سؤالي: «... أعرف أنكم أعددتم في اللجنة التحضيرية للتشريع الجديد - في الأحوال الشخصية - مذكرات في هذا التشريع، فأرجو أن تتفضلوا ببيان علمي واف عن «الدستور» الذي اتبعتموه في اختيار الأقوال والآراء الفقهية، ولكم الفضل والشكر.»
فتفضل بإجابة كتابية موقعة منه، ألخص منها هذا الدستور محتفظا بعباراته نفسها لتروا ما فعل أصحاب الأصول التي حملت عليه أصول النحو حملا. (5) دستور شرعي للتجديد النحوي
فقد قال: إن اللجنة التحضيرية التي تقوم بإعداد المشروعات الفقهية - وهو أحد أعضائها الثلاثة - قررت مبادئ أقرتها فيما بعد اللجنة العامة، وتلك الأصول هي: (1)
أن الشريعة جاءت لمصالح العباد، وأن الدين يسر، وأن المشقة تجلب التيسير، وأنه كثيرا ما أخذ المتأخرون بالقول المرجوح واعتمدوه لتغير الزمان أو الأعراف، أو لأنه أرفق بالناس، وعلى هذا الأساس سارت اللجنة في عملها على النظام الآتي: (2)
أن تجمع الآراء من الكتب الفقهية كلها، بل من غير كتب الفقه أيضا ككتب السنة والتفسير، ولا تعتمد على المنصوص عليه منها صراحة فحسب، بل يعتمد على المنصوص، وعلى ما يؤخذ منه، ومن علله، وعلى القواعد العامة المذهبية، والقواعد التي أقرها جمهور الفقهاء. (3)
ألا تتقيد بمذهب واحد في مسألة بعينها، «بل ينتزع حكم المسألة الواحدة من مذهبين أو أكثر، ولا تتقيد بما نص على أنه القول الأصح أو الأرجح في مذهب من المذاهب، بل يؤخذ بالمرجوح وبه يفتى ويقضى.» (4)
أن تتخير أكثر الأقوال ملاءمة للمصلحة العامة، مراعاة لما يوافق حاجة الأمة ويساير رقيها الاجتماعي، على ضوء التجارب القضائية، وما وقفوا عليه من الشكاوى الحقة.
فإذا ما سمع حديثنا عن «هذا النحو» من يرى الاتباع خيرا من الابتداع، ومن يحمي قواعد هذا النحو من كل يد متناولة، فهل تراه سيدعي للنحو قدسية دينية؟ وهل تراه سيجعل تغير النحو عسيرا كتغير الفقه، ويلحق النحو بالفقه في هذا كله مهما تكن مبالغته وتطرفه؟! وهبه سيفعل هذا كله على بعده، فإنا نقول له: إنا لن نطلب في هذا النحو أكثر مما فعل أصحاب الفقه في الفقه، وهو أصل لهذا النحو في تفكير أصحابه، كما سمعنا قولهم في ذلك، وها هم أولاء الفقهاء، وقد مهدوا لنا سبيلا لا بدع بعد ذلك في أن نسلكها، وحيث كان الأمر على ما سمعت من الدستور الشرعي، في تناول الفقه وإعداده للتشريع المساير للحياة، فإن من الحق الذي يقره المحافظ المتبع، بل الجامد الراكد، أن نتبع تلك القواعد الإجمالية في تهذيب هذا النحو، فنقرر: (أ)
ملاحظة التيسير والرفق، ولا نقول: إن البلوى بالنحو أعم من الفقه وأشمل، بل حسبنا أن يساوي النحو الفقه في ذلك، وإن كان من الناس غير قليل يستطيعون الاستغناء عن الرجوع إلى هذه المحاكم الفقهية، وليس فيهم واحد فرد لا يعرض للمشكلات اللغوية الكلامية، «وبخاصة حينما نعطي الناس جميعا» حقهم الفطري في التعلم، ومجاوزة الأمية، واستعمال لغتهم في الحياة قراءة وكتابة وكلاما. (ب)
جمع كل ما يوجد من المذاهب النحوية، حيثما وجد، والتوسع في فهمه دون وقوف عند نصوصه. (ج)
عدم التقيد بمذهب نحوي واحد في مسألة بعينها، وعدم التقيد بالأفصح أو الأرجح أو الأصح الذي نصوا عليه. (د)
تخير ما يوافق حاجة الأمة، ويساير رقيها الاجتماعي على ضوء التجارب العملية والخبرة التعليمية والشكاوى الحقة من المصاعب اللغوية.
وليس من الابتداع في شيء مطلقا أن يأخذ بهذه الأصول في اللغة والنحو، أشد المحافظين، بل المتعنتين، بعد الذي سمع أن أصولها محمولة حملا على أصول الشريعة، وأن هذا ما أقرته أصول الشريعة، وأصدرت على أساسه قوانين اعتمدتها السلطة التشريعية المصرية، ولم يرتفع صوت ما بمعارضة أصول هذا التشريع، مع الفرق الهائل، بل البون الشاسع بين الفقه والنحو من حيث الصفة الدينية، والحل والحرمة في الأول، وعدم ذلك تماما في النحو، ومع شدة صلة اللغة بالحياة، ومسايرتها إياها مسايرة قهرية، لا يستطيع أحد الوقوف في وجهها، وهو ما لا يتوافر للشريعة بهذه القوة. (6) اعتدال جامد
إلى هنا، من الحديث عن منهج البحث في هذا الموضوع، رأيتم أن صعوباتنا اللغوية قد تعرض لتذليلها الجيل السابق، أو الأسبق - على بساطة حظه من التجدد - فتحدث عن خطة حرة أو متطرفة، رأينا هنا ألا نأخذ بشيء منها، وتركناها إلى خطة تتأخر عنها خطوة إلى الوراء، بل ربما تأخرت خطوات، فنظرنا إلى أصول النحو كيف أصلها النحاة وأسسوها، وإذا هم قد انتزعوها من أصول الفقه انتزاعا، وإذا أصحاب الفقه اليوم يعملون رسميا لمسايرة الحياة، فقلنا: «إن ما صنعه أصحاب الفقه يتخذ مثله في النحو لتذلل صعوباته، مع ما بين النحو والفقه من فروق، توجب ذلك في النحو أكثر وأقوى وأسبق مما توجبه في الفقه.» وحل لنا اتخاذ هذا الدستور الشرعي للتجديد النحوي، على أن هذه لا تكون منا إلا خطوة محافظة، بل مقلدة لا محافظة فحسب.
لكن ما رأيكم في أنه حتى هذه الخطوة لا نخطوها هنا، بل نرجع إلى ما وراءها أيضا، فإذا كان أصحاب الفقه قد حوروا فلا نحور نحن! وإذا كانوا قد لفقوا فلا نلفق نحن! وإذا كانوا قد التمسوا الحلول حيثما وجدت في غير كتب النحو، فلا نلتمس شيئا من ذلك نحن! بل نلزم أصول النحو بنصها، ونقف عند منطوقها، ونبتغي الحلول من عباراتها! وهو اعتدال جامد، أو هو أكثر من ذلك حقا، فلا يخشى عليه اعتراض فيما أظن.
وعلى هذا الأساس، سنعرض عليكم الرأي والاقتراح، بعد أن تسمعوا قبله عبارة النحويين في أصولهم، وأنها تحله في غير لوم ولا تثريب. •••
والآن وقد أحجمنا عما تقدم إليه الجيل الأسبق قبلنا، ثم تأخرنا عما تقدم إليه أصحاب الفقه حولنا، لا نظن أن حولنا عناصر للرجعية أكثر من ذلك تأخرا، فلننظر بعين هذا الاعتدال الجامد في: (7) حياتنا اللغوية
وإذا قلنا: حياتنا اللغوية، فإنا نقدر تقديرا صحيحا أن حياتنا هذه اليوم إنما هي ثمرة ونتيجة لذلك الماضي الطويل الذي تعرضت فيه اللغة العربية لعوامل ومؤثرات اجتماعية متنوعة، ورحلات وانتقالات بعيدة المدى، وصراع مع لغات أخرى انتصرت فيه حينا وهزمت حينا، وتأثرت ببيئات طبيعية متغايرة، وبيئات معنوية متعددة، فترك فيها كل ذلك وما إليه آثارا في كيانها، وفي علومها، وفي طرق تعلمها، ولا بد لمن أراد فهم المنهج النحوي فهما صحيحا، من التعرض لدرس هذا الماضي السحيق كله، وتتبع آثاره، والتفهم التفصيلي لتلك المؤثرات، فلعله بعد ذلك الدرس يفهم من غوامض هذا المنهج وخفاياه حقائق كثيرة، ويتبين من نواحي خطئه وطرق تحريره ما لا يستطيعه قط المتناول المستعجل، وفي العزم إن شاء الله أن نفرغ لهذا الدرس بعد الآن لنحكم على هذا المنهج حكما دقيقا، ونتحدث في تغييره وتصحيحه، مما يقوم على واقع الحياة وقول التاريخ وسنة الاجتماع.
أما هنا فغرضنا عملي قريب، لا يضيره الإغضاء عن هذا المنهج، ولا يفسده التزام أصوله التي أشرنا إليها، راجين مع هذا الاحترام والالتزام أن نزيح صعوبات ذاتية يعرض لها متعلم العربية في كل دور من أدوار هذا التعلم، وإن كنا سنعنى هنا بغير المتخصصين في علومها المتفرغين لها، تاركين أولئك المتخصصين يعانون تلك الصعوبات إلى أن يكون القول في المنهج قولا علميا تاريخيا، يتم به التغيير البطيء لهذا المنهج إن واتت عليه الحياة العامة والخاصة، فيغير إذ ذاك أصحاب العربية المختصون بها من أسس مقرراتها وأصول دراستها بقدر ما يستطيعون من ذلك التغيير.
أما الآن، فالحديث عن متكلمي العربية ومتعلميها كافة. •••
ونؤثر قبل أن نعرض لما نريده من غرض عملي أن نصف في إجمال موجز المحاولات التي بذلت في سبيل إزالة تلك الصعوبات، لنهتدي بالنافع منها، ونتقي ما ينقصها فيما نبتغيه.
وتبدأ المحاولات لتذليل صعوبة تعلم العربية واستعمالها، مع النهضة الشرقية الحديثة، ولعلها في مصر تظهر مع «محمد علي باشا»، ولعل أصحاب هذا العهد وما تلاه لم يضعوا مسألة اللغة موضع الدرس النظري والتدبير، بل سلكوا فيه خطوات عملية ذللوا بها ما واجههم، ودفعوا اللغة إلى الاستجابة لمطالب النهضة العلمية والحربية والصناعية التي ظهرت في الوادي، فأحيوا ألفاظا وأساليب واصطلاحات، وحاولوا من ذلك ما حاولوا حتى أخرجوا ذلك النتاج القيم في الميادين المختلفة، عربي الصورة إلى الحد الذي استطاعوه، مع مزاحمة التركية لها، وجمود العربية نفسها إذ ذاك.
ثم صارت مسألة اللغة موضع البحث والتدبير في مثل محاولة علي مبارك باشا إنشاء مدرسة خاصة بهذا لتهيئ معلمين للغة غير الذين كانت تعرفهم من الأزهر، ومنذ ذلك العهد عملت المعاهد التي أنشئت حول الأزهر، ولا سيما دار العلوم، على تذليل صعوبات العربية، وربما كانت الصعوبات الخارجية أو الشكلية أكثر ما وجهت العناية إليه، أو ما سمح بتوجيه العناية إليه وتناوله بالتغيير، فأصلحت طريقة تعليمها مثلا، واستعين فيها بما ترشد إليه أساليب التربية الحديثة قدر المستطاع، ووضع الكتاب الأقرب مأخذا، والأصلح شكلا في عرض قواعد اللغة، فأزاحت تلك الأعمال شيئا من الصعوبات، ولكن ظل صراخ الشاكين يرتفع في كل مناسبة، كما ظلت قواعد النحو نفسها في جوهرها وصورتها على ما كانت عليه في الكتب الأولى، وكما أسست على أصولها الأولى، فيما اتخذه النحاة منها، نقلا عن أصول الفقه، أو تأثرا بغير ذلك من مؤثرات وجهتهم في صنيعهم، بقيت تلك جميعا لم يفكر أحد في أن يمسها أو ينال منها شيئا ما قليلا أو كثيرا.
ثم عمل الزمن عمله، وتأثرت الحياة اللغوية بما حولها من مؤثرات التجدد، فجعلنا نسمع الكلام عن قواعد النحو نفسها وعمل النحاة فيها، ومنهجهم في ذلك، وجعل الدارسون ينظرون إليها بعين ناقدة، لا تغضي أمامه إجلالا ولا هيبة، وجعل يرتفع الصوت بذلك، فيما سمعنا من عناوين مثل: إحواء النحو، وتيسير النحو، وما أشبه ذلك، مما نحاول أن نصفه قبل الإشارة بشيء غيره، انتفاعا بما فيه كما قلنا، واتقاء لما نقصه، فلم يحقق الرغبة الملحة في تذليل العربية وتطويعها للحياة والاستعمال. (8) في تيسير النحو
فأما إحياء النحو، فما نحتاج إلى الوقوف عنده لأن صاحبه - أكرمه الله - قد صار فيما بعد سادس خمسة كلفوا رسميا تيسير النحو، فجاء في ذلك بكل ما استطاع أن يكون له أثر عملي يذلل من قسوة هذا النحو، فنظرنا في هذا التيسير يغني عن القول فيما قبله.
وقد كان هذا التيسير عملا مرجو النجاح، إذ أتيحت له المعونة الحكومية والقوة الرسمية، فصدر قرار وزاري سجل الشكوى من هذه الصعوبة، وقال:
بما أن الوزارة سبق لها أن عملت على تبسيط قواعد النحو والصرف والبلاغة، فيما أخرجت من الكتب، وكان لهذا العمل نتيجة مرضية، وبما أن هذه الخطوة التي خطتها الوزارة في الماضي لم تكن كافية؛ إذ إنه لوحظ أن صعوبة قواعد النحو والصرف والبلاغة لا تزال قائمة، وأن المعلمين والمتعلمين يبذلون جهدا كبيرا ووقتا طويلا في تعليمها وتعلمها، ولا يصلون بعد هذا كله إلى نتائج تتفق مع ما يصرف من زمن وجهد.
وحدد هذا القرار الوزاري مهمة اللجنة
11
التي ألفها، بأنها: «البحث في تيسير قواعد النحو والصرف والبلاغة - كما سماها التبسيط الجديد - وطلب الأسس التي تشير اللجنة بوضع قواعد النحو والصرف عليها، وقد أعدت اللجنة تقريرها في ذلك، وطبعته الوزارة وأذاعته.»
ومما نحمده لهذه اللجنة أنها تمثلت حاجة الأمة اللغوية تمثلا واضحا؛ إذ قالت: «ولن تكون اللغة العربية الفصحى، لغة حية خصبة حقا، إلا إذا شاعت بين الناس على اختلاف طبقاتهم وأصبحت أداة يصطنعونها لتأدية أغراضهم المختلفة في يسر وإسماح، وفي غير مشقة وجهد» (ص42، س7، 8).
وثاني ما نحمد لها أيضا اهتمامها بالعامل الاجتماعي الذي يزيد من صعوبة تعلم العربية واستعمالها على الوجه الذي رأته اللجنة؛ إذ قالت: «... لأن الشباب لا يتعلمون هذه اللغة كما يتعلم الشباب في الأمم الأخرى لغتهم، هم لا يسمعونها في البيت، وهم لا يسمعونها في البيئة التي تحيط بهم، ثم هم لا يسمعونها في المدرسة إلا أثناء درس اللغة العربية» (ص2، س20). وحين قالت: «... ويجب أن نلاحظ أن الشاب الإنجليزي أو الفرنسي إنما يحسن لغته، ويتقن النطق بها والتصرف فيها لأنه يسمعها صحيحة في البيت وخارج البيت، ويسمعها صحيحة في المدرسة بنوع خاص، فقد تتأثر لغة البيت ولغة الشارع ببعض اللهجات العامية، وقد يكون لهذا تأثير في لغة التلميذ، ولكن المحقق أن اللغة الصحيحة وحدها هي المسيطرة على التعليم الحديث داخل المدرسة؛ والشاب الفرنسي أو الإنجليزي لا يسمع اللغة الصحيحة في درس اللغة الفرنسية أو الإنجليزية فحسب، ولكنه يسمعها في درس التاريخ والجغرافيا، وفي درس الطبيعة والكيمياء، وفي درس الرياضة أيضا» (ص3، س17 وما بعده).
ومن «تقدير اللجنة للعامل الاجتماعي» في صعوبة تعلم اللغة العربية واستعمالها، ما أشارت إليه كذلك من مزاحمة اللغات الأجنبية للغة الوطنية، في عقول الصبية وأذواقهم وذاكرتهم، وما رأته من أن التعليم الابتدائي يجب أن يخلص للغة الوطنية، فلا يسمع الصبي في المدرسة الابتدائية غيرها (ص4، س3 وما بعده) ... كما قررت أهمية الاعتبار الاجتماعي في حياة اللغة الوطنية بقولها كذلك: «ولنسجل أننا على إكبارنا لخطر النحو والبلاغة لا نغتر بأثر هذا التيسير، ولا نراه السبيل الوحيد إلى إحياء لغة وإشاعتها، وتمكين التلاميذ من أن يمنحوها ما ينبغي أن تمنح اللغة الوطنية من الحب لها والإقبال عليها، وإنما هو سبيل من هذه السبل، يجب أن نأخذ بأسبابه، ولكن يجب ألا نكتفي به ونقصر جهدنا عليه» (ص5، س11 وما بعده). «والحق» أن لهذا العامل الاجتماعي دائما خطره في اللغة العربية وعلى اللغة العربية أيضا طوال حياتها، كما هو الشأن الاجتماعي للغات في الحياة دائما، ومن هنا ما أشرت إليه قريبا من ضرورة بحث أثر هذا العامل في حياة علوم العربية ومناهجها، ولكن هذا العامل الاجتماعي مهما يكن خطره في الإقبال على تعلم الفصحى والنشاط لاستعمالها، قد كان له منذ القدم أثر أشد خطرا في أبناء العربية نفسها، وقد خلف فيها صعوبات ذاتية، هي التي نحاول تذليلها اليوم تذليلا عمليا، مع تقديرنا أن الاهتمام الاجتماعي بهذه اللغة في الحياة مؤثر كبير جدا في التغلب على هذه الصعوبات، إذا خف ما بها من تعقد جوهري، وصعوبات أساسية سنصفها فيما بعد. •••
والآن وقد حمدنا من نظرات أصحاب هذا التيسير ما حمدنا، ننظر فيما وراء ذلك منه فنرى:
أن أصحابه يقولون: «وقد شرط علينا القرار الوزاري، وشرطنا نحن على أنفسنا ألا ينتهي بنا حب التيسير إلى أن «نمس من قريب أو بعيد أصلا من أصول اللغة أو شكلا من أشكالها»» (ص5، س15). فنقول لهم: هبوا أن القرار الوزاري - لاعتبار سياسي أو نحوه - قد شرط عليكم ألا يمس التيسير والتبسيط «أصلا من أصول» اللغة ولا شكلا من أشكال الإعراب والتصريف. كما قال: فهل ترونكم - وأنتم المكابدون المعانون لهذه الآلام - تنزلون على ذلك وتلتزمونه؟! لقد أثرتم الناحية الاجتماعية وما إليها، وأفسحتم لها من صفحات تقريركم ما يزيد عن ثلثه، ثم قلتم: «وقد أطلنا في هذه الأشياء، مع أنها ليست من جوهر المهمة التي كلفنا النهوض بها، لنشير بما نرى أنه الخير من جهة ... إلخ» (ص5، س9، 10). فكنتم بالقياس على هذا، بل بالإخلاص للعمل الذي أنتم أهله الأولون، خلقاء بأن تشيروا بما فيه الخير من عدم التحرج من المساس بشكل من أشكال الإعراب والتصريف، ومن وجوب النظر في الأصول نفسها لعل فيها ما ينتفع به دون مساس ولا تغيير! بل كنتم - فيما أومن به - خلقاء بأن تشيروا أن المسألة من الأهمية والخطر الاجتماعي، بحيث تحتاج إلى النظر المستأنف في هذه الأصول نفسها، لكنكم فعلتم عكس ذلك، فحين شرط عليكم الإقرار ألا تمسوا فقط، زدتم أنتم فقلتم: وشرطنا نحن على أنفسنا «ألا نمس من قريب أو بعيد ...» ذلك ما لا أرتاح إليه من حذركم ولا ألتزمه إن شاء الله، وإن كنت مستغنيا فعلا عن المساس؛ لأنا لا نعرف لهذا النحو تلك القدسية، وليس عنا يعرفها الناس له! على أنا سنرى فيما يلي أن اللجنة لم تتهيب هذا المساس بل أقدمت على غير شيء منه، وإن كان أعضاؤها رغم كل شيء قد غلبهم حب الحياة والتجدد، فعدوا عملهم خطوة معتدلة موفقة في هذا التيسير، قد تتاح بعدها خطوات أدنى إلى التوفيق وأقرب إلى الكمال (ص2، س3). •••
وننظر في اقتراحات اللجنة التي رأت أن فيها تيسير النحو، فنرى ما يأتي: (1)
أنها ترى: «وجوب الاستغناء عن الإعراب التقديري والإعراب المحلي» (ص7)، ولكن: ما التيسير في هذا؟! إن الكلمات التي فيها هذا الإعراب من المقصور والمنقوص والمضاف لياء المتكلم، والمبنيات ليست مصدر الصعوبة على القارئ أو المتكلم، لعدم تغير الحركات عليها باختلاف مواضعها، بل ليت اللغة كانت كلها من هذا الصنف، إذن لزالت الصعوبة الأساسية.
ثم إن بيان هذا الإعراب التقديري والمحلي، بقدر ما يعرف متعلم العربية، أجزاء الجملة لا بد منه لفهم المعنى، كما أنه لا بد من معرفة موقع الإعراب للكلمة التي لم تظهر عليها الحركة ليمكن ضبط تابعها بعدها، فمن يقول: جاء الفتى، لا بد له أن يعرف موضع الفتى من الإعراب ليقال بعد ذلك: الأبيض أو الطويل ... إلخ. ودع عنك فوق هذا ما لا بد منه في فهم معنى بناء الكلمة، من معرفة أنها وقعت في موضع تغيير الآخر بكذا ولم تتغير، فكل الذي يمكن الاستغناء عنه هو الأخذ بالرواسيم والصيغ المتحجرة، في بيان هذا الإعراب التقديري أو المحلي، وتلك مسألة شكلية يكفي فيها أيسر لفت للمعلمين! (2)
رأت اللجنة عدم التمييز بين علامات إعراب أصلية وأخرى فرعية، فلا تقول: إن الأسماء الخمسة معربة بالواو أو الألف أو الياء نيابة عن حركة كذا، بل هي مرفوعة بضمة ممدودة، منصوبة بفتحة ممدودة، مجرورة بكسرة ممدودة، وفي هذه الفقرة من قرارها: قسمت اللجنة الأسماء بحسب ما تظهر فيه الحركات كلها أو بعضها، وجعلت بين هذه الأقسام أيضا ما تظهر فيه ألف ونون، أو ياء ونون، أو واو ونون، وعدت من كل أولئك أقساما سبعة، ثم تقول بعد هذا كله: إنها تقرر عدم التمييز بين علامة أصلية وأخرى فرعية.
وتنظر
12
في هذا الصنيع فترى - فيما يخص الأسماء الخمسة والحركات الممدودة فيها - ليس فيه شيء من التيسير ما دمنا نفهم مع النفسيين وأهل التربية أن اللغة إنما هي الأصوات، لا صور الأصوات، فهنا قد وجد صوتان: ضمة قصيرة وأخرى طويلة، سواء أصورتها بواو أو بممدود الضمة، فهي صوت مغاير للأولى، وقد وجد التعدد وتغيرت الأحوال والقواعد على المتعلم.
ثم إنها فيما عدته من أقسام حسب ظهور الحركات على الكلمات، في الأحوال جميعها - أو في بعضها - قد عدت فيما قلنا سبعة أقسام بالأسماء الخمسة، فكثرت عما في القديم، إذ كانت تعد الياء حالة مشتركة في المثنى وجمع المذكر، ثم ما التيسير في هذا، وقد ذكرت علامات متعددة، هي حينا حركات، وحينا حروف، وحينا حركات بدل حركات كما في الممنوع من الصرف ؟! ولعل في النص على النيابة راحة ذهنية، على أن القدماء الأولين لم يجعلوا النص على النيابة أمرا هاما يجب ذكره، فليس في هذا العمل كله تيسير. (3)
قالت اللجنة: «جعل النحاة لحركات الإعراب ألقابا، ولحركات البناء ألقابا» (ص8). لكنك تجد أن ليس النحاة - استغراقا ولا عهدا - قد جعلوا ذلك، بل هو جعل سيبويه - والكوفيون يخالفونه
13 - وقد عادت اللجنة نفسها أخيرا فقالت: «ومن النحويين من لم يلتزم هذه التفرقة.» وكانت تحسن لو قدمت هذا، وأخذت به. وفي كل حال، انتهت اللجنة إلى أن ترى أن يكون لكل حركة لقب واحد في الإعراب والبناء، وأن يكتفى بألقاب البناء، والأمر أيسر من أن يوقف عنده كما ترى. (4)
حاولت اللجنة ضبط الجملة بأصنافها تحت تقسيم واحد، ينتظم الفعلية والاسمية، والجملة الصغيرة والكبيرة، وهو صنيع إن ساغ في المنطق لأنه يبحث في المعاني والمفاهيم، ولا شأن له بالألفاظ مطلقا، أو قبل في البلاغة؛ لأنها تبحث عن حسن المعاني، وتعرض للألفاظ بهذا المقدار، فلعل هذا الصنيع - على ما يبدو لي - لا يسهل في النحو؛ لأنه يتحدث عن الصحة واستقامة المعنى الأول، وفي هذا يطيل الوقوف عند الألفاظ، ويلحظ فيها أدق الفروق، فيتحدث مكرها عن الفاعل ونائبه والمعنى فيه، والمبتدأ والأحكام اللفظية لكل منهما، لا مفر، على حين قد ينظمها كلها البلاغي أو المنطقي تحت اعتبارات جامعة، فيسميها مسندا ومسندا إليه، وفي كل صنعت اللجنة في هذا السبيل أشياء فيها محل للنظر، فهي مثلا: (5)
قالت إن تسمية طرفي الجملة، المحدث عنه والحديث اصطلاح جديد، ولكنه قديم يعرفه من اتصل بأوائل كتب النحو، وأحيانا يجده في أواسطها في مواضع من «المفصل». (6)
آثرت تسميتها - كالمناطقة - المحمول والموضوع، على ما فيه من اعتبار معنوي، بعيد عن عقل المتعلم، وعن طبيعة الدرس اللغوي التي تلتزم الألفاظ والظواهر الحسية لتدل بها على المعاني، وفي كل حال حاولت ضبط إعراب الطرفين، فارتكبت صعوبات لا تطرد، وليس فيها يسر، فهي مثلا: (7)
تقول: «إن المحمول يكون ظرفا فيفتح، ويكون فعلا ... إلخ، ويكتفى في إعرابه بأنه محمول» (ص9). وعادت في ص10 فقالت: «يخلو الفعل في «زيد قام» من الضمير، وإنه المحمول.» ولا نقف عند خلوه من الضمير أو تحمله إياه، ولكنا نسأل كيف يعرف الفاعل في «قام محمد»؟ وهل سيترك القول في بنائه وإعرابه ليطرد إعرابه خبرا في «محمد قام» دون بيان حال آخره؟! وهل ترك المسألة مرسلة هكذا يكون تيسيرا للصعوبة أو هو فرار منها؟! (8)
قالت اللجنة في المطابقة بين الموضوع والمحمول: «إذا كان الموضوع مؤنثا كان في المحمول علامة التأنيث.» وهذا يصح في الجملة الصغرى، أما في الجملة الكبرى فلا؛ إذ تقول: «اللجنة أصاب رأيها، وحسن حظها»، فيكون المحمول في «أصاب» و«حسن» ناقضا للقاعدة، وإن قلنا معهم - كما في ص9، س5 - أن الخبر الجملة يكتفى في إعرابه بأنه محمول، فهذا خبر جملة، وجب فيه التفصيل في الإعراب ليعرف أن المطابقة فيه بين «حسن» وفاعله، لا بين «حسن» و«اللجنة» التي هي مبتدأ، ثم فيه بعد ذلك الربط بين جملة الخبر ومبتدأ لها لا بد من مراعاته، ففي المسألة تعقيد ونقص لا يسر، إلا أن يكون التيسير بالإغفال والإنقاص! (9)
قالت اللجنة: «إذا كان المحمول متأخرا لحقته علامة «العدد التي توافق الموضوع»، وإذا كان متقدما لم تلحقه، فيقال: «الرجال قاموا»، و«قام الرجال».» ونصت على أنها أخذت في ذلك برأي المازني الذي يقول: «الواو للذكور، والنون للإناث، والألف للمثنى، والتاء للواحدة، علامات لا ضمائر» (ص9، س16). وبذلك زادت اللجنة شيئا جديدا على الضمير، هو علامة العدد التي اختارتها، ولكنها أهملت في هذه العلامة دلالتها على الجنس ذكورة وأنوثة، وعلى الحال حضورا وغيبة وخطابا، ولم تستفد شيئا إلا ترك إعرابها، ولو اكتفت بإعرابها فاعلا دون تفصيل لكان أيسر، وهو ضروري؛ لأنها مضطرة إلى بيان الخبر الجملة في نحو المثل السابق: «هذه اللجنة أصاب رأيها»، لتعلم الدارس أن المطابقة في الجملة الخبرية بين جزأيها، لا بين جزء منها وبين الموضوع أو المبتدأ التي هي خبره.
وتقول اللجنة في هذا المقام (ص9، س18): «إنها بتقسيم الجملة إلى محمول وموضوع، وجعل إشارات العدد علامات، يسرت الإعراب، ونائب الفاعل، وقللت الاصطلاحات، وجمعت أبواب الفاعل والمبتدأ واسم كان واسم إن في باب الموضوع، وجمعت أبواب خبر المبتدأ وخبر كان وخبر إن في باب واحد هو المحمول، وخففت برد باب ظن إلى الفعل المتعدي.» وحسن هذا لو كفى، ولكنك تسألها: سيبقى بعد ذلك أحكام لكل واحد من هذه الأشياء، فأين ستدرس؟ فهناك مثلا ما ينوب عن الفاعل مما لا يصلح فاعلا، وهناك مطابقة الفعل للفاعل وجوبا وجوازا وصحة تعبير وخطأ، وهناك حذف المبتدأ وجوبا، وتقديمه وجوبا، واستغناؤه عن الخبر، وحذف الخبر وجوبا، وتقديمه كذلك، وهناك حذف اسم كان وخبرها وترتيبها معهما، وهناك فتح أن مثلا وكسرها وتخفيفها، فهل ستبحث هذه الأشياء في باب المحمول والموضوع دون أن تسمى؟ وكيف يكون ذلك؟! وإذا بحثت في موضوعات مستقلة، فماذا صنعنا؟! وإذا تركت فماذا صنعنا؟! وهلا كان الأولى أن تكون النواسخ وأحكامها مع المبتدأ والخبر بعد استيفاء أحكامهما ... إلخ؟! والحق أن الصعوبة ذاتية ليست شكلية، يدفعها ضم باب إلى باب وإدماج مسألة في أخرى.
ونكتفي بهذا في التعليق على أمهات الاقتراحات التي قدمتها اللجنة، وننظر في محاولة أخرى حاولتها بعد الذي اعتبرته ضبطا للجملة، وتلك هي: (10)
أنها جعلت بعد الجملة وتكملتها ما سمته الأساليب (ص10)، ورأت أن توجه العناية في درس هذه الأساليب إلى طرق الاستعمال لا بتحليل الصيغ (ص11)، وقد يفهم هذا فيما مثلت به من التعجب والتحذير والإغراء، ولكنها جعلت من الأساليب الاستثناء (ص13)، فكيف يدرس هذا الاستثناء بطريق الاستعمال، وأدواته: أفعال وأسماء وحروف، وأحكام كل منها - كما نعرف - كثيرة منتشرة لا يأتي عليها عرض، بل هو - إن كان - يتسع اتساعا، خير منه درس الأحكام، وكذلك لا تغني هذه الشكلية في علاج صعوبة ليست في صناعة النحويين، بل في بناء اللغة نفسها، وفي سعتها، وفي أشياء أخرى من طبيعتها، هي التي نعرض لأهمها حين نتحدث عن: (9) صعوباتنا اللغوية اليوم
ونكرر الإشارة هنا إلى أهمية العامل الاجتماعي في تخفيف هذه الصعوبات، أو في زيادتها أحيانا، وقد تنبهت اللجنة إلى هذا العامل، وأشارت إليه على ما مر، ونكرر هنا موعدتنا بأن نجعل هذا العامل الاجتماعي موضع البحث، حينما نعرض لدراسة المنهج النحوي نظريا وتاريخيا.
أما هنا، فهدفنا - كما قلنا - عملي قريب، ولجنة التيسير قد قدمت بين يدي اقتراحاتها ما رأته أساس الصعوبة في النحو، ولكني أخرت الحديث عن رأيها في ذلك إلى ما بعد النظر في قراراتها، ليسهل تقدير نظرها في هذه الصعوبات، بعد فهم مدى تيسيرها وأثره.
وعند اللجنة: أن أهم ما يعسر النحو على المعلمين والمتعلمين ثلاثة أشياء:
الأول:
فلسفة حملت القدماء على أن يفترضوا ويعللوا، ويسرفوا في الافتراض والتعليل.
والثاني:
إسراف في القواعد، نشأ عنه إسراف في الاصطلاحات.
والثالث:
إمعان، في التعمق العلمي، باعد بين النحو وبين الأدب. (ص5-6).
وننظر في هذه الأسباب، فنجد أن: فلسفة القدماء في النحو لها نظائر في الدراسات اللغوية عند الأمم المختلفة، وليس العيب في التفلسف، وإنما العيب أن يكون التفلسف، في الكتب المدرسية التعليمية، على أنا مع هذا قد رأينا أن ما برمت به اللجنة من آثار هذه الفلسفة لم يكن موضع عناية، وكانت ملاحظة حازمة من أحد المفتشين تكفي في وقاية شره، كما أشرنا في الإعراب التقديري والمحلي، وألقاب الحركات، وما فيها من مظاهر هذه الفلسفة.
وأما الإسراف في القواعد وما نشأ عنه من إسراف في الاصطلاحات، فقد رأينا من اقتراحات اللجنة نفسها أن الذنب فيه ليس ذنب النحويين، لكنه شيء اقتضته أو اقتضت أكثره طبيعة اللغة وسعتها، وأشياء في كيانها، نوفيها في البحث النظري بعد، وآية ذلك ما رأيناه من عدم استطاعة اللجنة نفسها التخلص من شيء يذكر في هذه الاصطلاحات، إلا بترك الموضوع وإغفال واقع اللغة ونقص ما يعرفه منها المتعلم.
وأما المباعدة بين النحو والأدب، فشيء يتصل بطريقة الدرس وخطته الفنية، ويكفي فيه - كما أسلفنا - توجيه حازم من الرقابة على المدرسين، ثم إن الوصل بين النحو والأدب لا يؤثر في كثرة القواعد، ولا في تشعب الاصطلاحات، وإن هون في تجرعها، وخفف بعض وقعها على المتعلمين، لكن الأزمة بعد ذلك كله باقية. •••
والذي يبدو لي أن اللجنة بعدما بدأت في تقريرها بالنظر إلى الناحية الاجتماعية والاهتمام بها عادت إلى صعوبة النحو في القواعد وفي المعلمين، تاركة الحياة الواقعة وأثرها في ذلك كله، ولو ظلت تنظر إلى المشكلة من حيث صلتها بالحياة لرأت - فيما أرجح - غير هذه الأسباب، ولبدا لها أن أسباب هذه الصعوبات في الحقيقة إنما هي ثلاثة أخرى:
الأول:
أننا نعيش بلغة غير معربة ولا واسعة، حين نتعلم لغة معربة، وافرة الحظ من الإعراب، واسعة الآفاق مع ذلك، فكأننا بهذا نتعلم لغة أجنبية وصعبة؛ إذ إننا نعيش ونتعامل ونتفنن، بل يفكر مثقفونا بهذه العامية، ثم ها هي ذي العامية تتابع زحفها الجريء على مجال حياة تلك الفصحى، فقد اعترف بها رسميا في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة، كما قبلت على المسرح، وهي بهذا ومثله من الانتصار المتصل تحرج العربية وتنفث حولها جوا نفسيا وعمليا مسمما.
الثاني:
أن هذه الفصحى الواسعة المعربة، مع ثقل إعرابها علينا، لا تسهل ضبطه بقاعدة، بل يسوده الاستثناء، فتتعدد قواعده وتتضارب، فالفتحة تنصب وتجر، والكسرة تجر وتنصب، والحذف يعرب، والإثبات يعرب، والسكون يبني ويعرب، والفتح، والحركات كلها كذلك، والياء تنصب وتجر، و... و... إلخ ما نعرفه من هذه المتقابلات التي تجعل التلميذ يعرف الإعراب وحركاته، ثم إذا هو يقرأ حوارا فيه اثنان، ومؤنثات، ومذكرون، فلا يجد في الحوار إلا خلاف ما عرفه من حركات الإعراب، وهكذا يرتبك ويرى أن المدى بعيد، والأزمة شديدة، وهذا السبب هو ما سميناه اضطراب الإعراب.
الثالث:
أن هذه الفصحى، فيما وراء إعرابها المضطرب، وسعتها، وانتشار قواعدها، باختلاف الكلمات، تعود فلا تستقر على حكم وقاعدة في الكلمة الواحدة، أو التعبير الواحد، فيجوز فيه النصب والجر، أو يجوز فيه الرفع والنصب والجر جميعا، وهكذا يتمادى الاضطراب، ويزداد التزعزع في الكلمات المختلفة، ثم في الكلمة أو التعبير الواحد بنفسه، وهذا هو اضطراب القواعد.
تلك هي الصعوبات الثلاث، أو بالأحرى هي أظهر هذه الصعوبات، وبالنظر في كنه هذه العقبات وحقيقتها، يمكن البحث عن: (10) تدبير لحل هذه الصعوبات
ويتضح جليا أنها كلها في جسم اللغة وكيانها، فالإعراب طابعها، واضطراب الإعراب صدى تشعبها، واضطراب القواعد وتعدد الآراء في الكلمة والتعبير الواحد، من سعتها وتفرقها، وكلها عقبات في سبيل التعلم، تكد الطاقة الحيوية للمتعلم الناشئ، بل هي تحول بينه وبين التمثل الواضح لهذه اللغة، فيظل كبارنا يعانون من ذلك بلاء مخزيا، ويبذلون جهدا ضائعا، وما أشك في أن الموظف الكبير الذي كان يذيع في الراديو فيقول: «بدا لوزارة» - كذا بالضم - قد تعلم اللغة العربية، بل تعلمها بضعة عشر عاما، واضطرب في ذهنه خلالها، جر الكسرة، وجر الفتحة، أو اضطربت في ذهنه أشياء متدافعة متعارضة يلقاها بنفس منصرفة بل كارهة وحانقة، إن لم تكن وراء ذلك محتقرة مشمئزة، وثائرة متمردة.
وإذا ما قدرنا أن هذه العقد جوهرية ذاتية، فقد بدا أن حلها يمس الجوهر والكيان لا بد، ويحتاج إلى عمل جراحي أو ما يشبهه، وإلا فتلك الحلول السطحية والمسكنات الظاهرية لا تحدث أثرا يذكر، ولا تسعف الفصحى في صراعها مع العامية بسلاح ولا ذخيرة، ولا يعلم إلا الله ما يكون المصير إذا جمحت جامحة اجتماعية تقول بالحرية المسرفة التي سمعنا صدى صوتها في الجيل الماضي!
فإذا ما كان هذا العمل الجوهري الذي نرجوه، سيجرى بمباضع معروفة من أصول نحاتنا، فقد أعان الفصحى على مرضها، وأثبتت أن لها من الحيوية ما يخلصها من هذه الأزمة الخطرة، وذلك - ولا مراء - خير لها وأجدى عليها، ونحن بعون الله محاولون هنا أن نستعمل تلك الأسلحة نفسها، وأن نستعين على علاج العربية بحيويتها هي لا بنقل دم، ولا إعانة بغريب عن جسمها أو عن نظامها. •••
وعلى هذا الأساس سنجد أنه لا يد لنا بعمل يمس العقدة الأولى وهي الإعراب، فسندعها هنا كما هي، وتبقى العقدتان الأخريان، وهما ما نأمل أن نصل فيهما إلى شيء تخف به تلك المصاعب، على مستعملي هذه اللغة في حياتهم، من غير المختصين بدرسها، والمتعمقين فيها. فإنما نريد أن يجد الشخص العادي إذا تعلم ما يزيل أميته، ثم المتخصص في غير اللغة والأدب من طبيب ومهندس وعالم طبيعي ورياضي ومن إليهم، نريد ليجد هؤلاء جميعا، وتجد الصحافة والتحرير على اختلاف صوره، والتعامل على تنوع طرقه، لغة أقل عقدا في اضطراب الإعراب وفي اضطراب القواعد، قدر ما تستطيع أن تسعفنا به الأصول النحوية التي سنعتمد عليها لا على غيرها.
وأعرض عليكم الآن الأساس العام لهذا التدبير، ثم أعرض تطبيقه على العقدتين الباقيتين، واحدة فواحدة، فإليكم: (11) الأصل العام لهذا الحل
وهو أن ندع النحاة وآراءهم وقواعدهم، ونمضي إلى ما وراء ذلك من أصولهم التي استخرجوا منها هذه القواعد، فنحاول بحسب استعمالهم هم لها، وكما دلوا على هذا الاستعمال - وعلى رغم ما لنا من اعتراض على هذه الأصول - أن نرجح من منقول اللغويين ومرويهم في اللغة، أوجها تدفع هذه الصعوبات، وتقلل هذا التعدد، وتغني المتعلم عن بذل جهد عنيف، فالذي سنختاره من الأوجه، عربي، عربي منقول، مقرر في أصولهم الاحتجاج به، لكنا سنلاحظ في اختياره اعتبارين: (1)
تقليل الاستثناء؛ اضطراب الإعراب ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. (2)
اختيار ما هو بسبب من لغة الحياة والاستعمال عندنا، فإن لنا في عاميتنا إعرابات بالحروف مثلا، قد نطمئن إلى إن لها أصلا عربيا، بل هذا ما قد يرجحه البحث أو يثبته، وفي كل حال فإن أنسنا بها وإلف المتعلم لها، في لغة البيت والشارع، سيجعل الوجه الذي نختاره من الفصحى قريبا من أنفسنا سهلا، لا جدة فيه ولا إعنات، وسنجد التمثيل لهذا في موضعه حين نعرض له قريبا.
وتلك هي المرحلة الأولى التي نعتمد فيها على أصول النحاة بنصوصها، وبما قرروا فيها حل استعماله بلا لوم فيه علينا، ولا إنكار منهم، كما تسمعون نص عباراتهم في هذه الإباحة؛ إذ يقولون: (1)
كل ما ورد أن القرآن قرئ به جاز الاحتجاج به في العربية، سواء أكان متواترا أم آحادا أم شاذا، وقد أطبق الناس على الاحتجاج بالقراءات الشاذة في العربية إذا لم تخالف قياسا معروفا، بل ولو خالفته، يحتج بها في مثل ذلك الحرف بعينه، وإن لم يجر القياس عليه، كما يحتج بالمجمع على وروده ومخالفته القياس في ذلك الوارد بعينه، ولا يقاس عليه، نحو استحوذ ... إلخ.
ثم يقول ناقل هذا: إن ما ذكرته من الاحتجاج بالقراءة الشاذة، لا أعلم فيه خلافا بين النحاة، وإن اختلف في الاحتجاج بها في الفقه؛ ومن ثم احتج على جواز إدخال لام الأمر على المضارع المبدوء بتاء الخطاب بقراءة: «فبذلك فلتفرحوا»، كما احتج على إدخالها على المبدوء بالنون بالقراءة المتواترة: «ولنحمل خطاياكم»، واحتج على صحة قول من قال: إن «الله» أصله «لاه»، بما قرئ شاذا: «وهو الذي في السماء لاه وفي الأرض لاه».
14 (2)
اللغات على اختلافها كلها حجة، ألا ترى أن لغة الحجاز في إعمال «ما»، ولغة تميم في تركه، كل منهما يقبله القياس؛ فليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها؛ لأنها ليست أحق بذلك من الأخرى، لكن غاية ما لك في ذلك أن تتخير إحداهما فتقويها على أختها، وتعتقد أن أقوى القياسين أقبل لها، وأشد أنسا بها، فأما رد إحداهما بالأخرى فلا، ألا ترى إلى قوله
صلى الله عليه وسلم : «نزل القرآن بسبع لغات، كلها شاف كاف»؟ هذا حكم اللغتين إن كانتا في الاستعمال والقياس متدانيتين متراسلتين أو كالمتراسلتين، فأما أن تقل إحداهما جدا أو تكثر الأخرى جدا، فإنك تأخذ بأوسعهما رواية وأقواهما قياسا، ألا تراك لا تقول: «المال لك»، ولا «مررت بك»، قياسا على قول قضاعة: «المال له» ولا «مررت به»، ولا تقول: «أكرمتكش» قياسا على قول من قال: «مررت بكش»، فالواجب في مثل ذلك «استعمال ما هو أقوى وأشيع، ومع ذلك لو استعمله إنسان لم يكن مخطئا لكلام العرب، فإن الناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ، ولكنه يكون مخطئا لأجود اللغتين، فإن احتاج لذلك في شعر أو سجع، فإنه مقبول منه غير منكر عليه.» ا.ه.
وفي «شرح التسهيل» لأبي حيان: «كل ما كان لغة لقبيلة قيس عليه».
15
وهكذا كل قراءات القرآن حجة، وكل ما كان لغة لقبيلة قيس عليه؛ أي استعمل مثل استعمالها له، «والأخذ بالأقل استعمالا وشيوعا، والأضعف قياسا، سائغ عند الاحتياج إليه في سجع»، وكذلك منذ القرن الرابع الهجري، وقبل الجنون بالسجع، يقول ابن جني:
16 «فأما إن احتاج إلى ذلك «في شعر أو سجع، فإنه مقبول منه غير منعي عليه»، وكيف تصرفت الحال فالناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ، وإن كان غير ما جاء به خيرا منه.» فهل ترون يا قوم، أن جدوى هذا السجع خير من تخفيف بلايا هذا الاضطراب عن الصغار، وخزايا الافتضاح عن الكبار، على ما صرخت به وزارة المعارف قائلة: «إن المعلمين والمتعلمين يبذلون جهدا كبيرا ووقتا طويلا في تعليمها وتعلمها، ولا يصلون بعد هذا كله إلى نتائج تتفق مع ما يصرف من زمن وجهد.» ومع ذلك إن قعد بنا الجمود إلى هذا الحد عمدنا إلى المحلل، فوعدناكم ووعدناهم أن نسجع عندما نستعمل مذهبا مخففا، ولغة ميسرة، ولله الأمر!
لكن اطمئنوا إلى أنا لن نلم بشيء يؤثر على الفصاحة، مما ارتفعت عنه لغة قريش، من عنعنة وكشكشة وكسكسة وتضجع وعجرفية وتلتلة ... إلخ.
هذه أصول النحاة أنفسهم ومآخذ قواعدهم المنصوصة، ننظر بها في تذليل ما بعد صعوبة الإعراب في الفصحى، بادئين بالنظر في: (12) اضطراب الإعراب
إذ كثرت - فيما نعلم - الاستثناءات في الأفعال والأسماء جميعا، فاتسعت بذلك الهوة بين لغة الحياة ولغة التعليم ووجدت الصعوبة.
وننظر في هذه الاضطرابات وأقوالهم فيها فنرى: (أ)
الأسماء البضعة - الخمسة أو الستة - والمشهور منها يعرب بالأحرف أو بالحركات الممطولة المشبعة ... إلخ، وهو في كل حال يختلف عن معتاد الإعراب بالحركات القصيرة، والنحاة يعربونها بالحركة القصيرة المعتادة، فيقولون: «أبك» ... كما أنهم قد يجعلونها من المقصور الملازم للألف في الأحوال كلها، ومن بني الحارث من ينطقها بالوجه الأول، وهم الذين يقصرونها كذلك.
17
وننظر بعد هذا في لغة الحياة اليومية، فنجد أنها في هذه الثلاثة المشهورة من تلك الأسماء «أب، أخ، حم» تنطق الأولين منهما بالواو دائما، وتجعل الحم مقصورا بالألف دائما، فلا نجد هذا الصنيع كله غريبا على العربية، إذ ينقل لنا من قراءات القرآن: «تبت يدا أبو لهب»،
18
ويقول الزمخشري : «كما قيل: علي بن أبو طالب، ومعاوية بن أبو سفيان، لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع.» وكل قراءة حجة كما سمعنا. وابن قتيبة كما يلخص قوله ابن مطرف في كتابه «القرطين» (1: 185) يقول في هذه القراءة: «فكأنه حين كني به قيل: أبو طالب، ثم ترك كهيئته وجعل الاسمان واحدا.» والكنية كما نعرف قد تصدر بأخ كما تصدر بأب،
19
فللمسألة أصل ثابت يجعلني أجرؤ على فرض أن ما ننطقه اليوم في لغة الحياة له أصل عربي، وربما يرجح هذا أن الشافعي قد أعاد تصنيف «الرسالة» بمصر، وهذه النسخة هي التي بقيت بأيدي الناس،
20
أملاها بمصر على تلميذه الربيع بن سليمان المرادي، الذي ترك نسخة بخطه كما أيقن ناشرها.
21
وفي هذه النسخة المصرية التأليف والإملاء يورد الشافعي «أبو» بالواو في موضع الجر، فيقول: «عن سالم أبو النضر» (ويشير الناشر الفاضل في الهامش إلى ما سبق من قراءة «تبت يدا أبو لهب»، ومن قول ابن قتيبة ... إلخ).
ومن هنا نستطيع أن نرجح أن إلزام أب وأخ الواو في عاميتنا له أصل عربي، وقد قرئ به في القرآن، وكتب به في مصر علم ... وأما الحم فقد قصرت بالألف دائما، وهي اللغة المعروفة في حياتنا، فهل تتوسعون فتجيزون في تلك الأسماء ما جاز في الكنية، فتبقونها بالواو دائما في أب وأخ؟! أو لا ترون هذا التيسير فترفضون هذا التوسع؟! لكم ما تشاءون حين يجد بكم الجد في هذا التيسير العملي، وهو غير بعيد؛ لأنه لون من القياس الذي أسس النحاة عليه نحوهم، وهم في هذا الباب نفسه مثلا قد جاءهم نقلا تثنية أب على أبان، فقاسوا على هذا المسموع تثنية أخ على أخان، وقالوا ينبغي أن يكون حمان كذلك.
22
أما أنا فحسبي هنا في هذه الأسماء أن تلزم الألف كالمثنى فتنقل الأقسام: (ب)
المثنى وما على صورته، يعرب بحرفيه الألف والياء، وقد برم به حتى المحدثون الذين حاولوا أن يصلوا في هذا الإعراب إلى أصول تطرد، فقالوا: «إن باب التثنية في العربية غريب»
23 ... وما بنا أن نصحح هذا القول هنا، أو نطلب في تصحيحه كلمة أصحاب مقارنة اللغات، وإنما أشرنا إليه لفتا للصعوبة النظرية، مع الاستثناء العملي في الإعراب بالحروف، ونحن نعرف - مع هذا - أنه قد قرئ في القرآن: «إن هذان لساحران» على أنه مثنى بصورة المقصور ذي الألف دائما، وتأويله على غير هذا ليس بقوي، وقد ضعفوه هم أنفسهم.
24
وهذا القصر للمثنى في الشعر، وفي عبارات الحديث أيضا، ثم هذه القراءة التي نقرأ بها، غير ما نعلمه لأبنائنا، وكلها غير ما نستعمله في الحياة من إلزامه الياء دائما، وأحسب أننا لو رجحنا القصر في الأسماء الخمسة، ثم رجحناه في هذا المثنى نريح ونستريح، وأصولهم وقواعدهم تعطي هذا، كما عرفنا في سهولة وقرب. (ج)
جمع المذكر السالم وما على صورته، وهو يعرب بحرفيه الواو والياء، لكنا مع هذا نقرأ في متون النحو المشهورة غير هذا من إعرابه، فابن مالك يقول:
وبابه، ومثل حين قد يرد
ذا الباب، وهو عند قوم يطرد
فيقول الأشموني في شرحه: «إن مجيء الجمع مثل «حين» عند قوم من النحاة - منهم الفراء - يطرد في جميع المذكر السالم، فيكون معربا بالحركات الظاهرة على النون، مع لزوم الياء ولزوم النون، فلا تسقط للإضافة.» ويبدو أن الزمخشري من قبل ذلك يقول بهذا الطرد؛ إذ أطلق العبارة في «المفصل»،
25
فقال: «وقد يجعل إعراب الجمع بالواو والنون في النون، وأكثر ما يجيء ذلك في الشعر، ويلزم الياء إذ ذاك.» فلعل هذه العبارة المطلقة تشير إلى ما عناه ابن مالك بقوله: «وهو عند قوم يطرد» وإن كان ابن يعيش يقيد هذا الإطلاق ويجعله فيما يجمع بالواو والنون عوضا عن نقص لحقه، وهو باب «سنين»، في قول ابن مالك، ويقول: «والشيخ قد أطلق ها هنا، والحق ما ذكرته.» ولكن عبارة ابن مالك وكثيرين من شراحه - وغير شراحه من النحويين
26 - واضحة في أن من العرب من يجعل الإعراب في جمع المذكر السالم، وفي كل ما حمل عليه، على النون، ويسوقون لذلك الشواهد، رغم تحكم ابن يعيش في إطلاق الزمخشري المؤذن بهذا الاطراد الذي ذكره ابن مالك. على أن هؤلاء الشراح ينقلون في إجمال أن الصحيح في إجراء الجمع مجرى حين، أن يقصر ذلك على السماع ولا يطرد، ونحن هنا ما يعنينا هذا التصحيح بعدما اصطحبنا أصل النحويين في استعمال الأقل والأبعد عن القياس، وتسويغهم ذلك في السجع، ولكنا نظن أن قول الشراح في القصر على السماع كقول ابن يعيش في تقييده إطلاق الزمخشري هذا الإعراب، كلاهما نوع من الإلف والميل إلى الشائع المستقر، لا يقوم على وجه ولا على حجة.
وبعد هذا الذي قدمناه، ننظر فإذا نحن في لغة الحياة، نلزم هذا الجمع الياء في أحواله كلها، ونستغني كدأب لغتنا كلها عن علامة الإعراب، فهل هذه لهجة عربية أصلها إجراء جمع المذكر السالم مجرى حين؟ ليس هذا عندي ببعيد أبدا، وإذا ذكرنا ما ورد في «التصريح» عند الحديث عن إعراب جمع الذكور وما حمل عليه إعراب «حين»، من قوله في تعليل ذلك وتوجيهه «لأن باب الياء أوسع من باب الواو.»
27
إذا ذكرنا هذا ونظرنا إليه، قدرنا أن هذه السعة في باب الياء قد تكون العامل الذي أغرانا في مصر بإلزام هذا الجمع الياء دائما. •••
وبعد، فإذا ما قدرتم يا سادة، أنهم جوزوا تركيب اللغات وتركيب المذاهب، كما أوضح ذلك ابن جني في «الخصائص»، حين عقد فصلا في الجزء الأول لتركيب اللغات، وعقد فصلا في الجزء الثاني المخطوط لتركيب المذاهب، وذكرتم مع هذا أن الأصوليين - وهم أئمة النحاة في أصولهم - قد جرى جمهورهم وجمهور الفقهاء على أخذ حكم المسألة الواحدة من أكثر من مذهب؛ إذا قدرتم ذلك كله، فهل تجيزون أن نجري جمع المذكر السالم في تعليمنا النحو على هذه الياء التي بابها أوسع من باب الواو، فنجعله بالياء في كل حين، ونلزمه مع ذلك فتح النون تركيبا للغات أو المذاهب؟ إن رأيتم ذلك فبها، وإلا فيكفي في اليسر أن يكون بالياء دائما، كما نعرفه، وأن يعرب بالحركات على النون. (د)
الجمع بألف وتاء، ينصب بالكسرة حين يجر ما لا ينصرف بالفتحة، وهي مقابلة متعبة، مهما يجهد الأقدمون في الكلام عنها ويلتمسوا لها علة.
28
ويتعلق القدماء والمحدثون بأشياء في توجيه هذه المخالفة في الحالتين: والقول في مثل هذه الأشياء باعتبارات نظرية عقلية يعد من الإخلال القبيح بالمنهج اللغوي، وهو مع ذلك قول متهافت تهافتا واضحا، ألا ترونهم في هذا الجمع بألف وتاء يحاولون حمله على جمع المذكر السالم في الجر والنصب معا بالياء، ويكدون ليخرجوا من هذا أصلا في العربية مقررا، على حين أن جمع المذكر نفسه قد سمعنا قريبا أنه قد يطرد إجراؤه مثل «حين» في الإعراب على النون مع الياء، كما أن من العرب من يلزمه الواو ويعربه على النون
29
كزيتون، فالأصل المقيس عليه نفسه لم يسلم له في العربية أمر مقرر حتى يجهد المخلون بالمنهج اللغوي أنفسهم في مثل هذه الأقوال، ويضيعوا فيها وقتهم.
على أن هذا الجمع بألف وتاء لم يسلم فيه للعربية أصل مقرر في نصبه بالكسرة، فإنك لتقرأ في أكثر كتب النحو تداولا قولهم: وقد أجاز الكوفيون نصب هذا الجمع بالفتحة مطلقا؛ أي سواء أكان جمعا لما حذفت لامه أم لا.
30
وأصولهم التي أكثرنا من الإشارة إليها تجيز الاستعمال، وإن كان لا بد من سجع لننصب هذا الجمع بالفتحة سجعنا، فذلك أهون من النصب بالكسرة والجر بالفتحة. (ه)
ما لا ينصرف، وهو - كما نعرف - يجر بالفتحة، ويجهد في تعليله على غير طائل أولئك الذين يخضعون اللغة للفروض النظرية، على حين هي ظاهرة اجتماعية يشرق بها الواقع ويغرب، ويتيامن بها اللسان ويتياسر من غير ضبط ذهني ولا قواعد نظرية. وما بنا هنا أن نصحح المنهج، ولكنا نقول لهم: إن هذا الباب قد اضطرب أمره في يد النحاة أنفسهم، وقرروا وهن القاعدة فيه، وقال قائلهم منذ بعيد: «إن حكم الإعراب لا يتخلف ... أما حكم الصرف فإنه يتخلف عن العلة. ومنع الصرف سبب ضعيف؛ إذ هو مشابهة غير ظاهرة بين الاسم والفعل».
31
ثم هم يجيزون صرف الممنوع في الاختيار، رعاية للتناسب واتساق اللفظ. وقد قرئ في القرآن الكريم:
وجئتك من سبإ بنبإ يقين ،
إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا ،
ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوثا ويعوقا ونسرا .
ثم ما لبثوا أن نقلوا أن العربية - في وجه - لا تعرف منعا من الصرف، وحكى الأخفش لغة لبعض العرب تصرف ما لا ينصرف مطلقا في الاختيار، وقال: وكأن هذه «لغة الشعراء»؛ لأنهم قد اضطروا إليه في الشعر، فجرت ألسنتهم على ذلك في الكلام»
32 ... وأين أنتم يا قوم من لغة الشعراء، ترحمون بها صغاركم وكباركم أيضا؟! إن في هذا النص من تعليل الأخفش، ما كان خليقا بأن يهدي النحاة قديما وحديثا إلى المنهج اللغوي الصحيح، حين يقدرون تصرف الألسن في اللغات، وجريانها بها، على نحو ما وصفوا من عمل ألسنة الشعراء، لا على نحو ما يتكلفونه من قواعد نظرية! (و)
الاسم المنقوص: كالقاضي، واختلاف إعرابه بظهور النصب على يائه، وعدم ظهوره في الجر والرفع، فتحذف الياء في المصروف، والنحاة مع هذا يقولون: إن من العرب من يسكن ياء هذا المنقوص في النصب أيضا، وإن الأصح جواز هذا في السعة، بدليل قراءة جعفر الصادق: «من أوسط ما تطعمون أهاليكم»، بسكون
33
الياء. وقال السجستاني بعدما أجازه في الاختيار: «إنه لغة فصيحة.»
34
وعدوه في الشعر من أحسن الضرورات.
35
وإذا كانت لغة فصيحة وقراءة قرآنية، فقد صح أن نستعمل المنقوص دون «أل» بغير ياء في الأحوال كلها، ومع «أل» لا نظهر كذلك على يائه حركة في الأحوال كلها، فيكون اختزالا مريحا وإعرابا غير مضطرب، ويستريح المتعلم من المنقوص وتحريكه استراحته من المقصور.
هذا مما في الأسماء من اضطراب الإعراب.
وفي الأفعال من ذلك مثلا: (أ)
الأفعال الخمسة، أو الأمثلة الخمسة التي يجم الصغار أمام عدها، وتثبت فيها النون في الرفع، حين تحذف مع النصب والجزم، وقد ورد حذف هذه النون أيضا عند الرفع في النثر، وقرئ بها القرآن، فقرءوا: «قالوا ساحران يظاهرا» أي يتظاهرا بدون نون، وفي الصحيح: «والذي نفس محمد بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا.» والأصل: لا تدخلون، ولا تؤمنون.
36
وقول عمر رضي الله عنه: «يا رسول الله، كيف يسمعوا؟! وأنى يجيبوا؟!» دون نون، وإذا لم تحتجوا بالحديث مع المحتجين فبحسبكم القرآن وقراءته، وقد سمعنا قاعدتهم في الاحتجاج بالقراءة دون خلاف بينهم في ذلك، وقد ورد هذا الوجه في الشعر مثل قول القائل: «أبيت أسري، وتبيتي تدلكي»، بدل «تبيتين، وتدلكين»، وبهذا قد انتهت أصولهم إلى حذف هذه النون رفعا كحذفها نصبا وجزما.
واسمحوا لي هنا أن أحدثكم عن شيء مما عاق انتفاع القوم بمثل هذه الأوجه في تيسير اللغة للحياة؛ ذلك أن السيوطي الذي ساق هذا في كتابه «همع الهوامع على جمع الجوامع» يقول بعده: «ولا يقاس على شيء من ذلك في الاختيار.» فيردده الصبان في «حاشيته» من قولة مطولة في حذف هذه النون من الفعل المرفوع، ويمضي على أن هذا لا يقاس عليه في الاختيار كما قال السيوطي قبله، مع أن الصبان نفسه بعد هذا بصفحتين عند ذكر حذف ياء المنقوص في النصب على ما بيناه، وإيراد الأشموني قول المبرد إن تسكين هذه الياء في النصب من أحسن ضرورات الشعر، يعلق صاحبنا في «حاشيته» قائلا: والأصح جوازه في السعة، بدليل قراءة جعفر الصادق: «من أوسط ما تطعمون أهاليكم»، فلماذا كانت هذه القراءة دليل الجواز في السعة على الأصح، ولم تكن قراءة: «ساحران يظاهرا» دليل جواز حذف النون في السعة على الأصح؟! وإذا كان السيوطي قد نقل عدم القياس في الاختيار وهو يجمع؛ لأنه لم يتكلف التحري، فلماذا غفل الصبان وهو يحشي ويعلق وينقد عما خطته يده قبل ذلك بقليل؟! وإن لم يكن لواحد منها عذر؛ لأن القاعدة كما نقلها السيوطي نفسه في «الاقتراح»، هي الاحتجاج مطلقا، وقد عقب عليها السيوطي بقوله عن نفسه: «وما ذكرته من الاحتجاج بالقراءة الشاذة، لا أعلم فيه خلافا بين النحاة!» أهو الإلف والتقليد يصرف الشخص عن تأمل ما قرره، ويرده عن استعمال حقه العقلي؟ هو هكذا غالبا.
وأما قواعدهم فتخرج في جلاء حذف نون الأمثلة الخمسة رفعا ونصبا وجزما، وهو تخفيف مريح، فيه اختصار أيضا. (ب)
المضارع المعتل الآخر، ويحذف آخره في الجزم. وقد قال بعضهم: إنه يجوز في سعة الكلام، وإن لغة بعض العرب إبقاء هذه الحروف مع الجازم.
37
وقد قرئ في القرآن: «لا تخف دركا ولا تخشى»، «إنه من يتقي ويصبر». وهذا القدر من القراءة القرآنية، ومن أنه لغة، كاف لإبقاء الفعل المعتل دون حذف شيء منه رفعا ونصبا وجزما إراحة من الاضطراب الإعرابي، وتكون المعتلات الأواخر أسماء وأفعالا باقية بحالها، لا يعنت بها متكلم ولا كاتب. •••
تلك نواح من علاج صعوبة اضطراب الإعراب، أضعها بين يدي الباحثين الصادقي الرغبة في جعل اللغة مادة للتفاهم الحيوي، لا يبذل فيها المتفاهم عناء وجهدا هو أحوج إلى أن يوفرهما لما يريد أن يقوله وينقله من المعاني والأفكار، ولا تنسوا ما كررته من أني إنما أتحدث بهذا إلى الذين ليس عملهم في الحياة الاشتغال باللغة وأوجه إعرابها من سائر الطبقات العالمة والعاملة في الشعب.
ثم ننتقل بعد ذلك إلى النظر في الصعوبة الثالثة، وهي: (13) اضطراب القواعد
إذ إن أساس القاعدة الضابطة هو الاطراد والعموم، الذي يهون به على الذهن تمثل الأصل الشامل تمثلا يرجع إليه في التطبيق والاستعمال. فإذا ما كانت القاعدة ذات شعب وصور، ثم ذات خلاف وآراء، فقد فقدت أخص صفاتها في الضبط الجامع، وانتشر الأمر، واللغات بعامة قد تكثر قواعدها وضوابطها، لعدم سهولة تركيزها، نظرا لما خلفته فيها المرونة ومسايرة الحياة ومطاوعة اللسان من تغيير على ما يتبينه من ينظر في المنهج اللغوي نظرا محققا.
لكن لغتنا الفصحى فوق ما لها من هذه الكثرة في القواعد، تزيد على ذلك بما فيها من اضطراب القاعدة في الكلمة الواحدة أو التعبير الواحد، لتعدد الصور والمذاهب والخلافات التي تصل إلى حد التباين العجيب، وحسبنا مثلا لذلك أن «لم» وهي شهيرة في عمل الجزم الخاص بالأفعال، على ما نعرف لا يتسق فيها ذلك ولا يثبت، بل يتفرق فيها القول تفرقا يتناول كل احتمال ممكن، فهي أحيانا لا تجزم حملا لها على ما أو لا، فيرفع الفعل بعدها، ثم هي حينا تنصب في لغة، ويقرأ في القرآن: «ألم نشرح»، فيما نقلوا.
38
وتخريجاتهم لهذا النصب قد ضعفوها هم، كما في «المغني»،
39
فيكون الفعل بعد «لم» مجزوما أو مرفوعا أو منصوبا، ولم يبق إلا أن يخرج الفعل عن ميزته فيجر بعد «لم»!
وهذه الأحوال كلها تعلم في كتب النحو التي يربى عليها معلمو لغة الأمة، فلا أقل من أن تزعزع تلك الاضطرابات صورة القاعدة وثباتها في نفوس أولئك المعلمين! وقدروا أن الأمر لا يقف عند وجود مثل هذه الآراء في كتب النحو، فيكون نقلا تاريخيا فقط، بل نحن نجد هذا في الاستعمال نفسه إذ نقرأ للشافعي - رضي الله عنه - في «الرسالة» نحو سبعة عشر استعمالا لم يجزم فيها ب «لم»، منها بضعة عشر لم يحذف في آخرها حرف العلة من المضارع المعتل، فقال: «لم يرى»، ومنها بضعة مواضع لم يحذف حرف العلة من المضارع الأجوف، فقال: «لم يحيل» مثلا، (وقد تتبعها الناشر الفاضل وأوردها في فهرست الفوائد اللغوية، ص659)، ولو قد نقلت إلينا النصوص القديمة المتحراة بكتابة عصرها لرأينا من أمثال هذه الظاهرة شواهد قوية، على فرق ما بين اللغة المستعملة وبين هذه القواعد التي اشتهر تعلمها، ولاتضح تصورنا لواقع الحياة اللغوية تصورا يجنبنا غير قليل من الأخطاء في منهج درسها. •••
وما بنا أن نعلل هذا الاضطراب في القواعد، فتلك مسألة تبحث في غير هذا الموضع، وإنما نريد لهذا الاضطراب تدبيرا عمليا يهون المهمة التعليمية، ويعين على استجابة اللغة لحاجات الحياة؛ لأننا نجد آثار هذا الاضطراب للقواعد في كتب النحو المدرسية على أبسط صورة لها، وبعد التيسير والإحياء، وما إلى ذلك، وخذوا لذلك مثلا: باب الاستثناء الذي كان التيسير أن يعد في «الصيغ»، ولم تعرف كيف يكون الأمر في أحواله المختلفة وأبوابه الكثيرة المتبعة ، فإذا كتاب النحو المدرسي الذي ألفه جماعة منهم صاحب الإحياء نفسه في الجزء الأول منه لتلامذة السنة الأولى الثانوية، يذكر بضعة قواعد لبعض أحكام الاستثناء وأحواله، يلقاها أولئك الصبية الذين تعرفون أنهم يبدءون مرحلة هذا التعليم الثانوي في العاشرة وما حولها، وليس الأمر واقفا عند كثرة القواعد بكثرة أدوات الاستثناء، وأنها تكون حينا أسماء وحينا أفعالا وحينا حروفا، بل هو كذلك تتبع للأحوال المختلفة في الأداة الواحدة أو الأدوات المتشابهة.
40
وأرجو أن نعالج مثل هذا الاضطراب الذي امتد إلى أبسط كتب النحو بعدما زلزل كيان اللغة، وفرق أمرها كله، أرجو أن نعالجه كما فعلنا في الصعوبة الأولى، فنلتزم أصول النحاة التي أصلوها هم أنفسهم ونقوم بأمرين:
الأول:
محاولة الاحتفاظ باطراد القواعد ما أمكن، فإذا ما أدى هذا الاطراد إلى التسوية بين وجه لغوي قوي ووجه لغوي أقوى، أو الجري على ما هو الأقل قوة، فقد سمعنا ما تجيزه أصولهم من عدم اللوم في ذلك بمحلل هو السجع، وراحتنا من هذه الآلام أمتع لنفوسنا آلاف المرات من سمج السجع.
الثاني:
اختيار ما هو أيسر إعرابا، أو أقرب فهما، أو أكثر رواجا في حياتنا اللغوية الحاضرة، حينما نريد طرد القاعدة وإقلال التفريع والأحوال والصور فيها.
وأسوق لهذا التدبير مثلا من علاج مسألة في الاستثناء الذي سبق ذكر صعوباته، فأقول: إن في هذا الكتاب المدرسي الصغير أنه يستثنى ب «خلا، وعدا، وحاشا»، فيجوز في المستثنى بها النصب، ويجوز فيه الجر، هذا إذا لم يسبق «خلا وعدا» كلمة «ما»، فيجب نصب ما بعدها، ومن ذلك نرى أن النصب مشترك في الأحوال كلها، مع «ما» وبدونها، فلو قلنا: إن الاستثناء «بخلا وعدا وحاشا» له حكم واحد دائما هو نصب المستثنى، وقد تدخل «ما» على «خلا وعدا»، فإنا بهذا الطرد للقاعدة نضبط الأمر ونيسره، ولا نرتكب أكثر من أننا جعلنا بعض الأحوال المختلف في قوتها أو المرجحة قوة الجر فيها أو النصب مثلا جعلناها مرجوحة، أو سوينا فيها بين الحالتين، وقد رأينا جواز هذا، وأنه عربي صحيح لا شيء فيه.
بمثل هذه الخطة نستطيع أن نمنع الكثير من اضطراب القواعد واختلافها المتعب، وبذلك نمكن للفصحى من ألسنة الناس وقلوبهم. وإنما أعني من الناس - كما كررت - هؤلاء الذين لا يشتغلون في الحياة باللغة وأبحاثها وآدابها، بل تعنيهم اللغة بقدر ما تكون أداة عملية تسعف على عملهم أو علمهم أو فنهم أو منافعهم، فتمكنهم من أن يترجموا عما في أنفسهم منه، وينقلوه إلى المتعلمين عنهم، أو إلى معامليهم أو معاشريهم.
فإذا ما مكنا للفصحى في ألسنة هؤلاء وقلوبهم، فقد أمددناها في صراعها للعامية بقوة تهيئ لها شيئا من الثبات والمقاومة إن لم يكن التغلب والانتصار.
أما أولئك الذين عملهم في الحياة هو الاشتغال باللغة وعلومها وآدابها، فمنذ يبدءون تخصصهم في ذلك، ويفصلون عن التعليم المشترك إلى أقسامهم الخاصة، لهم أن يرددوا من هذه الاستثناءات التي تربك الإعراب ما يشاءون، وأن يتتبعوا من أوجه الاختلاف ما يعرفون به الفصيح والأفصح، والأقل والأكثر، ما دامت الدنيا حولهم تمكنهم من ذلك وتجيزه لهم. (14) هو الاعتدال الجامد
ثم أعود فأكرر هنا ما أشرت إليه من قبل؛ إذ بينت أننا لم نأخذ بالخطة الحرة للجيل قبلنا، ولا أخذنا بالدستور الشرعي الذي تقدم إليه الفقهاء حولنا، بل رجعنا إلى ما وراء ذلك، فلزمنا أصول النحاة، ولم نعتمد على شيء أبعد مما أباحوه في غير تعي ولا لوم.
وكل ما عرضناه هنا من حل قد التزمنا فيه أصول النحاة التي دونوها، ولو قد جاوزنا ذلك إلى ما وراءه من عمل الفقهاء اطمئنانا إلى حمل أصول النحو على أصول الفقه منذ القدم، وتقديرا للفرق الفسيح بين ما للفقه من قدسية ليس للنحو شيء منها إلخ، لو أخذنا بقواعد أصحاب الفقه في صنيعهم، فتوسعنا في فهم المذاهب النحوية دون وقوف عند نصوصها، وأخذنا الأحكام من التعليلات، أو من القواعد العامة للمذهب النحوي، أو من القواعد العامة للنحاة جميعا، كما فعل أصحاب الفقه، أو لم نتقيد بمذهب واحد، ولفقنا الحلول من مذاهب متعددة كما فعلوا، أو شعرنا بالحرية في اختيار ما يساير الحياة ويلائم تطور الجماعة كما فعلوا، إذن لأوفى بنا ذلك كله على أبواب من التصرف في هذا النحو، لم نفتح هنا شيئا منها يذكر.
وإنكم بهذا لتقدرون ما في الذي عرضناه آنفا من اعتدال، قد يرهب أن يعده الزمن منا جمودا لا يرضي عشاق التجديد. (15) شبه واهية
وبعد؛ فهذه فكرة حدثت فيها - كما عرضتها هنا - كثيرين من أولي العناية بهذا النحو منذ بضع سنين، وانتهزت لذلك الفرص لتكون دعوة سرية ممهدة، ولأسمع ما عساه يكون هناك من اعتراضات عليها، ربما أكون قد فتنت عنها أو لم أنتبه إليها.
وقد لقيت الدعوة - في الجملة - غير المحاربة والمخالفة المنكرة، إن لم أقل إن بعض أصحاب الصفة الخاصة في الأمر، قد اطمأنوا إلى جملتها، لكن بقي أثر الإلف والتقليد، يدفع نفرا إلى الجمجمة بأشياء هي خواطر حائرة، فيها كثير من اللين والوهن، فلا أسميها اعتراضات، وأكثر ما تنعت به أنها شبه واهية؛ منها: (أ) القرآن وهذا التدبير
ولم أجد من صور هذه الشبهة في صورة تناقش، وإنما هو شيء يسبق إلى الوهم لظروف اجتماعية وعملية، أو منفعية خاصة، وقد سمعتم ما تلونا من قراءات القرآن في جل ما قلناه، وسمعتم أن كل قراءة حجة، فلم يبق إلا أن يكون فيما نستعمله من اللغة ما هو غير الذي نقرؤه في قطر من الأقطار، ولا بأس بهذا لأن هذا الاختلاف واقع بين ما نتعلم اليوم من القواعد، وبين قراءات القرآن، التي تقرع أسماعنا به في الإذاعة - على الأقل - كل حين، فلو غيرنا ما نتعلمه بما هو مخالف لقراءة وموافق لأخرى، فما حدث جديد ولا بدع، ولا انتقض شيء، ولا كانت مشكلة.
على أنا نفرض أبعد ما يتصور، وهو: أننا أصلحنا لغة الحياة يوما ما، بغير ما قرئ به القرآن، فهل نكون قد فعلنا ما لم نفعله أو يفعله أصحاب هذا القرآن من قبل؟ لا، فقد وقع وتم، ما هو أخطر من ذلك وأشد؛ إذ مضى الهجاء والإملاء العربي يوافق كتابة المصحف حينا، ثم تغيرت قواعد الكتابة العربية، وتقرر ما يخالف رسم المصحف، فقال الزمخشري منذ مئات السنين: «... وقد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياسات، التي بني عليها الخط والهجاء، ثم ما عاد ذلك بضير ولا نقصان، لاستقامة اللفظ وبقاء الحفظ، وكان اتباع خط المصحف سنة لا تخالف.»
41
بل لم يقف الأمر - كما تعرفون - عند هذا الحد، فقد أفتوا بكتابة المصحف على قياسات الهجاء الجديد تيسيرا للتعليم، كل هذا والكتابة والخط والهجاء غير الإعراب والضبط؛ لأن اختلاف الكتابة يمنع قراءة القرآن والاتصال بالمصحف، أما هذا الإعراب والنحو فالقرآن معرض فيه للغات المختلفة، وعنه أخذنا، فشتان بين اختلاف الكتابة عن المصحف، واختلاف النحو عن بعض قراءات هذا المصحف.
وكل هذا، على فرض أننا هذبنا لغتنا بغير ما في المصحف، وهو ما لم نقترح منه شيئا، ولم يقع منه شيء إلى الآن، بل الذي عرضناه قراءات من القرآن نفسه. (ب) حال التلاميذ
حين يدرسون نصا أدبيا قديما، وكل الصعوبة في ذلك، أن نقرأ لهم النص الأدبي بتلك الأوجه الميسرة أو الموحدة من الإعراب، ولا شيء مطلقا في هذا، فهي لن تخل بمعنى ما، وهي - في جملتها - لا تخل بوزن، وإن أخلت بشيء منه، فليبق كما هو ضرورة للشعر، وما نسخنا هذه الضرورات وقراءة النص بوجه غير وجه هو ما نعانيه في الروايات المتعددة للنصوص، فلا بدع فيه ولا حدث، وليست فيه صعوبة تذكر حتى يوقف عندها، فما طلبنا كتابته بحروف لغة أخرى. (ج) المتكلمون بالعربية واختلافهم
والمتكلمون بالعربية اليوم في الأقطار المختلفة، قد فرقت بينهم منذ مطلع شمس الإسلام، عاميات مختلفة، استبدت كل واحدة منها بجماعة منهم، ثم ها هم أولاء يسمعون الفصحى كل حين، في الإذاعة مثلا ملحونة لحنا رهيبا، فهل تراهم لا يفهمونها لأنها ملحونة؟! لا شك أن لا، فهب أنهم لم يأخذوا بما أخذنا به في مصر من هذه الأوجه، فسيكون قولنا كقراءات القرآن المختلفة، أو هو - على أسوأ الفروض - كالذي يسمعونه كل حين من اللحن. وأما إن أخذوا بما أخذنا به من هذا التهذيب وهو ما تدعو حالتهم إلى مثله، بل هو ما تحتاجه أشد الاحتياج، فسيكون من هذا الاتحاد والاتفاق لا الافتراق والاختلاف، ثم سيكون ومن سهولة هذه الفصحى عامل جديد لتوثيق الصلة بينهم؛ إذ تضعف بسهولة الفصحى عامياتهم المفرقة لوحدتهم.
وهذا وجه من النظر الاجتماعي، يكفي وحده لأخذ أصحاب العروبة في كل إقليم بهذا التهذيب، رجاء أن يجتمعوا على فصحى يسيرة تهاجم العاميات فتقتلها، أو تضعف شأنها، وحبذا!
تلك هي الجمجمات التي همس بها من سمعتهم، وإن يكن غيرها فأحبب إلي أن أسمع وأصيخ!
وختاما
قد عرضت بهذا أصول الحل العملي لمشكلتين معقدتين من مشكلات حياة الفصحى، هما اضطراب الإعراب، واضطراب القواعد، وبسطت من الأمثلة ما يسهل الانتفاع بهذا الأصل، وعلى غراره تخرج تخفيفات كثيرة إذا ما صدقت النية في الاستجابة لحاجة الحياة والوفاء بمطالبها.
وإني بعد إذ فعلت ذلك أسأل كل من له شيء من الأمر: أتنحو هذا النحو؟ فإن حالت دون الإجابة حوائل من أوهامنا الاجتماعية التي لا تدعنا نأخذ سمتنا إلى الإصلاح، سألت المستقبل المرجو الناهض: أتنحو هذا النحو؟! تاركا للغد بعدي أن يسمع الإجابة من شفتي الزمان.
وأنتم؛ فالسلام عليكم.
ناپیژندل شوی مخ