تستحق خطبة هتلر في افتتاح المعرض أن ننتبه إليها جيدا؛ فهو يعرض، بشكل غاية في الوضوح، تلك الجوانب من الحداثة التي يأمل في القضاء عليها؛ أولا: تخاطب الحداثة نوعية خاطئة من الجماعات (العالمية). وقد أدت الأوروبانية التي أكدت عليها إلى «خبرة جماعية عالمية؛ ومن ثم إلى قتل أي تفهم لعلاقتها التكاملية مع أي جماعة عرقية». ثانيا: ليست نزعتها التجريبية سوى نزعة «مشوشة»: «في يوم تطالعنا الانطباعية، ثم المستقبلية، ثم التكعيبية، وربما حتى الدادائية ... إلخ.» والاستجابة الحاسمة لهذا المنهج (أي انتشار أفكاره) هي ما كان هتلر يسعى وراءه؛ لأن «أكثر البشاعات جنونا وتفاهة» أوحت ب «آلاف الشعارات والرموز لتسميتها». والحكومة هي الجهة التي يتعين عليها ترسيخ هذا الموقف من خلال «تعريف» طبيعة الواقع؛ أي بالمطالبة ب «واقعية» معرفة وطنيا وعنصريا في «أي فن ألماني»، والتي «ستكون ذات قيمة خالدة مثل جميع القيم الإبداعية بحق لأي شعب.» إن مزاعم الذاتية الحداثية و«شعاراتها»؛ مثل: «الخبرة الداخلية»، و«الحالة الذهنية القوية»، و«الإرادة القوية»، و«المشاعر الحبلى بالمستقبل»، و«التوجه البطولي»، و«التعاطف الهادف»، و«الترتيب المحنك للأزمنة»، و«البدائية الأصلية»، وما إلى ذلك؛ سوف تضطر للتلاشي: «هذه الأعذار الحمقاء الكاذبة، هذا الهراء أو الثرثرة لن يقبلا بعد ذلك.» ولا الفنانون أمثال براك، وماتيس، وكاندينسكي، وكيرشنر، وماك. في الواقع، جميع الفنانين التعبيريين الألمان العظماء محكوم عليهم بالجنون الانحلالي؛ لأنه من خلال تشويه الشكل الإنساني «ينظرون إلى سكان أمتنا الحاليين باعتبارهم مخلوقات مختلة متعفنة». والأكثر من ذلك أنهم «يرون المروج زرقاء، والسموات خضراء، والغيوم صفراء بلون الكبريت، وهكذا، أو يعايشونها كما هي، على حد قولهم». وهذا طريق طويل يبدأ من روجر فراي. والأفعال المخففة التي يستعين بها هتلر للتهديد بتنفيذ رسالته خبيثة بشكل مخيف: «باسم الشعب الألماني، أريد أن أحظر هؤلاء البائسين المثيرين للشفقة الذين يعانون بشكل واضح للغاية من مرض بالعيون.» وعليه سوف يكون على «وزارة داخلية الرايخ الاهتمام بمسألة إيقاف المزيد من توارث مثل هذا الخلل المريع في وظائف العيون»، كجزء من «حرب تطهير بلا هوادة ضد آخر عناصر الانحلال والفساد في ثقافتنا». ويتعهد أنه «من الآن فصاعدا ... كل هذه الزمر من الثرثارين والهواة والمحتالين، الذين يدعم أحدهم الآخر؛ ومن ثم هم قادرون على البقاء، سوف يتم القضاء عليهم ومحوهم».
كذلك أقيمت ثمانية معارض مضادة ل «الفن الألماني العظيم» من عام 1937 حتى عام 1944. في عمل كهذا:
لا بد أن يكون الموضوع ... رائجا ومفهوما. لا بد أن يكون ملحميا تماشيا مع مثل الاشتراكية القومية. لا بد أن يعلن إيمانه بالنموذج الآري للإنسان النوردي والنقي عرقيا.
وانطوى هذا على إحياء لكلاسيكية من أردأ الأنواع؛ فقد وصف أحد النقاد الكولونيين البنية الموضوعية الأساسية للمعرض على هذا النحو: «العالم والفلاح والجندي يمثلون الموضوعات ... والموضوعات الملحمية تطغى على الموضوعات العاطفية. تجربة الحرب العظمى، مشاهد الطبيعة الألمانية، الرجل الألماني أثناء العمل، الحياة الريفية.»
إن دور النازيين هنا يعد نموذجا، ولكنهم لم يكونوا وحدهم في انتهاك الحد الفاصل بين ما هو سياسي وما هو خاص، في موقف مناهض للفردية والليبرالية بشكل صريح وواضح. ولا يزال الأسلوب النقدي التأملي الذي نادى به بريخت (مهما كان قد ترسخ بشكل كبير من خلال مخاطبته للنظام الماركسي والحزبي) ينمو من رحم الاستعداد الحداثي لتشويه الواقع العادي، وتحويله إلى خرافات وخزعبلات (كما توضح أعماله اللاحقة)، حتى يتسنى لنا أن نقرر، في إطار قدر معين من التساهل مع الغموض والصراع، من خلال تأويل صوره المجازية، مدى تماثل العمل مع الواقع. نفس الشيء تقريبا يسري على معظم الأعمال التي نوقشت سابقا. وهذا بعيد كل البعد عن مطالب «الحياة الواقعية» التي فرضتها الأحزاب الفاشية على الفن في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي وضعت لتعطيل هذه العملية التأملية بدعوى (من خلال استخدام أكثر أنواع التقنيات التصويرية ضجرا ونمطية ووضوحا، والتي هي، في الواقع، خادعة ووهمية بشتى الطرق) أن بإمكان الفن أن يكون مرآة عاكسة للواقع، إذا توافرت لديك المعتقدات «الصحيحة». ومن هنا ظهرت الكلاسيكية التصويرية والتموضع الرهيب في أعمال مثل لوحة «الشباب الألماني» ليورجن فيجنر ب «الربات الثلاث» للأمومة الألمانية، وإلى اليسار منها أطفال صغار، فيما يقف بعض الصبية المراهقين من جماعات الكشافة وهم ينشدون الأغاني على أنغام الطبلة والبوق أسفل راية نازية في المنتصف، وإلى اليمين ثلاثة شبان أسبرطيين عارين تماما؛ يحمل اثنان منهما رماحا، والثالث نموذجا لطائرة. أو لوحة «الرؤية النازية للعظمة» لريتشارد سبيتز؛ وفيها تتجسد ساحة قتال تعج بجنود يحدقون في اتجاه الشمس، وفي السماء من فوقهم طيف ملائكي لمجموعة من الجنود المتوفين يشقون طريقهم نحو قلعة في الشمس، تشبه إلى حد كبير قلعة ساحر أوز، ومن خلفها يبرز صليب معقوف ضخم يتلألأ. أو صورة هيرمان أوتو هوير التي تجسد هتلر وهو يخطب على منبر في غرفة مظلمة، فيما تضيء وجوه مجموعته الصغيرة من المستمعين، والعنوان هو «في البدء كانت الكلمة».
تستغل تقنيات الواقعية الفاشية والسوفييتية ما يبدو كتقنية يعتمد عليها؛ وذلك من أجل الترويج لوهم من المقاييس الهوليودية أسبغ عليه طابع مثالي يصل لحد السخرية، وغالبا ما يكون شبه ديني، بكل مخاطبته المطمئنة لمفهوم شعبي وفني للجماعية. والواقع أن مخاطبة الحكم الفردي هو ما يهاجمه دوما هذا النوع من الإدارة الثقافية تحديدا:
إن الثورة الاشتراكية الوطنية هي ثورة فكر! وتكمن عظمتها في حقيقة أنها قد أطاحت بالفكر الفردي الذي ظل يحكمنا لقرون، واستعاضت عنه بالفكر الجماعي.
لم يكن في مثل هذا «الفكر الجماعي» مكان لأي نقاش نقدي، كما أعلن جوبلز في عام 1937: «إن إلغاء النقد الفني ... ارتبط بشكل مباشر بالعملية الموجهة لتطهير وتنسيق حياتنا الثقافية.» لقد كان يمكن، في نظر النازية، تنحية الحداثة جانبا كشكل قبيح للفردية؛ لصالح نسختهم الخاصة من الحداثة. صارت مهمة الفنان في ألمانيا هي أن يعكس «الواقع الجديد»، بصدق وإخلاص، مثلما كان السياسيون يرونه، في قوالب عامية وعاطفية ومتخيلة مثل توجهات السياسيين أنفسهم؛ ومن هنا جاء هجوم بول فيشتر على توماس مان لكونه:
بعيدا عن الحياة، وعالقا في شراك عالمه المزيف؛ ما جعله فاقد الاتصال بالواقع الجديد في ألمانيا، وتحت وطأة رفضه لحق المولد خاصته، ترك البلاد ... ومنذ أن غادر إلى الخارج، لم يرد بخطبه ومقالاته أي شيء مشترك مع ألمانيا الحقيقية وحياتها الروحانية.
التقدم و«النقد»
ناپیژندل شوی مخ