1 - الأعمال الفنية الحداثية
2 - الحركات الحداثية والتقليد الثقافي
3 - الفنان الحداثي
4 - الحداثة والسياسة
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
1 - الأعمال الفنية الحداثية
2 - الحركات الحداثية والتقليد الثقافي
3 - الفنان الحداثي
4 - الحداثة والسياسة
المراجع
قراءات إضافية
مصادر الصور
الحداثة
الحداثة
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
كريستوفر باتلر
ترجمة
شيماء طه الريدي
مراجعة
هاني فتحي سليمان
الفصل الأول
الأعمال الفنية الحداثية
يبدو مرجحا أن أسلوب الشعراء في حضارتنا، بصورتها الحالية، لا بد أن يكون «صعبا» بالضرورة؛ فحضارتنا تتضمن قدرا كبيرا من التنوع والتعقيد. هذا التنوع وذاك التعقيد، اللذان يلعبان على وتر من الإدراك المصقول، لا بد أن يسفرا عن نتائج متنوعة ومعقدة. ولا بد للشاعر أن يصبح أكثر وأكثر شمولا، وأكثر تلميحا، وأكثر مراوغة، من أجل دفع اللغة، وخلخلتها إن لزم الأمر؛ لتتلاءم مع مقصده.
تي إس إليوت، «الشعراء الميتافيزيقيون» (1921)
أغطية المداخن التي تنبئ بنهاية العالم
تصيح في قبعة الرقيب المخملية
الحمير والطيور الورقية الأخرى
تقيأت مراسيم بابوية على القط.
محاكاة ساخرة من جيه سي سكوير لقصيدة رباعية كتبها تي إس إليوت
يدور هذا الكتاب حول الأفكار والأساليب التي تخللت الأعمال الفنية المجددة في الفترة من عام 1909 حتى عام 1939. إنه لا يتحدث، في الأساس، عن «الحداثة»؛ أي الضغوط والمتاعب التي وقعت خلال هذه الفترة بفعل فقدان الإيمان بالدين، وتصاعد اعتمادنا على العلم والتكنولوجيا، وتوسع الأسواق، وتحويل كل شيء إلى سلعة بفعل الرأسمالية، ونمو الثقافة الجماهيرية وتأثيرها، واجتياح البيروقراطية للحياة الخاصة، وتغير المعتقدات بشأن العلاقات بين الجنسين. لقد كان لكل هذه التطورات تأثيرات خطيرة على الفنون، كما سنرى، ولكن فكرتي الأساسية هنا تتمثل في التحدي الذي يواجه فهمنا للأعمال الفنية الفردية.
يمكننا استخلاص فكرة أولية جيدة عن طبيعة الحداثة في العمل الفني من خلال النظر إلى بعض الصعوبات التي جالت بذهن إليوت؛ لذا سوف أتناول رواية ولوحة فنية وعملا موسيقيا، وأتساءل إن كان بإمكانها أن تخبرنا عن طبيعة الفن في حقبتها (وتركز الأعمال الثلاثة جميعا على جانب عظيم من الحداثة؛ ألا وهو الحياة في المدينة). سوف أحاول من خلال هذه الأعمال أن أوضح كيف يمكن أن يحدث تفاعل بين الأساليب التجديدية والأفكار الحداثية. وفي غضون ذلك، يتعين علينا تقبل بعض المشكلات الصعبة المتعلقة بالتأويل؛ إذ إن جميعها تنحرف بطرق مثيرة عن المعايير والمبادئ الواقعية للقرن التاسع عشر، والتي لا نزال نعول عليها بوجه عام لفهم العالم، ولكن روايات مثل «ميدل مارش» و«آنا كارنينا» (على الرغم من تركيزها على التوترات التي جلبتها المطالبات الجديدة فيما يتعلق بوضع المرأة) تبدو الآن وكأنها تأتينا من إطار فكري مستقر نسبيا، وتقدم لنا عن طريق راو ودود - بدرجة أو بأخرى - وواضح وذي مصداقية على المستوى المعنوي، ويخلق لنا عالما يتوقع منا إدراكه، وينتمي للماضي. ولكن الفن الحداثي أقل مباشرة من ذلك بكثير؛ فبمقدوره أن يجعل العالم يبدو غير مألوف لنا؛ إذ يعاد ترتيبه من خلال تقاليد وأعراف الفن. «يوليسيس»
تبدو الكلمات الافتتاحية لرواية جيمس جويس «يوليسيس»، للوهلة الأولى، وكأنها قادمة من العالم الواقعي، ولكن المظاهر خادعة، وتصبح أكثر خداعا مع تعمقنا أكثر في الرواية، وتصبح انحرافاتها الأسلوبية أكثر وضوحا، على الرغم من أنها مرتكزة في الأساس داخل تاريخ دقيق إلى حد كبير.
في جلال، طلع باك موليجان من رأس السلم حاملا دورقا مملوءا برغوة الصابون عليه مرآة وشفرة حلاقة وضعتا متصالبتين. كان هناك روب أصفر اللون، غير محزم، مرفوع بخفة من خلفه على نسيم الصباح المعتدل. رفع الدورق إلى أعلى ورتل: - سآتي إلى مذبح الرب.
ثم توقف عن الغناء وأطل برأسه لأسفل نحو الدرج الملتف المظلم وقال بصوت أجش: - اصعد يا كينتش. اصعد أيها اليسوعي المخيف!
يكمن الأسلوب الحداثي الأساسي هنا في صياغة جويس للإشارات الضمنية التي تقودنا لاستشعار حضور بنيات مفاهيمية أو شكلية. وهكذا، وكما يشير هيو كينر في دليله العبقري، في هذا الكتاب، الذي سيوازي أسلوبه السردي أسلوب «الأوديسا» لهوميروس، فإن الكلمات التسع الأولى تحاكي إيقاعات تفعيلة سداسية هوميروسية، والإناء الذي يحمله موليجان أيضا، في عالم التلميح الضمني الموازي، يمثل كأسا قربانية تستقر عليها أدوات حلاقته «متصالبة». والروب الأصفر يحاكي ثياب الكهنة - لأجل تلك الأيام التي لم يكن يحدد فيها لون آخر - ذات اللونين الأبيض والذهبي. وعلاوة على ذلك، فإن كون الروب «غير محزم» (بمعنى أن حزام الروب غير مربوط، كما هو الحال بالنسبة للطقس الكهنوتي الخاص بإثبات العفة) يعني أن الكاهن عريان من الأمام، جاعلا عورته مكشوفة يعبث بها الهواء الخفيف، وهو يعي ذلك أيضا. وكلمة «يرتل» متعمدة؛ ففي أثناء استعداده للحلاقة يعزف أيضا في «القداس الأسود» مع كاهنه العاري. إن الكلمات التي يتحدث بها، والتي تخص «أسقف القداس الكاثوليكي»، مشتقة من نسخة القديس جيروم اللاتينية من كلمات عبرية منسوبة إلى ناظم ترانيم في المنفى: «سوف أصعد إلى مذبح الرب.» لذلك فهو اقتباس من اقتباس من اقتباس، وهو بوجه عام صرخة استغاثة يهودية وسط الاضطهاد.
بالطبع لا يلاحظ من يقرأ لأول مرة كل هذا - أو ربما لا يحتاج لملاحظته - ولكن الكتاب ككل يصوغ مثل هذه المحاكيات، التي تعزز وعينا بالمتوازيات البنيوية المهمة؛ ومن ثم يشير كينر أيضا إلى أنه:
قد نلاحظ أيضا خلال قراءة أخرى لاحقة مدى ملاءمة عبارة مبدئية بعبرية متخفية، فيما يتعلق بكتاب بلوم؛ بطلها اليهودي، النسخة الحديثة من يوليسيس. لاحظ أيضا أنه مثلما يتقمص الكاهن الروماني دور ناظم الترانيم، كان الوعي السياسي الأيرلندي في تلك السنوات يلعب دور «الشعب المختار» الأسير، مثل دور بريطانيا العظمى بالنسبة لبابل أو مصر.
تعد رواية «يوليسيس» حداثية بشكل نموذجي لأنها، على أقل تقدير، عمل يعبر عن الترابط التلميحي والموسوعي، مع اهتمام هائل بالتغيرات الثقافية التي تطرأ على حياة المدينة شأنه شأن «الأرض الخراب» أو «الأناشيد». ولعل أحد الأشياء التي يحققها جويس من هذا، بالنسبة للرواية، هو تنظيم خرافي وتاريخي أيضا للسرد، وأيضا وسيلة للمقارنة بين الثقافات بطرق ساخرة بشكل متنوع: كيف يكون الأيرلنديون «شعبا مختارا» مضطهدا؟
كثير من تلك الأساليب أساسية لنا لفهم قدر كبير من الفن الحداثي، وأنا أقترح أن بوسعنا فحص «المادة الحداثية» (سواء كانت لوحة أو نصا أو عملا موسيقيا) إلى جانب هذين البعدين: البعد الخاص بفكرة جديدة مثيرة للفكر، والبعد الخاص بأسلوب مبتكر. بالنسبة لجويس (وإليوت وباوند، ومن قبلهما ميلتون وبوب)، كانت فكرتا المقارنة الثقافية والتزامن هما المتاحتين من خلال أسلوب الإشارات الضمنية داخل النص. «المدينة»
شكل 1-1: فرناند ليجيه، «المدينة» (1919). التكعيبية كمجموعة من تصوراتنا للمدينة.
في لوحة فرناند ليجيه الضخمة «المدينة» (1919) (الشكل
1-1 )، علينا أن نواجه تأثير الرسم التكعيبي لبابلو بيكاسو، وجورج براك (ويتجسد الأخير في الشكل
1-2 )، الذي وصفه الناقد الفني لويس فوكسيل في نوفمبر 1908 بأنه «شاب جريء لأقصى الحدود ... يزدري الشكل، ويحول كل شيء من أماكن وأشكال ومنازل إلى أشكال هندسية.» وهذا «التحويل» جزء من نزعة عامة نحو التجريد في الرسم الحديث توجد بأشكال متنوعة في أعمال هنري ماتيس، وخوان جريس، وفاسيلي كاندينسكي، وبيت موندريان، وخوان ميرو، وكثيرين آخرين. وقد كان تأثير هذا على الرسامين أمثال ليجيه يتمثل جزئيا في جعل شكل أو تصميم هندسي سمة أساسية لأعمالهم؛ لأن التكعيبيين كانوا قد دمروا، من عام 1906 حتى عام 1912، الأعراف والمبادئ الواقعية لصالح منظور ثلاثي الأبعاد كان سائدا في الفن منذ عصر النهضة، فكانت الأشياء في اللوحات التكعيبية تقدم على نحو متناقض من أكثر من وجهة نظر داخل نفس سطح الصورة، وهذا أدى إلى:
إنشاء لوحة في إطار شبكة خطية أو هيكل خطي، واندماج الأشياء مع ما يحيط بها، واندماج العديد من الرؤى لشيء ما داخل صورة واحدة، واندماج عناصر مجردة وتمثيلية في نفس الصورة.
شكل 1-2: جورج براك، لوحة «كنيسة القلب المقدس» (1910). تنطوي اللوحة والمبنى على أنواع متنافسة من العمارة الهندسية.
بدا هذا لكثيرين الابتكار الفني الأساسي الذي أتى به العصر الحديث، ومنذ ذلك الحين تأثرت معظم اللوحات به أو عرفت نفسها في إطاره؛ فقد انطوى على انحراف جذري عن الخداع الواقعي. ويمكننا أن نرى هذا التأثير في لوحة ليجيه. وقد وصفها كيرك فارندو بأنها «لافتة إعلانية يوتوبية للحياة المدنية في عصر الماكينات». يمكننا أن نرى كيف أنها تحمل عناصر المنظور المنحسر، مثل السلالم في المنتصف، والتي تتناقض أو لا تتسق مع الأسطح المتداخلة إلى اليسار وإلى اليمين؛ فهناك عوارض، وعمود، وما يشبه ملصق حائط، وربما مدخنة على سفينة، ولكن هذه الأشياء لا تشكل مشهدا متماسكا؛ فهي مرسومة داخل مجموعة من الأشكال المتداخلة شبه التمثيلية. والأشياء التي «يجب» أن ترى قريبة أو بعيدة، وهكذا على مقاييس مختلفة أحدها بالنسبة للآخر، ليست في نصابها الصحيح (على سبيل المثال، الأشكال البشرية الأنبوبية)؛ فالأشياء هنا غير مرتبة وفقا لوسيلة تمثيلية تقليدية، ولكنها وضعت متجاورة من قبل الفنان في حالة من التزامن داخل سطح اللوحة. لقد قام ليجيه بترتيب عدد من العناصر المتمايزة هندسيا، والتي تشبه المدينة من أجل تشكيل تصميم مجرد (ثمة فن مماثل للغاية؛ وهو فن التجاور المتناقض بدلا من الارتباط المنطقي، يوجد في أشعار جيلوم أبولينير وتي إس إليوت في هذه الفترة). وقد استخدم العديد من الفنانين التكعيبيين مواد رائجة (مثل كئوس الخمر، والألواح الفولاذية، والجرائد، وما إلى ذلك) كأساس للوحاتهم؛ ومن ثم فمن المغري أن ننظر إلى لوحة «المدينة» أيضا بوصفها محاكاة لتأثيرات ملصقات الدعاية الضخمة في المدينة (ولذلك خلفت رسوم جيمس روزينكيست التصويرية، المنتمية للفن الشعبي، ليجيه في هذا المقام).
مرة أخرى، يقف جانبان من جوانب الثقافة: شكلية «راقية»، ومضمون شعبي «متدن»، أحدهما في مواجهة الآخر. وهذا النوع من التفاعل يشكل أهمية هائلة للحداثة. إن لوحة ليجيه تعد حداثية؛ لأنها تستغل لغة أو قواعد نحوية جديدة من أجل اللوحة، بمبادئ جديدة للتنظيم، فتجد عناصرها غير متناسقة معا بأي حال من الأحوال كتناسقها داخل القواعد الواقعية. ويبقى اكتشاف تشابه أجزاء اللوحة مع العالم أمرا متروكا لنا، ولكنه يعتمد أيضا على تعلمنا كيفية تقدير نظم التجريد الحديثة، والطرق التي قد تتلاءم فيها على نحو مرض داخل أي تصميم. «أوبرا البنسات الثلاثة»
ليست كل الأعمال الحداثية تجريبية بهذا الشكل الجلي، ومثالي المستمد من الموسيقى أسهل كثيرا في فهمه ظاهريا، والواقع أنه شعبي من حيث الشكل في الأساس، ومليء بالإيقاعات الراقصة المعاصرة المطعمة بنغمات حداثية «خاطئة». تتبع «أوبرا البنسات الثلاثة»، التي كتبها كيرت فايل لنص من تأليف برتولد بريخت، أسلوب جون جاي من خلال استخدام ألحان شعبية (لكنها أصلية في هذه الحالة) تجعل العمل أقرب كثيرا إلى عرض في ملهى ليلي منه إلى عرض لفيردي أو فاجنر؛ فالمحتالون والشحاذون ومن يديرون ألعاب القمار المقيمون بسوهو، في أواخر العصر الفيكتوري، في رواية بريخت، يسيرون في خط متواز ومتباين مع الأشقياء في «أوبرا الشحاذ» الأصلية التي ألفها جاي؛ ففي رواية جاي، يلعب بيخوم دور شخص يتلقى بضائع مسروقة. أما في رواية بريخت فيقوم بتنظيم مافيا من المتسولين المحترفين. وغالبا ما تكون الأساليب الموسيقية محاكاة ساخرة لأساليب سابقة؛ ومن ثم يتجسد التلميح الضمني مرة أخرى، على سبيل المثال، في المقدمة التي تتخللها لحظات من موسيقى هاندل ومحاولة في موسيقى الفوجا. هذا التذبذب الأسلوبي له وظيفة مهمة؛ إذ يفترض به أن يصعب علينا أكثر أن نصبح مندمجين مع الشخصيات على نحو متواصل ومتعاطف، كما كنا سنفعل في الأوبرا السابقة؛ لذا:
عند الغناء، يقوم الأبطال «بتبني مواقف» وليس إخبارنا بأي شيء عن شخصياتهم أو مشاعرهم الحقيقية، والتي لا يحوزونها على وجه التحديد، على الأقل بأي معنى تقليدي؛ فالعلاقة بين الكلمات والموسيقى ليست إطنابية وغامضة على نحو متعمد؛ فالكلمات يمكنها أن تقول شيئا، بينما تقول الموسيقى شيئا آخر.
وهناك راوي المسرح الذي يصنع سردا «ملحميا» منفصلا للأحداث (ففي النص الأوبرالي الذي يعود لعام 1928، والذي كان بريخت يعتقد أنه تجربة ناجحة في نوع جديد من «المسرح الملحمي»، كان يتم تشجيع المنتجين على عرض النصوص السردية المترابطة على الشاشات). ويعد ذلك استخداما مبكرا لتلك الأساليب الإبعادية أو «التغريبية» التي تشكل أهمية للتطور اللاحق للدراما السياسية البريختية، كما سنرى. والشيء الحداثي المميز هنا هو وجود عداء للأفكار «البرجوازية» المتعلقة بالتعاطف والاندماج؛ لارتباطها بالواقعية التقليدية (كما في أوبرا «فيرسيمو» لبوتشيني، أو الحركة في «الفارس ذو الوردة»، على الرغم من علاقتها بالفالس الفييني الأشبه بمحاكاة ساخرة)، وعليه يكون ابتكار بريخت للعديد من التأثيرات التحررية النقدية التغريبية، المصممة لمساعدة الجماهير، ليس «لاستنزاف» العمل، ولكن للتراجع خطوة إلى الخلف؛ من أجل التفكير والتدبر في الدلالة السياسية للشخصيات في القصة، وليس للتعاطف مع مشاعرهم كأفراد والتغذي عليها. ففي النسخة الأصلية من مشهد الإعدام الأخير، يخرج ماك ذا نايف (أي ماكهيث) من سياق دوره ليجادل، في مواجهة صوت «مؤلف» قادم من وراء الكواليس، بأن المسرحية لا يشترط أن تنتهي بإعدامه.
تشترك الرواية مع كثير من الفن الحداثي في كونها تنأى بنفسها عن الماضي بمحاكاته على نحو ساخر. فدافع «الفعل الدموي» المرتبط بماك ذا نايف يعد محاكاة ساخرة بسيطة لتخصيص فاجنر فكرة موسيقية متكررة للشخصية؛ فتجد القصيدة الغنائية لقواد، ودويتوهات ماكي وبولي الغرامية الكاريكاتيرية مدهشة وغريبة. وعلى ذلك فإن «أوبرا البنسات الثلاثة» ضد الفردية التعبيرية، وضد الرومانسية. وبحسب تعبير فايل في أحد الحوارات عام 1929، مستخدما منطقا يساريا نموذجيا مفاده «بعد هذا، لم يعد لذاك وجود»: «إن هذا النوع من الموسيقى هو رد الفعل الأكثر توافقا تجاه فاجنر؛ فهو بمنزلة دلالة على الانهيار التام لمفهوم الدراما الموسيقية.» وقال فليكس سالتن (في مراجعة للعرض المقدم في عام 1929 في فيينا): إن الموسيقى «مثيرة في إيقاعها كأبيات القصائد الشعرية، وتافهة، وزاخرة بالتلميحات على نحو مدروس ورائع كالقوافي التعميمية، وخفيفة في معالجة الجاز للآلات الموسيقية، ومعاصرة وجريئة ومليئة بالمرح والعنف مثل النص.»
التنويع الأسلوبي
هذه أعمال تشير إلى اتجاهات مختلفة من شتى الأنواع، وسيكون من التضليل استخدامها لوضع أي حدود صارمة «للحداثة» أو لتقديم «تعريفات» لها؛ فقد كانت تضم شتى أنواع الأشياء. وهذا التعدد والارتباك كان واضحا في ذلك الوقت، كما يمكن أن نرى من التعريفات المتناقضة والاستراتيجيات التفسيرية التي طبقت آنذاك على الأعمال الفنية الجديدة. على سبيل المثال، حين شاهد إف إس فلينت، الذي شارك مع إزرا باوند في الترويج لما يسمى «المدرسة التصويرية» في الشعر، باليه «العرض» (1917)، الذي جمع بين موسيقى إريك ساتيه التصويرية المستوحاة من الموسيقى والملابس ذات الطراز التكعيبي من تصميم بيكاسو، ونص أوبرالي ساذج تماما من تأليف جان كوكتو، وذلك في ساحة إمباير ليستر سكوير في لندن؛ تساءل:
أي عبارة يمكن أن تصفه؟ تكعيبي مستقبلي؟ نظم حر حسي ؟ موسيقى جاز من آلة بلاستيكية؟ الشكل الزخرفي الغريب؟ لا يوجد أي انسجام به. إن البرنامج لا يفيد كثيرا. إنه يخبرك أن الفترة هي القرن الثامن عشر، والموضوع يدور حول المحاولات العابثة لمنظمي أحد العروض لجذب العامة للدخول إلى أكشاكهم، ولكنك تبدأ في التساؤل عما إذا كان تحليل البرنامج للباليه المعروض حديثا ليس مجرد جزء آخر من فكاهة السيد ماسين، حين تكتشف «المدير الأمريكي» متنكرا في هيئة ناطحة سحاب، و«المدير» كطرفة معمارية أخرى، ومديري السيرك وقد ارتطموا معا بأظرف أحصنة البانتومايم التي شوهدت على الإطلاق. يسهل تمييز السيد ماسين في دور العراف الصيني، وكذلك الحال بالنسبة لمدام كارسافينا في دور الطفلة الأمريكية المضحكة، لا على طراز القرن الثامن عشر ولكن على طراز القرن العشرين، وقد ارتدت معطف بحار ورابطة بيضاء ضخمة في شعرها، ولا يمكن لأحد أن يخطئ الآنسة نيمتشينوفا والسيد زفيرف في دور لاعبي الأكروبات في رداءيهما الأزرق الضيق.
بحلول تلك الفترة (نوفمبر 1919)، كان هناك، بالنسبة إلى فلينت والآخرين جميعا، العديد من الأساليب والطرق الجديدة وجدت في الفن المعاصر؛ وذلك بفضل الازدهار الكبير للتغيير التقني من عام 1900 حتى عام 1916؛ ففي الفن، تخلى أنصار الحركة الفوفية أو الوحشية، الذين يحذون حذو جوجان وفنسنت فان جوخ، عن اللون المحلي؛ بحيث كان من الممكن أن تكون الشجرة زرقاء، وتخلى التكعيبيون عن منظور النقطة الواحدة، واتجه كاندينسكي نحو نوع من الفن التجريدي لم يبد أنه يمثل الأشياء في العالم الواقعي على الإطلاق. كان جويس منخرطا في الحلقات الأكثر تجريبية من «يوليسيس»، التي كتبت جميعا بأساليب شديدة التنوع، مستخدما جميع شخصيات كتب البلاغة في «أيولوس»، وتحريف موسيقي لمقاطع وقواعد لغوية في «حوريات البحر»، ومحاكيات ساخرة لأساليب النثر من الأنجلو ساكسون حتى الأمريكية الحديثة في «الثيران»، والأدب الشعبي في «نوسيكا»، وكل شكل من أشكال الفانتازيا الدادائية والتعبيرية والسريالية في «سيرس»، وغير ذلك كثير. وقد اخترع أرنولد شونبرج وأتباعه موسيقى لا مقامية رفضت، شأنها شأن الفن التكعيبي، تنسيق العمل بالإشارة إلى نقاط التنظيم المقامية المركزية؛ ومن ثم هجر الترتيب الهرمي للعلاقات الوترية التي ظلت لها الغلبة لقرون، وابتكرت حرية جديدة للترابط بين الأصوات، فصنع إيجور سترافينسكي تكوينات إيقاعية شاذة على نحو بالغ لم يسمع بها من قبل في «طقوس الربيع» (1913)، وقامت التجارب الشعرية لكل من جيلوم أبولينير، وبليز سندرار، وإزرا باوند، وتي إس إليوت، وأوجست سترام، وفليبو توماسو مارينيتي، بتجميع ومجاورة أجزاء السرد والمجاز، مستبعدة العديد من تلك الوصلات المنطقية والنحوية التي كانت فيما مضى تصوغ قصة للقارئ.
كل هذا أدى إلى تنويع أسلوبي في كل واحد من الفنون التي كانت أساسية ومحورية لفترة الحداثة. ويعد بيكاسو معتنقا تقليديا لهذا، وكان يجيد الاستعارة من الآخرين. فعلى مدار مشواره المهني المبكر، راح يتطور بالانتقال من المحاكيات الانطباعية الأولى إلى «المرحلة الزرقاء»، ثم إلى مرحلة تكعيبية، وصولا إلى مرحلة كلاسيكية حديثة. إن تطوره ليس خطيا، وإنما تراكميا ومتشابكا؛ فيتوافر لديه العديد من أساليب التعبير، مثل جويس، وسترافينسكي، وإليوت. فقانون فن الماضي بالنسبة لهؤلاء الحداثيين متاح دوما لإعادة التفسير، والتقليد، وحتى المحاكاة الساخرة أو المزج بين عدة أعمال. وعن ذلك قال بيكاسو: «بالنسبة لي، لا يوجد ماض أو مستقبل في الفن، وشخصية هؤلاء الفنانين هي - في النهاية - ما تجمع الأشياء معا (وهذا هو السبب في إمكانية اعتبار مجموعة «الاقتباسات» الواردة في «الأرض الخراب» لإليوت اعترافا جنسيا، على الرغم من تأييده لفكرة «التجرد»، تماما مثل مجموعة التشويهات غير العادية التي يلحقها بيكاسو بأجساد النساء).
قال بيكاسو: «لو كانت الموضوعات التي أردت التعبير عنها قد أوحت بأساليب مختلفة للتعبير لما ترددت لحظة في تبنيها.» وهذا الاختيار الحداثي للأساليب ليس دلالة على التذبذب وعدم الاستقرار، ولكنه جانب من جوانب الحرية؛ فتنوع الأساليب هو ديمقراطية حرة في الفن. وكما سنرى، فقد كانت الديكتاتوريات النازية والسوفييتية هي التي طالبت بارتداد صريح عن الحداثة، والعودة إلى وحدة رسمية في الفنون متمثلة في الأسلوب الواقعي.
الأسلوب والفكرة
ولكن هنا يثار السؤال حتما: ماذا كان الهدف من كل هذه التجربة الفنية؟ ما الفكرة التي كانت تحاول توضيحها ؟ يتضمن جزء من الإجابة، بالنسبة للأعمال الثلاثة المستعرضة أعلاه، مقارنة ثقافية، والتزامن المتعارض للتجربة الحضرية الحديثة، والمسافة الحرجة التي أتاحتها المحاكاة الساخرة. وإذا تسنى لنا الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، نكون قد وضعنا أقدامنا على الطريق نحو فهم الفن الحداثي. ونحن بحاجة، على نحو خاص، إلى معرفة كيف كانت هذه التغيرات الفنية مدفوعة بأفكار جديدة، أو تغيرات في المخطط المفاهيمي لفنان من نوعية ثورية. إن الفنان في عملية القيام بالاكتشافات الشكلية يكون مدعوما بتوقع متمثل في أنها ستكون ذات أهمية فيما يتعلق بمحتوى بعينه. أي إنها ستؤدي إلى مكسب معرفي؛ لأن التطور الفني والتجريبي الذي نراه في العمل الحداثي ينبع على نحو شبه دائم من تغيرات عميقة في الافتراضات الفكرية للفنانين. فالأفكار الكامنة في عقول الرجال والنساء، كتلك المتعلقة بالنفس، والخرافة، والعقل الباطن، والهوية الجنسية، والتي أخذها الحداثيون من جهابذة أمثال: فردريك نيتشه، وهنري برجسون، وفليبو توماسو مارينيتي، وجيمس فريزر، وسيجموند فرويد، وكارل يونج، وألبرت أينشتاين وآخرين، هي التي تصنع الثورات الثقافية. فالفكرة - سواء فكرة خلق إشارات ضمنية عبر الثقافات، أو البحث عن نموذج تحليلي شبه علمي - تحفز تغيرا في الأسلوب الفني. وهذه الإنجازات الفذة بطبيعتها «تقدمية»؛ لأنك ما إن تتمكن من إتقان الأسلوب (أو من محاكاته على أقل تقدير، مثلما فعل صغار التكعيبيين؛ أمثال: ألبرت جليزس، وجان ميتزينجر) حتى يصبح بمقدورك أن تفعل شيئا لم تستطع فعله من قبل.
وهكذا قدمت أكثر الأعمال الحداثية تأثيرا إجراءات نموذجية أمكن استخدامها فيما بعد لأغراض متنوعة كثيرة، كجزء من حركة حداثية تقدمية بوجه عام، موجهة نحو «الجديد». ومن ثم تقوم لوحة «المدينة» بتطوير نموذج التكعيبية. وفكرة أن المدينة، مثل جريدة يومية (مثلما أشار المستقبلي مارينيتي)، هي مكان الأحداث المتزامنة التي لا يسعنا سوى وضع أحدها بجوار الآخر. ومع ذلك، تقوم فيرجينيا وولف، التي لم تجد في نفسها الكثير من القبول للنبرة الأخلاقية في «يوليسيس»، بتوسيع نموذجها في روايتها «السيدة دالواي» (1927)، التي تتبع تيار الوعي الخاص بشخصياتها الأساسية على مدى أربع وعشرين ساعة من الحياة في إحدى المدن الكبيرة. وتستخدم نقاطا طوبولوجية وزمنية مركزية لتوجيه الشخصيات والقارئ (فيتحول عمود نيلسون في رواية جويس إلى ساعة بج بن لدى وولف)، وتؤسس حبكتها الدرامية على اللقاء الذهني الذي أرجئ طويلا بين شخصين متضادين: أحدهما صغير، والآخر أكبر سنا.
إذن كي نفهم أي تجديد، نحتاج لفهم النموذج الفكري الذي يستخدمه الفنان أو العالم. يمكننا أن نتساءل ما إن كان مارسيل بروست، أو تي إس إليوت، أو جيمس جويس، أو فيرجينيا وولف قد وضعوا افتراضات برجسونية بشأن الذاكرة وطبيعة العقل أو النفس، أو نتساءل: إلى أي مدى كانت فرويدية ريتشارد شتراوس في «إلكترا»، أو أرنولد شونبرج في «التوقع»؟ غير أنه من أجل نقل قناعة تاريخية، يحتاج الفنان المجدد أيضا إلى أن يكون مدعوما بأدلة على انتشار الفكرة؛ كالإيعاز بتحليل مثير للقلق للطرائق والمعتقدات التقليدية. وهكذا تقدم «أوبرا البنسات الثلاثة» وأعمال بريخت التالية منظورا «تغريبيا» جديدا عن الشخصية الفردية. وفي سياق ذلك، تحاول تشجيع منظور ماركسي مناهض للرأسمالية فيما يخص العلاقات الطبقية. وهذا الجانب من أي معارضة مجددة لما مضى ضروري لوصف الحقب الفنية؛ لأنه يساعدنا على إبراز التغيرات في الحالات الذهنية والشعورية السائدة التي تخللتها؛ ولذلك أتحول في الفصل التالي إلى الحركات الحداثية وعلاقتها بالتقليد الثقافي.
الفصل الثاني
الحركات الحداثية والتقليد الثقافي
إن «الأرض الخراب» لإليوت في اعتقادي هي التبرير «لحركة» تجربتنا الحديثة منذ عام 1900.
إزرا باوند، خطاب إلى فليكس شيلينج،
يوليو 1922
إن المناخ الفني هنا لا يمكن أن يدعم أي شيء بخلاف الأشياء الأحدث، والأجدد، والأكثر عصرية، والدادائية، والسيرك، والمنوعات، وموسيقى الجاز، والإيقاع المحموم، والسينما، وأمريكا، والطائرات، والسيارات. تلك هي آفاق تفكير الناس هنا.
أوسكار شليمر في عام 1925 عن حركة الباوهاوس من فايمار إلى ديساو
التعاون الحداثي
في جميع الحقب الزمنية، يميل الفنانون الكبار لمعرفة أحدهم الآخر، وتعاونهم (أو تنافسهم، كما في حالة بابلو بيكاسو وهنري ماتيس) يتأتى من منطلق «ما الذي يجري؟» وهذا المنطلق يمكن أن يتجاوز ذلك الخاص بأي حركة فنية مقيدة ببيان مبادئ . وربما كان كلود ديبوسي هو أول شخص يسمع «طقوس الربيع»، بالجلوس إلى البيانو لعزفها مع ملحنها، الذي كان أيضا صديقا لموريس رافل، وإريك ساتيه، وجان كوكتو، وأندريه جيد، وبول كلاودل، وبول فاليري، وبابلو بيكاسو، وفرناند ليجيه، وأندريه ديرين. وكان بيكاسو، شأنه شأن سترافينسكي، على معرفة وثيقة بالحركة الطليعية الباريسية في جميع الفنون، منذ تصميمه البارع لغلاف مقطوعة سترافينسكي «راجتايم»، الذي أتى من خلال توصية بليز سندرار لدار نشر «إيسيون دي لا سيرين»، وتصميماته لباليه «العرض» لساتيه، الذي أنتجه سيرجيه ديجليف. وغالبا ما تستقى معلومات عن تطور الفن في السير الذاتية أكثر من تلك المستقاة من البيانات أو دعاية النقاد؛ فالتفاعلات العملية المثيرة للأنظار بين سترافينسكي، ورافل، وساتيه، وليون باكست، وألكسندر بينوا، وماتيس، وبيكاسو، وكوكتو، وجيد، وكثيرين آخرين داخل فرقة الباليه الروسي، هي التي أدت للأعمال ذات الطابع الطليعي الواضح، مثل: «طقوس الربيع» و«العرض»، وكذا لأعمال أكثر تقليدية في الفكرة، ولكنها تظل حداثية أسلوبا، مثل: «الكرنفال» المأخوذة عن شومان، أو «الغزلان» لفرانسيس بولانك. وقد كانت فرقة الباليه الروسي من أماكن التجمعات الحداثية البارزة، لا سيما لقدرة ديجليف الفريدة على حث الفنانين الطليعيين على العمل معا.
هذا النوع من التعاون بين الفنانين، وكذلك التعاون الذي قام بين مجموعة بروك للرسامين التعبيريين (إرنست لودفيج كيرشنر، وإيريش هيكل، وماكس بيشتاين وآخرين) أو بين شونبرج وآلبان بيرج وأنطون ويبرن، الذين عملوا جميعا معا بود وصداقة خالصة، هو الذي منحهم، ومنحنا أيضا، معنى «الحركة الحداثية» كنزعة عامة في ذلك العصر، مثلما حدث عندما قرأ باوند وإليوت الحلقات الأولى من رواية جويس «يوليسيس» في النسخة المطبوعة، وأدركا أن التوازيات بين الماضي والحاضر يمكن أن تتاح من خلال الإشارة الضمنية، وبعدها كتبا «الأناشيد» و«جيرونشن» و«الأرض الخراب». ويمكن قراءة مقاله «التقليد والموهبة الفردية» (1919)، بما يحمله من تأييد لوجود وعي لدى المؤلف بأن «كل الأدب في أوروبا بدءا من هوميروس، وفي القلب منه كل أدب بلاده، له وجود متزامن، ويشكل نظاما متزامنا» كتبرير لأعمال المؤلفين الثلاثة في هذا الوقت. ومع ذلك، فغالبا ما تترك لنا مهمة استنتاج النوايا الفنية؛ لأن الحداثيين العظماء لم يكونوا دائما يشرحون أفكارهم أو يكتبون بيانات؛ فقد ابتكر بيكاسو وبراك الحركة التكعيبية دون أن ينبسا بكلمة واحدة توضيحية عنها؛ فقط اكتفيا بمشاهدة ومناقشة النشاط العملي أحدهما للآخر في الاستديو. ويمكننا فقط استنتاج ما طرأ عليهما من «تطور» في الفترة من عام 1907 إلى 1915 من التكعيبية «التحليلية»، والتي تعنى في الأساس بتشويه هندسي وعر لجسم الشيء من وجهات عديدة، في نوع من الوحدة اللونية، مع وجود دلائل قليلة للغاية على اللون المحلي (بحيث يمكن أن يبدو رأس في لوحة وكأنه منظر طبيعي لصخور) نحو تكعيبية «تركيبية» أكثر استيعابا، وتستخدم ألوانا أكثر بكثير، وأشكالا هندسية أكثر تسطحا، ويمكن أن تبدو كعناصر مجمعة على سطح لوحة من قماش القنب.
حتى الأشكال الأكثر إثارة على مستوى الوعي الذاتي والمستوى السياسي من الاستفزاز الفني، مثل «بيانات الحركة المستقبلية» العديدة (عن الرسم، والموسيقى، والرغبة، وما إلى ذلك) غالبا ما لا تعدو كونها مجرد تحالفات مؤقتة بين الفن والفكرة. وقد كان المستقبليون والدادائيون، على الجانب الآخر، يسيرون على نفس نمط هؤلاء الذين كانوا يفضلون العمل في إطار اتجاه نظري متشدق، كان يدعي أنه «طليعي» من خلال انتشار الأفكار الثورية. ثمة تطورات أخرى في البيانات كانت أكثر توجها نحو الجانب الفني؛ ومن ثم يقوم باوند بدفع إف إس فلينت لكتابة بيان للشعر التصويري يؤيد «المعالجة المباشرة «للشيء»، سواء كانت موضوعية أم ذاتية»، والتركيب «في تسلسل الجملة الموسيقية»، وما إلى ذلك.
مفاهيم التطور: الفن والتجريد
كانت مثل هذه الأفكار في غاية الأهمية بالنسبة للحداثة كحركة فنية منغمسة في حقبة من حقب التغير الفكري الكبير. وهكذا لا يكون هناك غرابة في أن أصبحت الأفكار الخاصة بالتطور «الضروري» للفن جزءا مهما من الحركة في العموم؛ وكان هذا يعني أن التفسير النقدي كان لازما تماما مثل البيانات. ومن الأمثلة الجيدة على نوعية التغير الحداثي التي كانت بحاجة إلى تفسير وشرح نمو التجريد في الرسم، والذي انطوى على هدم لتقاليد واقعية القرن التاسع عشر، من أجل صناعة فن حداثي يرفض أي أهداف نحو التحلي بشفافية خانعة، حتى وإن كانت عبقرية، تجاه العالم. ولذلك أصر على وجود وعي المشاهد بالتقاليد الخاصة بالعمل الفني، ومن ثم جلب علاقة إيحائية أكثر انحرافا بكثير تربط العمل بالعالم.
كان هناك تطوران أساسيان؛ الأول، كما لاحظنا بالفعل، هو تحرر الرسم من تجسيد «اللون المحلي الحقيقي»، والذي أتاح للون الخالص خلق تأثيراته العاطفية الخاصة، كما في أعمال فان جوخ الأخيرة، وأعمال ماتيس. وقد كان لذلك أهمية بالغة على نحو خاص بالنسبة لكاندينسكي، الذي كان يرى أن:
لون الزنجفر يجذب ويهيج كشعلة لهب يركز عليها رجل نظرته الجائعة؛ فلون أصفر ليموني متوهج يسبب ألما بعد فترة، تماما مثلما تؤلم النغمات العالية للبوق الأذن؛ فتزداد العين تهيجا، ولا تستطيع تحمل الأثر لفترة طويلة للغاية، وتبحث عن سلام عميق في الأزرق أو الأخضر.
ومع هذا التطور، سار تطور آخر أكثر تأثيرا، يتمثل في ظهور إدراك متصاعد بقيمة تبسيط الشيء في الرسم. ويوضح ديسموند ماكارثي هذا في تمهيده لكتالوج معرض لندن لفن ما بعد الانطباعية عام 1910، باستخدام استعارة مجازية موسيقية (توحي أيضا على نحو شبه دائم بأن الرسم، مثل الموسيقى، له لغته «الخاصة»)، فيقول إن:
هذا البحث عن تناغم مجرد للخطوط من أجل إيقاع متناغم قد تم الوصول به إلى حدود بعيدة غالبا ما تحرم الشكل من كل لمحات الطبيعة. إن التأثير العام للوحات ماتيس هو تأثير أقرب للعودة إلى الفن البدائي، بل ربما عودة إلى الفن البربري ... إن الفن البدائي، مثل فن الأطفال، لا يقوم على محاولة لتجسيد ما تدركه العين بقدر ما يقوم على محاولة لوضع خط حول تصور ذهني للشيء.
كان كلا المنهجين بمنزلة ضربة قاصمة لاستقلالية العمل الفني؛ بسبب الطريقة التي نرغم بها على التفكير في العمل في إطاره الفردي الخاص، وليس كمجرد مرآة للواقع؛ فاللون بمجرد أن ينفصل عن التجسيد المحلي يمكن «تنسيقه»، كما يذهب ماتيس، لخلق تأثير موسيقي:
لا بد أن ينتج عن العلاقة التي وجدتها في جميع الدرجات اللونية تناغم حي بين الألوان؛ تناغم مماثل لتناغم مقطوعة موسيقية.
واجه روجر فراي الجمهور المحافظ بشأن هذه القضايا، وحاول توضيح مميزات الفن الجديد في المعرض الثاني لفن ما بعد الانطباعية عام 1912، من خلال إدخال مفردات نقدية جديدة:
لا يبحث هؤلاء الفنانون الآن عن إعطاء ما يمكن، في النهاية، ألا يكون سوى صورة منعكسة باهتة للمظهر الفعلي، ولكن يبحثون عن إيقاظ القناعة بحقيقة جديدة وقاطعة. إنهم لا يسعون لتقليد الشكل، وإنما يسعون لخلق شكل. لا يسعون لمحاكاة الحياة، بل لإيجاد مكافئ للحياة. أعني بذلك أنهم يتمنون خلق صور من شأنها، من خلال وضوح بنيتها المنطقية ووحدة تركيبها المحبوكة بدقة، أن تروق لخيالنا الفاتر والمتأمل بشيء بنفس الإشراق والوضوح مثلما تروق الأشياء في الحياة الواقعية لأنشطتنا العملية. في الواقع، هم لا يستهدفون الخيال، بل يستهدفون الواقع.
إن هذا يؤكد على تأملنا للعمل الفني في حد ذاته، وهو أمر في غاية الأهمية؛ فنحن نستشعر «تلك الوحدة الزخرفية للتصميم التي تميز جميع فناني هذه المدرسة». وماتيس، على وجه الخصوص، إنما «يستهدف إقناعنا بأشكاله من خلال استمرارية وتدفق خطه الإيقاعي، ومن خلال منطق علاقاته المكانية، وفوق كل ذلك من خلال استخدام جديد تماما للألوان».
شكل 2-1: هنري ماتيس، لوحة «المحادثة» (1909-1912). تجريد بالغ التعقيد في الرسم بدا في الأساس مجرد نوع من السخف والصبيانية.
ويمكننا أن نرى بعضا من هذا في لوحة رائعة؛ هي «المحادثة» التي يعود تاريخها لعام 1909-1912، والتي عرضت في المعرض الثاني لفن ما بعد الانطباعية في لندن في عام 1912 (والمستنسخة في الشكل
2-1 ). التناغمات اللونية في هذه اللوحة، بالأزرق وبالأحمر والأخضر، مذهلة للغاية. وهناك تباين عاطفي قوي بين الألوان المستخدمة للغرفة والحديقة، فتجد أزرق باردا وأسود بداخله، وأخضر دافئا وأحمر من الخارج. والأشكال المستخدمة للشجر وحوض الزهور تحاكي أشكال الزوجين اللذين يتحادثان، ولكنها لوحة بالكاد معبرة؛ فأشكال ماتيس وزوجته أميلي تقليدية جدا وجامدة؛ فهي مبنية على مسلة ل «حمورابي» تقع أمام الآلهة الجالسة شاماش، والتي كان ماتيس قد شاهدها في متحف اللوفر. فتبدو أميلي وكأنها تعطي أوامر، وإجابتها قد تكون هي «لا» التي نستطيع رؤيتها في الأشغال الحديدية الموجودة في الشرفة. ولكن تبسيط الأشكال، والإحساس بوجود توازن متعمد، وافتقاد الاهتمام بالتفاصيل المكانية هو ما يبرر ادعاء هذه اللوحة بانتمائها للتجريد الذي وصفه فراي وزملاؤه. وكما يوضح، فإن:
الحد المنطقي لمثل هذا المنهج سيكمن بلا شك في محاولة التخلي عن كل تشابه مع أشكال الطبيعة، وخلق لغة مجردة على نحو بحت للشكل؛ أي موسيقى مرئية. وأعمال بيكاسو الأخيرة تظهر ذلك بوضوح كاف.
لم يكن فراي قد شاهد سوى بعض من أعمال كاندينسكي الأولى في لندن في هذه الفترة، إلا أن تنبؤه بشأن تجريدية تقدمية، الذي قام على افتراض أن تأثيرات الرسم التجريدي يمكن أن تزداد تشابها مع تأثيرات الموسيقى أكثر وأكثر، يتأكد من خلال الطريقة التي تزداد بها الرمزية التنبئية للقلاع والأبراج والرماح والقوارب في أعمال كاندينسكي الأولى صعوبة في إدراكها وتمييزها أكثر وأكثر. تعود اللوحة المستنسخة هنا (الشكل
2-2 ) إلى الفترة من 1915-1921، حين اتجه إلى الأشكال العضوية البحتة، ثم التجريدية الهندسية (في الباوهاوس)؛ ففي لوحة «البقعة السوداء»، بإمكاني أن أرى عقربا محتملا، وربما قاربا ومجاذيف، في موقعها المعتاد لدى كاندينسكي، في أسفل الجهة اليسرى، وربما أجزاء من الرسم التخطيطي لزوجين مضطجعين - وهي إحدى أفكاره المعتادة - فوق القارب مباشرة. لكن قد يكون ذلك وهميا؛ فالألوان وديناميكية العلاقات بين الأشكال هي العامل المهم هنا. وبالنظر إلى لوحات تلك الفترة، تجد جيلينا هول-كوتش نفس الصعوبة التي أجدها في الإجابة عن سؤال: «متى بدأ كاندينسكي، في الواقع، إدخال عناصر مرئية جديدة وحرة تماما لا تحمل أي شبه للأشياء الطبيعية، أو أي نوع آخر من الأشياء المألوفة في لوحاته؟» لكن لا شك أن الهدف الأسمى هو الوصول إلى تجريدية أكبر. يمكننا أن نرى هذا في أبهر صوره في السلسلة المدهشة المكونة من عشرة «مؤلفات» رسمها كاندينسكي من عام 1910 حتى 1939.
شكل 2-2: فاسيلي كاندينسكي، لوحة «البقعة السوداء» (1921). التجريدية العضوية تبتعد عن التجسيد الطبيعي متجهة نحو الأشياء الخيالية.
ويتكرر ظهور الأفكار الخاصة بالتجريد في جميع لغات أوروبا، في محاولة لإظهار أن الفنانين الحداثيين قد عملوا «على نحو تقدمي» على التخلي عن التناظر الفوتوغرافي، وكأن الهدف هو أن يصبحوا «تجريديين» أكثر وأكثر، ولكن، مثلما رأينا، بطرق شديدة الاختلاف (أبدي بيت موندريان أسفه لعدم وصول بيكاسو مطلقا لهذه المرحلة).
لغات جديدة للفنون
يفسر هذا النوع من التقدم الحداثي كتطوير وتعديل لما مضى؛ ومن ثم يمكن توضيح الصلات بأي فن سابق بشكل أكثر وضوحا، ولكن هؤلاء الفنانين الذين غيروا اللغة الأساسية للفن كانوا الأكثر تطرفا بشكل واضح. والشخصيات البطولية في بداية الحقبة الحداثية - بيكاسو، وجويس، وكاندينسكي، وشونبرج، وسترافينسكي، وباوند، وإليوت، وأبولينير، ومارينيتي - جميعهم فعل هذا فيما يتعلق بفنونهم الخاصة؛ فنجد بيكاسو مع «آنسات أفينيون» (1907) بشخصياتها العارية القبيحة المنفعلة البائسة، وببعض وجوهها التي تشبه الأقنعة الأيبيرية، فيما كانت الأخرى مشوهة مثل وجوه مرضى الزهري. وهناك جويس مع الصفحات الأولى من مقاله «لوحة الفنان» (1914)، التي تعد تجسيدا استثنائيا للتجربة المرئية وتيار الوعي لدى طفل صغير. وشونبرج مع الحركة الأخيرة من مقطوعته «الرباعية الوترية الثانية» (1908)، التي يطفو فيها الصوت الذي أضافه بشكل مطرد إلى أعلى داخل «النغمة الجديدة» لموسيقى ليس بها نقاط مرجعية مقامية. وسترافينسكي مع «طقوس الربيع» (1913) بوحشيتها البدائية يتبعها تغيرات متنافرة غير مسبوقة في الإيقاع، ثم اندفاع أوجي أخير في «رقصة الأرض»، وفيها ترقص فتاة عذراء حتى الموت على سبيل التضحية.
كذلك تحدت الترابطات الحرة غير المنطقية للشعراء؛ أمثال: أبولينير، وسندرار، وباوند، وإليوت، وجوتفريد بن، وجاكوب فان هوديس، وأوجست سترام وآخرون، اللغة الأساسية للترتيب المنطقي، ودلالاتها بالنسبة للتوافق الاجتماعي. فترى بروفروك؛ بطل قصيدة إليوت، يقول: «لنمض إذن»، لننطلق عبر شوارع بوسطن القذرة، التي قد تقودنا نحو «سؤال ملح» مثلما تفعل القصيدة ذاتها. ولكن في قصيدة تحوي - على الأقل - خمسة عشر سؤالا، من الصعب تحديد الملح منها، لما كانت جميعها تتسبب فيما يبدو في حرج لبروفروك. إن الفكرة المجددة لهذه القصيدة لا تعتمد فقط على ما تحويه من مجموعة مدهشة من التلميحات، لكل من دانتي، ولافورج، وهسيود، وسفر الجامعة، ومارفيل، ويوحنا المعمدان وآخرين، ومحاكياتها الساخرة الأسلوبية لشكسبير وسوينبرن، من ضمن كثيرين آخرين، وإنما تعتمد على العمل غير المسبوق الذي تظل تدفعنا للقيام به، عبر مساحاتها البيضاء العديدة، والتي تعد أيضا فجوات مفاهيمية بين الفقرات التي تتبع منطقا ترابطيا وليس سرديا، وليس لها حتى ترتيب متماسك نفسيا. هل حقا يواجه بروفروك ألغاز الكون وأسراره، أم هو مجرد رجل واسع الاطلاع والتخيل بشكل عميق مذعور من الذهاب إلى حفل شاي ليغازل امرأة جذابة؟ كما هو الحال مع قدر كبير للغاية من الفن الحداثي، فإن القارئ أو المشاهد أو المستمع هو المنوط بإيجاد علاقة جزء بالذي يليه، ثم الذي يليه، في إطار عملية اقتفاء ومعرفة منطق يختلف تماما في الواقع عن منطق الفن الذي جاء قبله، والذي يظل يمثل تحديا بعد مرور مائة عام.
كان هذا السعي لإيجاد طريقة جديدة جذريا ومحددة تماما لترتيب أي عمل فني أساسيا لبعض الفنانين لتصورهم لمهمتهم؛ مثل هؤلاء الذين اتبعوا شونبرج في خروجه عن حدود المقامية المتدرجة لمقطوعته «الرباعية الثانية» و«بييرو في ضوء القمر»، نحو تطوير تقاليد جديدة للموسيقى الاثنتي عشرية. ويوضح شونبرج - بشكل خاص - الطريقة التي أراد بها هؤلاء الفنانون الطليعيون الذين استهدفوا إحداث تغيير جذري في النموذج، أيضا أن تدون أسماؤهم في «تاريخ فني» تقدمي. ولذلك يهاجم هؤلاء الذين يتجاوزون «القوانين» أو «القواعد» التي كان يرى (ببعض المبالغة) أنها قد «شرعت» للموسيقى الألمانية، ولكنه بعد ذلك توصل إلى بعض القوانين الخاصة به، مخبرا تلميذه جوزيف روفر في صيف 1921 أنه قد توصل إلى «اكتشاف ستضمن الموسيقى الألمانية بفضله تفوقها وسيطرتها على مدى الأعوام المائة القادمة». وقد جاء أول توضيح لسمات وخصائص نظامه الجديد «للنغمات الاثنتي عشرة» للعالم في مقال تلميذه إرفين شتاين بعنوان «المبادئ الشكلية الجديدة» في عام 1924. بشكل بسيط للغاية، لا بد أن تبنى الحركة الموسيقية للعمل من «صف» واحد من النغمات، وهي «المجموعة الأساسية» التي تستخدم جميع النغمات الاثنتي عشرة للسلم الكروماتيكي، بترتيب ثابت يظل كما هو بلا تغيير على مدار المقطوعة. يمكن وضع سلسلة النغمات في اللحن المعاكس، أو الترجيع، أو الترجيع العكسي، والبدء من أي نغمة من النغمات الاثنتي عشرة (وهذا يعني أن المؤلف لديه ثمانية وأربعون صفا من النغمات متاحة لأي مقطوعة، ولكن النموذج يتضمن، بالرغم من ذلك، عددا مذهلا من القيود).
كانت مقطوعة «خماسية آلات النفخ» لشونبرج، المقطوعة رقم 26 عام 1924، هي أول مقطوعة طويلة يتم تأليفها بالكامل وفقا لهذا المنهج (وهذا العمل هو ما يدرسه سترافينسكي عن كثب في عام 1952، بعد سنوات، في إطار «تحوله» إلى منهج شبه تسلسلي في التأليف). من الممكن أن تبدو الموسيقى الاثنتي عشرية شبيهة إلى حد كبير بنمط معياري للبناء الهندسي - بما تحويه من قواعد لاتباعها قد تقضي على أي نوع من التعبيرية الشخصية - وكان التبرير لهذا الإجراء بالنسبة لشونبرج علميا بشكل موضوعي؛ فقد زعم أن تجاربه قد كشفت عن الطبيعة الحقيقية للعلاقات بين الأصوات، من خلال اكتشاف توليفات من النغمات اللافيثاغورثية. والمذهل في الأمر أنه بحلول 23 يوليو من عام 1925، كان آلبان بيرج قد كتب كونشيرتو الحجرة، الذي يعد عملا منهجيا رسوليا للغاية، ووصل بالتأليف الموسيقي اللامقامي والاثني عشري إلى مستويات معقدة ورمزية رقمية. غير أن تفصيلة «المنهج» الاثني عشري لا تهم كثيرا بقدر أهمية المزيج الغريب من «الأفكار» الطليعية عن أهميته الفلسفية وشبه العلمية التي نسبها إليه شونبرج ومترجموه، وأبرزهم تيودور دبليو أدورنو.
لذلك غالبا ما يوجد نوع من «العلمية الزائفة» في كثير من النشاط الحداثي؛ وهو توجه نحو العالم الحديث يطالب بأن تستخدم الفنون طرائق إنشائية عقلانية حتى نصل إلى مستوى أكثر بساطة من الواقع، والذي غالبا ما يخال أنه مألوف بالنسبة للفن والعلم (بل وللكون ككل). وقد أطلق بيت موندريان وأتباعه في حركة دي ستيل هذه النوعيات من المزاعم، وزادوا الأمور تعقيدا بأن أضافوا إليها طبقة ميتافيزيقية من اللاهوت الصوفي. فحين ننظر إلى لوحات موندريان في الفترة ما بين 1917 و1921، نرى عملا يبدو خاليا من موضوع يتسم بالمحاكاة والتقليد، عدا نفسه؛ لأنه ينتمي لتقليد حداثي له آراء نظرية قوية حول استخدام لغة مقيدة محكومة بقواعد من الخطوط المستقيمة والأسطح اللونية المستطيلة. لقد أنتج فنا تجريديا كان «منقى» مقارنة بفن الآخرين، ولكنه أيضا (بطريقة كانت منبئة بالتجريد الهندسي اللاحق) يسفر عن أسلوب يسهل تمييزه سريعا. على سبيل المثال، تتسم لوحة «تكوين بالأحمر والأصفر والأزرق والأسود» تعود لعام 1921 (الشكل
2-3 ) ب «توازن ديناميكي من القوى المتعارضة»، يوجد به «أسطح حدية ضيقة» إلى جانب مربع أحمر كبير، «يطغى» على بقية المساحة، مما يسمح ب «مجموعة متنوعة من القراءات المكانية والمتناسبة»؛ إذ إن «المساحة الحمراء الكبيرة تقابل بالعديد من الأسطح الصغيرة التي لها دور داعم تراكمي».
شكل 2-3: بيت موندريان، «تكوين بالأحمر والأصفر والأزرق والأسود» (1921). التوازن والتناغم في تشكيل رياضي.
ثمة غموض استثنائي شبه فلسفي في كتابات موندريان عن فن كهذا؛ لأن صيغته للتكوين، وللتأثير المتوقع للوحاته، كلاهما يقع تحت نفس المفاهيم شديدة العمومية، مثل «العالمية» أو «العلاقة اللونية المتوازنة»، فيبدو أن لوحاته ترفض التعبير الفردي؛ لأنه «فقط حينما يتوقف الفرد عن كونه عقبة في الطريق يمكن للعالمية أن تتجلى بوضوح»، فالهدف في تناغم داخل العمل؛ ومن ثم: «يسمح «إيقاع» العلاقة بين اللون والبعد (في «التناسب والتوازن» الحتمي) للمطلق بالظهور داخل نطاق نسبية الزمان والمكان.» ويعتمد استمتاعنا بأعمال موندريان (إن لم يكن إعجابنا الفلسفي به) على شعورنا بالتناغم والتوازن، وشعور حدسي بأن أبعاد اللوحة مثيرة بشكل لافت (يفترض أن يكون هذا التوازن مملا، ولكن كما أوضح وادينجتون، لا تندرج أبعاد لوحات موندريان تحت أي نسب رياضية واضحة).
يعد موندريان نموذجا جيدا للأفلاطونية الحديثة، وكذلك «التشكيلية الجديدة» في لوحاته، ومعه نرى بداية مهمة للمطالبة بفهم الفن، بوصفه تجسيدا للمفاهيم ذات الطابع المادي لأي نظرية (والذي يحظى بتاريخ طويل، وصولا إلى الفن المفاهيمي لفترة ما بعد الحداثة)؛ نظرا لأنه كان مدفوعا لإيجاد لغة داخل اللوحة تتبع قناعاته الدينية والفلسفية بشأن البساطة (بعيدا عن أي دلالة رمزية أو إشارة إلى أشياء واقعية، كتلك التي توجد في أعماله السابقة).
إن الفلسفة بمنزلة دافع للرسم. ويعد هذا من الدوافع المألوفة لدى فناني حركة دي ستيل، ولآخرين في هذه الفترة، ممن كانوا يتعقبون حلم إيجاد لغة تتسم بالبساطة والوضوح والتحديد والكفاية، تتجاوز حدود الألغاز البراجماتية للحياة اليومية. ومع قيام شونبرج وآخرين بإعادة كتابة القواعد اللغوية المقامية للموسيقى التي كانت مقبولة فيما مضى، بحث موندريان وزملاؤه عن قواعد لغوية للرسم من شأنها أن تكون مستقلة عن التقليد المحلي، ولكنها، شأنها شأن موسيقى شونبرج، قريبة إلى «واقع أكثر بساطة». من الصعوبة بمكان أن ترى في هذا النوع من الأعمال أي شيء يسبب هذه التأثيرات المزعومة له. ربما تعمل بمنزلة رمز، من خلال تذكير تابعيه بمعتقد ديني تصوفي، ولكن تأثيراته تأملية إلى حد كبير؛ ومن ثم تعمل على تغيير الفرد. ويمكن لمثل هذه الأعمال، بوصفها تصميمات متناغمة، وليس كرموز دينية، أن تمنح قدرا كبيرا من المتعة.
الحداثة والحركات الفنية
هل كان الفنانون الذين ناقشناهم أعلاه جزءا من «الحركة الحداثية»؟ الأمر ليس على هذا النحو إذا كان يشار بذلك ضمنيا إلى مجموعة واحدة من الأفكار المتفق عليها مركزيا، كأفكار حزب سياسي، على الرغم من أن بعضا منها، كما أشرت، حقق انتشارا واسعا للغاية. وبالنظر إلى التعددية والانشقاق اللذين يميزان هذه الفترة، يمكن أن نرى أن الجماعات الطليعية الحداثية: الفيكتوريين، والتصويريين، والمدرسة الفيينية الثانية، ودي ستيل، والدادائيين، والسرياليين وما إلى ذلك، قد أحدثوا تغيرا جيليا خطيرا. وحين تجتمع الجماعات ذات العقليات المتشابهة قليلا أو كثيرا، كما في الحركة الفيكتورية، يمكننا أن نرى أن باوند وإليوت وجويس ولويس وآخرين مثل هولمي وفلينت، اللذين كانا على اتصال وثيق بهم، قد تعاونوا معا بشكل مؤقت، في «حركة» يتجلى من خلالها وعى ذاتي جمعي بأقصى وضوح، ولكن على نحو زائف في الغالب، تجلى من خلال بيان أحدهم، كما في عددين من أعداد مجلة «بلاست» لويندهام لويس، ما يترتب عليه، كما يعتقد، إحداث «ثورة حديثة عظيمة» في جميع الفنون، ضد «الشعيرات الباكية» و«التآخي مع القردة» لدى الفيكتوريين. لقد كانت بالنسبة له ولباوند نهاية الحقبة المسيحية.
نفس الوعي الذاتي يؤثر على كاندينسكي وشونبرج في الفترة من عام 1909 حتى عام 1914، وكذلك الأعضاء الآخرين لجماعة «الفارس الأزرق» (ومنهم أوجست ماك، وفرانز مارك، وجابرييل مونتر). وفي مطبوعتهم «التقويم» الصادرة عام 1912 دليل على تغير مماثل للأفكار في ميونيخ. وهذا يعني أنه قبل ظهور «النظرية» بزمن طويل، لا يتسنى فهم كثير من الفن الحداثي إلا من خلال التنظير شبه الفلسفي، اللاهوتي، والسيكولوجي الذي ساعد على الإيحاء بها، كما في أعمال مثل «الجانب الروحي في الفن» (1912) لكاندينسكي، و«رؤية» (1925) لدبليو بي ييتس، وكتابات جماعة دي ستيل.
كما سنرى، تبنت بعض الجماعات الطليعية منهجيات قصدت أهدافا سياسية مباشرة بشكل أوضح، كان أبرزها في بداية الحركات التعبيرية والمستقبلية الألمانية، والدادائية في ألمانيا بعد عام 1918، وفي برامج الباوهاوس التي كانت معنية بشدة بالحداثة، وخاصة بمكانة التكنولوجيا في المجتمع؛ نظرا لأن فن العمارة السائد في الحقبة هو ما يبقى معنا، ويقدم تعريفا لحقبة ماضية؛ فلا يزال الفن المعماري لمدرسة الباوهاوس المبتكر حديثا في ذلك الوقت، وتصميم الأثاث، وقواعد الطباعة معنا إلى اليوم. وكانوا معنيين، بشكل خاص، بالعلاقات المتغيرة بين الإنسان والآلة. وبحسب تعبير موهولي-ناجي، في مقال بعنوان «البنائية والبروليتاريا» (مايو 1922):
واقع قرننا هو التكنولوجيا؛ اختراع وإنشاء وصيانة الآلات؛ فأن تكون مستخدما للآلات يعنى أنك أصبحت بمنزلة روح هذا القرن؛ فقد حلت محل الروحانية المتسامية للعصور الماضية.
ويردف قائلا:
إن الجميع سواء أمام الآلة، فأنا أستطيع استخدامها؛ إذن يمكنك أنت أيضا. من الممكن أن تسحقني، ونفس الشيء يمكن أن يحدث لك. لا وجود للتقاليد في التكنولوجيا، ولا وجود للوعي الطبقي. كل إنسان يمكن أن يكون سيدا أو عبدا للآلة.
غالبا ما كان المقصد من مثل هذه البرامج المثالية أن تكون ديمقراطية وعادلة، وإن ندر أن تكون كذلك في الواقع، كما أوضح فيلم تشارلي شابلن «الأزمنة الحديثة» (1936) لقطاعات جماهيرية ضخمة عبر أوروبا وأمريكا.
ثمة منهج كوميدي بنفس الشكل، ولكنه يحمل تهديدا للتعامل مع الآلة تم تبنيه أيضا من قبل فرانسيس بيكابيا ومارسيل دوشامب، خاصة في الفترات التي كانا فيها معا في نيويورك، بين عامي 1915 و1917، ينشران الأفكار المشابهة للدادائية، ويصبح لهما تأثير هائل على تطور الحداثة في أمريكا. وتأخذ لوحة بيكابيا «العهر العالمي» عام 1916 (الشكل
2-4 )، وهي واحدة من عدد من الأعمال التي تحمل فكرة مشابهة؛ الاستجابة الحسية الجسدية بعيدا عن أي تجسيد للمرأة كآلة، وتتضمن قدرا كبيرا من كراهية النساء. في هذه الفترة، أعلن بيكابيا أن «عبقرية العالم الحديث تكمن في الآلات ... إنها حقا جزء من حياة الإنسان؛ وربما هي جوهر الروح.» يمكن للمرء أن يقدر الاستعارات المجازية الخاصة بالطاقة والتكنولوجيا المتضمنة في هذه اللوحة، وفي تجسيد بيكابيا «لفتاة أمريكية صغيرة» في صورة شمعة احتراق؛ فهي في الأساس جسم حديث يتم التحكم فيه بواسطة الرجال (كما في قصيدة إي إي كامينجز «إنها تتجدد»؛ حيث يقارن تحكم الذكر في العلاقة الحميمة بقيادة سيارة). ويمكن أن نجد تطورا في غاية التعقيد لهذه الاستعارة المبكرة، المستوحاة بشكل هزلي، من الأناركية والدادائية للجنس وحداثة الآلة في لوحة دوشامب الشهيرة «الكأس الكبرى» (1915-1923) والأعمال التي مهدت لها.
شكل 2-4: فرانسيس بيكابيا، «العهر العالمي» (1916). البشر كما ينظر إليهم في عصر الآلة.
إن الانتشار العام للأفكار من خلال التفسير النقدي للحقبة (كما في أعمال فراي وبل المستشهد بها أعلاه)، وليس فصاحة وبلاغة البيانات؛ هو ما يقربنا لأقصى حد للتغيرات في الفكر والشعور التي يمكن أن تحدثها خبرة الأعمال الفنية الجديدة. وكانت استجابات العديد من الكتاب، مثل استجابات فوكسيل وأبولينير إزاء المرحلة الأولى من التكعيبية؛ هي ما وسعت نطاق استقبال لغة الفنانين الجديدة؛ وذلك من خلال ابتكار أساليب خطاب مقاربة لتفاصيل الأسلوب المستخدم. لذلك ثمة فجوة بين وعينا بالقصدية المجددة لدى براك وبيكاسو في 1910-1911، والتأويلات الاستنباطية اللاحقة لأعمالهم، التي ساعدت على ظهور مفهوم الطليعية التكعيبية، على سبيل المثال، في أعمال جليزس ومتزينجر والدعاية لمعرض «جماعة المقطع الذهبي» بحلول عام 1912.
وهذا النوع من الاستقبال هو ما أصبح من خلاله الفنانون في جميع الأوساط على وعي بحركة أوروبية أرادت أن «تجدد»، وظنت نفسها «حديثة» أو «حداثية».
الكلاسيكية الجديدة
غير أنه يجب التمييز بين هذا النوع من التغير الطليعي الواعي بالذات في لغة الفن، وبين رغبة ربما تكون أبسط وأكثر ملاءمة من الناحية الاجتماعية في «التجديد»؛ فالكثير من الفنانين لم تكن لديهم الرغبة في اعتبارهم مقيدين بشكل أو بآخر، سواء لخير أو لشر، داخل الحس الدعائي لشخص آخر للميول «الرجعية» أو «التقدمية». ويعد سترافينسكي مثالا سيئا لهذا؛ فقد أنتج بعضا من أكثر أعمال القرن العشرين ثورية، إلا أنه لم ينتم أبدا لأي حركة حداثية من النوعية المذكورة أعلاه. ومع ذلك، كان من المدهش بعد باليهاته التجريبية والميالة للمواجهة والصدام - وأبرزها «طقوس الربيع» (1913)، و«حفل الزفاف» (1914-1917، أوركسترا 1923) - أن يتجه لإنتاج أعمال مثل «بولسينيلا» (1919-1920)، بلغة أسهل كثيرا، بل بأسلوب كلاسيكي جديد يعتمد على المحاكاة. وقد اشتق هذا الباليه، الذي يصاحبه أغنيات من موقع الأوركسترا، من توزيع موسيقي وإعادة تأليف جزئية للغاية لأعمال تنسب في الأساس لبيرجولزي، فيما تولى بيكاسو تصميم الأزياء. كان الباليه كلاسيكيا وواضحا، ولم يكن يحمل الطابع الروسي على الإطلاق، وكان فرنسيا ولم يكن ألمانيا؛ ومن ثم كان أقرب بشكل خطير لأن يكون مجرد محاكاة ومزج بين أعمال أخرى من هذه الفترة؛ مثل: باليه «متجر الألعاب السحري» لراسبيجي-روسيني (1919)، و«السيدات المرحات» لتوماسيني-سكارليتي (1917)، والتي كانت أيضا عبارة عن إعدادات أفضل وأكثر إثارة لموسيقى سابقة.
ظن سترافينسكي أن «بولسينيلا» عمل ثوري آخر، في وضعه للأصوات الأوركسترالية جنبا إلى جنب وكأنها تباينات لونية (على سبيل المثال، في الثنائي الجازي الرائع بين آلة الترومبون والكونترباص)، ولكن العمل كان ساحرا أكثر من اللازم لدرجة جعلته لا يبدو تجريبيا، والدمج بين اللحن الرشيق وشخصيات الكوميديا المرتجلة ذات الطابع الكلاسيكي الجديد التكعيبي لبيكاسو جعل العمل (والفضل في ذلك يرجع مرة أخرى إلى دياجليف) عصريا بشكل جدي. بحلول عام 1934، استطاع كونستانت لامبرت أن يشكو من أن «أي ملحن بلا غريزة إبداعية وبلا إحساس بالأسلوب، يمكنه أن يأخذ كلمات من العصور الوسطى، وينظمها على طريقة بيليني، ويضيف إيقاع القرن العشرين، ويطورهما بالطريقة التسلسلية والشكلية المميزة للقرن الثامن عشر، وأخيرا يقوم بتلحين العمل برمته بآلات الجاز.» ولكن سترافينسكي لم يكن من هذا النوع من المؤلفين، والباليهات الكلاسيكية الجديدة العظيمة التي تلت «بولسينيلا»، بدءا من «أبوللو» ووصولا إلى «آجون»، التي اعتمدت جزئيا على الموسيقى الاثنتي عشرية؛ تعد الآن أساسية لذخيرة الباليه الحديث؛ بفضل عبقرية تصميمات الرقصات التي وضعها جورج بالانشين.
اتهم سترافينسكي من أتباع شونبرج بالارتداد الرجعي والفشل في إدراك الجدلية الداخلية لتطور فني تقدمي بحق لغة الفن:
اعترض سترافينسكي: «كلا، كلا! إن موسيقاي ليست موسيقى حديثة ولا موسيقى للمستقبل، إنها موسيقى اليوم؛ فلا يمكن للمرء أن يعيش في الأمس ولا الغد.» «ولكن من هم الحداثيون إذن؟»
ابتسم سترافينسكي قائلا: «لن أذكر أي أسماء، ولكنهم هؤلاء السادة الذين يتعاملون مع صيغ كبديل عن الأفكار. وقد فعلوا ذلك كثيرا جدا لدرجة جعلتهم يضعون كلمة «حديث» تلك تحت طائلة الشبهات. أنا لا أحبها. لقد بدءوا بمحاولة الكتابة لكي يصدموا البرجوازيين، وانتهوا بإرضاء البلاشفة.»
علم شونبرج بهذا الحوار، فقام بكتابة رد في مقاله «إيجور سترافينسكي: مدير المطعم» بتاريخ 24 يوليو 1926، وجاء في سطره الأول: «إن سترافينسكي يسخر من الموسيقيين المتلهفين (على عكس ما يفعل؛ فهو يريد ببساطة أن يؤلف موسيقى اليوم) لتأليف موسيقى المستقبل.» ها نحن هنا أمام اثنين من كبار المؤلفين الموسيقيين (وأتباعهما) يصارعان من أجل كسب تأثير طويل المدى: شونبرج الذي يقدس باعتباره موسيقيا تقدميا، وسترافينسكي الذي تعرض للتشهير والذم (من قبل أدورنو في عام 1948) لسقوطه في حالة من الارتداد «الصبياني» أدت إلى الأعمال الكلاسيكية الجديدة التي تعتمد على المحاكاة والمزج.
يصبح هذا الفارق، بين أن تكون جزءا من حركة منظمة نوعا ما وبين مجرد الاستغلال «المعاصر» لأسلوب رائج أو عصري؛ أكثر أهمية مع زيادة تسييس التطورات الحداثية. فيمتثل شونبرج، في رأي أدورنو، للقوانين الداخلية للتاريخ، من منظور ماركسي. وبحسب تعبيره في الجزء المعنون «شونبرج والتقدم»، في كتابه «فلسفة الموسيقى الحديثة»:
إن القواعد (وتحديدا قواعد الموسيقى الاثنتي عشرية) لم توضع اعتباطا، إنها تكوينات من القوة التاريخية الموجودة في المادة . في الوقت ذاته، تعتبر هذه القواعد صيغا تضبط بها نفسها لتواكب هذه القوة. وفيها يتولى الوعي زمام الأمور من أجل تنقية الموسيقى من رواسب المخلفات العضوية المتحللة (تحديدا مخلفات الأساليب السابقة). هذه القواعد تشن حربا ضروسا ضد الوهم الموسيقي.
هذه نظرية ماركسية كتبت في علم الجمال، بإدراكه لوجود جدلية داخلية للتاريخ، وتحديه «للوعي الزائف» للبرجوازية الفردية، وهي متضمنة داخل التقليد الموسيقي المقبول حتى الآن.
ولكن الاتجاه إلى فن الماضي في عشرينيات القرن الماضي لا يبدو كذلك للمشاركين فيه؛ إذ إن هذه المزاعم التلميحية بالاستمرارية قد اتخذت شكلا حداثيا ساخرا ومحاكيا بشكل مميز، اندمج بشكل مباشر ونقدي مع الافتراضات الاجتماعية لجمهوره. وقد كان ذلك مهينا للغاية؛ من حيث إنه أعقب فترة من التجريب الشكلي شديد الجدية بعد الحرب. وكما أشار بول ديرميه: «إن فترة من الوفرة والقوة لا بد أن يعقبها فترة من التنظيم، والتقييم، والعلم؛ أي عصر كلاسيكي.» فيما رأى بيير ريفردي أن «الفانتازيا قد مهدت الطريق لحاجة أكبر لإيجاد بنية». وكان لهذه الإعادة لتقييم علاقة الفنان بالماضي دورها في تأسيس حس جمالي بالوعي الذاتي الأسلوبي؛ ومن ثم تأسيس وعي حاد بالتناقض بين الحداثة والماضي. «لقد كانت «بولسينيلا» هي اكتشافي للماضي، ولحظة التجلي التي أصبحت من خلالها كل أعمالي اللاحقة ممكنة»، على حد قول سترافينسكي. فينظر إلى العمل في إطار تاريخ الفن، والأسلوب المخصص للسخرية التي تعد سمة بارزة من سمات الفن الحداثي الرفيع: «إن التقليد محفوظ: فتتحول سمات الفالس أو الجالوب أو المارش إلى نماذج نمطية، وتتم المغالاة فيها عن عمد، وتعطى طابعا ساخرا؛ ومن ثم توضح النماذج المبدئية عن طريق رسوم الكاريكاتير»، وليس فقط في أعمال سترافينسكي، بل أيضا في أعمال لو سييز، وبروكوفيف، وشوساتكوفيتش، ورافل، وكثيرين آخرين، ولكنه أيضا يتيح في أعمال أكثر جدية مثل «اللحن الثماني» لسترافينسكي، والذي تعود جذوره إلى الطباق (أو مزج الألحان) الباخي، إحساسا أعمق بالتقليد. وكان سترافينسكي يفكر فيها في إطار مصطلحات مستعارة من فن الرسم، كشيء مكاني مشابه للتجريد الهندسي: «إن عملي «اللحن الثماني» ليس عملا «عاطفيا»، ولكنه مقطوعة موسيقية بنيت على عناصر موضوعية كافية في حد ذاتها ... شيء له شكله الخاص. ومثل جميع الأشياء له وزن ويشغل حيزا من الفراغ.» وبحسب تعليق ميسينج:
في هذا العمل، يظهر سترافينسكي في ضوء البنائي، في ضوء الهندسة؛ فكل أفكاره تترجم إلى سطور تتميز بالدقة والبساطة والكلاسيكية؛ والصدقية المطلقة لكتاباته، المتجددة دائما، تكتسب هنا في جفافها ودقتها قوة وسلطة دون تكلف.
تعتبر هذه التعددية الأسلوبية، وإمكانية الوصول التي تتأتى في بعض الأحيان من التبسيط سمة نموذجية مألوفة لفترة ما بعد الحرب، التي أصبحت فيها الأساليب الحداثية عصرية، وتمثل دلالة على حدوث زيادة كبيرة في الأعمال الفنية التي تعتمد على هذا التلميح القياسي التاريخي. وكل هذا كان جزءا من «دعوة لمراعاة النظام» انتشرت في فترة ما بعد الحرب في الفنون (ارتبطت أيضا لدى المزيد والمزيد من صغار الفنانين، باستدعاء محافظ، بوجه عام، للأشكال الوطنية والقومية من النظام في مجال السياسة). واتجه الحداثيون من شتى الأطياف إلى تكييف أعمال الماضي، وإلى الانتقائية الأسلوبية، وإلى المحاكاة الساخرة، وإلى النزعة الإحيائية المميزة للكلاسيكية الحديثة، وما إلى ذلك.
شكل 2-5: فرناند ليجيه، «الفطور الكبير» (1920-1921). لوحة من الأثريات التكعيبية تترك مساحة محدودة لشبق التجسيدات السابقة للعري.
شكل 2-6: بابلو بيكاسو، «ثلاث نساء على النبع» (1921). لوحة تجسد النساء كتماثيل: الكلاسيكية الجديدة في منافسة مع أسلافها.
على سبيل المثال، تبتعد لوحة فرناند ليجيه «الفطور الكبير» [«الفطور، النسخة الكبرى»] (شكل
2-5 ) عن الاحتفاء التزامني بالحداثة في «المدينة» لتتجه نحو نسخة آلية من الكلاسيكية الجديدة. هؤلاء «جوار»؛ ما يذكرنا بالرسام جان أوجست دومينيك إنجر المنتمي للكلاسيكية الحديثة، فيما يبدو لون الجلد الرمادي اللامع وكأنه مصقول ومنحوت؛ ما يعيد إلى الأذهان الشكل البطولي الرزين المتماسك لسيدنا داود، وفي تورم أجساد النساء، ما يعيد إلى الأذهان الأسلوب الكلاسيكي لنيكولا بوسان، بطريقة مشابهة لأعمال بيكاسو ذات الطابع الكلاسيكي الحديث لهذه الفترة، مثل «ثلاث نساء على النبع» (1921) (شكل
2-6 )، حتى إن بيكاسو قد أجرى دراسة كارتونية بالطباشير الأحمر مستوحاة من عصر النهضة من أجل هذه الصورة النحتية، والتي تشير ضمنا إلى لوحة بوسان «إليزر وريبيكا عند البئر» (1648)، ولكن أكثر ما تشبهه هو منحوتة جنائزية إغريقية. ويغلب على اللوحة بالتأكيد طابع الحزن والتقيد، وهو ما يعد تناقضا؛ نظرا لأن الموضوع عادة ما يشير ضمنا إلى الاحتفال بالخصوبة. وتشير إليزابيث كولينج إلى أن اللوحة قد تكون تجسيدا لحالة الحزن والحداد التي سادت بعد الحرب.
لم يكن هذا الفن قط مجرد فن طارد، أو يعتمد على المحاكاة الساخرة. وهذا هو الفارق، مرة أخرى، بين الكلاسيكيين الجدد وأتباع ما بعد الحداثة؛ فالكلاسيكية الجديدة في الفنون تستعين بأفكار المجرد، والمطلق، والمعماري، والخالص، والموجز، والمباشر، والموضوعي، وتمثل علامة لعودة إلى إيمان باللغة «العالمية» للفن، وليس إيمانا بالاستحداث الجذري للغات جديدة.
كذلك بدا انتقال بيكاسو إلى أسلوب كلاسيكي حديث محاكيا بشكل علني للبعض وكأنه تخل عن التجريب الطليعي (لقد كان أيضا مهتما بتقليد إنجر في لوحته التي رسمها لمدام فيلدشتاين، على سبيل المثال). وقد ذهب جون برجر فيما بعد إلى أن مثل هذه الأعمال:
ليست مرضية أو عميقة مثل الأعمال الأصلية؛ نظرا لوجود فاصل من الوعي الذاتي بين شكلها ومحتواها. فطريقة رسمها أو تلوينها ليست نابعة مما يرغب بيكاسو في قوله بشأن موضوعه، ولكنها نابعة، بدلا من ذلك، مما يرغب بيكاسو في قوله بشأن تاريخ الفن ... [فهو] يمنح مدام فيلدشتاين قناع أعمال إنجر، وكان باستطاعته أن يمنحها قناع لوتريك، ولكنه كان سيصبح منفرا اجتماعيا.
التقليد المتبع
إن أعمال إزرا باوند وتي إس إليوت «أوروبية» الطابع بشكل واضح ... فالشاعر «الأوروبي» لديه وعي كبير جدا بالعالم الاجتماعي الذي يعيش فيه، وينقده، ولكن بأسلوب تهكمي وليس بأسلوب ساخط، ويؤقلم نفسه عليه، ويهتم بمخزونه المتراكم من الموسيقى والرسم والنحت، بل وحتى بتحفه الثمينة القديمة. وإذا كان الشاعر منخرطا في التقليد «الأوروبي»، فإنه يصف عناصر الحضارة أينما وجدها: في روما، في بلاد الإغريق، لدى كونفوشيوس، أو حتى في كنيسة العصور الوسطى، ويعقد مقارنة بين ما تتسم به عناصر تلك الحضارة وعنف الحياة المعاصرة وفوضاها .
لقد اتخذ الحداثيون منظورا شديد الاتساع للثقافة وجدوا فيه أنفسهم؛ فلا تزال مطالبة إليوت ب «حس تاريخي» بها متسع لماري لويد و«تلك العبارة الشكسبيرية» في «الأرض الخراب». ومع ذلك، إذا قرأت القسم الأول من القصيدة منفردا، فسوف تضطر على الأقل لمعرفة قدر عن تشوسر، وشكسبير، وفاجنر، والعهد القديم، والأسطورة الإغريقية، وأسطورة «النبات»، وبودلير، وما إلى ذلك. في الواقع، وبحسب تعبير إليوت في مقاله «التقليد والموهبة الفردية»: «ليس فقط الأجزاء الأفضل، ولكنها الأجزاء الأكثر فردية من عمل [الشاعر] هي الأجزاء التي قد يؤكد فيها الشعراء الراحلون؛ أي أسلافه، على خلودهم بأقصى قوة.» لأن الأصالة الطليعية هنا نابعة من طريقة استخدام اختيارات إليوت من قواعد ومبادئ الأدب الأوروبي، حسب رؤيته له، لتشكيل وجهة نظر معقدة عن العلاقة بين الحضارات عبر الزمن. وهذا الاستعداد لتعديل أعمال الماضي شائع لدى جويس، وبيكاسو، وسترافينسكي، وبيرج، وشونبرج، وتوماس مان وكثيرين آخرين. والتقليد بالنسبة لسترافينسكي «ينتج من قبول واع ومدروس ... فالطريقة تتبدل: (بينما) التقليد يتم ترحيله من أجل إنتاج شيء جديد. وهكذا يؤكد التقليد استمرارية الخلق». كان حداثيو القرن العشرين يتأملون تأملا واعيا علاقة وتناقض أعمالهم مع أعمال الماضي التي ينافسونها؛ فأعمالهم متأثرة بالتاريخ، وتمارس تأثيرها من خلال تكرار الأفكار والموضوعات (التي تمنحها العالمية)، ومن خلال تباين متزامن مع الماضي (الذي ينقل في أحيان كثيرة للغاية سخرية نسبية). ومع ذلك، فثمة اختلاف كبير للغاية بين تقليد كورال لباخ في «أوبرا البنسات الثلاثة»، والذي يوحي بانحدار الدين إلى عاطفة رخيصة وغير صادقة، وبين اقتباس كورال باخ «يكفي هذا» من مقطوعة الكانتاتا «الخلود، أنت صوت الرعد»، التي تشكل ذروة رثائية بشكل لا يحتمل لمقطوعة «كونشرتو الكمان» لبيرج. ويمنح كلا المؤلفين عمقا في المعنى لأعمالهما، بتوقع تقبلها والاعتراف بها؛ ومن ثم يمكن لشيء من السياق النصي الأصلي أن يكون بمنزلة أثر عاطفي للعمل الحديث. ومثل هذه التأثيرات تتجاوز مجرد المزج والمحاكاة؛ لأنها ليست مجرد انحرافات أسلوبية، ولكنها تثير شعورا بالتوافر الخالي من الحنين - بوجه عام - لأعمال من الماضي كمعايير لمشاعرنا في الحاضر.
وقد وضعت هذه التوزيعات جزءا كبيرا من الحداثة داخل حركة أوروبية بشكل واع للذات؛ فآمن باوند وإليوت وجويس (أي أمريكيين وأيرلندي واحد) ب «عقل أوروبا»؛ الذي رأوا أن أفكار هنريك إبسن، ونيتشه، وبرجسون، وفرويد، وأينشتاين، ومارينيتي وآخرين قد قدمت له إسهامات حيوية. وكان جميع الحداثيين الكبار على وعي بالغ بلغات وثقافات أخرى، حتى عندما كانوا أيضا منشغلين انشغالا عميقا باهتمامات قومية (مثل ييتس، الذي كان لديه اهتمام شديد بالثقافات الهندية واليابانية وكذلك الكلتية)، فكان نطاق قراءات ييتس، ومان، وجيد، وجويس، وسترافينسكي، على سبيل المثال، واسعا بشكل مذهل. وكانت إشارات بيكاسو المرجعية إلى الرسم، وإشارات شونبرج وبيرج إلى موسيقى الماضي، جامعة بشكل مماثل، وكانت أعمالهم على نفس الدرجة من التعقيد مثل أعمال إليوت وجويس في هذا المقام.
ولكن لا يوجد حداثيون كبار في أوروبا لم تكن أعمالهم مستوحاة - بشكل كبير - من الثقافات القومية غير الأوروبية، متضمنة جوانب من الثقافات غير الغربية في كثير من الحالات، كما في سيمفونية مالر «أنشودة الأرض»، ومسرحيات ييتس المحاكية لمسرح النو وأشعاره الأخيرة، وديوان «كاثاي» لباوند»، ومسرحيتي «المرأة الطيبة من سيتشوان» و«دائرة الطباشير القوقازية»، ورواية «سيدهارتا» لهيسه. وكان الرسامون التعبيريون الألمان، وبيكاسو في المرحلة الأولى من حياته، وداريوس ميلهود، وسترافينسكي، ودي إتش لورانس من بين الحداثيين العديدين المهتمين بما كانوا يعتقدونه ثقافات «بدائية»، وأغلبها من الثقافات الأفريقية، وتكييفها داخل الفن الأوروبي.
اعتمد تطور الفن التجريبي أو المتقدم في أمريكا بشكل كبير أيضا (في المرحلة الأولى) على امتصاص للثقافة الأوروبية، وكان ذلك واضحا للغاية في حالات والاس ستيفينز، وإي إي كامينجز، والأعمال الأولى لويليام كارولز ويليامز، الذين كانوا جميعا من الفرانكوفيل.
كان لويليامز وستيفينز اهتمام خاص في هذا المقام؛ نظرا لمعرفتهم بالرسم ما بعد التكعيبي، لا سيما عند عرضه في نيويورك في «معرض مخزن الأسلحة» عام 1913. وبحسب وصف ويليامز:
في باريس، كان الرسامون بدءا من سيزان حتى بيكاسو يرسمون لوحاتهم القماشية الثورية على مدى خمسين عاما أو أكثر، ولكن عندما وقعت عيناي على لوحة مارسيل دوشامب «عارية تهبط السلم» انفجرت ضاحكا من الارتياح الذي جلبته لي! لقد شعرت كما لو أن عبئا هائلا قد رفع عن روحي، وهو ما شعرت نحوه بالامتنان على نحو جامح.
إن تخليه عن التسلسل السردي، على سبيل المثال في مجموعته الشعرية «إلى من يريده»، يجعل قصائده أشبه كثيرا بلوحات فنية؛ فقد أراد إحداث تأثير مثل تأثير الرسم الحديث، كما في الصورة البصرية في قصيدة مثل «الشكل المنظوم». وقد قاده هذا إلى اهتمام بالشيء أو الجسم (كما في أعمال سيزان والتكعيبيين)؛ ومن ثم بتطوير الحياة الجامدة الديناميكية في الشعر؛ فالقصيدة، من وجهة نظره، مثل أعمال الفن المرئي، جسم حر مستقل بذاته له شكله الخاص.
ويقول في مقدمة كتابه المنتمي للسريالية الأولية «كورا في الجحيم»: إن «القيمة الحقيقية تكمن في تلك الميزة الخاصة التي تمنح شيئا ما شخصية خاصة به، والقيمة الترابطية أو العاطفية زائفة.» وتعد قصيدته «آلام الربيع» (ضمن المجموعة الشعرية «إلى من يريده» التي قد ترجع إلى أواخر عام 1916) محاولة لتجربة الرسم التكعيبي في الكلمات. ويتضح تفتيته للعبارات والصور الذهنية في «الشخصية العظيمة». وهي قصيدة ترجمت إلى رسم على يد تشارلز ديموث، في لوحته «رأيت الرقم 5 بالذهب» [1928]، والتي رسمها بالاشتراك مع ويليامز. في هذه الفترة، كان يبحث عن الموضوع «الأمريكي» المميز (إلى جانب ستيجليتز وديموث وهارتلي). وفكرته عن الجديد راسخة بقوة في التقنيات والأساليب الحداثية، ولكنها كانت بحاجة إلى موضوع أمريكي جديد بالقدر نفسه لكي تصبح مستقلة، في الشعر، عن التقليد ذي الطابع الأوروبي، المتبع من قبل باوند وإليوت؛ ففي الأجزاء النثرية من «الربيع وغيره»، يقوم بتوليف قيم التجريد مع رغبته في اكتشاف الشيء الأمريكي (مثل المصورين والرسامين في جماعة ستيجليتز) في «الواقع المرئي للمشهد الأمريكي». ويشير دجيسكترا إلى سلسلة «صباح يناير» المؤلفة من خمس عشرة قصيدة في ديوان «إلى من يريده»، التي يحوي كل منها شيئا أو اثنين يلاحظان عن كثب؛ «من أجل تشكيل «مجموعة» صور فوتوغرافية في الأساس»، وتعد قصيدة عربة اليد الشهيرة نموذجا لها.
كان والاس ستيفينز يتسم دائما بطابع «أمريكي» من خلال عمله في إطار نوع من التقليد الإيمرسوني الرفيع، ولكنه أيضا، شأنه شأن ويليامز، كان شريكا لرعاة الفن والتر أرسينبرج وكارل فان فيشتن؛ ومن ثم كان على وعي جيد بالواقع الطليعي في الرسم، بما في ذلك لوحة دوشامب الشهيرة «عارية تهبط السلم»، التي شاهدها في شقة أرسينبرج. ويتجلى تأثر لوحاته الأولى تأثرا واضحا بالنسبيات المماثلة في التجربة المرئية، واشتهر كثيرا في زمانه حين أظهر هذا في قصيدته «ثلاث عشرة طريقة للنظر إلى الشحرور» (1917). آنذاك كان النظم الحر لستيفينز المصوغ ببراعة وإبداع دليلا كافيا جدا على طليعيته. وتعد قصيدته «الرجل ذو الجيتار الأزرق»، المنشورة عام 1937، بمنزلة تلخيص رائع لرؤيته للفن الحداثي، وفلسفة تعاطينا مع العالم. إنها تأمل ممتد للتشكيل الفني الحداثي للواقع من جديد، في الشعر والرسم.
كانت الحداثة الأوروبية بالنسبة لكاتب أحدث نوعا ما، مثل ويليام فوكنر، تمثل جزءا كبيرا مما كان يعرفه؛ فقد كان يقرأ لجويس وآخرين؛ ومن ثم قام بتطبيق أساليب تيار الوعي الخاصة بهم بقوة؛ فشخصية كونتن كومبسون في روايته «الصوت والغضب» (1929) شخصية واسعة التفكير والثقافة، وتلميحية، وذات ميول شعرية مثل بروفروك وستيفن ديدالوس. وينظر إليه في السياق الجدلي لعائلة كومبسون، وتأثيرات تاريخ ما بعد الحرب الأهلية في الجنوب، الواقعة عليهم جميعا. وكل هذا يتم إدراكه بتفاصيل دقيقة كأي شيء في دبلن، كما تناولها جويس. يسير مع هذا جنبا إلى جنب ترتيب خرافي ورمزي في شدة التعقيد؛ فحلقات رواية «الصوت والغضب»، على سبيل المثال، توازي الأيام الثلاثة لعيد الفصح المسيحي، وينشئ فوكنر هنا، وأيضا في رواية «أبشالوم، أبشالوم»، علاقة تبادلية وثيقة وبارعة بين حبكة الرواية والتجلي التراجيدي للماضي التاريخي المنبثقة منه. إن النظرية المعرفية للرواية الفوكنرية - أي علاقتها بالمدركات والعلاقات المشوهة، وبتقليد تاريخي شفهي - هي واحدة من أعقد النظريات في التقليد الحداثي، وهي تتجاوز أي شيء في أعمال جيمس وبروست. وفي هذا السياق، صار فوكنر، شأنه شأن وولف، واحدا من أكثر الروائيين التجريبيين انفتاحا في القرن العشرين؛ نظرا لأن كل كتاب من كتبه (حتى ثلاثية «سنوبس» التي يغلب عليها الواقعية)، كما هو الحال مع وولف، يكتب بأسلوب النثر الشعري، ويتخذ ترتيبا شكليا معبرا وفرديا بشكل كلي؛ على سبيل المثال، في التفتيت النفسي المتسم بالتعارض والعرضية لتيارات الوعي العديدة المتفاعلة في رواية «بينما أحتضر».
كان الوقت متأخرا للغاية حين رفض ويليامز، على سبيل المثال، هذه الهيمنة الأوروبية المطالبة بتطبيق الأساليب الحداثية على موضوع أمريكي متميز. ولكن كان على الحركات الفنية «الأمريكية الخالصة» ذات الأثر العالمي، التي شقت طريقها بعيدا عن الاهتمامات الحداثية الأوروبية، الانتظار حتى الحرب العالمية الثانية؛ فقط عندما نشأت التعبيرية التجريدية في الرسم، المنبثقة من رحم السريالية وبدايات أخرى غيرها، حققت حركة فنية أمريكية قومية ومستقلة أصالة تجريبية، ومجدا قوميا - بشكل واضح - وذا أهمية عالمية. ومن الواضح بالقدر نفسه أنه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أظهر الأدب التجريبي الأمريكي، على يد والتر أبيش، وجون بارث، ودونالد بارثيلمي، وروبرت كوفر، ودون دي ليلو، وويليام جاس وآخرين، أصالة وحيوية واهتماما أكبر من أي تقليد سردي تجريبي معاصر (وفي ذلك تيار «الرواية الجديدة» الفرنسي المرتبط بالنظرية).
كان أغلب الحداثيين الكبار ينظرون إلى أعمالهم في أغلب الأحيان باعتبارها نابعة من التقاليد الأولى للفن، ردا عليها وإشارة إليها؛ تلك التقاليد التي كانوا على وعي شديد بها. فقد كان لدى ماتيس وبيكاسو، على سبيل المثال، مقدرة بالغة على الرسم بالأساليب الأولى؛ ومن ثم حققا عالمية اتخذت طابع الكلاسيكية الجديدة إلى حد كبير من حيث الإلهام. وحتى ظهور الحركات الدادائية والسريالية، بتركيزها الشديد ذي الطابع الرومانسي المجدد على الخيال والإبداع الفردي، لم يكن الهدف بالنسبة لمعظمهم يقتصر فقط على «التجديد»، أو «الأصالة»، أو «التجريبية»، أو «الثورية»، وكأن لم يكن للمرء أسلاف سبقوه؛ فقد كان الحداثيون الأوائل ينظرون إلى التقليد، أولا وقبل كل شيء، باعتباره مجموعة محددة تاريخيا من القواعد والمبادئ يستطيعون «العمل» في نطاقها، أو يتجاوزونها؛ مثلما تجاوز ديبوسي فاجنر، ومثلما يرى شونبرج أن أعماله تبني على أعمال برامز، وبالتبعية أيضا التحولات اللامقامية لحركة المارش الماهلرية في «المقطوعات الست للأوركسترا» (1909-1910) لفيبرن، و«ثلاث مقطوعات للأوركسترا» (1914-1915) لبيرج.
بالطبع كان بعض الحداثيين يؤيدون الرفض الكامل للماضي قدر الإمكان، وأدى هذا إلى مزاعم قوية بالأصالة، التي كانت آنذاك، مثلما يحدث الآن، غالبا ما يتم تناقلها وتوارثها على حساب الغموض وعدم الوضوح عن طريق معايير الماضي، أو عن طريق الرفض الساذج لها. وكانت اعتراضات مارسيل دوشامب، النابعة من الأهداف التحررية للحركة الدادائية الأصلية، مؤثرة بشكل خاص في هذا المقام. وتعد لوحته «النافورة» (1917) عملا رمزيا من هذا النوع الطليعي؛ فعن طريق شراء مبولة وقلبها رأسا على عقب، والتوقيع عليها باسم «آر موت»، اختبر دوشامب مفهوم المشاهد لمقومات العمل النحتي أو «العمل الفني»، وربما ما كان أكثر أهمية بالنسبة للتطورات اللاحقة ما فعله من اختبار المؤسسات الفنية بسؤالهم عما هم، في الواقع، على استعداد لعرضه، في المستقبل (إن كانوا سيفعلون) كأعمال فنية. وقد فتح ذلك الباب لعدد من الأفكار والموضوعات التي تعد محورية لفن ما بعد الحداثة.
التشخيص الثقافي
بالنظر إلى هذه المجموعة من الافتراضات، اعتبر الفنانون الحداثيون أنفسهم نقادا ثقافيين عظاما. ويتضح هذا في إنجلترا من الأعمال النثرية لباوند، وإليوت، وويندهام لويس، ودي إتش لورانس، وألدوس هكسلي (ومان وجيد وكثيرين آخرين في بقاع أخرى) بكل تأكيد. فقد كانوا يميلون للانفصال عن المجتمع الذي يعيشون فيه والحياة على هامشه، متبعين في ذلك تقليد القرن التاسع عشر الانفصالي المناهض للبرجوازية الذي اتبعه فلوبيرت، وإبسن، ووايلد، وفرويد، وإليوت، على سبيل المثال، الذي يتسم نثره بالمحافظة إلى حد كبير؛ إذ يبدأ بتقليد قصائد جول لافورج الموبخة للذات بسخف وحمق، والذي كان قد عرفه الطريق من خلال إماطة اللثام عن خداعات الذات البرجوازية السائدة في ذلك الزمن، في الشعر الذي اتسم بطابع ساخر وكوميدي. وبالتبعية أيضا، انفصل تأييد جويس لاتباع أخلاقيات مخالفة، من خلال ستيفن ديدالوس، عن القيود السياسية والدينية المتعارف عليها، وذلك في رواية «لوحة الفنان»، التي تعد المثال الكلاسيكي للمعارض الفردي، الذي يجد مهنة في الفن، لا سيما في لغته، وليس في المتطلبات الاجتماعية للدين أو السياسة، فهذا هو ستيفن الطالب الذي يقال له إن مقاله عن «الفن والحياة»، المكرس لإبسن «يمثل مجمل الارتباك الحديث والفكر الحر الحديث». ومن هنا أيضا نبع تطور وعي بروست في «البحث عن الزمن المفقود»، من قبول ساذج للافتراضات الطبقية إلى نقد ذاتي منفصل لها. والعديد من أعمال تلك الحقبة بنيت على اهتمام بالتناقض بين ثقافة الماضي الرفيعة وانحدار الظروف الاجتماعية الحالية.
وكان من أوسع الكتب التي تستكشف هذا النوع من التناقض قراءة كتاب توماس مان «الجبل السحري» (1924)، الذي يعد في الحقيقة أيضا رواية تكوينية (أو رواية للتطوير التربوي)، من خلال الشاب هانز كاستورب، الذي - بحسب المؤلف:
يقتاد بأسلوب كوميدي ومرعب عبر التناقض الروحاني للتوجهات الإنسانية والرومانسية، والتقدم ورد الفعل، والصحة والمرض، ولكن ذلك من أجل منفعتها الجوهرية؛ بهدف التعرف عليها أكثر وليس بهدف تدبر قرار. إن الأمر برمته له روح هزلية عدمية.
إذن هو لا يشبه ستيفن ديدالوس في شيء مطلقا، ولكن إقامته في مصحة علاجية (هي جامعته) تورطه في جدال ممتد بين سيتمبريني (الذي استند إلى الإنسانية والليبرالية التقدمية لإميل زولا ومن جاءوا بعده، ومن بينهم شقيق مان؛ الروائي هنريك)، والرجعية الماكرة لليو نابهتا (وهو شخصية «ضد المنطق»، ويهودي، يسوعي، نخبوي، شيوعي، تشكلت شخصيته على نموذج جورج لوكاس). وقرب نهاية الرواية، نسمع من بيبركورن (الذي يمثل المبدأ الديونيسي النيتشوي، وصممت شخصيته على نموذج جيرهارت هوبتمان). ومن خلال هؤلاء، يمر كاستورب، الأحمق نوعا ما، بمنظور فلسفي تلو الآخر للحياة، بمعنى «الإنسانية، ثم الروحانية، ثم التحليل النفسي، والشيوعية البدائية الممتزجة بقدر من الهرطقة العرفانية»؛ ففي مناقشته على الجبل، يفترض به أن يسمو فوق الظروف الاجتماعية على الأرض، وأن يحقق نوعا من الانفصال التأملي، ولكن كما سنرى لاحقا، كان حل أزمة كاستورب من نوع مختلف غير استطرادي نوعا ما.
على مدار القصة، يتعين على كاستورب والقارئ خوض صراع مع تلك الأفكار المجردة المغلفة بقناع مادي، والتي يراها كثيرون جزءا من الثقافة الألمانية؛ ومن ثم فإن التناقضات الفلسفية والثقافية التي يرغب مان في إبرازها تفتقد أي تمثيل مادي حقيقي. ويعالج إي إم فورستر مثل هذه التناقضات من خلال وعي مماثل بالعلاقات بين الواقعية والرمزية والخرافة الدينية، بشكل أكثر تحديدا بكثير، وذلك في الأجزاء الثلاثة المتناقضة لأكثر كتبه شعرية وحداثة «ممر إلى الهند»، الصادر عام 1925، وفيه تدخل الرؤى الإمبريالية الإنجليزية للعالم ورؤى المسلمين والهندوس في حالة من التناقض والصراع الدرامي.
إن «الثقافة الرفيعة» لمثل هؤلاء الكتاب من شأنها حفظ أفكار مهمة ثقافيا في قوالب تجعل فهمها سهلا على شتى المستويات، وأيضا تقدم القضايا التي تؤرق الثقافة في قالب إشكالي وقابل للنقاش. وهذا تحديدا ما يمكن أن نقوله عن أعمال مثل: «الأرض الخراب»، «البرج»، «يوليسيس»، «ميدان ألكسندر في برلين»، «ممر إلى الهند»، «البحث عن الزمن المفقود»، «ألحان جوني»، «الجبل السحري»، «الخطباء»، «بين قوسين»، «بين الفصول»، «رجل بلا صفات»، «دكتور فاوستس»، و«دائرة الطباشير القوقازية». بهذا القدر، ترتبط الحداثة ارتباطا وثيقا بصراعات التقليد التراجيدي، ولكن حري بنا أن نشير إلى أن الأعمال المشار إليها للتو تتسم جميعها تقريبا بطابع ساخر وكوميدي، وبمخاطبته الضمنية للاستجابة الإنسانية العادية، يبعد اللاهوتي المتغطرس، بوجه عام، فيما تصبح مزاعم الفلسفة (ولكن ليس الأخلاق) نسبية بشكل محكم ودقيق.
كانت الأعمال المقبولة بالنسبة لمثل هؤلاء الحداثيين هي نقاط مرجعيتهم للحظات مهمة وجدلية في الأساس في تاريخ ماضي الإنسانية، كان بعضها خطيرا ومحوريا، مثل استخدام إليوت لتشوسر وفاجنر وبوذا، وأسطورة النبات في «الأرض الخراب»، والآخر أكثر هامشية، كما في الأجزاء الأول من قصيدة «الأناشيد» لباوند، بتعديلها المتجاور لأسلوب شعر براونينج النظيري، والاعتماد على رؤية فينلوزا عن الصينيين، واستخدام نظريات دوجلاس الاقتصادية، والقراءة الشديدة التفرد والتميز لعصر النهضة والتاريخ الاقتصادي، التي أثبتت جميعا أنها أكثر ثانوية لاهتمامات القرن العشرين منها لاهتمامات إليوت.
إن مثل هذه الأفكار تحررية بطبيعتها، حين تؤخذ معا؛ ما يوفر وسيلة يمكننا من خلالها التوافق مع تعددية الرؤى للعالم واستيعابها، وتناقض القيم داخل الحضارة الغربية، وأيضا فهم كيفية نشأة العصر الحديث. والأهم من كل ذلك أنها تجنبت هوس اليقين والانتقائية لتلك الأيديولوجيات التي عارضت الفن الحداثي في ثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها.
فكرة الخرافة
ربما يمكننا رؤية كل هذا بشكل أفضل نوعا ما في إطار مثال أشمل وأوسع نطاقا.
كان الاتهام السيكولوجي للحياة المعاصرة في «الأرض الخراب» يحظى بتقدير سهل من جانب المعلقين الأوائل؛ فقد اعتبر آي إيه ريتشاردز القصيدة تعبيرا عن «الحالة الذهنية لجيل في فترة ما بعد الحرب»؛ وهي تدور حول «الجنس باعتباره مشكلة جيلنا مثلما كان الدين مشكلة الجيل السابق». ورأى سي داي لويس أن القصيدة: «تعطي انطباعا حقيقيا صادقا عن عقلية المثقفين خلال فترة الانحدار النفسي الذي حدث عقب الحرب مباشرة.»
ولكن القضايا الأكبر داخل القصيدة، لا سيما قضايا الدين، لم تكن رؤيتها سهلة للغاية؛ لأنها هنا، كما في «يوليسيس» ترى في إطار الخرافة، التي كان العديد من الحداثيين (لا سيما هؤلاء ذوي العقليات التحليلية النفسية) يرونها تعبيرا، ليس فقط عن الخيالات «البدائية» للبشر المعاصرين، ولكن أيضا عن الطبيعة الطفولية لبدايات النوع. ومن خلال ذلك، نشأت الفكرة المزعجة التي مفادها أن الخرافة القديمة قد تقف سرا وراء التجربة الحديثة، لا سيما حين تكون جنسية أو تراجعية. هذا هو ما يعول عليه إليوت في «الأرض الخراب»، بعد إعجابه بجويس لقيامه بالشيء نفسه في «يوليسيس». فقد كان إليوت في الواقع يعتبر «الأسلوب الخرافي» الذي وجده فيها مشابها لاكتشافات أينشتاين؛ نظرا لتأثيره المحتمل على الكتابة الإبداعية. ويرجع هذا إلى أن «علم النفس (كما هو عليه، وسواء أكان رد فعلنا تجاهه هزليا أم جادا)، وعلم الأجناس البشرية، وكتاب «الغصن الذهبي» قد التقوا لجعل ما كان مستحيلا حتى قبل بضع سنوات ممكنا». (كان مستحيلا واضحا حتى بالنسبة إلى ييتس، الذي لم ينل حظه المستحق من الثناء عن طريق مدحه كمجرد «مصمم» للأسلوب لا أكثر). كان الأسلوب الخرافي «خطوة نحو جعل العالم الحديث ممكنا للفن» (وهنا يكمن المكسب المعرفي المعلن). وبغض النظر عن الإشارة الضمنية من (أ) إلى (ب)، يمكن أن يكون هناك أيضا تجاور دقيق، على سبيل المثال، في قصيدة «الأرض الخراب» حين كان العاشقان على نهر التيمز في الحاضر - الفتاة في القارب الصغير، التي غرر بها بالقرب من ريتشموند - يبدوان أكثر خسة من العاشقين - الملكة إليزابيث وليستر - اللذين يلهوان على نهر التيمز في قارب ملكي من الماضي، أم تراهما ليسا كذلك؟
اتجه إليوت والعديد من معاصريه إلى ثقافة الأفكار بحثا عن مفهوم للخرافة التي تتسم في جوهرها بالإشكالية والجدلية، كما يمكننا أن نرى إذا ألقينا نظرة على تباين الآراء المدلى بها في العديد من مصادره؛ فالاستخدام الحداثي للخرافة في العمل الإبداعي عبارة عن توليفة من محاورات متضاربة متعددة، جميعها لها علاقاتها المثيرة بالثقافة التي يعمل الفنان في إطارها. بالنسبة إلى إليوت وحده، كنا سنضطر للنظر إلى مجموعة كبيرة من المصادر الممكنة، كتلك المذكورة في «المعلومات الوهمية» الواردة بالملاحظات الخاصة بقصيدة «الأرض الخراب». وبمجرد أن نعكف على بحث كهذا، كما فعل كثيرون وكثيرون على أمل العثور على خرافة نموذجية لتوحيد القصيدة، سوف نجد أنه يتعين علينا أيضا الدخول في سجال مع أفكار إليوت عن علاقة الخرافة بالبدائية والدين، وقراءاته لفريزر (لا سيما عن «الرب المحتضر» في المجلد رقم 4 من «الغصن الذهبي»)، ولجيسي إل ويستون (لحد معين)، وجان هاريسون وغيرهم من علماء الأنثروبولوجيا بكامبريدج، ومفاهيمه عن الطقوس فيما يتعلق بالخرافة، ومعرفته العامة بالأنثروبولوجيا التي استقاها من مناهجه الجامعية، وما إلى ذلك.
فور تحديد مثل هذه المواد، نحتاج بعد ذلك لتقييم «وزنها الثقافي» المتباين مع دخولها وخروجها من القصيدة. قد تكون مثل هذه المحاورات جزءا من محادثة أو عبارة في كتاب (مثل تعريف ستيفن ديدالوس للتاريخ بأنه «كابوس أحاول الاستيقاظ منه»، والذي يكمن بالتأكيد وراء قصيدة «جرونشن»)، أو جاءت من الأطروحات والقصائد والأعمال الأنثروبولوجية والفلسفية والسيكولوجية العميقة المشار إليها أعلاه.
كل هذه المصادر المحتملة لفكرة إليوت العامة عن الخرافة تجعلنا على وعي بالقضايا أو الأزمات التي تؤرق الثقافة. ومن بين هذه الأزمات القضية الجدلية التي تدور حول ما إذا كان ممكنا أن تدعم الخرافة الدين أو تحل محله. وقد ساعدت هذه الأزمات على ضمان المكانة المعتمدة كنسيا للعمل وأهميته المتواصلة في التأويل (وهو ما يعد واضحا بشكل مماثل لأعمال مثل «يوسف وإخوته» لمان، ولوحة «جورنيكا» لبيكاسو، مثلما سنرى). وينبغي أن تمثل قضية مكانة الخرافة أهمية للمؤمنين الورعين مثلما شكلت أهمية بالنسبة إلى إليوت في «الأرض الخراب»، ولأسباب مماثلة. إن الهدف من الأسلوب، في الواقع، هو إجراء تشخيص ثقافي في ضوء التاريخ؛ ولذلك تعد «الأرض الخراب» (و«مسودة 16 أنشودة» لباوند) «رؤية للاضمحلال الأوروبي» (كذلك مثل «نساء عاشقات» للورانس، و«الموت في فينيسيا» و«الجبل السحري» لمان، وقصيدة «ألف تسعمائة وتسعة عشر» لييتس، والعديد من النصوص الأخرى في تلك الفترة).
الأهم من كل ذلك أن الرؤية الحداثية للخرافة يمكن أن تضع الفنون داخل علاقة جديدة بالتاريخ قد تكون استنزافية؛ إذ يمكن أن ترى (مع نيتشه) كتابة التاريخ نفسه كشكل من صنع الخرافة، وبالعكس، ترى الخرافة باعتبارها الشكل الحتمي للتاريخ الأساسي لأي أمة، كما في شعر ومسرحيات ييتس، على سبيل المثال؛ حيث تتمكن الخرافة الكلتية القديمة بشكل ملائم من تجاوز تاريخ المسيحية في أيرلندا من خلال التقدم عليه زمنيا؛ ومن ثم إيجاد «أيرلندا حقيقية» خارج الكنيسة الكاثوليكية، أو يمكن أن تدعم إنكارا محافظا للتغيير «التقدمي» خلال تاريخ ما؛ لأنه يعد «حقا» مادة (اتباعا لنيتشه مجددا) للتكرار الخرافي للمسلمات المتكررة، مثلما يبدو الأمر في «يوليسيس». فالخرافة بمنزلة تحد أزلي، إن لم يكن رجعيا، وربما تشاؤميا، للرؤى الماركسية أو أي رؤى تقدمية أخرى للأساسيات الاقتصادية للتاريخ، وكذا لأي مفهوم، خارج إطار الخيال العلمي، مفاده أن التقدم العلمي والتكنولوجي سوف يحدث تحولا جذريا لظروف السلوك الإنساني. والواقع أن أي حداثي كان سيقول إن الخيال العلمي والخيال اليوتوبي نفسيهما يميلان لامتلاك جميع السمات البنيوية المتكررة للخرافة القديمة، والتي تتوافر في جميع مراحل التطور العلمي.
لقد انشغلت الغالبية العظمى من الحداثيين الكبار - ييتس وإليوت وأودن وجيد وجويس ومان وسترافينسكي وشونبرج وماتيس وبيكاسو والسرياليين - في مرحلة ما بهذه العلاقة بين الخرافة والثقافة، واستخدموها كمبدأ سردي وبنيوي وتلميحي في أعمالهم.
وما إن يستطيع الفن الحداثي، على الطريقة الأرنولدية، مناقشة ادعاءات الدين والتاريخ بشرح وتفسير الثقافة، حتى نجد أن الأعمال المتغايرة مثل «المرثيات» لريلكه، و«الرباعيات الأربع» لإليوت، ورواية مان ذات الأجزاء «يوسف وإخوته»، على علاقة في غاية الاضطراب بالدين التقليدي بمفهومه لدى الغالبية في تلك الفترة. ويعود هذا، بوجه عام، إلى أن الفن منذ القرن التاسع عشر قد زعم أنه يتوغل أكثر من كل مثل هذه العقائد التقليدية نحو الحكمة القديمة الأعمق والراسخة التي توجد في تاريخ صنع الخرافة الدينية. وحسب تعبير مدام بلافاتسكي، التي كانت مصدر إلهام ييتس:
ربما يكون مستحبا أن نقول صراحة إن التعاليم، التي تحتويها تلك الكتب، مهما كانت مشرذمة ومنقوصة، لا تنتمي للديانة الهندوسية، أو الزرادشتية، أو الكلدانية، أو المصرية، ولا للبوذية، أو الإسلام، أو المسيحية بشكل حصري. فالعقيدة السرية هي جوهر كل هذه العقائد. والنماذج الدينية المتنوعة المنبثقة منها تدمج الآن مرة أخرى داخل العنصر الأساسي الذي خرج منه كل لغز، وكل عقيدة وتطور وأصبح ذا كيان مادي.
اضطلع الأدب القائم على مثل هذه المقدمات والفرضيات بمسئوليات جديدة، وبحسب تعبير سايمونز عن ذلك في كتابه «الحركة الرمزية»: «في حديثه إلينا ... مثلما كان الدين وحده يتحدث إلينا حتى الآن، يصبح الأدب في حد ذاته نوعا من الدين، بكل ما عليه من واجبات ومسئوليات للطقس المقدس.» وفي ظل التأثير العلماني الطابع للحداثي، قد يبدو تداخل الحداثيين مع الخرافة مدهشا، إلا أن العديد منهم، وفيهم ذوو الدين والورع (كاندينسكي، موندريان)، وهؤلاء الذين كانوا يعتزمون العودة إلى الدين التقليدي (إليوت، سترافينسكي، أودن، شونبرج)، والمشككون ولكن تحت سيطرة الإغواء (جيد)، ومؤلفو الأساطير والخرافات غير التقليديين (ييتس، ستيفينز)، وملحدو بلومزبري العلمانيون؛ جميعهم نظروا إلى مزاعم الفن بوصفها منافسة أو مكملة لمزاعم الدين التقليدي بشكل أو بآخر. وراح كثيرون آخرون؛ أمثال: ييتس، وشو، ولورانس، ومان، يبحثون عن بدائل للدين، أو اتباع خطى المفكرين أمثال يونج في رحلة البحث عن معادل فعال نفسيا له (هكسلي، ييتس)، أو تكوين مجادلات حجج نفسية داحضة له بوصفه مجرد وهم، بينما لديهم في الوقت ذاته حس قوي بحتميته العصابية، مثلما فعل فرويد. وهذا البحث عن سلطة إلهامية داخل الثقافة الرفيعة وليس داخل المؤسسات والمنشآت الدينية هو إرث أساسي من الحقبة الحداثية.
الفصل الثالث
الفنان الحداثي
اكتشاف أن الذكريات والأفكار والمشاعر توجد خارج الوعي الأساسي هو الخطوة الأهم إلى الأمام التي حدثت في علم النفس منذ كنت دارسا لذلك العلم.
ويليام جيمس، «مبادئ علم النفس» (1890)
أعمق مشكلات الحياة الحديثة تنبع من محاولة الفرد الحفاظ على استقلالية وجوده وتفرده في مواجهة قوى المجتمع المهيمنة، في مواجهة ثقل الإرث التاريخي، والثقافة الخارجية، وأسلوب الحياة.
جورج سيمل، «المدينة والحياة العقلية» (1903)
دعنا نفحص للحظات عقلا عاديا في يوم عادي ... دعنا نسجل الذرات بينما تتساقط على العقل بالترتيب الذي تتساقط به. دعنا نتتبع النمط الذي يحرزه كل منظر أو واقعة على الوعي مهما كان مفككا وغير مترابط في ظاهره.
فيرجينيا وولف، «الأدب الروائي الحديث» (1925)
وجهة النظر الذاتية: تيار الوعي
كانت النزعة الأولى للفن الحداثي هي تقديم التجربة الشخصية، والتشديد على أهميتها، كما لم يحدث من قبل، فكان كبار فناني تلك الحقبة، الذين ورثوا من القرن التاسع عشر تركيزا على دور الصور المجازية، والرمزية، والأحلام، والعقل الباطن، يميلون دوما لتفضيل الإدراك الذاتي للفرد، وما هو أكثر من ذلك، من خلال الطرق الخيالية والحدسية، وأيضا، كما سنرى، طرق «التجلي» للتوصل للحقيقة، التي غالبا ما كانت في خصومة مع أساليب الجدل الأكثر عقلانية أو عمومية. وهذا الفكر يسري على جميع الفنون، فهو قابل للتطبيق على التأملات الباطنية في أوبرا ديبوسي «بيلياس»، وأغنية الحلم لكليمنسترا في أوبرا ريتشارد شتراوس «إلكترا»، مثلما تنطبق على شعر أبولينير وإليوت، والتعبير التعبيري عن المشاعر في شعر جوتفريد بن، ومونودراما «التوقع» ومقطوعة «بييرو في ضوء القمر» لشونبرج، وعلى الفوفيين الذين يحذون حذو فان جوخ في تعبيرهم عن الحالة النفسية بالتخلي عن الطابع المحلي، وعلى وجهة النظر ذات الطابع الشخصي الواضح للتكعيبية، وتجريدات كاندينسكي الحالمة.
ويعد الاستخدام الحداثي لتقنية «تيار الوعي»، بما يتضمنه من اعتماد على تداعي الصور الخيالية (الذي غالبا ما يفترض أن يكون مدفوعا بالعقل الباطن)، أساسيا لجميع الفنون. وهو يهدف إلى دقة أعلى للعمليات النفسية الخاصة، غالبا بالسمات التي أكد عليها برجسون، والمتعلقة بمرونة خبرتنا بالوقت الخاص (الديمومة) في مقابل الوقت العام. ومثل هذه الأفكار، عند سردها، لا تمتثل للمبادئ العامة المألوفة لأي لغة مكتوبة، كما كانت تفهم من قبل، فنجد ليوبولد بلوم؛ بطل رواية جويس، يفكر بشأن سمكة كما يلي:
لا بد من الانتهاء من هذا الفسفور. إذا تركت قطعة صغيرة من سمكة القد، على سبيل المثال؛ فإنني أرى اللون الفضي المزرق عليها. ذهبت ليلا إلى خزانة المؤن في المطبخ، لم ترق لي كل الروائح المنبعثة بداخله، والتي كانت تتلهف للخروج. ماذا كانت تريد؟ زبيب ملقة. تحضرني إسبانيا. قبل ميلاد رودي. الوميض الفسفوري المتدرج بين الأزرق والأخضر. إنه مفيد جدا للمخ.
أو في حلقة «حوريات البحر» من رواية «يوليسيس»، حين انزعج بلوم بشكل غريب من الصلصلة المتكررة للجرس على عربة أحد السائقين. يمكننا أن نتوصل إلى أن الأمر كذلك؛ لأن هذا يذكره بصوت الصلصلة الذي أصدرته الحلقات النحاسية أعلى فراش الزوجية في مشهد الإفطار الافتتاحي مع مولي، وسوف تصدره حين تضطجع فيه مولي مع عشيقها بليزس بويلان في ذلك المساء. والأمر يرجع إلينا في تفسير تلك الصور وجعلها تترابط مع أفكارنا بشأن شخصية بلوم ووقائع الحبكة. ويعد هذا مزجا محوريا للأسلوب (التداعي، وفي ذلك استخدام الإشارة الضمنية غير المباشرة، ومن دون الروابط المنطقية الصريحة) مع الفكرة. ونعني - بوجه عام - فكرة وجود عملية ذهنية من أحلام اليقظة، لا سيما حين تعبر عن نفسها في خواطر ما قبل الحوار. ثمة مفاهيم جديدة للخصوصية متضمنة هنا؛ إذ إن بلوم يحاول «ألا» يفكر في خيانة مولي له، ولكن مع ذلك لديه الكثير من الأفكار المتداعية المرتبطة بها، وتيار وعيه يعبر عما لم ولن يستطيع أن يجهر به (على سبيل المثال، أوهامه بشأن النساء في حلقتي «نوسيكا» و«سيرس»، أو خواطر بينجي الأحمق في «الصوت والغضب »).
إن المكسب التقدمي والتحرري هنا واضح؛ فبلوم - بطل جويس - لديه حقا عقل «عادي» بشكل مذهل، وستيفن ديدالوس لديه عقل مبدع بشكل مدهش، وخواطر مولي لا تصطحبنا فحسب داخل سرد لممارستها الحب، ولكنها تعبر عن توجهات إزاء بويلان لم تكن بالتأكيد لتمثل جزءا من حوارها، وتكشف - مثل قدر كبير من الكتابات الحداثية - عن جوانب من الاستجابة الجنسية للأنثى، والتي كانت غائبة بشكل كبير عن الرواية في القرن التاسع عشر.
إنه يطلق عليها أثدية. اضطررت للضحك. نعم إن هذا الشخص على أي حال يجعل حلماتي تتيبس. على أقل تقدير سأجعله يواظب على ذلك، وسوف أتناول تلك البيضات المخفوقة مع المارسالا كي أجعلهما سمينين من أجله. ما كل هذه الأوردة والأشياء وطريقتها الغريبة في تشكيل رقم 2، مثلما الحال مع التوائم؟ من المفترض أنها تمثل الجمال مثل تماثيل النساء الموجودة في المتحف، والتي يتظاهر أحدها بإخفائها بيده. إنها في غاية الجمال بالطبع مقارنة بهيئة رجل حقيبتاه مملوءتان، وشيئه الآخر متدل منه أو بارز نحوك مثل مشجب للقبعات؛ لا غرابة في أن يخفوه بورقة ملفوف.
تعبر فيرجينيا وولف - بشكل واضح - عن فكرة أنه بمقدور الفنان بهذه الطريقة أن يصنع مكسبا معرفيا لنا جميعا في إطار الواقعية السيكولوجية، وهي تعد علامة على تحول مفاهيمي نحو استكشاف للأفكار الفلسفية الخاصة بشأن الذاتية، وهو التحول الذي من شأنه أن يحدث تغيرا في النموذج في مفهوم القرن العشرين للذات؛ ففي الروايات الواقعية، بحسب تعبيرها:
كل المدن من شتى الأنواع مجسدة، وعدد لا يحصى من المنشآت؛ فنرى مصانع وسجونا وإصلاحيات ومحاكم ومجالس برلمانية؛ صخبا عاما، صوت الطموح والسخط والجهد والصناعة يتصاعد من الكيان ككل، ولكن في وسط كل هذه الكتلة الضخمة المختلطة من الصفحات المطبوعة، وسط كل هذه المجموعة من الشوارع والخيول، ليس ثمة رجل أو امرأة نعرفه.
بعد ذلك، تتخيل وولف نموذجا للسيدة براون تجلس قبالتها في عربة قطار، مثلما قد يصفها إتش جي ويلز، أو جون جالزورثي، أو أرنولد بينيت؛ فقد بدا هؤلاء المؤلفون لها ذوي «قيمة عظيمة ، وأهمية كبيرة»، ولكن كتبهم «تترك المرء بشعور غاية في الغرابة بالنقصان وعدم الرضا، ومن أجل إكمالها يبدو ضروريا أن نفعل شيئا؛ أن ننضم لجمعية، أو الأكثر إحباطا؛ نكتب شيكا!» بعد ذلك تتجه وولف لوصف كيفية تناول هؤلاء الروائيين الثلاثة لشخصية السيدة براون بشكل غير واف، ولكن «تصوير السيدة براون بدقة» هو عنوان الفصل التالي في تاريخ الأدب. «دعونا نتنبأ مرة أخرى، سيكون هذا الفصل هو الأهم، والأكثر شهرة، والأكثر مصيرية.» وقد تم هذا «التصوير الدقيق» بنوع جديد إلى حد رائع وبعيد بالكلية عن أسلوب جويس القائم على إيقاظ الوعي؛ وذلك من خلال وولف ذاتها في رواياتها بداية من رواية «غرفة جيكوب» فصاعدا. وكان السبب الأساسي لاتباعها هذا الأسلوب أنه كان أكثر انطباقا على شخصية السيدة براون، وأنه قد حافظ أيضا على كبريائها الداخلي والعادي للغاية (مثلما تفعل الأفكار المجنونة لسبتيموس سميث أيضا في رواية «السيدة دالواي»).
كان هناك توحد بين الموسيقيين والكتاب والرسامين في هذا الاهتمام بطبيعة الخبرة الخاصة في إطار الظروف الحديثة، لا سيما في إطار المدينة. وفي ضوء هذا، لا بد لأذهاننا أن تستحضر قصيدة «الأرض الخراب»، بوصفها استكشافا للطبيعة الخاصة المذهبية والمضطربة عصابيا لتجربة إليوت مع الجنس في لندن، ولا بد بالمثل أن نكون على وعي بطبيعة الخلفية، ولكن بأقل درجة من الوعي بالهواجس الشعورية حين ننظر إلى استجابات بلوم ومولي وستيفن المختلفة تجاه دبلن في «يوليسيس»، أو الإخوة الثلاثة في رواية فوكنر «الصوت والغضب»، أو السيدة دالواي وهي تقطع شارع بيكاديللي وبوند؛ فليس لدينا فقط إدراك لانشغال عقل شخص آخر يمكن أن يثير مشاعر مهمة أخلاقيا وسياسيا بالتجانس والتعاطف، بل أيضا إدراك بتقدير هوية إحساس لغوي فردي داخل بيئة ثقافية معينة. إن الأمر لا يكمن في غياب المشاعر الخارجية، وإنما يكمن في رؤيتها من منظور فرد ما؛ ومن ثم إلغاء أو تجاهل (أو توقع) المعرفة الواقعية لكاتب موثوق، ولكن ما يعرفه هؤلاء الواقعيون النفسيون هو شيء مختلف: ... بج بن تدق. هناك! ها هي وقد انطلقت ترن عاليا. كنذير في البداية، يتماوج موسيقيا، ثم الساعة لا مسترد لها. الدوائر البطيئة المثقلة ذابت في الهواء. قالت في نفسها وهي تعبر شارع فيكتوريا: ما نحن إلا مغفلون. ذلك أن الله وحده هو من يعلم لم يحب المرء الدنيا هكذا، وكيف يراها المرء هكذا؛ يختلقها اختلاقا، يبتنيها حوله، يقلبها ويثنيها، يخلقها في كل لحظة من جديد. لكن إرث النسوة البائسات جلوسا عند العتبات (يواجهن سقوطهن) يفعلن الشيء ذاته. شعرت بيقين داخلها من أن أمرهن هذا لا يمكن تدبره بقوانين برلمانية لهذا السبب بالذات: إنهن يحببن الحياة. والحياة في عيون الناس، في التبختر والتسكع والتثاقل في المشية، في الصياح والصخب، والعربات والسيارات والحافلات والشاحنات، وجملة لوحات الإعلان على الصدور والظهور وهم يجرون أقدامهم ويتمايلون، والفرق النحاسية، والأرغن اليدوي الدوار، وفي النصر والرنة والنشيد الغريب العالي لطائرة ما فوق الرءوس؛ هي ما تحب؛ الحياة، لندن، هذه اللحظة من يونيو.
إن احترام «وجهة النظر الذاتية» للفرد، وعدم الثقة بالتجانس والوعي الجماعي (مثل الحكم السياسي ل «المواطن» في رواية «يوليسيس»، والافتراضات الطبية المهنية للطبيب برادشو في «السيدة دالواي») جانب أساسي من الحداثة؛ فالعديد من الروايات المهمة تبحث وجهة نظر وعي معين: ستيفن في رواية جويس، ومارسيل في رواية بروست، وهانز كاستورب في رواية مان، وليلي بريسكو في رواية وولف، وفرانز بيبركوف في رواية ألفريد دوبلين، ورواية «رجل بلا صفات» لروبرت موزيل. والشعراء؛ أمثال والاس ستيفينز، وويليام كارلوس ويليامز، ودبليو بي ييتس، وتي إس إليوت، ورينر ماريا ريلكه، وجوتفريد بن، وكثيرون آخرون، حملوا داخل أنفسهم معرفية العصر الجديدة، مثلما فعل الرسامون الذاتيون من فاسيلي كاندينسكي حتى سلفادور دالي وماكس إرنست، والموسيقيون أمثال أرنولد شونبرج وآلبان بيرج.
ينظر إلى نمو تحليل وجهة النظر الذاتية بنظرة فلسفية لدى برجسون، وبنظرة سيكولوجية لدى فرويد، ولكن تم تتبع أثره بأقصى درجات الدقة في الاعتماد الذاتي على الذات للفن الحداثي، الذي وضع حدودا لهذا النوع من علم النفس، وأيضا تتبع أثر التحرر المتنامي للفرد المعبر أو المبدع من أشكال الاعتقاد المقبولة اجتماعيا (كما في الصورة التي رسمها جويس لنفسه في شخصية ستيفن ديدالوس)، أو أعطى للقارئ حسا عميقا بوجود هوية تختلف أو تنشق. ولعل الأكثر إثارة، فيما يتعلق بسياسات قراءتنا حتى الآن، هو هويات النساء، مثلما تبين بطلة رواية تيار الوعي الضخمة ذات الأجزاء لدوروثي ريتشاردسون، ومولي بلوم، والسيدة دالواي، وليلي بريسكو.
التجلي والرؤية
يكمن الأمر الأكثر إثارة للدهشة في هذا الأسلوب في شيء يمكن للمرء، تبعا لجويس، أن يطلق عليه الاعتماد على خبرة التجلي. يمكن تعريف هذا بشكل فضفاض بوصفه كشفا يتحقق، ليس من خلال التفكير الاستطرادي، ولكن من الفهم الذاتي الدقيق لشيء هو «خاص» بالكلية. بالطبع توجد دلائل على هذا التقليد الأدبي، من ويليام ووردزورث وجيرارد مانلي هوبكينز والرمزية الفرنسية، ومن جورج إليوت حتى جوزيف كونراد، ولكن جويس قام بتأسيس عملية نفسية كانت في طريقها لأن تكون محورية بالنسبة إلى الفن الحداثي.
هذه هي اللحظة التي أدعوها التجلي. في البداية، ندرك أن الشيء المادي هو شيء «واحد» كامل لا يتجزأ، ثم ندرك أنه بنية موحدة منظمة؛ «شيء» في الحقيقة، وأخيرا حين تصبح العلاقة بين الأجزاء أروع ما يكون؛ حين تتواءم الأجزاء مع النقطة الخاصة، ندرك أن ذلك «الشيء» هو المقصود؛ فروحه، ماهيته تقفز إلينا من الثياب التي تغطي مظهره؛ فتبدو لنا روح أتفه الأشياء، التي تتسم ببنية متألقة شديدة التواؤم. إن الشيء يحقق تجليه.
من شأن هذه الحجة أيضا أن تقدم تفسيرا للتأثيرات المقصودة للفن التجريدي ورسم الطبيعة الصامتة، ويمكن أن تكون رسما تخطيطيا مبكرا لمفهوم بلومزبري عن «الشكل الدال»، ولكنها تعتبر عاقبة أخرى، أو نظرة متبصرة داخل طبيعة الواقع، الذي يعد أمرا محوريا بالنسبة للتجلي الأدبي؛ إذ يظهر لدى جويس، ومان، ووولف، وجان بول سارتر وآخرين. ويميل جويس لاعتبارها عملية نفسية من الانفصال الجمالي (التي تنحدر أصولها من والتر باتر) «يعطل» فيها العقل، و«يرتقى به عن الرغبة والنفور» داخل «علاقات المعقول والمدرك» (الذي يسري جيدا - بشكل خاص - على فهمنا للفن مثلما تنطبق على فهم موندريان له ).
ولكن المثال الذي يطرحه ستيفن في رواية «لوحة فنان» هو مثال كانطي للغاية، وهو المثال الخاص بالنظر إلى سلة عادية: «تنتقل من نقطة إلى نقطة، تقودك خطوطها الجامدة فتدركها كجزء متوازن مع جزء آخر داخل حدودها، وتشعر بإيقاع بنيتها؛ أنها «شيء»، وتدركها كمركب معقد، متعدد، منقسم، منفصل مؤلف من أجزائه، وناتج أجزائه ومجموعه هو ما يسبب تناسقه. وهذا هو «التناسق».»
وتمنح وولف هذا النوع من الإدراك مدلولا أعظم بكثير وأقل شكلية، وترى علاقة الشيء ببقية العالم كعلاقة قد تكون كاشفة:
كنت أنظر إلى حوض الزهور بجوار الباب الأمامي؛ قلت: «ذاك هو الكل.» كنت أنظر إلى نبات ذي أوراق ممتدة، وعلى حين غرة بدا واضحا أن الزهرة ذاتها كانت جزءا من الأرض، وأن حلقة كانت تحيط بالزهرة. كانت تلك الزهرة الحقيقية؛ جزء منها هو الأرض أو الحوض المحيط بها، وجزء منها هو الزهرة نفسها، وكانت تلك فكرة احتفظت بها لعلها تفيدني كثيرا فيما بعد.
وقد كانت مفيدة بالفعل:
أشعر أنني قد تلقيت ضربة، ولكنها ليست ضربة، مثلما كنت أظن في الطفولة، مجرد ضربة من عدو مختبئ خلف تفاصيل الحياة اليومية؛ فهي بمنزلة، أو سوف تصبح بمنزلة، كشف لنظام ما. إنها رمز لشيء حقيقي ما كامن خلف المظاهر، وأنا أجعله واقعيا بصياغته في كلمات ... ... إنها النشوة التي أكتسبها حين يتبدى لي أثناء الكتابة أنني بصدد اكتشاف أي شيء ينتمي لأي شيء، أو تأليف مشهد ما بشكل صحيح، أو تركيب خيوط شخصية معا. ومن هذا أتوصل لما أطلقعليه فلسفة. إنها على كل حال فكرة ثابتة لدي أن خلف التفاصيل يكمن نمط، وأننا - أعني بذلك كل البشر - مترابطون من خلال هذا النمط، وأن العالم بأسره هو عمل فني، وأننا جزء من العمل الفني. إن «هاملت» أو رباعية بيتهوفن هي حقيقة هذه الكتلة الضخمة التي نسميها العالم، ولكن لا يوجد شكسبير، ولا يوجد بيتهوفن، وبالتأكيد وبالقطع لا يوجد رب؛ فنحن الكلمات؛ نحن الموسيقى؛ نحن الشيء ذاته. وأنا أرى هذا حين أتعرض لصدمة.
إن هذه الرؤية الحدسية الخاصة بي - التي يبدو من فرط غريزيتها وفطريتها أنها قد وهبت لي وليست من صنعي - قد أضفت ظلالها على حياتي منذ رأيت الزهرة في الحوض بجوار الباب الأمامي في سانت آيفز.
إن ما تقوله وولف يعكس شكا عاما للغاية ساد في القرن العشرين بشأن الادعاءات الجماعية للفلسفة والدين والأيديولوجيا بوجه عام. فالفرد هو من ينظم التجربة مانحا إياها ترابطا منطقيا أقرب لترابط عمل فني أو سرد، وليس ترابط الفلسفة أو الدين. إن «الذات» ليست ملخصا سائرا على قدمين للمبادئ الأخلاقية والفضائل والرذائل - أي المشهد الخارجي - ولكنها شيء يحتفظ «بقصة» فرد ما. وهذا الترتيب الفني، الذي على الرغم من أنه محلي، فإنه غالبا ما يكون قويا وممتدا في آثاره بشكل غير عادي، كما لدى بروست على سبيل المثال، هو ما يعول عليه عدد كبير للغاية من الحداثيين.
إنه يدعم «رؤية» ليلي بريسكو النهائية في رواية «إلى الفنار»؛ فهي تحاول إكمال لوحة تضم «السيدة رامساي وهي جالسة على الدرج مع جيمس» (ولكن السيدة رامساي، التي تعد شخصية محورية في الجزء الأول من الرواية، كانت قد ماتت قبل ذلك بفترة). وتتميز «رؤيتها الكشفية» اللاحقة عن الحياة بتوازن رائع بين طبيعة الشيء المادي، والحدث التاريخي، وطبيعة الفن في منحه الترتيب. وربما كان هذا بالضبط ما يفعله فن الرسم، وربما لم يكن؛ لأنها هنا لا تفكر فحسب في رسمها:
حمدا لله أن بقيت مشكلة الحيز، هكذا دار بخلدها وهي تتناول فرشاتها مرة أخرى. بدت لها اللوحة متألقة، كانت كتلة اللوحة بأكملها مرتكزة على ذلك الوزن. من المفترض أن تكون جميلة وبراقة على السطح، وخفيفة وباهتة؛ حيث يذوب لون داخل الآخر مثل ألوان جناح الفراشة، ولكن من أسفل لا بد أن تثبت أجزاء القماش معا بمسامير حديدية.
وبينما ترى من النافذة أن شخصا قد ولج إلى حجرة الرسم خلف اللوحة، وتخشى أن يفسد ذلك تصميم لوحتها الكنافا، يدور بذهنها أن:
شخصا ما (هكذا فكرت)، بينما تغمس فرشاتها بترو، أراد أن يكون على مستوى واحد مع الخبرة العادية، أن يشعر ببساطة أن ذاك كرسي، وتلك طاولة، ولكنها في نفس الوقت معجزة، نوع من النشوة. ربما تحل المشكلة برغم كل شيء.
تستهدف اللحظات المحورية في «الرباعيات الأربع» لإليوت - والتي تفترض مسبقا اعتقادا إنجيليكيا تقليديا - رصد خبرات وتجارب التجلي هذه، التي ترتكز على الرموز، وتتسم بالجمال الصريح، لا سيما بسبب الوعي الذاتي الاستثنائي للشاعر بلغة الشعر الذي ينظمه، والتي هي في ذاتها موضوع الجزء الأخير من كل «رباعية»؛ ولذلك جاء في نهاية رباعية «نورتون المحترقة»:
تتحرك الكلمات، تتحرك الموسيقى
في الزمن فقط، ولكن ذلك الذي يعيش
لا يملك إلا أن يموت. والكلمات، بعد قولها، تصل
عبر السكون. ولكن بالشكل فقط،
يمكن للكلمات أو الموسيقى أن تصل
إلى السكون، مثل آنية صينية
تتحرك في سكونها للأبد.
تمنح القصيدة، الواعية بذاتها، معنى رمزيا لهذا السكون الغالب على القصيدة بأكملها، والتي تزخر بالأفكار الرمزية المتكررة؛ ولذلك تلمح ضمنا إلى أفكار لاهوتية، وتشير هنا إلى فكرة الرب «كمتحرك ساكن». ولذلك نجد أيضا لهذا التأمل الكيتسي في استقلالية العمل الفني دلالاته الميتافيزيقية الأعمق أيضا. والاعتماد هنا على مفاهيم الشكل والنمط يشير مجددا - بشكل قوي - إلى «الشكل الدال» المثير للتأمل للفن التجريدي. كذلك تستغل القصيدة التجريد غير اللفظي للموسيقي؛ أي موسيقى حركتها الشعرية الخاصة، وكذا استخدامها لرمزية موسيقية، مرة أخرى لها دلالات لاهوتية، والتي مع ذلك ينظر إليها بوصفها ذات جذور راسخة في تجربة تجل فردية بشكل كبير:
لا سكون الكمان، بينما يتردد النغم
لا ذاك وحده، بل الوجود،
أو لنقل إن النهاية تسبق البداية،
والنهاية والبداية كانتا دائما هناك،
قبل البداية وبعد النهاية.
كل شيء هو دوما الآن.
وبحسب تعبير كيرمود، فإن الشيء الطاغي هنا هو «المفهوم الرمزي للعمل الفني ككيان أحادي الجوهر، كنتاج لأسلوب معرفي يتفوق على أسلوب العلوم ويختلف عنه.» وقد كانت «الرباعيات الأربعة»، من أوجه عدة، هي القصيدة الرمزية التي أراد ستيفان مالارميه أن يكتبها.
ربما يكون التجلي الحداثي له طابع متصوف بعض الشيء، ولكنه ليس لاهوتيا بالضرورة ، مثلما يوضح جان بول سارتر في روايته «الغثيان» التي استغرق في تأليفها الفترة من عام 1931 حتى 1936، ونشرت في عام 1937. فعلى غرار وولف وإليوت، يرى سارتر الفن كنموذج للنظام من خلال راويه؛ المؤرخ المحلي أنطوان روكنتان: «أجل. هذا ما كنت أريده - مع الأسف! هذا ما أردته. كم تغمرني السعادة حين تغني زنجية [«يوم من هذه الأيام»]: فأي قمم لم أكن لأدركها لو كانت «حياتي الخاصة» هي مادة هذا اللحن!» ثم:
هذا ما فكرت به: لكي يصبح أتفه حدث مغامرة، يجب ويكفي أن يبدأ المرء في «سرده». وهذا ما يخدع الناس. إن الإنسان دائما هو سارد حكايات، وهو يعيش محاطا بقصصه وقصص الآخرين، وهو يرى عبرها كل ما يحدث له، ويسعى لأن يعيش حياته كما لو أنه يحكيها.
ولكن لا بد أن يختار بين أن يعيش أو أن يحكي.
وهذه الجملة الأخيرة هي المفتاح للتحرر الوجودي من صياغة جمالية حداثية للحياة، والتوجه نحو نوع من العفوية الحياتية، والتي تتحول إلى مسئولية وجودية. إن ما واتى روكنتان من «كشف مفاجئ ... بأنه سعيد كبطل رواية» نابع من شعور من المصادفة التامة، بينما اقتيدت وولف إلى شعور مقبول ميتافيزيقيا بالترابط (ووجود علاقة بالشيء المادي). فيرى روكنتان أن:
الكينونة قد كشفت فجأة عن نفسها. كانت قد فقدت صفتها كفئة مجردة، كانت جوهر الأشياء. كان ذلك الجذر متأصلا في الكينونة، أو - على الأصح - كان الجذر، وحواجز الحديقة، والمقعد، والعشب النادر، كل ذلك قد تلاشى. لم يكن تنوع الأشياء وفرديتها إلا مظهرا؛ طلاء. وهذا الطلاء كان قد ذاب، فبقيت كتل ممسوخة رخوة في غير انتظام؛ عارية عريا فظيعا داعرا ...
لقد كنا كومة من الكائنات المنزعجة المرتبكة، ولم نكن نملك أي سبب لنكون هنا، لا نحن ولا الآخرون، وكان كل كائن قلقا مضطربا يحس نفسه زائدا عن اللزوم بالنسبة للآخرين.
تستهل الفقرة التالية بعبارة: «إن كلمة عبثية تولد الآن تحت قلمي.» ومعها تولد وجودية ما بعد الحرب، بما لها من التزامات أخلاقية وسياسية تحولت من طريقة حداثية إلى طريقة بعد حداثية لرؤية الكون، فكان الكون بالنسبة للحداثيين، على أقصى تقدير، وحدة موحدة كعمل فني. أما بالنسبة للوجودي الملحد، فهو كيان عارض على نحو تهكمي؛ إذ لا يشكل أي معنى سوى معنى هزلي، وليس به مكان خاص للبشر الذين يحاولون عبثا التوصل إلى تفسير سردي له. ومثلما يفعلون في كتابات ألبير كامو وصامويل بيكيت، اللذين ربما يجدان أو لا يجدان، في الحياة ما هو أكثر إرضاء من استنتاج روكنتان هنا: «كل كائن يولد بلا سبب، يطول به العمر عن ضعف منه، ويموت بمحض المصادفة.»
لكل هذه الأعمال أواصر تربطها بالأطر الاجتماعية للاعتقاد، ولكن الحداثة الرفيعة الحالمة التي تفند تلك الأطر اعتمدت - بشكل شبه كلي - على القيمة الرفيعة للغاية التي علقتها على تكامل الرؤية الفردية الذاتية للحياة، وهي الرؤية التي سوف تتعرض- كما سنرى - لقدر حاد من الضغط والاختبار بفعل المطالب السياسية في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي تثور ضدها الفردية الوجودية.
الأبطال الحداثيون
تتبعت في الجزء السابق بعض خبرات وتجارب التجلي من خلال ثلاثة كتاب في الأدب الإنجليزي، ثم انتقلت إلى سارتر، باعتباره يمثل نقلة كبيرة في مفهوم التحول الوجودي. ولكن ثمة خط مشابه للغاية للتطور كان يمكن تبيانه لجميع الآداب الأوروبية الأساسية، على سبيل المثال في تطور مارسيل حتى التجليات الأخيرة لرواية بروست «البحث عن الزمن المفقود»، ومرورا بسرد أندريه جيد الانعكاسي الواعي بالذات لصنع الرواية في «المزيفون»، حتى سارتر، أو من رؤيا أشنباخ الأخيرة في المنام في رواية مان «الموت في البندقية»، ومرورا بتجارب فرانز بيبركوف في رواية «ميدان ألكسندر في برلين» (التي تدين بقدر ضخم لرواية جويس «يوليسيس»)، ووصولا إلى الرؤى التي ربما تكون الأخيرة، ولكنها لم تكتب قط في النهاية، لأولريش في رواية روبرت موزيل «رجل بلا صفات».
تعد مثل هذه التطورات أساسية لجزء كبير من العمل الحداثي، وبخاصة للنوع البعيد تماما عن العادي للوعي الذاتي ذي الطابع البطولي الذي أظهره العديد من أبطاله؛ ومن ثم، على سبيل المثال، يأتي الحل لاضطرابات هانز كاستورب الفلسفية في «الجبل الذهبي» في شكل تجربة أشبه بالحلم وسط عاصفة ثلجية.
ويعد هذا الحلم الأخير الذي يستقى من «مولد التراجيديا» لنيتشه بمنزلة رؤية مقتصرة على لحظة معينة، فيما يسميه ستيرن «اللحظات المميزة على هوامش الحياة العادية». فنراه يدرك بعد التدبر في الحجج والمجادلات التي سمعها (والتي وضعها لنا مان بخط مائل) أنه «باسم الخير والحب، لا يجب أن يدع الإنسان فكرة الموت تسيطر على أفكاره». ولكن هذا هو الاستنتاج النهائي لعدد من التأملات بشأن تجربته الشبيهة بالحلم، وفيها «نحلم بلا أسماء، وفي صورة جماعية، إن لم يحلم كل واحد منا وفق أسلوبه. إن الروح الكبيرة التي نحن جزء منها قد تحلم من خلالنا». ثمة جانب للإنسانية تتجاهله الواقعية ويراه كاستورب في الثلج. ولعل في الاستنتاج النهائي الذي مفاده أن «الإنسان هو سيد النقائض»؛ لأنها «تتخلله، وهو أكثر نبلا منها»، تشابها كبيرا مع استنتاج ييتس في المرحلة الثالثة عشرة من «رؤية». كاستورب، في النهاية، قبل أن يستبد به التاريخ على ساحات معارك الفلاندرز، ينضم إلى ستمبريني، ذي النزعة الإنسانية المتحررة: الحياة هي ما نفسره بأنه الوجود. ليس لها مصدر خفي أو سام للمعنى.
بالطبع يعتبر هنري جيمس السلف الأبرز هنا، بعد أن ركز رواياته على البطل أو البطلة اللذين يجمعان بين الحيرة والذكاء في ذات الوقت في «صورة سيدة»، و«السفراء»، و«الإناء الذهبي». ولكن ستيفن ديدالوس، والزوجان بلوم، ورجل موزيل عديم الصفات، الموصوف بأسلوب ساخر، وآخرين، والأبطال السيرياليين، كما سنرى، داخل وخارج الفن، في الأدب وفي الرسم، جميعهم مر بهذا النوع من التجارب، ولكنهم لا يميلون لأن يكونوا أبطال حركة، فكما يعلق كوينونز، هناك «غياب للإرادة» لدى مارسيل، وكاستورب، وبلوم، وتيرسياس، وجيكوب، والسيدة دالواي، والشخصيات الست في رواية «الأمواج»؛ فهم يميلون لأن يكونوا «مشاهدين متأملين وسلبيين وغيريين ومتسامحين». وبحسب تعبير تشارلز راسل:
بشكل موضوعي، تقدم الروايات الحداثية شخصيات دائما ما تواجه بيئة مدمرة، وربما عديمة المعنى، مثلما تفعل شخصيات هيمنجواي، ووولف، وموزيل، وبيكيت، دون ملاذ يلجئون إليه سوى بطولة شخصية، أو شعور بربري، أو وعي معرض للخطر.
في رواية «المحاكمة» لكافكا، نحاصر حصارا خانقا داخل الاستجابات الذاتية للبطل كيه، دون ارتياح أو طمأنينة بشأن الطبيعة الفعلية للواقع الذي يواجهه، بينما يعاني داخل عالم سخيف ظاهريا، ولكنه مهلك فعليا. وحيرته واستسلامه إزاء كل الإجراءات المفترض أنها «قانونية»، والتي تحيط به، راسختان بشكل مريع داخل عقله، الذي لا يسعه عند إقبال جلاديه عليه مرتدين قبعاتهم العالية السوداء إلا أن يقرر أن «يبقيه صافيا حتى النهاية». ويتم ذبحه في «محجر صغير».
هل كان العون متاحا؟ هل كانت توجد حجج في صالحه تم التغاضي عنها؟ بالطبع لا بد أن يكون ذلك موجودا. إن المنطق ثابت بلا شك، ولكن لا يمكنه أن يقاوم رجلا يريد مواصلة الحياة. أين كان القاضي الذي لم يره قط؟ أين كانت المحكمة العليا التي لم يستطع الوصول إليها أبدا؟
لقد جاءت ردود أفعاله بالنسبة لكثيرين بمنزلة رمز لكل ما يثور من غضب وحيرة جراء إجحافات البيروقراطية، والحكومة، والاضطهاد العرقي في القرن العشرين، والعار. وبموت كيه، «يكون كأنما أراد أن يخلد العار الذي لحق بالبشرية.» وأتفق في الرأي مع كوينونز أن:
خلق هذه الأشكال المحورية المعقدة من الوعي يشكل واحدا من أكبر إنجازات الحداثة، وهو إنجاز مصيري ضخم من عدة أوجه؛ ففي هذه الشخصيات وأسلوبها في الإدراك والتمييز، قدم لنا شكل الفكر لأربعين عاما قادمة من ثقافتنا تقريبا؛ أي أكثر من جيلين. لقد قدم لنا شكل إنسان القرن العشرين.
إن قدرا ضخما مما يراه بلوم هو حداثة في الواقع؛ فهو - على عكس بروفروك وهيو سلوين موبرلي، وحتى السيدة دالواي - «أداة مثالية للتعبير عن تنوع، وتدفق، وتأويل، وتزامن وعشوائية التجربة».
وهذا الانتباه للوعي، بالنسبة للحداثيين، هو انتباه أتاح لهم أيضا إعارة انتباه أكبر كثيرا للاستجابة الجنسية؛ ومن ثم لمشكلات العديد من الحداثيين مع الرقابة، لا سيما بالنسبة لدي إتش لورانس، الذي سعى نحو ما رآه نوعا جديدا من تمثيل الجسد (الذي لأجله ابتكر لغة جديدة - محتشمة نسبيا - إلى أن كتب نسخته الثالثة من قصة «الليدي تشاترلي »). ويرى لورانس ذاتيته الجديدة هذه كشيء يهدف إلى الوصول إلى حقائق مستقلة عن النماذج الأخلاقية المضللة التي توجد حتى في أعظم أجزاء التقليد الأدبي؛ ففي بيان شهير عن المقصد، وهو خطابه إلى إدوارد جارنيت في يونيو 1914، يقول إنه قد انبهر بقائد الحركة المستقبلية مارينيتي، واستهدافه الوصول إلى «فسيولوجيا حدسية للمادة»؛ لأن:
ما هو حسي ولا إنساني، في الطبيعة الإنسانية، أكثر إثارة لي من العنصر الإنساني الذي عفا عليه الزمن، والذي يدفع المرء إلى تصور شخصية ما في قالب أخلاقي معين، ويجعله متوافقا معه. وهذا النموذج الأخلاقي المعين، لدى تورجنيف، ولدى تولستوي، ولدى دوستويفسكي، هو ما أعارضه.
وقد كان اهتمامه الأساسي منصبا هنا على الاستجابات الجنسية للنساء:
لا أعبأ كثيرا بما «تشعر» به النساء؛ فهذا يفترض مسبقا وجود «أنا» للشعور بها. فقط أهتم بماهية المرأة - ما هي - على المستوى اللاإنساني، والفسيولوجي، والمادي، ولكن بالنسبة لي، ينصب الاهتمام على ماهيتها كظاهرة (أو كتمثيل لإرادة لا إنسانية أكبر)، بدلا مما تشعر به وفقا للمفهوم البشري.
ومن ثم:
لا بد ألا تبحث في روايتي عن «الأنا» الثابتة القديمة للشخصية؛ فهناك «أنا» أخرى، والتي وفقا لفعلها لا يمكن تمييز الفرد. وتمر، إن صح التعبير، بحالات متحولة تحتاج فيها الأنا إلى إدراك عمق أكبر مما اعتدنا استخدامه، لتكتشف أنها حالات لنفس العنصر الفردي الثابت بشكل جذري.
وقد دفع هذا الناقد ميدلتون موراي، صديق لورانس، إلى الادعاء في نقده للرواية بأنه لم يستطع التمييز بين الشخصيات في رواية «نساء عاشقات» (وكان نموذجا لإحداها)، ولكن هذا أكد بطريقة ما على أصالة أسلوب لورانس في تناول الأشخاص داخل جسد؛ لا سيما في وصفه الشديد الرمزية للصراع بين بطلته أورسولا وبين سكربينسكي المادي، الإمبريالي، الصارم، عند دخولهما في علاقة غرامية في رواية «قوس قزح»:
كان يجاهد خفية، ولكن بكل ما أوتي من طاقة، لكي ينال منها. وكانت هي على الدوام متقدة ومتوهجة وصلبة مثل الملح، ومهلكة، ولكن بعناد وتشبث. كان كل لحمه يحترق ويتآكل كما لو أن سما زعافا مستنزفا قد احتل جسده، غير أنه ظل يقاوم ظنا منه أنه قد يتغلب عليها في النهاية. وحتى وهو في أوج هياجه، كان يبحث عن فمها بفمه، رغم أن الأمر بدا وكأنه يضع وجهه في موت شنيع. استسلمت له، وضغط نفسه عليها بحدة، وراحت روحه تئن أكثر وأكثر: «دعيني أقذف، دعيني أقذف.»
أغرقته في قبلة، وأطبقت قبلتها عليه بصلابة. كانت قبلة صلبة وعنيفة وأكالة مثل ضوء القمر ... وتلألأت روحها بنشوة النصر ...
حذفت عبارة سكربينسكي «دعيني أقذف» لدواع رقابية من الطبعة الأصلية الصادرة عام 1915، والتي لاقت استهجانا من قبل العديدين، في الواقع، بوصفها «تهديدا لصحتنا يفوق تهديد الأمراض الوبائية»، وتمت ملاحقتها قضائيا بتهمة الإباحية، وتم سحبها من التداول. كانت مشكلة لورانس الأساسية تكمن في توضيح أن تطور استجابات بطلاته للحياة كان «فسيولوجيا» بشكل قاطع؛ ومن ثم تنحدر تحت المستويات الطبيعية للوعي. ويمكن استحضار هذا إذا لزم الأمر بمصطلحات رمزية، كما في مواجهة أورسولا المنطوية على تجل مع الخيول في نهاية الرواية؛ ومن ثم تجد أن الحب ليس مجرد إثارة جنسية (الفصل الحادي عشر)، أو نرجسية مجتمع ميكانيكي فاسد (الفصل الثاني عشر)، أو المثالية في العلاقات الشخصية (الفصل الثالث عشر)، أو دفء الأسرة الراكد (الفصل الرابع عشر)، أو حتى «نشوة جنسية سوداء» لا تشرك سوى جزء واحد من النفس (الفصل الخامس عشر). وأسلوب التعبير هنا ليس واقعية بينيت وآخرين، ولكنه رمزية حالمة؛ إذ تمر أورسولا بعلاقة حب في المراهقة، وعلاقة سحاقية، وعامين كمعلمة تحت التدريب، وخطبة فاشلة، وثلاث سنوات كطالبة جامعية، وفقدان طفل، كل ذلك كجزء من مسار لإدراك الذات؛ الذي يعد قيمة حداثية عظيمة، ومناقضة، إلى الحد الذي تستطيع أورسولا التعامل معه، للخضوع لأي قوى سياسية أو مؤسساتية.
في عالم الجنس، كان على لورانس أن يفعل كل هذا دون الاعتماد على مجرد الوصف الحسي الخارجي والعبارات المبتذلة للفن الإباحي، وهو تحد واجهه بشكل خاص، على سبيل المثال، في فصل «استطراد» في رواية «نساء عاشقات»، والذي ربما كان يصف فيه اختراق شرجي بين بطله بيركين وأورسولا. وكثيرا ما أشير إلى مساوئ مثل هذه المشاهد الجنسية، باعتبارها مكتوبة من وجهة نظر ذكورية متسلطة، من جانب النقاد المؤيدين للمساواة بين الجنسين، ولكن الإنجاز الفني في هذه الرواية (والمشابه بشكل استثنائي لما حاول ويندهام لويس القيام به في عمله الأكثر عنفا وشوفينية بكثير «تار» [1914]) هو الأهم بالنسبة لحداثة لورانس، في الترويج لتوجهات جديدة ومتحدية إزاء العلاقات الجنسية، من خلال ابتكار نثر شعري وتصويري وإيقاعي على نحو قوي، حتى وإن كان بمفردات يغلب عليها الهزل أحيانا نوعا ما. وكما أشار جوليان مويناهان:
من المؤكد أن لورانس لم يحالفه النجاح التام في المهمة البالغة الصعوبة الخاصة بتوضيح علاقة «ذواته اللاإنسانية» بالأدوار الاجتماعية من جانب، وبالقوى الحيوية من جانب آخر. وكانت الصعوبة فنية في جزء منها؛ فقد اضطر لورانس، برغم كل شيء، لابتكار أشكال جمالية جديدة من أجل الكشف عن جوانب جديدة للواقع ودراما الجوهر.
ومثلما يتوارى هنري جيمس خلف بطله لامبرت ستريذر (ولورانس خلف بطله بيركين في «قوس قزح» و«نساء عاشقات»)، نجد أن الوعي البطولي الأسمى في هذه الفترة هو الوعي البطولي للفنان العظيم، الذي يربط بقدر ما يجادل، والمتمكن من أساليب ووجهات نظر عدة، ويملك سخرية منقذة. وغالبا ما يكون الفنان هو البطل المتخفي للعمل (مثل: بروست في دور مارسيل المونولوجست، وجويس في دور «المنسق»، الذي علينا تقفي أثره؛ والروائيين في رواية جيد «المزيفون»، ورواية «نقطة مقابل نقطة» لألدوس هكسلي). تحتفي الكثير من الأعمال الحداثية أيضا بتحكم موسوعي إيجابي، وأحيانا مقالي، من جانب المؤلف، يوجد أيضا في «الجبل السحري»، و«دكتور فاوستس»، و«لعبة الكريات الزجاجية»، و«رجل بلا صفات»، وغيرها من الأعمال (وهي تجربة تفشل فشلا واضحا أحيانا، كما في روايتي «صحوة فينيجان»، و«الأناشيد»).
هذا التحكم الموسوعي غالبا ما يقترن ببراعة شكلية كبيرة، ولعل أشهر الأمثلة سيئة السمعة عليها في رواية جويس «يوليسيس»؛ حيث ساد اعتقاد واسع النطاق بأنها قد وضعت نهاية للرواية؛ إذ استنزفت إمكاناتها الفنية. والواقع أن البعض يعتقد أن هذه الشكلية سمة حداثية بارزة، وتمثل بطريقة ما أو بأخرى علامة على وجود تراجع عن التجريب إلى اهتمامات جمالية بحتة، ولكنني حاولت أن أوضح فيما سبق أن معظم التجارب الشكلية كان لها أهداف استكشافية، ومحاكية، ومعرفية (حتى في حالة الفن التجريدي، الذي يستهدف تغيير المشاهد من خلال المشاعر التي تثار خلال عملية التأمل والتدبر)، غير أنها الحالة التي يحذو فيها قدر كبير من الفن الحداثي حذو هنري جيمس وآخرين في تحري درجة عالية من الوعي الذاتي بشأن تطبيق إجراءاته.
توجد هذه البراعة الشكلية أيضا في الموسيقى والرسم، لا سيما لدى الكثير من الرسامين الحداثيين الذين عملوا في سلاسل اللوحات ذات الفكرة الواحدة، باستخدام التكرار والتنويع الموضوعي. وهكذا يمكننا «قراءة» التطور التسلسلي للحياة الجامدة التكعيبية، وتنويعات كاندينسكي العديدة على الأفكار الإنجيلية من خلال تجريد تقدمي، وتنويعات بيير بونارد التي تعرض مشاهد منزلية تجسد زوجته وهي تغسل أو تستحم، وبالطبع مواجهات بول سيزان المتعددة مع جبل سانت فيكتوار، واحتفاءات كلود مونيه بحديقته في جيفرني، والعديد من التنويعات من عام 1892 حتى 1926، على هذا النحو. كل هؤلاء الفنانين (ناهيك عن هؤلاء الذين أصروا، مثل دالي، على أن يروا كما هم) هم الأبطال الخفيون المستترون لمثل هذه الأعمال. فمن الواضح للغاية، على سبيل المثال، في «مجموعة فولار» للتشكيلات الحفرية لبيكاسو، أن ستة وأربعين منها، والتي كانت من صنع «استوديو النحات» نفذت فيما بين 1933-1934، وتحكي قصة عن العملية الإبداعية. وتظهر العديد من هذه التشكيلات شخصا يتأمل منحوتة مكتملة بطراز من التجسيد مناقض لطرازها. إن بيكاسو يفكر بشأن النحت عن طريق رسمه؛ ومن ثم طور في هذه المجموعة ميثولوجيا بسيطة، ووثنية، وتتخذ طابع الجنس في عصور ما قبل الميلاد. ففي واحدة منها، تنظر امرأة ذات جمال كلاسيكي إلى منحوتة سريالية مصنوعة من كرات، ووسادة، وأرجل طاولة وما إلى ذلك، وفي أخرى، يجسد إلها أو بطلا أوليمبيا ليرمز للفنان. وهو في إحدى النقوش إله للنهر يضطجع بجوار «ربات الرشاقة الثلاث». في هذه المجموعة، هناك تجسيد بمجموعة كبيرة من الأساليب ، وكلها أعيد تشكيلها بالعاطفة والمرح، والكثير منها مثير للشهوة؛ إذ تجسد مواقف جنسية بأسلوب واقعي أكثر منه تجريدي، وجميعها تفوح بذلك الإتقان للتقنيات المختلفة الذي يميز كبار الحداثيين.
لعل أكثر الأمثلة إثارة للدهشة، بعيدا عن «يوليسيس»، على الإجراءات الشكلية الشاملة، التي تدين بشدة أيضا للماضي؛ هو أوبرا «ووزيك» لآلبان بيرج، فنجد مشاهدها الخمسة عشر مقسمة بشكل متماثل إلى ثلاثة فصول، أعدت على شكل عرض، وتفاعل، ومحنة (وخاتمة)؛ ومن ثم تماثل شكل السوناتا. يضم الفصل الأول خمس مقطوعات موسيقية تعبيرية قصيرة، فيما أعد الثاني على هيئة سيمفونية. أما الثالث فعبارة عن سلسلة من الابتكارات الخاصة بالعناصر الموسيقية (الفكرة، والنغمة، والإيقاع، والنغمات المتآلفة، والمقام). وقد أدخل بيرج في الأوبرا أشكالا وقوالب كلاسيكية، بالأسلوب اللامقامي، مثلما حدث في الحقبتين الباروكية والكلاسيكية، ولكن دون أن يبدو وقعها ولو للحظة ساخرا أو كلاسيكيا مجددا. وكان بيرج حريصا مثل جويس على ضرورة أن يكون تصميمه الأساسي مميزا، فكان يرسل مخططا مع كل نسخة من المقطوعة، ولكنه واضح أيضا في أننا لسنا بحاجة لأن تكون لدينا القدرة على تمييز التنويعات الواحدة والعشرين على «باساكاجليا» في الفصل الأول، المشهد الرابع. فكما في «يوليسيس»، يمكن أن نستغرق تماما في التطور الدرامي للحبكة، وتلاؤم التعبير الموسيقي المتكشف تدريجيا مع الشعور؛ إذ يكمن في قلب البنية الكلية الوعي الشديد المحدودية والاضطهاد، والجلي بالكاد، والذي يصل في النهاية إلى حد الجنون، لدى ووزيك العاطفي الجاهل، بثقته الظاهرية في الله، ومعتقداته الخرافية بشأن مطاردة الماسونيين له، وهلاوسه بسبب النظام الغذائي الذي فرضه عليه الضابط قائده، وهو طبيب، وهذيانه بشأن الخطيئة، وأخيرا رده على قول زوجته ماري له حين يقتلها إن سكينا يخترق جسدها أفضل من أن تمتد عليها يد. وهي الفعلة التي يقدم عليها إثر قيام عشيقها، قائد فريق الاستعراضات العسكرية، بالتهكم عليه وضربه ضربا مبرحا، ويتعرض للغرق فيما بعد عند محاولته إخفاء سلاح الجريمة. وتحت هذه الميلودراما التعبيرية، في الموسيقى ذات الدراما والقوة غير العادية، يكمن تنظيم شكلي صارم واستحواذي بنفس القدر تقريبا. على سبيل المثال، اختيار فوجا ثلاثية للفصل الثاني، المشهد الثاني حددته الطبيعة العامة له؛ الذي تتبع فيه كل شخصية من شخصياته الثلاث هوسها الخاص، ومع ذلك فالصياغة التفصيلية لأفكار الفوجا الثلاث تعد أيضا انعكاسا دقيقا لمتطلبات النص والأداء المسرحي التي تظهر من لحظة للحظة. في الواقع، وكما يعلق دوجلاس جارمان: «إن هذا الانصهار المتناقض - فيما يبدو - للحسابات الفنية والعفوية العاطفية هو ما يضفي على موسيقى بيرج روعتها الغريبة.» ولعل النجاح الذي أحرزته الأوبرا عبر أنحاء أوروبا بعد عرضها الافتتاحي في برلين عام 1925، بقيادة كلايبر، هو الشيء الأبرز من حيث إنه جاء بمنزلة احتجاج ضخم نيابة عن الطبقة الفقيرة «المساكين» ضد نظام اجتماعي متوحش واستبدادي. وبحلول أول عرض لها في إنجلترا، تحت قيادة بولت في عام 1934، كانت قد حظرت في ألمانيا.
خلف كل هذا يكمن إيمان بقيمة العمل المنظم بشكل ذاتي، بوصفه تعبيرا ليس فقط عن تقاليده الجمالية تحديدا، ولكن أيضا عن قيمة محاولة إجراء توحيد متجانس وتنظيم للشخصية. فمع انتهاء قصصهم على التوالي، يستطيع ستيفن ديدالوس الطيران بشباك الوطنية والدين، ويتمكن كاستورب من الهبوط من على الجبل، ويتمكن إليوت من التوصل إلى برهان ديني إيجابي في النهاية المتأججة الموجزة لكامل الفكرة ل «الرباعيات الأربع». وهذه الانعكاسية سمة معروفة عن الحداثية؛ ومن ثم كانت ادعاءاتها بالثقافة الرفيعة غالبا ما ترتبط بقصة عن أشخاص، وبخاصة عن القوى المنظمة للعقل، ولا غرابة في أن ابتكار العديد من المناهج الشكلية الحداثية كان يعتقد أنه شبيه باكتشافات الرتبة في العلم. ويتبع ذلك أيضا اعتقاد بأهمية القصص التعليمية لكل من: مان، وجويس، وباوند، وجيد، وهيسه، ولورانس، ووولف، وموزيل، من بين آخرين، بالنسبة لمطلع القرن العشرين.
السريالية
تتطور هذه النزعات إلى حد متطرف في الحركة الحداثية المجددة جذريا التي ظهرت بعد عام 1918، وهي:
السريالية تعني آلية سيكولوجية خالصة، يعتزم بموجبها المرء التعبير لفظا، أو كتابة، أو بأي وسيلة أخرى، عن النشاط الفعلي للعقل. في السريالية، يكون الحكم للفكر، في غياب أي رقابة من قبل المنطق، وبعيدا عن أي انشغالات جمالية أو أخلاقية. موسوعيا، تقوم السريالية في الفلسفة على أساس الإيمان بالواقع الأسمى لأشكال أخرى من الربط لا تزال مهملة حتى الآن، بالقدرة الكلية للأحلام، بالعبث غير الموجه للأفكار. وهي تؤدي إلى الهدم المستديم لجميع الآليات السيكولوجية الأخرى، وللبديل المتوافر لديها لهذه الآليات في حل جميع مشكلات الحياة الأساسية.
لم يكن هذا هو التحدي اللاعقلاني الأول، ولن يكون الأخير، لثقافة قمعية يعتقد أنها تحتفي بالقوى الخاطئة (العقلانية، التابعة) للعقل. وتتضح مثل هذه المقاصد من خلال «البيان السريالي» الصادر عام 1924، لأندريه بريتون: «ما زلنا نعيش تحت ولاية المنطق ... ولكن في هذا اليوم والعصر، لا تصلح الطرائق المنطقية للتطبيق إلا لحل المشكلات ذات الأهمية الثانوية.» ومن ثم:
ربما يكون الخيال على شفا استعادة حقوقه. فإذا كانت أغوار عقولنا تحوي قوى غريبة قادرة على تعزيز تلك التي على السطح، أو على شن معركة ظافرة ضدها؛ فكل الأسباب متوفرة للاستحواذ عليها؛ الاستحواذ عليها أولا، ثم، إذا دعت الحاجة، إخضاعها لسيطرة عقلنا.
ولكن كيف يمكن تنفيذ هذا؟ كيف يمكن، على سبيل المثال، أن نصل إلى «آلية سيكولوجية خالصة» ونتوصل إلى اكتشافات في الفن؟ جزء من الإجابة السريالية عن هذا السؤال كان: من خلال الاستغلال «العلمي» للإجهاد البدني، والعقاقير، والجوع، والأحلام، والمرض النفسي (في خط ملحمي يبدأ من جورجيو دي شيريكو، وجاك فاشيه، ورايموند روسيل، مرورا بجاك كيرواك، وويليام إس بوروز، وتوماس بينشون، وكثيرين آخرين). وقد حاول الكثير من السرياليين أن يضعوا أنفسهم داخل هذا النوع من الأسلوب الاستقصائي (وهو الأمر الذي أحيانا ما كان يأتي بنتائج هزلية أكثر منها علمية، مثلما حدث عندما تنافس روبرت ديسنوس وماكس موريس ورينيه كريفل على الخلود إلى «نوم مغناطيسي»). ويقدم لنا كتاب يوجين جولاس «بحث في روح ولغة الليل» (1938) فكرة جيدة عن الأفكار البارزة المتضمنة: (1)
ماذا كان آخر أحلامك المميزة (أو أحلام اليقظة، أو الخيال الناتج عن هلاوس ما بين النوم واليقظة)؟ (2)
هل لاحظت أي خرافات أو رموز متوارثة في لاوعيك الجمعي؟
ربما يكون السؤال الثالث متأثرا بالأجزاء التي نشرت من رواية جويس «صحوة فينيجان»، في جريدة جولاس المسماة «ترانزيشن»: (3)
هل شعرت من قبل بالحاجة إلى لغة جديدة للتعبير عن خبرات عقلك الليلي؟
وقد أجاب تي إس إليوت عن هذا السؤال بقوله: «في الواقع لست مهتما بشكل خاص ب «عقلي الليلي».
شكل 3-1: سلفادور دالي/لويس بونويل، «كلب أندلسي» (1929). أكثر مرحا من المثال السريالي الشهير الذي يتضمن مظلة وماكينة حياكة على طاولة عمليات.
ثمة مثال عملي ظريف للنظريات السريالية جاء مع بدايات هذه الحركة، وهذا المثال يأتينا من خلال رواية لويس بونويل، لما قام به بالتعاون مع سلفادور دالي من وضع سيناريو لفيلم «كلب أندلسي» (1929) (الشكل
3-1 ): «ذات صباح أخبر كل منا الآخر عن أحلامه، وقررت أنها قد تكون فكرة الفيلم الذي أردنا تنفيذه.» كانا يعرفان أنهما «بحاجة لإيجاد حبكة». وقد كان الفيلم حقا بصدد التعويل على صوره الذهنية السريالية؛ لأن أي نوع من التنظيم العقلاني لم يكن واردا. قال دالي: «حلمت الليلة الماضية أن يدي عليهما حشد غفير من النمل.» وقلت: «وأنا حلمت بأنني أقطع عين أحد الأشخاص إلى نصفين.» هكذا يبدأ الفيلم. لكن كان هناك قيد أيديولوجي نشط لكليهما: «كانت الطريقة التي اتبعناها في الكتابة هي أخذ أولى الأفكار التي تقفز إلى رءوسنا، مستبعدين تلك التي بدت مصطبغة بثقافة أو أسلوب تربوي.» كانت المفاجأة والتحرر من القمع هما المعيارين الأساسيين، وقد أسفر عن المشهد الرائع للحمارين على البيانو.
على سبيل المثال، تنتزع السيدة مضرب تنس للدفاع عن نفسها ضد الرجل الذي يريد مهاجمتها. لذا يتلفت هو حوله بحثا عن شيء لشن هجوم مضاد و(هنا أتحدث مع دالي) «ما رأيك؟» «ضفدع طائر.» «سيئ!» «زجاجة من البراندي.» «لا تصلح!» «حسنا، أرى أن نستخدم حبلين.» «حسنا، ولكن ماذا بعد الحبلين؟» «يقوم بشدهما ويسقط على الأرض؛ لأنهما يجران شيئا ثقيلا للغاية.» «نعم، السقوط فكرة جيدة.» «مع الحبلين تأتي يقطينتان جافتان للغاية.» «وماذا أيضا؟» «اثنان من الإخوة المريميين.» «عظيم، اثنان من الإخوة المريميين!» «ماذا أيضا؟» «مدفع.» «سيئ! يجب أن يكون كرسيا فخما ذا ذراعين.» «لا، بل بيانو كبير.» «جيد جدا، وعلى البيانو الكبير حمار ... لا، بل حماران عفنان.» «رائع!»
تم استدعاء بونويل فيما بعد من جانب قائد الحركة السريالية بريتون، والذي أخبره أنه قد شاهد الفيلم وأعجب به، ولكن: «إنها فضيحة. البرجوازيون جميعا معجبون بك ... عليك أن تقرر الآن مع أي طرف أنت؟» يبدو الأمر الآن كدعابة «ولكنه كان مأساويا. وظللت على مدى الأيام القليلة التالية أفكر جديا في الانتحار.»
بإمكاننا إدراك بعض من التقاليد الفنية للحركة إذا ألقينا نظرة على شيء سريالي بسيط، مثل فنجان الشاي المبطن بالفرو الخاص ب «ميريت أوبنهايم» الذي ظهر عام 1936، والذي كان يسمى «إفطار بالفراء» (وهو عنوان أطلقه عليه بريتون استحضارا للوحة إدوارد مانيت «غداء على العشب»، وكتاب ليوبولد فون زاخر مازوخ «فينوس في معطف الفرو»). يذكر أن الطبق، وفنجان الشاي، والملعقة (وجميعها من يونيبريكس) مغطاة بالفراء. ولا عجب في اعتبار ذلك، في السياق الفرويدي، بديلا مخيبا للآمال للأعضاء التناسلية الأنثوية. ويكتب فرويد، في عمله عن الفيتيشية، عن «ولع بمنظر شعر العانة، الذي يتبعه بالضرورة اشتهاء رؤية العضو الأنثوي». وعدم امتلاك المرأة لهذا يؤدي إلى شعور المرأة برغبة في امتلاك عضو ذكري، وفقا لفرويد. وسواء اعتقدنا أو لم نعتقد أن لمثل هذه النظريات أساسا في الواقع، فإننا يمكن أن نتعلم النظر إلى الأشياء السريالية كمتجاوزات رمزية للفئة، مرتبة بحيث تبدو مثل «شكل مجنون لما هو مألوف». وهكذا تجمع لوحة أوبنهايم «مربيتي» (1936) (الشكل
3-3 )، حرفيا ومجازيا، بين الأحذية، وضلع جدي، والولع الجنسي بالأقدام، والاستعباد، وإيحائية الحذاء الممدد مع رفع الساقين (الكعبين) لأعلى، والصور الخيالية للمهبل، وما إلى ذلك. وقد أفادت الفنانة فيما بعد بأنها ذكرتها بحركة ضغط الفخذين معا باستمتاع. وكان ماكس إرنست، الذي ارتبطت به عاطفيا في عام 1934، أعطاها حذاء زوجته الأبيض من أجل النسخة الأصلية. ولكن السيدة إرنست دمرتها حين عرضت لأول مرة في باريس في عام 1936.
شكل 3-2: سلفادور دالي، «اللعبة الحزينة» (1929). الرسم كمدع بأنه دراسة حالة جنسية.
ينتج الفن السريالي العديد من مثل هذه التحولات المجازية المحيرة، من النوعية التي توجد، على سبيل المثال، في العديد من لوحات رينيه ماجريت. ففي واحدة منها (بعنوان «الموديل الأحمر») يتحول زوج من الأحذية الطويلة إلى قدمين آدميتين؛ ما يخلف أثرا مزعجا، ويذكرانا بلا شك بأنهما مجرد نوعين من الجلد.
شكل 3-3: ميريت أوبنهايم، «مربيتي» (1936). العنصر السريالي كمجاز للشهوانية والانحراف.
أما أكثر اللوحات السريالية ذات الطابع السيكولوجي المعقد، وأكثرها شهرة لكونها الأكثر وضوحا كشكل من أشكال واقعية الحلم، فنجدها لدى دالي، الذي انضم إلى السرياليين في عام 1919، وقام برسم لوحته «اللعبة الحزينة» (شكل
3-2 ) في ذلك العام، بما تجسده من بنطال ملوث بالغائط ويدين كبيرتين كإيحاء بالاستمناء. كان العنوان من اقتراح الشاعر بول إيلوار، وكانت هذه اللوحة بمنزلة «مقتطفات واقعية» (بحسب تعبير إيان جيبسون؛ كاتب سيرته الذاتية) من هواجسه الجنسية وشبه الجنسية الحالية آنذاك، بما في ذلك «التغوط، والإخصاء، والاستمناء (اليد الضخمة على جحافل النمل)، وفرج امرأة، وشكل يشبه والد دالي، وتفاصيل أخرى لا حصر لها.»
يتسم مشهد النشاط الجنسي في معظم الأعمال السريالية بالعصابية، والعجز، والرعب الشديد، وغالبا ما لا يكون واضحا وملموسا بشكل خاص، على الرغم من الآمال التي تعلق على أي تفسير نفسي تحليلي نهائي. وهكذا انصب تركيز جزء كبير من النشاط السريالي على تحرر جنسي مثير ضد البرجوازية؛ فالتغيرات في الوعي الإنساني يجب أن تؤدي أيضا إلى تغيرات في المجتمع. لكن مع صدور «البيان الثاني» له عام 1929، كان بريتون قد تحول إلى الماركسية، واضطر للتحول من القول بأن الحلم الفرويدي لا يميز التناقضات إلى القول بأن العمل السريالي قد يساعد في المصالحة بين التناقضات، وفقا لمفهوم هيجلي ماركسي؛ ومن ثم أصبح الهدف (كما هو بالفعل بالنسبة للعديد من المفكرين الفرنسيين حتى حقبة ما بعد الحداثة) هو عقد مصالحة بين فرويد وماركس (وهي حجة أقيمت بأقصى قدر من الإقناع تأييدا للحركات التحررية في عقد الستينيات من القرن العشرين على يد هربرت ماركوس وآخرين). وهكذا قام العديد من السرياليين بالمواءمة بين الأيديولوجيتين الحاسمتين جذريا اللتين ابتكرتا بواسطة الروح الحديثة النقدية؛ وهما: الماركسية والتحليل النفسي، واستعانوا بهما لمهاجمة الكبت الجنسي والاغتراب السياسي؛ ولذا استطاع الفن السريالي أن يعمل، بشكل جيد نوعا ما، بمنزلة رمز شديد الفردانية للصراعات والتوترات داخل العائلة الفرويدية والمجتمع الرأسمالي.
تواءمت الأفكار السريالية أيضا مع التقليد اللاعقلاني الراسخ منذ زمن طويل، والذي يمتد من آرثر رامبو مرورا بشعراء الحركة الدادائية، وتواءمت بشكل قوي داخل التقليد الأمريكي للرسم والأدب، من خلال أعمال مثل: «كورا في الجحيم» لويليام كارلوس ويليامز، و«الرتيلاء» لبوب ديلان، وأعمال جون أشبري وهارت كران. وقد اعترف بريتون بأن السريالية لم تلق رواجا في إنجلترا؛ لأنها كانت موجودة بالفعل في أعمال سويفت وولبوب، وآن رادكليف، ومونك لويس، وإدوارد لير، ولويس كارول، وسماتها الإبداعية تتعلق بمنطق مضمونها وليس تقنيتها الشكلية، على الرغم من أنها تستخدم كل الأدوات الحداثية المألوفة. وهي تثير قضايا تتجاوز نطاق الحداثة: كيف نتواصل بطريقة «غير منطقية»؟ هل المخاطبة المباشرة لمشاعرنا أو «غرائزنا البدائية» أمر ممكن؟ هل يفترض بنا أن نحاول إعداد تأويل أو إعادة صياغة للعمل من شأنها أن تضيف لمعرفتنا، أم «نقبله» على عواهنه؟ (غير أن والاس ستيفنز كان يرى أن «الخطأ الأساسي للسريالية يكمن في أنها تبتكر دون اكتشاف»).
كل هذه التساؤلات تدفعنا للتفكير في دور الوهم (تمييزا عن الخيال) في حياتنا، وإحدى أكثر المحاولات إثارة لتوظيف تحليل فرويدي للسلوك الاجتماعي، ودمج ذلك مع الصور الخيالية السريالية، توجد في عمل دبليو إتش أودن الأكثر حداثية وتجريبية، وهو بعنوان «الخطباء» - وقد صدر عام 1932 - فقد كان يرى أن كل الأمراض لها أسباب نفسية، وأنها تحمل رمزا أخلاقيا (وعليه إذا كان كريستوفر إيشروود قد عانى من التهاب في الحلق؛ فهذا لأنه كان يكذب). وفي قصيدته «تأمل هذا»، التي أصدرها عام 1929، ينتظر البرجوازيون مصيرا مشئوما لسبب نفسي وسياسي أيضا، والفكرة الكامنة هنا هي الفكرة الماركسية القائلة بأن المجتمع الرأسمالي سوف ينهار تحت وطأة تناقضاته الداخلية:
إنه أبعد مما تظن؛ في وقت أقرب من ذاك اليوم
أبعد من ظهيرة ذلك اليوم البعيد
وسط حفيف الفساتين والأقدام التي تضرب الأرض
أعطوا الجوائز للصبية المنكوبين.
لا يمكنك أن تكون بعيدا، إذن، لا،
لا يمكن رغم أنك تحزم حقائبك للرحيل في غضون ساعة،
تتفادى المرور عبر الطرق الرئيسية:
كان الموعد موعدك، كنت الضحية لشرود البال،
والأنفاس المضطربة ونظم الحكم المتعاقبة
بعد بضع سنوات مخيفة من الترحال
لتنهار في لحظة في انفجار الجنون
أو تسقط للأبد في تعب قديم.
ومن خلال تفسير المرض النفسي كمعنى رمزي أخلاقيا وسياسيا، ربط شعر أودن تحليل الفرد بالمجتمع بوجه عام، وأقر ثورة ضد النظام القائم، وأتاح أسلوبا شبه إكلينيكي به تنازل نوعا ما لجعل التجريدات الأخلاقية ملموسة نابضة بالحياة. ونراه في «الخطباء» يضيف تطورا إلى هذا النوع من الصور الخيالية محولا إياها إلى سرد سريالي عن الثورة: «اليوم الأول من التعبئة»
في ساعة الصفر المرتب لها مسبقا، تعطي الأرملة ذات الجسد المقوس من أثر التهاب المفاصل إشارة الهجوم بالوقوف في وضع مستقيم على درجات سلم كنيسة سانت فيليب. إن قصفا أوليا برسائل هاتفية إباحية لما لا يزيد عن ساعتين من شأنه تدمير «الروح المعنوية» التي أوهنتها بالفعل التنبؤات بالهزيمة التي تشكلت عن طريق غربان متحكم فيها لاسلكيا. كانت قوات الصاعقة مجهزة بقاطعات أسلاك، ومفاتيح ربط، وقنابل تطلق غازات كريهة، مخترقين المنازل عن طريق التسلل، وإسكات جميع المنبهات، وفك صنابير الحمامات، وإزالة السدادات وورق الحمام من المراحيض. الهدف الأول هو مكاتب خدمات نقل الرسائل. وعلى طاولة كل رب أسرة مقال افتتاحي، يصل في الوقت المحدد، كإفطار متأخر، يتهم مواطنين بارزين بإحراق المباني عمدا، وإثارة المنازعات والخصومات بلا مبرر، وتزييف العملة، والنوم في مكاتب البلدية، والتجسس، ووجود أسرار عائلية مشينة، والهرطقة، وإصدار أو التسبب في إصدار تصريحات كاذبة بنية الخداع، والشوفينية، وإدارة بيوت للدعارة والفجور، والتسكع، والعنف الزوجي، والمحسوبية، وممارسة العادة السرية، وممارسة القرصنة في أعالي البحار، والجنوح عن الواقع، واللعب خلال ساعات الحظر، والتخريب، وشرب الشاي، وارتكاب جرائم غير سوية ضد القصر، والنظرات الخبيثة، وحرق الإرادة، والجبن.
يمثل هذا محاكاة ساخرة لخطط التعبئة الخاصة بالجيش الألماني استعدادا للحرب العالمية الأولى، كما رويت في كتاب الجنرال لودندروف «الحرب القادمة» (1931)، ولكن سرعان ما تسربت الشكوك إلى قلب أودن بشأن المنهج السريالي؛ ففي عدد يونيو/يوليو 1936 من مجلة «نيو فيرس» يتساءل مثل جون بول: «ما القيمة الثورية المميزة في التقديم الآلي ... لمادة مكبوتة؟» وهل كانت كل هذه المواد لها «قيمة فنية متساوية»؛ لأن «اللحظة التي يسمح لك فيها إما من نفسك وإما من المجتمع بأن تبوح بما تحب بالضبط، يتركك غياب الضغط مادة بلا شكل.» وإذا كان السرياليون يرفضون العقلانية، فكيف يمكنهم توفيق موقفهم مع الشيوعية والتحليل النفسي، اللذين هما، في النهاية، نظم عقلانية؟ وعلى أي حال، يرى أودن أن:
مهمة علم النفس، أو الفن في هذا المقام، ليست إخبار الناس بالسلوك الواجب انتهاجه، ولكن لفت انتباههم إلى ما يحاول اللاوعي المتجرد إخبارهم به. وبتوسيع معرفتهم بالخير والشر، تكون مهمته هي جعلهم أفضل قدرة على الاختيار، كي يصبحوا مسئولين أخلاقيا عن مصيرهم على نحو متزايد.
وعلى الرغم من اعتقاد بريتون، الوارد فيما سبق، بأننا قد نضطر في النهاية لإخضاع «أغوار عقولنا» إلى «سيطرة عقلنا»، فإن قلة قليلة فقط من السرياليين هم من كان لديهم الاستعداد أو القدرة، مثلما كان الحال مع أودن، لربط دراسة الوهم بتحليل أخلاقي جيد.
الفصل الرابع
الحداثة والسياسة
سوف تصبح أشكال الحياة مثيرة بشكل ديناميكي. فالنوع البشري العادي سوف يرتفع إلى قمم مثيلة لأرسطو أو جوته أو ماركس. وفوق هذه السلسلة الجبلية سوف تظهر قمم جديدة.
ليون تروتسكي، «الأدب والثورة» (1923)
إن العصر الحالي الجديد بصدد تكوين نوع بشري جديد؛ فالرجال والنساء في طريقهم لمزيد من الصحة والقوة: هناك شعور جديد بالحياة، بهجة جديدة في الحياة. إن الإنسانية لم تكن أبدا أقرب في شكلها الخارجي وإطارها العقلي للعالم القديم أكثر من اليوم.
أدولف هتلر، خطبة ألقاها في افتتاح معرض «الفن الألماني العظيم»، ميونيخ، 1937
الفردي والجمعي
حاول أندريه بريتون فرض نظام شيوعي على أعضاء الحركة السريالية، برغم ما كان يعنيه هذا من قبول للسياسة الحزبية . ففي مطلع عام 1926، انضم إلى الحزب الشيوعي مع لويس أراجون وبول إيلور، وبحلول نوفمبر 1926، تم فصل فيليب سوبو وأنطوان أرتو لعصيانهما. وفي عام 1929، أرسل بريتون وأراجون خطابا مشتركا إلى 76 من السرياليين ومن يحتمل تعاطفهم مع القضية يسألان إن كانوا سيشاركون في النشاط المشترك. وعلى أساس الردود، تم فصل أرتو مرة أخرى، مثلما فصل جورج باتاي (الذي علق قائلا: «كثر المتسكعون المثاليون»)، وروبرت ديسنوس («كل النشاط الأدبي والفني مضيعة للوقت».) وكان روجر فيتراك وجاك بيرون ضمن ال 56 مدعوا الناجين من الفصل. وتشكلت الحالة السياسية الجديدة في «البيان الثاني للسريالية» الذي صدر في ذلك العام، وأدت إلى انقسامات عقائدية وإدانات، من خلال البيان، وتغيرات ذات تعقيد هائل في التنسيق والحشد.
لذا فقد وقعت النمذجة الذاتية ذات الطابع البطولي التي ورد وصفها في الفصل الثالث تحت ضغط حاد، ليس فقط داخل الحركة السريالية، وإنما بوجه عام. وهذه هي النقطة التي نبدأ عندها في رؤية الادعاءات الحادة التنافس فيما يتعلق بالأنماط البطولية في الحقبة الحداثية؛ فعلم النفس السياسي الجمعي كان يطالب بتأييد «الواقعية» و«الموضوعية» ضد الفردية التمييزية ذات النزعة الجمالية لدى السرياليين ومعظم كتاب وفناني حقبة الحداثة الفائقة الآخرين. وكان لهذا الصراع عواقب مريعة؛ فقد أظهرت محاكمات موسكو، على سبيل المثال، كيف كان يمكن، في ضوء تاريخ ثوري محدد مسبقا، النظر إلى سلوك البشر فرادى «بشكل موضوعي»، شأنه شأن سلوك جماعة برجوازية ضد الثورة، بعيدا عن أي نوايا واعية ربما كانوا يضمرونها كأفراد.
تركز رواية آرثر كوستلر «ظلام في الظهيرة» (1940) على التساؤلات والأفكار الخاصة لأحد الشيوعيين، ويدعى روباخوف، بينما ينتظر الموت في أحد السجون السوفييتية. إنه يعلم أن «الجمع هو التجسيد للفكرة الثورية في التاريخ. والتاريخ لا يعرف هواجس ولا تردد». وفي وقت لاحق نجده يكتب في دفتر يومياته:
منذ فترة قصيرة، قتل خبيرنا الزراعي البارز، بي، مع ثلاثين من معاونيه؛ لإصراره على الرأي القائل بأن سماد النترات الاصطناعي يتفوق على السماد البوتاسي ... إن خبراء أخلاقيات الكريكيت يراودهم القلق ... بشأن ما إذا كان الخبير بي حسن النية شخصيا حين قام بتزكية النيتروجين ... هذا بالطبع محض هراء؛ ولما كانت مسألة حسن النية الشخصية غير ذات أهمية؛ فلا بد للمخطئ أن يدفع الثمن، والمصيب سوف يبرأ. ذاك هو قانون الثقة التاريخي؛ وقد كان قانوننا.
من خلال هذا، يبدو طرد السرياليين الفرنسيين أمرا تافها نسبيا، ولكن كانت هناك قضية عامة هنا تتعلق بعلاقة الفنانين الحداثيين بالثقافة في العموم. وهي قضية مهمة.
لقد ذهبت على مدار الكتاب إلى أن الفن التجريبي يميل إلى تشجيع الهدف الواقعي الأسمى للمكسب المعرفي، وكان بالنسبة لناقد ماركسي مثل جورج لوكاتش، ومناهض للفلسفة البرجسونية مثل ويندهام لويس في روايته «الزمن والرجل الغربي» (1927). كان هذا بمنزلة النظر في المكان الخطأ؛ فقد ذهب لوكاتش في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، واضعا كافكا في الاعتبار، إلى أن الحداثيين يحولون الواقع الاجتماعي إلى كابوس محمل بالغضب ومناف للعقل؛ ومن ثم يحرموننا من أي إحساس بالمنظور. ويزعم أنه لا بد للأدب أن يستغل الإرث البرجوازي بشكل نقدي؛ ومن ثم لا بد أن يكون لديه مفهوم إنساني-اجتماعي واضح لما هو «طبيعي». وهذا هو ما تستنكره الحداثة، من وجهة نظره؛ إذ يرى أنها عاجزة عن خلق «أنماط» مستمرة وقابلة للتصديق، وتمجد النزعة اللاإنسانية والانحراف عن المنطق السوي، ويدافع عن واقعية القرن التاسع عشر التي قوضها الحداثيون؛ ومن ثم عن تفضيلاته لكتاب على شاكلة مكسيم جوركي، وتوماس وهنريتش مان، ورومين رولاند؛ لأن الاختبار لأي أسلوب فني هو اختبار سياسي؛ وهو ما ينظر إليه لوكاتش الماركسي كنزعات «تقدمية»: «ما الاتجاهات التقدمية في أدب اليوم؟ إن قدر الواقعية غير محسوم.»
على سبيل الإيضاح، ما عليك إلا أن تقارن «الكياسة البرجوازية» لتوماس مان بسريالية جويس. في عقول أبطال كلا الكاتبين نجد استحضارا حيا واضحا للتفكك والتوقفات، والتمزقات الأنثوية، و«التصدعات»؛ التي يعتقد بلوتش، بشكل صحيح للغاية، أنها سمة نمطية للحالة الذهنية لكثير من الناس ممن يعيشون في عصر الإمبريالية.
هنا يتوقع لوكاتش التحليل التقويضي للوعي الذي قدمه جيل لاحق من «الماركسيين الغربيين»، ولكن الإخفاق هنا في إدراك حقيقة أن الحلقة السريالية الحقيقية الوحيدة، على سبيل المثال، في يوليسيس (سيرس) كوميدية، وتشمل نقدا حادا لأبطال القصة الأساسيين، بأسلوب فرويدي صوري، ليس الشيء الوحيد الذي اتضحت أهميته، وإنما الرفض الضمني المستتر للخطاب النقدي المستقل، كخطاب هذا الكتاب، تحيزا لحكم جماعي (غالبا ما يصاغ في الواقع من قبل الجمع)؛ إذ إن «الحشود الغفيرة ... لا يمكنها تعلم شيء من الأدب الطليعي؛ لما يشوب رؤيته من غلو في الذاتية، والارتباك، والتشوه». والشرط الواجب توافره لحدوث هذا التعلم هو التقنية التقليدية المعتمدة؛ وهي الواقعية، إلى جانب توافر الصلة «المناسبة» بالمجتمع:
أن يمتلك كاتب علاقة حية مع الإرث الثقافي يعني أن يكون ابنا للشعب، يحمله تيار تطور الشعب. وبهذا المعنى يكون مكسيم جوركي ابنا للشعب الروسي، ورومين رولاند ابنا للشعب الفرنسي، وتوماس مان ابنا للشعب الألماني.
عند هذه النقطة تلتقي الشمولية الماركسية والنازية في ازدرائهما لما هو «غير طبيعي».
وقد عرف إريك كوفمان صعود الحداثة بوصفها «حركة علمانية عظيمة للفردية الثقافية اجتاحت الفن والثقافة بعد عام 1880، واخترقت ببطء المقياس الاجتماعي لتحرير التوجهات في عقد الستينيات من القرن العشرين.» وكما رأينا، هذا هو الموقف، بصفة عامة، على الرغم من أنه كان هناك أيضا، داخل الحركة الطليعية التجريبية الحداثية، فنانون لديهم نزعة في الاتجاه الجماعي المضاد (كما في الحركة الاتفاقية المبكرة، وفي بعض الجوانب الفاشية الأولية من الحركة المستقبلية)، ولكن كلما توغلنا داخل التوترات السياسية لحقبة الثلاثينيات من القرن العشرين، نجد أزمة متنامية بالنسبة لجميع الفنانين بين الاستبطان، وتأكيد الذات والتعبير الفردي، ومزاعم الجماعية. ومن المثير، على نحو خاص، أن نرى الطرق التي حاول بها بعضهم التوفيق بين تقليد تجريبي وفردي، والدعم الذي يقدمونه للحراك السياسي الجماعي. فكان داي لويس، على سبيل المثال، يعتقد أن الشعراء كانوا «على وعي شديد بالعزلة الحالية للفرد، وضرورة وجود كائن اجتماعي؛ لعله يستعيد فكرة التبادل والمشاركة». وكان جورج أورويل يرى بالنظر إلى الوراء أن بعض الحلول المطروحة لهذه المشكلة لم تكن جيدة:
لقد خرجنا فجأة من ظلام الآلهة إلى جو أشبه بجو كشفي من الركب العارية والغناء الجماعي؛ فالأديب العادي بصدد الكف عن أن يكون غريبا مثقفا يميل نحو الكنيسة؛ ليصبح طالب علم ذا عقل متلهف يميل نحو الشيوعية.
عبادة القوة
كان البحث عن الولاء الجماعي، في نظر العديد من الحداثيين خلال تلك الحقبة، بحثا زائفا؛ فهو لم ينبع من رغبة للتجانس والتوحد وجدانيا مع أي مجتمع بعينه، ولكن للتوحد مع قائد بطولي استطاع حل مشكلات هذا المجتمع. وكان سيسيل داي لويس يرى هذا أيضا:
ها هو تأثير دي إتش لورانس يساعد مرة أخرى في تشويش القضية هنا؛ فنجدها تكمن، على سبيل المثال، في انشغال أودن بالبحث عن الرجل القوي بحق (في «الخطباء»)، وفي تبشير لورانس بالخضوع الروحي للفرد العظيم: «كل البشر يقولون إنهم يريدون قائدا. فلتدعهم داخل أرواحهم يخضعون لروح أعظم من أرواحهم.» وعلى الرغم من أن هذا لا يتناقض بالضرورة مع النظرية الشيوعية، فمن المحتمل عمليا أن يضفي طابعا فاشيا أكثر منه شيوعيا على الشعر.
إن عبادة الفرد «القوي بحق»، باعتباره القائم على تطبيق المسئولية الجماعية، توازي نزعة الفاشية لعبادة القوة، والتي يتبناها دي إتش لورانس من عدة أوجه في روايته «الأفعى ذات الريش» (1927)، وتناولها صديقه ألدوس هكسلي بالهجاء في روايته «نقطة مقابل نقطة» (1929).
لم تكن فكرة البحث عن قائد قوي تروق كثيرا لبرتولد بريخت، الذي قام في أمريكا بتلخيص «أوبرا البنسات الثلاثة»، من خلال كتابة مسرحية في عام 1941 عن هتلر في شخصية رجل عصابات من شيكاجو. وهو ليس الكاتب السياسي الوحيد الذي واجه التوتر بين الفرد والمجتمع، ومر بفترة أيد فيها هو نفسه فكرة الخضوع لسلطة سياسية، لتجسيد لاحق للسياسة اتسم بالطابع التجريبي والحداثي بوجه عام (وقد شاهدنا بدايات هذا خلال مناقشة «أوبرا البنسات الثلاثة» عام 1929، في الفصل الأول). وقد قام في مسرحياته التي ألفها خلال سنوات أزمة جمهورية فايمار، من عام 1929 حتى عام 1932، بتطوير شكل من المسرح (هو «المسرح التعليمي»)، وفيها كان يتم حث الناس من الطبقة العاملة على استكشاف القضايا السياسية الحيوية عن طريق التناوب في أداء أدوارهم الاجتماعية المختلفة ومواقعهم التكتيكية. وقد صممت هذه المسرحيات فقط لكي تؤدى للجماهير البروليتارية وبهم، وإبعادهم عن تأثير الفكر المثالي والمتزمت «البرجوازي».
تم تعديل نص أوبرا «القائل نعم» كأوبرا مدرسية على يد إليزابيث هوبتمان وبريخت بالاشتراك مع فايل، وهي مأخوذة عن مسرحية يابانية (بعنوان «تانيكو» حسب ترجمة آرثر والي). تدور القصة حول أربعة شباب في رحلة جبلية خطيرة حيث يصاب أصغرهم بالمرض. هل يجب أن يعودوا أدراجهم؟ يوافق الصبي الصغير على ضرورة استمرار المهمة، ويغلق الثلاثة الآخرون أعينهم (حتى «لا يشعر أحدهم بالذنب أكثر من الآخر») ويلقون به من أعلى الجبل ليلقى حتفه. ويعلق روس: «ربما تكون السياسة مناقضة لسياسة هتلر، ولكن هناك نفس التوصيف الخرافي للمجتمع، نفس الإغفال لقدسية الحياة.» لا سيما من حيث إن المغزى الأخلاقي للعمل هو «من المهم فوق كل شيء أن تتعلم الإذعان». وقد عرضت مئات المرات في المدارس في برلين وأماكن أخرى.
تعتبر مسرحية «القرار»، الصادرة عام 1930 أيضا، التي كتبها بريخت لموسيقى من تأليف إيسلر، نموذجا آخر للمسرحية الرمزية ذات المغزى الأخلاقي، وتتحدث بشكل مباشر عن الصراع بين الولاء للمبدأ السياسي والحق الأدبي (في التعبير الحر). وتعد أيضا نصا بالغ الأهمية للتمييز بين ثقافة تدافع عن الفرد والهوية الجماعية التي تخول من خلال عضوية حزب سياسي. تعرض القضايا في هذا العمل بوضوح صارخ يتجاوز الانجذاب النفسي والسريالي للظلاميين للتحول الداخلي (الذي لم يكن لدى بريخت وقت له)، على الرغم من أن مسرحيته تدور حول شاعر تعبيري يدعى بال. تدور مسرحية «القرار» حول مجموعة من العملاء الشيوعيين المتخفين في الصين لديهم رفيق شاب يعرض مهمتهم للخطر بسبب إشفاقه على المضطهدين والمستضعفين، فيقال له إنه لا بد أن يموت، فيذعن لهذا، بل ويخطط له: «لا بد أن تلقوا بي في أحد المحاجر الجيرية ... لأجل مصالح الشيوعية المتوافقة مع تقدم الحشود البروليتارية في جميع الأراضي.» وقد كتب هانز إيسلر ترنيمات باخية لتعزيز الاستنتاج النهائي المريع للمسرحية أن «الأفراد لا يعتبرون سوى جزء فقط من الكل.»
هتلر في ميونيخ: النازيون والفن
يمكننا مشاهدة العلاقة العدائية بين مزاعم السياسة العملية ومصير الفن الحداثي، بشكل مباشر، في أوروبا، في الهجوم على هذا النوع من الفن باعتباره «منحطا» من جانب النازيين. وعلى الرغم من أن تفاصيل هذا الهجوم قد أثرت على ألمانيا، في الأغلب، في فترة ما قبل الحرب؛ فقد كان سمة مميزة لأسلوب السياسات الاستبدادية في الاستهداف الناجح للغاية لإبعاد الفن عن الذاتية والتجريب، وتوجيهه نحو التعبير عن الأفكار الجماعية (في الحالة السوفييتية، كان الفن يوجه نحو مطالبة ب «واقعية اشتراكية»، وبعيدا عن «الفردية البرجوازية» و«الشكلية»).
شكل 4-1: التجريد «المنحط» في الخلفية هنا هو لوحة «البقعة السوداء»، المستنسخة في الشكل
2-2 ، وهناك لوحة بريشته أعلى اليمين.
تم افتتاح معرض رسمي ل «الفن المنحط» في ميونيخ في 19 يوليو 1937، ثم طاف ألمانيا (جزء من المعرض موضح في الشكل
4-1 ). وكما يشير بيتر آدم:
لقد استعار المديرون في تنسيقهم له، بشكل غريب، من الدادائيين الذين يحظون بقدر كبير من الازدراء، طريقة تعليق اللوحات، والشعارات العدوانية التي تشبه رسوما جرافيتية على الجدران، وفكرة الرغبة في إحداث صدمة في مجملها. كل ذلك فعله الدادائيون قبل سنوات.
قام النازيون ببيع الكثير من الأعمال «المنحطة» التي تم الاستيلاء عليها في مزاد، ولكن من الأعمال المتبقية تمت مصادرة 1004 لوحات، و3825 من الألوان المائية، وتم حرق رسومات وأعمال جرافيك لاحقا، وذلك في يوم 20 مارس 1939، في ساحة محطة الإطفاء في برلين.
تستحق خطبة هتلر في افتتاح المعرض أن ننتبه إليها جيدا؛ فهو يعرض، بشكل غاية في الوضوح، تلك الجوانب من الحداثة التي يأمل في القضاء عليها؛ أولا: تخاطب الحداثة نوعية خاطئة من الجماعات (العالمية). وقد أدت الأوروبانية التي أكدت عليها إلى «خبرة جماعية عالمية؛ ومن ثم إلى قتل أي تفهم لعلاقتها التكاملية مع أي جماعة عرقية». ثانيا: ليست نزعتها التجريبية سوى نزعة «مشوشة»: «في يوم تطالعنا الانطباعية، ثم المستقبلية، ثم التكعيبية، وربما حتى الدادائية ... إلخ.» والاستجابة الحاسمة لهذا المنهج (أي انتشار أفكاره) هي ما كان هتلر يسعى وراءه؛ لأن «أكثر البشاعات جنونا وتفاهة» أوحت ب «آلاف الشعارات والرموز لتسميتها». والحكومة هي الجهة التي يتعين عليها ترسيخ هذا الموقف من خلال «تعريف» طبيعة الواقع؛ أي بالمطالبة ب «واقعية» معرفة وطنيا وعنصريا في «أي فن ألماني»، والتي «ستكون ذات قيمة خالدة مثل جميع القيم الإبداعية بحق لأي شعب.» إن مزاعم الذاتية الحداثية و«شعاراتها»؛ مثل: «الخبرة الداخلية»، و«الحالة الذهنية القوية»، و«الإرادة القوية»، و«المشاعر الحبلى بالمستقبل»، و«التوجه البطولي»، و«التعاطف الهادف»، و«الترتيب المحنك للأزمنة»، و«البدائية الأصلية»، وما إلى ذلك؛ سوف تضطر للتلاشي: «هذه الأعذار الحمقاء الكاذبة، هذا الهراء أو الثرثرة لن يقبلا بعد ذلك.» ولا الفنانون أمثال براك، وماتيس، وكاندينسكي، وكيرشنر، وماك. في الواقع، جميع الفنانين التعبيريين الألمان العظماء محكوم عليهم بالجنون الانحلالي؛ لأنه من خلال تشويه الشكل الإنساني «ينظرون إلى سكان أمتنا الحاليين باعتبارهم مخلوقات مختلة متعفنة». والأكثر من ذلك أنهم «يرون المروج زرقاء، والسموات خضراء، والغيوم صفراء بلون الكبريت، وهكذا، أو يعايشونها كما هي، على حد قولهم». وهذا طريق طويل يبدأ من روجر فراي. والأفعال المخففة التي يستعين بها هتلر للتهديد بتنفيذ رسالته خبيثة بشكل مخيف: «باسم الشعب الألماني، أريد أن أحظر هؤلاء البائسين المثيرين للشفقة الذين يعانون بشكل واضح للغاية من مرض بالعيون.» وعليه سوف يكون على «وزارة داخلية الرايخ الاهتمام بمسألة إيقاف المزيد من توارث مثل هذا الخلل المريع في وظائف العيون»، كجزء من «حرب تطهير بلا هوادة ضد آخر عناصر الانحلال والفساد في ثقافتنا». ويتعهد أنه «من الآن فصاعدا ... كل هذه الزمر من الثرثارين والهواة والمحتالين، الذين يدعم أحدهم الآخر؛ ومن ثم هم قادرون على البقاء، سوف يتم القضاء عليهم ومحوهم».
كذلك أقيمت ثمانية معارض مضادة ل «الفن الألماني العظيم» من عام 1937 حتى عام 1944. في عمل كهذا:
لا بد أن يكون الموضوع ... رائجا ومفهوما. لا بد أن يكون ملحميا تماشيا مع مثل الاشتراكية القومية. لا بد أن يعلن إيمانه بالنموذج الآري للإنسان النوردي والنقي عرقيا.
وانطوى هذا على إحياء لكلاسيكية من أردأ الأنواع؛ فقد وصف أحد النقاد الكولونيين البنية الموضوعية الأساسية للمعرض على هذا النحو: «العالم والفلاح والجندي يمثلون الموضوعات ... والموضوعات الملحمية تطغى على الموضوعات العاطفية. تجربة الحرب العظمى، مشاهد الطبيعة الألمانية، الرجل الألماني أثناء العمل، الحياة الريفية.»
إن دور النازيين هنا يعد نموذجا، ولكنهم لم يكونوا وحدهم في انتهاك الحد الفاصل بين ما هو سياسي وما هو خاص، في موقف مناهض للفردية والليبرالية بشكل صريح وواضح. ولا يزال الأسلوب النقدي التأملي الذي نادى به بريخت (مهما كان قد ترسخ بشكل كبير من خلال مخاطبته للنظام الماركسي والحزبي) ينمو من رحم الاستعداد الحداثي لتشويه الواقع العادي، وتحويله إلى خرافات وخزعبلات (كما توضح أعماله اللاحقة)، حتى يتسنى لنا أن نقرر، في إطار قدر معين من التساهل مع الغموض والصراع، من خلال تأويل صوره المجازية، مدى تماثل العمل مع الواقع. نفس الشيء تقريبا يسري على معظم الأعمال التي نوقشت سابقا. وهذا بعيد كل البعد عن مطالب «الحياة الواقعية» التي فرضتها الأحزاب الفاشية على الفن في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي وضعت لتعطيل هذه العملية التأملية بدعوى (من خلال استخدام أكثر أنواع التقنيات التصويرية ضجرا ونمطية ووضوحا، والتي هي، في الواقع، خادعة ووهمية بشتى الطرق) أن بإمكان الفن أن يكون مرآة عاكسة للواقع، إذا توافرت لديك المعتقدات «الصحيحة». ومن هنا ظهرت الكلاسيكية التصويرية والتموضع الرهيب في أعمال مثل لوحة «الشباب الألماني» ليورجن فيجنر ب «الربات الثلاث» للأمومة الألمانية، وإلى اليسار منها أطفال صغار، فيما يقف بعض الصبية المراهقين من جماعات الكشافة وهم ينشدون الأغاني على أنغام الطبلة والبوق أسفل راية نازية في المنتصف، وإلى اليمين ثلاثة شبان أسبرطيين عارين تماما؛ يحمل اثنان منهما رماحا، والثالث نموذجا لطائرة. أو لوحة «الرؤية النازية للعظمة» لريتشارد سبيتز؛ وفيها تتجسد ساحة قتال تعج بجنود يحدقون في اتجاه الشمس، وفي السماء من فوقهم طيف ملائكي لمجموعة من الجنود المتوفين يشقون طريقهم نحو قلعة في الشمس، تشبه إلى حد كبير قلعة ساحر أوز، ومن خلفها يبرز صليب معقوف ضخم يتلألأ. أو صورة هيرمان أوتو هوير التي تجسد هتلر وهو يخطب على منبر في غرفة مظلمة، فيما تضيء وجوه مجموعته الصغيرة من المستمعين، والعنوان هو «في البدء كانت الكلمة».
تستغل تقنيات الواقعية الفاشية والسوفييتية ما يبدو كتقنية يعتمد عليها؛ وذلك من أجل الترويج لوهم من المقاييس الهوليودية أسبغ عليه طابع مثالي يصل لحد السخرية، وغالبا ما يكون شبه ديني، بكل مخاطبته المطمئنة لمفهوم شعبي وفني للجماعية. والواقع أن مخاطبة الحكم الفردي هو ما يهاجمه دوما هذا النوع من الإدارة الثقافية تحديدا:
إن الثورة الاشتراكية الوطنية هي ثورة فكر! وتكمن عظمتها في حقيقة أنها قد أطاحت بالفكر الفردي الذي ظل يحكمنا لقرون، واستعاضت عنه بالفكر الجماعي.
لم يكن في مثل هذا «الفكر الجماعي» مكان لأي نقاش نقدي، كما أعلن جوبلز في عام 1937: «إن إلغاء النقد الفني ... ارتبط بشكل مباشر بالعملية الموجهة لتطهير وتنسيق حياتنا الثقافية.» لقد كان يمكن، في نظر النازية، تنحية الحداثة جانبا كشكل قبيح للفردية؛ لصالح نسختهم الخاصة من الحداثة. صارت مهمة الفنان في ألمانيا هي أن يعكس «الواقع الجديد»، بصدق وإخلاص، مثلما كان السياسيون يرونه، في قوالب عامية وعاطفية ومتخيلة مثل توجهات السياسيين أنفسهم؛ ومن هنا جاء هجوم بول فيشتر على توماس مان لكونه:
بعيدا عن الحياة، وعالقا في شراك عالمه المزيف؛ ما جعله فاقد الاتصال بالواقع الجديد في ألمانيا، وتحت وطأة رفضه لحق المولد خاصته، ترك البلاد ... ومنذ أن غادر إلى الخارج، لم يرد بخطبه ومقالاته أي شيء مشترك مع ألمانيا الحقيقية وحياتها الروحانية.
التقدم و«النقد»
كان الجزء الأكبر من الفن الحداثي، مثلما أوضحت، تحرريا وفردي النزعة. وقد حاول العديد من المعلقين اللاحقين على الحداثة الإشارة إلى الطريقة التي صار بها تقليد أساسي للفن الحداثي، بالنسبة لهم، جزءا من نقد يساري، بوجه عام، للمجتمع. وتنطوي الحداثة على «تقليدين» على الأرجح. أحد هذين التقليدين يركز على نزعة طليعية - حيث يفهم أن لكلمة «تقدمي» معاني هيجلية ماركسية إضافية - لوعي بالتقدم التاريخي نحو التحرر الاجتماعي (والتي يمكن الإفصاح عن «طبيعتها الحقيقية» للمبتدئين في الفلسفة أو النظرية أو اللغة الفنية ذات الصلة). يميل الفنانون في هذا التقليد المثالي لأن يكونوا أشبه بهؤلاء الفلاسفة الذين أرادوا تنقية اللغة الدارجة، جاعلين إياها أكثر منطقية وأكثر «علمية» (مثل: دي ستيل، وحركة الباوهاوس، وشونبرج في بعض الحالات المزاجية). وينظر فنانون آخرون إلى اللغات المختلفة للفن باعتبارها لغة اجتماعية في جوهرها، وربما حتى كلعبة. ومن داخل المجتمع الفني وبالنظر وراءه، نجدهم واعين بالمنافسة، بل ولديهم وعي بدرجة ما بأساليب خطاب القوة المتنافسة الخاصة بمؤسسات بعينها (وينطبق هذا بشكل خاص على تلك المهتمة بتحرر المرأة). وسوف يكون للتجديد والتطور بالنسبة لهذه المجموعة الثانية علاقة كبيرة بالتطور التاريخي غير المنظم - إلى حد ما - للمؤسسات وللنشر، وفي ذلك المجلات الطليعية، وللعرض النقدي من أنواع أخرى، ومن ذلك التعاون مع الجماعات الطليعية، والتصورات والمفاهيم الصحفية، وكل خصوماتهم وعلاقاتهم التعاونية. ومهما كان مدى التزامهم تجاه تجمعات طليعية بعينها، سوف تركز فرضيتهم الأساسية على تعددية مؤسسية تتيح لهم الازدهار داخل مجال نقاشي للآراء التي تحظى بأفضل الفرص للوصول إلى الحقيقة. أما بالنسبة لليمين واليسار المتطرفين، على الجانب الآخر، فشعارهم هو «ابق ناقدا»، بمعنى الاستمرار في الإيمان والقناعة بالأمر إلى أن تتحقق لك السيطرة، ولا تغرق في صدام غير نقدي مع القواعد الاجتماعية الجديدة، أو تصبح متساهلا أكثر مما ينبغي مع أمور مثل استقلال العمل أو استقلال الأشخاص. لكن بالنسبة للوسط الليبرالي، فإن النقاش النقدي الذي تثيره الأفكار والأعمال الفنية الجديدة والصعبة هو ما يهم في الأساس.
هذا يعني أنه كانت هناك جماعات فوضوية وراديكالية وموقرة للتقليد حول الوسط السياسي أسست حداثة ليبرالية، فقامت الحركة الدادائية، على سبيل المثال، التي رفضت في بياناتها الأولى أي شكل من أشكال الأيديولوجيا المنظمة، بالتشكيك في المؤسسات التي كانوا هم أنفسهم يعملون تحت مظلتها، ما جعل الدادائية بالنسبة لكثيرين النموذج المثالي لطليعية راديكالية؛ ما أدى إلى «ثورة ضد الفن» هاجمت «الفرضية غير النقدية القائلة بأن الفن يجسد ويبيح رؤية ما للثقافة». أما التقليد الليبرالي البرجوازي، على الجانب الآخر، فكان يميل إلى التوفيق ما بين أفضل ما في الثقافة وأفضل ما في الفن، لتكوين ما من شأنه أن يصمد ويظل ملائما، بما في ذلك فن الماضي (وهو منهج للتقليديين والحداثيين التلميحيين وصف فيما سبق).
إن طبيعة الحركة الطليعية هي القضية هنا، إذا كنا نحاول فهم الحركات الحداثية في العموم، وليس إدراك النزعات اليسارية، أو الليبرالية، أو اليمينية داخلها بشكل انتقائي والدفاع عنها. وأتفق مع ديانا كران في أن كل الفن الطليعي تقريبا، سواء ينزع إلى اليسار أو اليمين، هو فن متقدم في الأفكار، ومجدد أو تجريبي في الأسلوب، وصنعه فنانون «لديهم التزام قوي تجاه القيم الجمالية المتمردة على التقاليد، ويرفضون الثقافة الشعبية وأسلوب حياة الطبقة الوسطى على حد سواء.» وهكذا تكون الحركة الطليعية مكملة للعمل الأكبر للثقافة العالية، وهي تتمحور حول حل المشكلات الفنية والجمالية (بالمقارنة مع الثقافة الشعبية، التي تتسم بمزيد من الصيغية في منهجها). وهذه الحلول، كما حاولت أن أشير، يمكن أن تخلق مكسبا معرفيا قيما للفنان والجمهور؛ لذلك فإن حركة ما تكون طليعية «من الناحية الجمالية»، من منظور كران، إذا ما أعادت تعريف التقاليد الجمالية، واستفادت من الأدوات والتقنيات الفنية الجديدة، وأعادت تعريف طبيعة العمل الفني. وهي طليعية «من الناحية السياسية» (أي في أسلوبها في تناول المحتوى الاجتماعي) إذا ضمت قيما نقدية اجتماعية وسياسية مختلفة عن قيم ثقافة الأغلبية، وأعادت تعريف العلاقة بين الثقافة الرفيعة والثقافة الشعبية، وتبنت توجها نقديا نحو المؤسسات الفنية (كما في الدادائية على اليسار، و«معيار» إليوت على اليمين، على سبيل المثال). ومن الممكن أن يستوفي الحداثيون على اليسار واليمين هذه المعايير (ويتم هذا بالنسبة لليمين، بشكل كاف عادة؛ حيث يمكن دمج التطور التكنولوجي الرأسمالي مع عملية تحديثية؛ ما يترتب عليه ظهور فن عمارة الباوهاوس).
وقد افترض العديد من المعلقين اليساريين على الحداثة، بما لا يدعو للاستغراب، أن اتجاهها «تقدمي» (كجزء من المفهوم اليساري للتطور التاريخي)، وأن تجديدات الاتجاه الخاصة باليمين تتسم بالتوق إلى الماضي، على أقصى تقدير، ولكن يمكن للمرء أن يتساءل إن كانت الحركات الطليعية، سواء يسارية أم يمينية، تقدمية بأسلوب حداثي مميز، أم هي ببساطة تتابعات تاريخية للصراعات السياسية الراسخة (صراعات القرن التاسع عشر في الواقع) بالوسائل الفنية المعاصرة. هل هناك أي شيء حداثي بطبيعته يمكن الإفصاح عنه من خلال مثل هذا التحليل السياسي؟
تؤكد الحداثة، مثل غيرها من الحركات الفنية، تأكيدا كبيرا على التجديد والتغيير الفني، ولكن يظل السؤال قائما بشأن ما إذا كانا تقدميين أخلاقيا أو سياسيا في الواقع. هل يقودان الحقبة ككل في اتجاه معين؟ دائما ما يكون هذا من قبيل التفكير القائم على الأماني؛ فقد كانت هناك حركات طليعية متشعبة عديدة كانت في غاية النجاح ودامت طويلا، ولكن أي «نموذج خطي» للحداثة ككل سوف يكون - بصفة أساسية - ذا نزعة توحيدية ومدفوعا أيديولوجيا (مثلما يشير هجوم أدورنو على سترافينسكي الوارد في الفصل الثاني). والواقع أن فكرة التطور النخبوي أو المدفوع من الحركة ربما تكون قد ضللت كثيرين في ذلك الوقت؛ لأن بمقدورنا الآن النظر إلى الحقبة ككل، وأن نرى، في الواقع، أن تعددية انتقائية وحوارا كانا سائدين.
ولدينا في الموسيقى، على سبيل المثال، شتراوس ومالر، إذا جاز التعبير، على الجانب الرومانسي والمعبر عن الذات، وسترافينسكي على الجانب «الموضوعي» والتحول إلى الكلاسيكية الجديدة، وشونبرج الذي يتحول من جانب إلى آخر. وقد ظلت الاحتمالات الثلاثة متاحة إلى جانب المناهج الأكثر انتقائية بكثير للحداثيين المجددين؛ أمثال: تشارلز آيفز، وإدجار فاريز، وجون كيدج؛ لذلك دائما ما يكون أمرا نظريا إلى حد الهراء الاعتماد على جدلية خفية، ينظر فيها إلى مدرسة شونبرج، أو التجليات الخفية لحركة دي ستيل، أو ثيوصوفية وخرافة ييتس، أو حتى تطور السمات الشكلية، مثل «التسطيح»، الذي اعتبره كليمنت جرينبرج السمة النوعية المميزة للرسم الحديث بحق، أو الدافع «العلمي» نحو اقتران الفن بالتكنولوجيا، المؤيد من الباوهاوس؛ باعتبارها الحامل الأوحد «لعبء التاريخ التقدمي» في الفنون.
تخيل أنك تحاول، الآن، تحديد أي من جويس، أو وولف، أو لورانس، أو بيكاسو، أو كاندينسكي، أو إرنست، أو موندريان، كان الأكثر «تقدمية»، ولماذا. ناهيك عن طرح نفس السؤال بالنسبة لويلز، وشو، وبريخت، وآخرين، الذين «كانوا» حقا ملتزمين بالتدخل السياسي اليساري؛ لأنه من المفترض أن يكون السؤال في حالتهم أكثر سهولة في إجابته. ما يحدث - في الغالب - هو أننا نفكر في خط تطوري مقبول بوجه عام؛ كخط التحرر النسائي، وحينئذ يكون المقياس أوضح كثيرا. فنجده يضع إبسن قبل شو وجويس، على الرغم من معتقداته المستقاة من إبسن، في موضع مختلف، فيما يحذف إليوت ولويس وباوند ومعظم المستقبليين، بينما تكون فيرجينيا وولف - باعتبارها مناصرة للحركة النسائية، ومجددة، وتتميز بوعي ثقافي، وعلى الأخص في رواية «بين الفصول» (1941) - على الجانب «اليميني» بدرجة أو بأخرى.
إن هذا التصنيف الأخلاقي والسياسي، بقدر ما قد يعتبر قيما في سياقه، فإن تأثيره محدود على فهمنا لتطور تاريخ حركات الفن الحداثي. إنه انخراط حقيقي مع حركة التحرر النسائي، كما هو موضح في الكتابات الكثيرة التي تناولت هذا الأمر، سيكون من شأنه النظر عن كثب شديد إلى شتى أنواع التجمعات المؤسسية والاجتماعية، والكاتبات وعلاقاتهن المتبادلة، وما إلى ذلك.
يمكننا من منظورنا الخاص أن نرى أن الأنماط المتباينة قد أدت إلى صنوف مختلفة من الدلالة الثقافية الواسعة ذات المدى الطويل، والتي تضفي على أعمال كبار الفنانين الحداثيين مكانتهم المتعارف عليها. والتغيرات المهمة هنا لا تكمن فقط داخل الثقافة «الرفيعة»؛ فكما يذكرنا ديريك سكوت: «كان لموسيقى البلوز ذات الاثنتي عشرة فاصلة، والتي قيست في إطار الدلالة الاجتماعية، أهمية أكبر بالنسبة لموسيقى القرن العشرين من صف الاثنتي عشرة نغمة.» قد ينظر إلى الأخيرة بوصفها أكثر «تقدمية»، ولكن فقط في نطاق التقاليد الشكلية للموسيقى ككل؛ فالمقاييس الاجتماعية والجمالية في تفاعل دائم، وفي الحقب ذات النشاط الفني الكبير من الممكن أن تكون مستعصية بشدة على التنبؤ.
ثمة تركيز جمالي مقيد على التطورات في التقنية (وما يلازمها دائما وعلى نحو مفرط من السعي وراء العمل المنهجي الموحد لأقصى حد، كما في حقبة الستينيات من القرن العشرين) يميل لأن يقودنا للاعتقاد بأن مجموعة موسيقية ما يمكن أن تكون بمفردها على الخط الصحيح أو «الضروري» للتطور. فهناك، مثلا، علاقة واضحة تقدمية تقنيا بين أوبرات «تريستان» و«إلكترا» و«التوقع» في تطويرها للكروماتية، إلا أن ما يحرك التشابهات بينها حقا كأعمال فنية مستمد على نحو مؤكد من الأفكار الأكثر انتشارا، بوجه عام، عن التجسيد اللاعقلاني والإباحي الجديد للنساء ونشاطهن الجنسي. وكما قلت من قبل، فإن الأفكار التي تقف وراء التغيير الفني، وتأثيراتها النفسية المستحبة بدرجة ما أو بأخرى على الجماهير، هي التي تشكل أهمية لمفاهيم التقدم، وهذه الأفكار توجد داخل وخارج الفنون، وليست جميعها سياسية بوضوح.
لذا لم يعد رسم لوحات تجسد الإنسان «بعد التكعيبية» شيئا مقدسا للغاية؛ إذ يمكن تحويله إلى منظر طبيعي كثير التضاريس - وبعد الدادائية وأوبرا «التوقع»، صار التداعي اللاعقلاني للأفكار يؤسس نفسه كوسيلة لفهم الطبيعة البشرية، في أعمال من «ووزيك» لبيرج إلى «أغنيات لملك مجنون» لماكسويل ديفيز. وكما أشار العديد من المعلقين، هناك عدد من الخيوط أو السلالات يجدر النظر إليها هنا؛ فالتغيرات الفنية الجوهرية في الموسيقى، على سبيل المثال في عام 1912، والتي شهدت التحرر من الموضوعاتية في «الألعاب» لديبوسي، وبداية النغمات النشاز في «بييرو في ضوء القمر» لشونبرج، والمقاييس والإيقاعات الثورية لباليه «طقوس الربيع» لسترافينسكي، كان يمكن - واستطاعت بالفعل - أن تنطلق في شتى أنواع الاتجاهات، ولم تكن جميعها لا مقامية، ولم يكن أحدها ينتمي إلى أي جماعة طليعية بعينها. وكانت الابتكارات الثلاثة جميعا محررة، وجميعها فرضت مشكلات جديدة على المؤلفين الموسيقيين على اختلاف قناعاتهم، وأمكن استخدامها داخل نطاق جميع صنوف الأطر التمثيلية للأفكار، ما أتاح، على سبيل المثال، الأحاديث الممطوطة الرمزية الصوفية لأوبرا كارول شيمانوفسكي «الملك روجر»، والهمجية المدنية لباليه بيلا بارتوك «الماندرين العجيب»، وحتى الكوميديا الغنائية التي اتسم بها عمل ويليام والتون «الواجهة».
ولعل الأفضل أن نرى التقنيات الحداثية باعتبارها قادرة على المواجهة في شتى أنواع الاتجاهات، على الرغم من المطالبات التقدمية المتعلقة بالطرق المستحسنة للاستفادة منها؛ على سبيل المثال، تطور الكولاج السياسي في حقبة الفايمار، أو تأثيرات التغريب البريختي. ويرجع هذا إلى أن الفن الحداثي الراسخ كان يستهدف - بشكل شبه دائم - التأثيرات السياسية أو الاجتماعية (أو الدينية) المتعددة على عقل القارئ، أو المستمع، أو المشاهد. ومن هنا جاء الطابع النسوي لدوروثي ريتشاردسون وفيرجينيا وولف، وقومية ييتس وجويس، والتحليل الاجتماعي لأودن وزملائه، وجورج جورسز، وجون هارتفيلد (هيلموت هيرزفيلد) وأوتو ديكس، ودفاع أودن، وإليوت، وسترافينسكي عن المسيحية، والعلاقة بين فن العمارة والمجتمع، تلك العلاقة التي طرحها جروبيوس ولو كوربوزييه؛ والنقد الساخر واللاعقلاني لإرنست وأراجون، والتحرر الجنسي الذي استهدفه جيد، وجويس، ولورانس، وبريتون، ناهيك عن النقد الاجتماعي الشعبي في أفلام مثل: «الأزمنة الحديثة»، و«ميتروبوليس»، و«المدمرة بوتمكين» وما إلى ذلك. ومعظم هذا الفن، بالنظر إلى الفرضيات العامة للمجتمعات في أوروبا في مطلع القرن العشرين، ليبرالي أو يساري بشكل واسع في المقصد، إلى حد أنه يقارن الأيديولوجيات السياسية المحافظة السائدة مع نموذج غير إلزامي، ولكنه نقدي للثقافة.
شكل 4-2: جون هارتفيلد، «كما في العصور الوسطى ... كذلك في الرايخ الثالث» (1934). المقارنة بين الثقافات بالمونتاج الفوتوغرافي التلميحي، والخيانة النازية لكل ما هو حديث.
إن الأعمال الحداثية كافة ترتبط بطريقة ما بالبرامج السياسية، لدرجة أنها كانت متفاعلة مع صراعات سياسية حالية في المجتمعات. ويتضح هذا على نحو خاص، على سبيل المثال، في حالة جورج جروش وزملائه في مجال دمج وتجميع الصور الفوتوغرافية، والإخوة هيرزفيلد (انظر الشكل
4-2 )؛ فقد كان باكورة أعمال جروش كدادائي يحمل قدرا كبيرا من التعبير الهندسي المستقبلي والتكعيبي، ولكن خلال مشواره لاحقا، نجده يهذب هذا إلى أسلوب كارتوني أكثر تمثيلا بكثير، على اعتقاد منه بأنه يتفاعل «مع الميول الهائمة كالسحب لما يسمى بالفن المقدس الذي وجد معنى فيما هو تكعيبي وقوطي» في إشارة إلى الحركة التعبيرية. ويذكرنا هذا أنه في جميع الحقب يوجد تقليد من تقاليد الفن الواقعي مدفوع بقوة بالملاحظة الأخلاقية. وفي حالة جروش، يظهر هذا في الكثير من اللوحات ومجموعات رسوماته، وأبرزها «وجه الطبقة الحاكمة» (1921) و«ها هو الإنسان» (1923)، اللذين ربما يكونان الأبرز بين كتبه؛ فهو لا يعنى فقط بالخيانة أو معاناة العمال ، ولكنه ينظر إلى الحياة الخاصة للطبقات الحاكمة، الذين ينظر إليهم كداعرين، ومولعين بقتل الرغبة، وبغاة، فيما يعد رؤية بهيمية وقبيحة وسيرسية للسياسة والنشاط الجنسي. وهي ترمز إلى التجرد من الإنسانية الذي يظهر داخل أي مجتمع رأسمالي، حين يعامل الأقوياء الآخرين كمجرد أشياء.
إنني أعتزم خلق رؤية واقعية تماما للعالم ... لم يعد الإنسان فردا يمثل برؤية نفسية ثاقبة، وإنما هو مفهوم جماعي شبه آلي. اطمس اللون، وستجد الخط مرسوما حول بنية فوتوغرافية متجردة لإعطاء اتساع. مرة أخرى، عودة إلى الثبات وإعادة البناء، والوظيفة مثل: الرياضة، الهندسة، الآلة. لا مزيد من الرومانسية المستقبلية الديناميكية.
لا شك أن جروش قدم إسهامات مهمة للتشخيص الثقافي من النوع السياسي، فنجد لوحته «أعمدة المجتمع» (1926) تقدم توجها تنبئيا نحو النازية؛ إذ تصور عنف وعسكرية اليمينيين. وكما عبر كارل أينشتاين عن ذلك، في عام 1923:
هناك توتر هائل بين أقطاب الفن المعاصر؛ فالبنائيون والرسامون اللاموضوعيون يؤسسون ديكتاتورية للشكل، بينما آخرون أمثال: جروش، وديكس، وشليشتر، يحطمون الواقع بموضوعية لاذعة. إن رسمهم بمنزلة حكم بالموت، ورقابتهم بمنزلة سلاح شرس.
يعتمد جروش على توافق رسام الكاريكاتير مع الواقعية، مهما كان عصريا (كما يفعل بيكاسو)، ولكن ماذا يحدث للمضمون السياسي لعمل حداثي بالكامل، يستغل تقنية حديثة من تقنيات ما بعد الحداثة، ويعتمد على عدة طبقات من التلميح التاريخي والخرافي والفني؟ كثير من الروائع الحداثية جمعت بين التجريب الشكلي والدلالة الفلسفية أو السياسية؛ ف «الرباعيات الأربع» لإليوت، على سبيل المثال، تعد بنية لفظية مستقلة وجميلة، وأيضا تحليلا عميقا للاهوتية الإنجيلية. من الممكن بالطبع وضع الشكلية والاستقلالية الجمالية (اللتين يمكن أن يبدو أنهما موجهتان للمتع الخاصة لا أكثر) والالتزامات السياسية إحداها ضد الأخرى، ولكن في الكثير من الحالات الحداثية كانت متعاونة (لا سيما في «ووزيك»). «الجورنيكا» (1937)
لقد استهللت هذا المقال ببعض الأمثلة، وأود أن أختتمه بمثال له مدلول سياسي عظيم مثل أي عمل آخر. تجمع لوحة «جورنيكا» لبيكاسو (الشكل
4-3 ) بين محاكاة سياسية، تظهر التأثيرات المرعبة لواحدة من الغارات الجوية الأولى التي وجهت ضد سكان مدنيين ، والغضب المعنوي النابع من ذلك، مع استخدام عميق للتقنيات الحداثية التلميحية والخرافية والمشوهة للشكل. وكان تأثيرها السياسي، باعتبارها دراسة للحرب والإرهاب، تأثيرا دائما، منذ عرضها في نحو عام 1937، حتى استخدامها الحالي، في نسخة من النسيج المزركش، بإحدى ردهات مقر الأمم المتحدة (وكانت مغطاة حين أصدر كولن باول تصريحا أمامها بشأن غزو العراق). إن تأثيرها يكمل ويمدد، ويعطي عمقا إنسانيا للواقعية التي تؤسس لحقائق تاريخية. وقد تجلى هذا التناقض في عرضها الأول في الجناح الإسباني بمعرض باريس الدولي؛ حيث «كان كل زائر في مواجهة تمثال «مونتسرات» لجونزاليز الذي ينتمي للفن الواقعي الاشتراكي عند المدخل، وتمثال حديدي لفلاحة تقف في شموخ في مواجهة جميع الوافدين حاملة منجلها ودرعها»، والصور الفوتوغرافية لجورنيكا في شعلات لهب على أرضية بالأعلى، إلى جانب لوح جداري يحمل قصيدة بول إيلوار «انتصار جورنيكا». وقد كان هذا التصوير الفوتوغرافي والفن الواقعي الاشتراكي متعاونا مع، وليس ضد، الجداريات الحداثية الضخمة؛ فوجودهم معا وحده هو ما مكنهم من فرض استجابة تأملية.
شكل 4-3: بابلو بيكاسو، لوحة «جورنيكا» 1937. تصوير للقصف العشوائي للمدنيين؛ وهي لوحة تتسم بالغموض والضخامة، وتمثل رائعة من روائع التلميح الضمني المعقد، وتعد بمنزلة نبوءة مرعبة.
عند النظر إلى الجوانب الحداثية للرسم، يمكننا أن نرى انبعاثا للكلاسيكية الجديدة؛ «مزيج الركود والصخب» في عمل أشبه بإفريز، و«الأسلوب النحتي الدقيق لمشاهد المعارك الديفيدية» في «عرض مهيب للصراع حمل معارضة قوية لتقليد ديفيد». ولكن تيم هيلتون، الذي أحذو حذوه، يرى «جورنيكا» أيضا كلوحة غامضة تحمل أيقونات مبهمة؛ فلا أحد حقا يعرف إلام يرمز الثور، على سبيل المثال. وهذه الالتباسات من شأنها التأثير على أي تقييم للتأثيرات السياسية للعمل.
في أكتوبر 1937، استخدم أنطوني بلانت، الذي كان آنذاك مؤيدا ستالينيا للواقعية الاشتراكية؛ الحجة الجماعاتية، فكان يرى أن صور بيكاسو الخيالية الخاصة كانت فقط «لزمرة محدودة من الملحدين». وهذا يفرض سؤالا: كيف يمكن لفن حداثي كهذا أن يكون فنا للمعارضة في الساحة السياسية على نحو فعال؟ من الواضح أن التأثير المعارض للوحة «جورنيكا» في ذلك الوقت كان على الأرجح أقل من، أو على الأقل خاضعا لتأثير الصور الفوتوغرافية، التي رسخت، بالاشتراك مع شهادات العيان التي أدلى بها مراسلو الصحف، للحقائق المادية والتاريخية للوحشية. لكن كعمل فني، فإن «آثارها» معد لها أيضا أن تتجاوز فترة التدخل السياسي الفعال؛ ومن هنا يبرز السؤال لبلانت وأمثاله: هل يريدون ذلك النوع من الفن الملائم دائما من الأساس؟
الإجابة هي أن «جورنيكا» ليست، ولا ينبغي أن تكون، مجرد جزء من ذلك الجدال المحلي، وهي لا تتحيز بشكل واضح لأحد في الولايات المتحدة أيضا، أيا كان الواقف أمامها. لا بد أن نحدد ما نعتقده بشأن سخطها المعنوي على التدمير العسكري أو الإرهابي لسكان مدنيين (وما إذا كان ذلك ينطبق على العراق).
وهناك الكثير من الصور الفوتوغرافية والتقارير الأحدث لمساعدتنا في الصحف وفي التليفزيون، وإلا قد تكون «مجرد» صورة مسالمة، حتى وإن كانت تحتج وتستسلم للاستمرار الحتمي لهذا النوع من الظلم وخرافات التحول إلى النمط العسكري الداعمة لهذا الظلم، والتي، كما يعتقد العديد من الحداثيين (أبرزهم نيتشه وييتس)، تتكرر مرارا حتما.
ولكن كيف يمارس هذا الاستغلال للخرافة تأثيره؟ يرى ماكس رافاييل، الذي كان يمارس الكتابة وقت أن كانت «جورنيكا» في أوج شهرتها، أن الرمزية الخرافية في غاية التباين والتناقض؛ فالثور، على سبيل المثال، قد ينظر إليه كرمز لقوة الحياة الذكورية، أو رمز للانبعاث والنهضة، أو حتى كرمز للسادية البليدة للفاشية. ويمكن أن يكون الحصان تعبيرا عن الفاشية المهزومة، أو الناس وهم في حالة من الهزيمة القربانية. ويحاكي رافاييل بلانت في الاعتقاد بأن رمزية العمل ليست «بديهية»، و«مسفهة» أكثر منها محفزة على «الحراك الإبداعي»؛ فالصورة شخصية أكثر من اللازم، ومليئة «بالوساوس الداخلية» (وكأنها من صنع دالي)؛ ومن ثم «تخفق في احترام الحراك الواقعي في العالم الواقعي». والحراك «الواقعي» هنا يبدو شبيها إلى حد كبير بالحراك الحزبي، ولا يوجد الكثير من المنطق في الاعتقاد بأن له أحقية أكبر في ادعاء «الواقعية» من أي نوع آخر. ويتوصل كريستوفر جرين إلى مجموعة مختلفة من الاعتبارات الحداثية ، مذكرا إيانا بأن التحليل النفسي ادعى شمولية للخرافة؛ ولذا يحظى الابتذال الظاهر للرمزية هنا بشمولية معقدة عن طريق التلميح الضمني؛ ومن ثم فهي بعيدة كل البعد عن التأثير الخاص أو الاستحواذي؛ فالنساء الحزينات يستدعين إلى الأذهان صلبا مسيحيا، والثور يستدعي إلى الأذهان المصارع. ويرتبط الحصان بالخرافات الإسبانية للتضحية في حلبة مصارعة الثيران. ونطاق هذا كبير في الواقع؛ ولذلك نعود إلى الاعتبارات التي أثارها استشهادي الافتتاحي من رواية «يوليسيس»، الذي يعد أيضا عملا خرافيا ينتمي للكلاسيكية الجديدة، وذا طابع شمولي، وتجريبيا - بلا شك - مثل «جورنيكا».
تعتبر لوحة بيكاسو مثالا ممتازا للصراع الحدودي للحداثة مع الفن الواقعي، ومع المتطلبات السياسية التي يمكن فرضها على العمل التجريبي. ومن الواضح أن الكثير جدا من الأمور تعتمد بوضوح على سياسة اللحظة. وقد ساعد التأويل السياسي «الواضح» للصور الفوتوغرافية (ناهيك عن التقارير في الصحافة) على جعل لوحة «جورنيكا» عملا ضروريا للغاية، ولكن في المنظور الأطول مدى، قد يكون هناك امتنان أعمق وأكثر استمرارية للفنون، وبخاصة فنون الحداثة؛ لنماذجها النوعية ذات الطابع الكلاسيكي المجدد والشمولي، ومغزاها الأخلاقي الإنساني المستمر، ومطالبها السياسية، واستعدادها لجمع الثقافات معا، من خلال رؤية أطر لاهوتية وسياسية متباينة عبر ما تحويه من خرافات ورموز. وخلال ذلك، يمكن أن تكشف عن شيء عميق، ومتضارب وصعب أيضا، يتعلق بالسلوك البشري. وهذا ما عولت عليه لوحة «جورنيكا» لتبقى لأمد طويل رائعة من الروائع الفنية؛ فالبقاء القوي المذهل للأعمال الحداثية العظيمة، وملاءمتها المستمرة لسياقات سياسية مختلفة إلى حد كبير (ولعالم تحظى فيه ماركسية رافاييل بمكانة أقل بكثير)؛ هما ما يجب أن يشكلا أهمية بالنسبة لنا.
ولكن قد نتساءل أي من السياسة والثقافة هو الحاوية، وأي منهما المحتوى؟ في اعتقادي ثقافة الأمة، ناهيك عن الثقافة الأوروبية الجماعية التي ألهمت معظم الحداثيين (بما في ذلك رواياتها التاريخية المستحسنة)، يجب اعتبارها دائما الوعاء الحاوي لسياستها (التي لا بد أن نتمنى لها دائما أن تنهزم، في أسوأ مظاهرها) وليس العكس؛ فالتعاطفات الثقافية الشاملة والجامعة للحداثة هي ما تجعلها ضرورية جدا للثقافة وصراعات العصر الحالي ، الذي يواجه تحديات هذا القرن، ولكنه لا يستطيع نسيان الدروس التاريخية أو الحكمة الفنية للقرن السابق.
المراجع
الفصل الأول: الأعمال الفنية الحداثية
James Joyce,
Ulysses,
ed. Walter Gabler et al. (London: The Bodley Head, 1986), 1-8, 3.
Hugh Kenner,
Ulysses (London: George Allen and Unwin, 1982), 34, 35.
Louis Vauxcelles, in
Gil Blas , 14 November 1908, in Edward F. Fry,
Cubism (London: Thames and Hudson, 1966), 50.
John Golding,
Cubism: A History and an Analysis 1907-1914 (London: Faber and Faber, 1959), 10.
Kirk Varnedoe and Adam Gopnik (eds.),
High and Low: Modern Culture and Popular Art,
exh. cat. (New York: Museum of Modern Art, 1991), 292.
Stephen Hinton (ed.),
Kurt Weill: The Threepenny Opera (Cambridge: Cambridge University
scene can be found in
The Threepenny Opera , tr. Ralph Mannheim and John Willet (London: Methuen, 1979), 121f.
F. S. Flint, in
The Times , cit. Alan Young,
Dada and After: Extremist Modernism and English Literature (Manchester: Manchester University Press, 1981), 49.
Cit. Elizabeth Cowling,
Style and Meaning (London: Phaidon, 2002), 2.
Cowling, ibid., 26.
Cf. Marinetti’s 'Destruction of Syntaxt: Imagination without Strings-Words in Freedom’ (1913), in Umbro Apollonio (ed.),
Futurist Manifestos (London: Thames and Hudson, 1973), 96.
الفصل الثاني: الحركات الحداثية والتقليد الثقافي
Kandinsky,
On the Spiritual in Art,
cit. Debbie Lewer (ed.),
(Oxford: Blackwell, 2006), 101.
Desmond MacCarthy, preface to the catalogue of the 1910 exhibition, in J. B. Bullen (ed.),
(London and New York: Routledge, 1988), 98.
Matisse, 'Notes of a Painter’ (1908), in Jack D. Flam,
Matisse on Art (London: Phaidon, 1978), 37.
As Jack D. Flam points out in
Matisse: The Man and His Art 1869-1918 (London: Thames and Hudson, 1986), 250-2.
Quotations from Roger Fry, 'The French Group’ (1912) come from Bullen op. cit., 352-4. Also rpt. in Vassili Kolocotroni et al. (eds.),
Modernism: An Anthology of Sources and Documents (Edinburgh: Edinburgh University Press, 1998), 189 ff. (This is a very useful and wide-ranging anthology which sees modernism in its European context.)
Jelena Hahl-Koch,
Kandinsky (London: Thames and Hudson, 1993), 253.
Joseph Rufer,
The Works of Arnold Schoenberg: A Catalogue of His Compositions, Writings and
tr. Dika Newlin (London: Faber and Faber, 1962), 45.
This essay was later reprinted in the collection
Von neuer Musik (Cologne, 1924).
Stephen Walsh,
Stravinsky: The Second Exile, France and America 1934-1971 (London: Jonathan Cape, 2006), 292; cf. 281.
On the symbolic interpretation of this concerto, see e.g. Karen Monson,
Alban Berg (London: Macdonald, 1979), 211-21.
John Milner,
Mondrian (London: Phaidon, 1992), 161, 163.
De Stijl,
I, 2, 39, and II, 2, 40, rpt. in Hans L. Jaffe,
De Stijl (London: Thames and Hudson, 1970), 31.
C. H. Waddington,
Behind Appearances (Edinburgh: Edinburgh University Press, 1969), 42ff.
See Joan Weinstein,
The Ends of Expressionisn: Art and the November Revolution in Germany, 1918-1919 (Chicago: Chicago University Press, 1990).
Cit. Frank Whitford,
Bauhaus (London: Thames and Hudson, 1984), 128.
Calvin Tomkins,
Duchamp (London: Chatto and Windus, 1997), 168.
Constant Lambert,
Music Ho! A Study of Music in Decline (1934; reprinted London: Faber and Faber, 1966), 74.
Stravinsky in an interview of 1925, cit. Scott Messing,
Neoclassicism in Music: From the Genesis of the Concept through the Stravinsky/Schoenberg Polemic (Rochester, New York: Rochester University Press, 1988, 1996), 141.
Cit. Messing, ibid., 142.
Theodor W. Adorno,
The Philosophy of ModernMusic (London: Sheed andWard, 1948), 64. The attack on neoclassicism as infantile is on 206f.
Dermé, 'Quand le symbolisme fut mort’, a programmatic statement for his
North South , cit.
Modernisms (London: Macmillan, 1995), 243.
Cit. Nicholls, ibid., 245.
Igor Stravinsky and Robert Craft,
Expositions and Developments (London: Faber and Faber, 1962, 1981), 113.
Mikhail Ruskin,
Igor Stravinsky: His Personality, Works and Views (Cambridge: Cambridge University Press, 1995), 47.
Stravinsky, cit. Eric Walter White,
Stravinsky: The Composer and His Work (Berkeley: University of California Press, 1979), 574f.
Messing, op. cit., 133.
Elizabeth Cowling, op. cit., 425, 428f.
John Berger,
Success and Failure of
(Harmondsworth: Penguin Books, 1965), 98.
Michael Roberts, in his introduction to
The Faber Book of Modern Verse (1936), rpt. Kolcotroni, op. cit., 514f.
Stravinsky,
Music (Cambridge, Mass., and London: Harvard University
Cit. Bram Djikstra,
Cubism, Steiglitz and the Early Poetry of William Carlos Williams (New Jersey: Princeton University Press, 1969), 9.
Williams, 'Prologue’ to 'Kora in Hell’, in
Imaginations (New York: New Directions, 1971), 14.
Djikstra, op. cit., 134, 165, 167f.
James Joyce,
Stephen Hero (London: Jonathan Cape, 1969), 96.
Mann, letter of 1915, cit. T. J. Reed,
Thomas Mann: The Uses of Tradition
2nd edn. (Oxford: Oxford University Press, 1996), 237.
J. P. Stern,
The Dear Purchase: A Theme in German Modernism (Cambridge: Cambridge University Press, 1995), 29.
I. A. Richards,
Literary Criticism (1926; rpt. London: Routledge and Kegan Paul, 1967), 233.
C. Day Lewis, 'A Hope for Poetry’ (1934), in C. B. Cox and Arnold P. Hinchcliffe (eds.),
T. S. Eliot: The Waste Land: A Casebook (London: Macmillan, 1968), 58f.
T. S. Eliot, 'Ulysses, Order and Myth’,
The Dial,
LXX, 5 (November 1923), 483.
Madame Blavatsky, 'The Secret Doctrine’ (1888), extract rpt. Kolcotroni, op. cit., 32.
J. A. Symons,
The Symbolist Movement in Literature (London: Heinemann, 1899), 9.
الفصل الثالث: الفنان الحداثي
Joyce,
Ulysses,
ed. Gabler, op. cit., 8: 21-6.
Ibid., 8: 537-44.
Woolf, 'Mr Bennett and Mrs Brown’, in Andrew Mcneillie (ed.),
The Essays of Virginia Woolf,
vol. III (London: Hogarth Press, 1988), 385.
Woolf, 'Character in Fiction’, in ibid., vol. III, 427, 428.
Woolf,
Mrs Galloway (Oxford: Oxford University Press, 1992), 4f.
Joyce,
Stephen Hero (London:Jonathan Cape, 1969), 218.
Jeri Johnson (ed.), Joyce,
A
(Oxford: Oxford University Press, 2000), 172, 178f.
Jeanne Schulkind (ed.), Virginia Woolf,
Moments of Being (London: Grafton, 1989), 79-81.
Virginia Woolf,
To the Lighthouse (Oxford: Oxford University Press, 1992), 217, 231, 272.
T. S. Eliot, 'Burnt Norton’,
The Complete Poems and Plays of T. S. Eliot (London: Faber and Faber, 1969), 175.
Frank Kermode,
Romantic Image (London: Routledge, 1957), 157.
Jean-Paul Sartre,
Nausea,
tr. Robert Baldick (Harmondsworth: Penguin Books, 1965), 60, 63, 82, 182f., 185, 191.
J. P. Stern,
The Dear
(Cambridge: Cambridge University Press, 1995), 30.
Thomas Mann,
The Magic Mountain,
tr. H. T. Lowe-Porter (Harmondsworth: Penguin Books, 1953), 495ff.
Ricardo Quinones,
Mapping Literary Modernism (New Jersey: Princeton University Press, 1985), 92, 95.
Charles Russell,
and Revolutionaries (New York: Oxford University Press, 1985), 10.
Franz Kafka,
The Trial,
tr. Willa and Edwin Muir (Harmondsworth: Penguin Books, 1953), 250f.
Quinones, ibid., 95f.
Quinones, ibid., 105.
George K. Zykaruk and James T. Boulton (eds.),
The Letters of D. H. Lawrence,
vol. ii (Cambridge: Cambridge University Press, 1981), 183.
In a review in
The Nation and Athenaeum,
13 August 1921, rpt. Colin Clarke (ed.),
D. H. Lawrence, The Rainbow and Women in Love: A Casebook (London: Macmillan, 1969).
D. H. Lawrence,
The Rainbow (Oxford: Oxford University Press, 1997), 319f.
See John Werthen,
D. H. Lawrence (London: Allen Lane, 2005), 164.
I follow S. L. Goldberg, 'The Rainbow: Fiddle and Sand,
Essays in Criticism,
XI, no. 4 (1961), rpt. in Clarke (ed.), op. cit., 120.
Julian Moynihan, 'Ritual Scenes in
The Rainbow ’, rpt. Clarke (ed.), op. cit., 149.
Douglas Jarman,
Alban Berg: Wozzeck (Cambridge: Cambridge University Press, 1989), 44 (on the fugue) and 21.
André Breton, 'The First Surrealist Manifesto’ (1924), in
André Breton: Manifestos of Surrealism (Ann Arbor: University of Michigan Press, 1972), 26.
Ibid., 9f.
Rpt. in Kolocotroni et al. (eds.),
Modernism: An Anthology of Sources and Documents (Edinburgh: Edinburgh University Press, 1998), 601ff.
Ruth Brandon,
Surreal Lives: The Surrealists 1917-1945 (London: Macmillan, 1999), 317f and 330.
Sigmund Freud 'Fetishism’ (1927), in
On Sexuality , Penguin Freud Library, vol. 7 (Harmondsworth: Penguin Books, 1977), 354.
Jennifer Mundy (ed.),
Surrealism: Desire Unbound,
exh. cat. (London: Tate Publishing, 2001), 45.
Ian Gibson,
The Shameful Life of Salvador Dali (London: Faber and Faber, 1997), 215f.
Wallace Stevens,
Opus
(London: Faber and Faber, 1969), 177.
Christopher Isherwood,
Lions and Shadows (London: Signet, 1968), 185.
W. H. Auden,
The Orators (London; Faber and Faber, 1966), 93.
W. H. Auden, 'Psychology Today’ (1935), in Edward Mendelson (ed.),
The English Auden (London: Faber and Faber, 1977), 340f.
الفصل الرابع: الحداثة والسياسة
I follow Brandon, op. cit., 262ff. For a full account, see Gerard Duruzoi,
History of the Surrealist Movement,
tr. Alison Anderson (Chicago and London: Chicago University Press, 2002), 189-235.
Arthur Koestler,
Darkness at Noon (Harmondsworth: Penguin Books, 1964), 41, 82.
Cf. the account of Lukács in Astradur Eysteinsson,
The Concept of Modernism (Ithaca and London: Cornell University Press, 1990), esp. 29.
Lukács, 'Realism in the Balance’ (1938), rpt. in Kolcotroni et al., op. cit., 584ff.
Eric Kaufmann in
magazine, November 2006, 30.
In his 'A Hope for Poetry’ (1934), in Kolcotroni, op. cit., 489.
Orwell, 'Inside the Whale’ (1940), ibid., 607. 'poetry’: Day Lewis, ibid., 492.
Alex Ross,
The Rest is Noise (London: Fourth Estate, 2008), 203-4.
The Arts of the Third Reich (London: Thames and Hudson, 1992), 123.
Excerpts from Hitler’s speech are cited from Kolcotroni, op. cit., 560-3. The German text of the speech is in Peter Klaus Schuster (ed.),
Die 'Kunststad’ Munchen 1937 - Nationalsozialismus und 'Entartete Kunst’ (Munich:
Winfried Wendland,
Kunst und Nation (Berlin: Verlag der Raimer Hobbing, 1934), 19, cit. Adam, op. cit., 95.
Cit. Adam, op. cit., 95f.
These paintings (along with many others) are reproduced in Adam, op. cit., 26, 51, 172.
A press spokesman for the Ministry of Information (1937), cit. Adam, op. cit., 16.
Cit. Adam, op. cit., 69.
Literature and Society in Germany 1915-1945 (Brighton: Harvester, 1980), 244.
Charles Russell,
and Revolutionaries (New York and Oxford: Oxford University Press, 1985), 113.
Diana Crane,
The Transformation of the Avant-Garde: The New York Art World, 1940-1985 (Chicago: Chicago University Press, 1987), 1.
Notably in his essays 'Modernist Painting’ (1961) and 'After Abstract Expressionism’ (1962), rpt. in Charles Harrison and Paul Wood (eds.),
Art in Theory 1900-1990 (Oxford: Blackwell, 1992).
Derek B. Scott, 'Introduction’, in Derek B. Scott (ed.),
Music, Culture and Society (Oxford: Oxford University Press, 2000), 11.
Grosz, cit. Beth Irwin Lewis,
Georg Grosz: Art and Politics in the Weimar Republic (New Jersey: Princeton University Press, 1991), 53.
Grosz, cit. Hans Hess,
George Grosz (New Haven and London: Yale University Press, 1985), 101f.
Carl Einstein 'Otto Dix’,
Das Kunstblatt,
vol. 7 (1923), 97.
Christopher Green,
Art in France 1900-1940 (New Haven: Yale University Press, 2003), 335.
Tim Hilton,
(London: Thames and Hudson, 1975), 246.
Blunt, cit. Green, op. cit., 286.
Green, op. cit., 289.
Cf. e.g. Gijs van Hensbergen,
Guernica: The Biography of a Twentieth Century Icon (London: Bloomsbury, 2005).
قراءات إضافية
الفصل الأول: الأعمال الفنية الحداثية
For the politics of
Ulysses,
see,
inter alia,
Andrew Gibson,
Joyce’s Revenge: History, Politics and Aesthetics in Ulysses (Oxford: Oxford University Press, 2002). On the relationship of early modernist painting to popular culture, see for example Jeffrey Weiss,
The Popular Culture of Modern Art (New Haven and London: Yale University Press, 1994). On
(London: Phaidon, 2002). On the development of Léger’s painting, see Christopher Green,
Léger and the Avant Garde (New Haven and London: Yale University Press, 1976). For a study of technical innovation in the arts, see Christopher Butler,
Early Modernism: Literature, Music and Painting in Europe 1900-1916 (Oxford: Clarendon Press, 1994).
الفصل الثاني: الحركات الحداثية والتقليد الثقافي
On Picasso and Matisse, see Elizabeth Cowling et al. (eds.),
Matisse/Picasso,
exh. cat. (London: Tate Publishing, 2002). On Diaghilev, see for example Lynn Garafola,
Diaghilev’s Ballets Russes (New York and Oxford: Oxford University Press, 1989), and Lynn Garafola and Nancy Van Norman Baier (eds.),
The Ballet Russe and Its World (New Haven and London: Yale University Press, 1999). On the development of cubism, see William Rubin (ed.),
Cubism,
exh. cat. (New York: Museum of Modern Art, 1989).
On Kandinsky’s 'Compositions’, see Magdalena Dabrowski,
Kandinsky Compositions (New York: Museum of Modern Art, 1995). And also Hartwig Fischer and Sean Rainbird (eds.),
Kandinsky: The Path to Abstraction,
exh. cat. (London: Tate Publishing, 2006).
On the Bauhaus, see the documents and pictures in Hans Wingler,
The Bauhaus (Cambridge, Mass., and London: Massachusetts Institute of Technology Press, 1978). On Duchamp and
Strange Bedfellows: The First American Avant Garde (New York: Abbeville
Duchamp (London: Chatto and Windus, 1997). On the allegedly conservative aspects of post-war neoclassicism, see for example Kenneth E. Silver,
Esprit de Corps: The Art of the Parisian Avant Garde and the First World War, 1914-1925 (London: Thames and Hudson, 1989). On the modernist preoccupation with primitivism, see for example William Rubin (ed.),
2 vols (New York: Museum of Modern Art, 1984). Also Robert Goldwater,
(Cambridge, Mass., and London: Harvard University Press, 1986; first published 1938); Marianne Torgovnik,
Gone Primitive: Savage Intellects, Modern Lives (Chicago and London: Chicago University Press, 1990); and J. Lloyd,
German Expressionism: Primitivism and Modernity (New Haven and London: Yale University Press, 1991).
On the devlopment of modernist music in America, see Carol J. Oja,
Making Music Modern (New York and Oxford: Oxford University Press, 2000). On the relationship of modernist music to earlier models, see for example Joseph N. Straus,
Remaking the Past: Musical Modernism and the Influence of the Tonal Tradition (Cambridge, Mass.: Harvard University Press, 1990). For some appreciation of the many influences on
The Waste Land , see Lawrence Rainey (ed.),
The Annotated Waste Land, with Eliot’s Contemporary
2nd edn. (New Haven and London: Yale University Press, 2006) and his
Revisiting The Waste Land (New Haven and London: Yale University Press, 2005), on the process of its composition. On Freud as atheist, see Peter Gay,
A Godless Jew: Freud’s Atheism and the Making of Psychoanalysis (New Haven: Yale University Press, 1987).
الفصل الثالث: الفنان الحداثي
On modernist literature in Germany, see J. P. Stern,
The Dear Purchase: A Theme in German Modernism (Cambridge: Cambridge University Press, 1995); Ronald Taylor,
Literature and Society in Germany 1915-1945 (Brighton: Harvester, 1980); David Midgley,
Writing Weimar: Critical Realism in German Literature 1916-1933 (Oxford: Oxford University Press, 2000); Wolf Lepennies,
The Seduction of Culture in German History (New Jersey: Princeton University Press, 2006).
On the sexual ramifications of surrealism, see Jennifer Mundy (ed.),
Surrealism: Desire Unbound,
exh. cat. (London: Tate Publishing, 2001). On the irrationalist tradition in poetry, see Marjorie Perloff,
The Poetics of Indeterminacy: Rimbaud to Cage (New Jersey: Princeton University Press, 1981). On the influence of Dada, see Richard Sheppard,
Modernism, Dada, Postmodernism (Evanston, Illinois: Northwestern University Press, 2000). On surrealism in England, see Michel Remy,
Surrealism in Britain (Aldershot: Ashgate, 1999). On the history of the surrealist movement, see Gerard Duruzoi, tr. Alison Anderson,
History of the Surrealist Movement (Chicago and London: Chicago University Press, 2002).
الفصل الرابع: الحداثة والسياسة
For a study of Western Marxism, see the volume of that title by J. G. Merquior (London: Fontana, 1986), and for a study of the interaction of Marxism and modernism, see Eugene Lunn,
Marxism and Modernism (London: Verso, 1985). On the political reactions of British writers, see Valentine Cunningham,
British Writers of the Thirties (Oxford: Oxford University
recounted in Camilla Gray,
The Russian Experiment in Art 1863-1922,
rev. edn. (London: Thames and Hudson, 1986). See also Igor Golomstock,
Totalitarian Art in the Soviet Union, the Third Reich, Fascist Italy and the People’s Republic of China,
tr. Robert Chandler (London: Collins Harvill, 1991), chapters 1 to 3. For an account of popular culture and of modernist responses to it, see Noel Carroll,
A Philosophy of Mass Art (Oxford: Oxford University Press, 1998). An interesting account of the failure of modernism to sustain a consistently socialist development is to be found in T. J. Clark’s
Farewell to an Idea: Episodes from a History of Modernism (New Haven and London: Yale University Press, 1999). A pioneering study of female social groupings is to be found in Georgina Taylor,
H. D. and the Public Sphere of Modernist Women Writers 1913-1946 (Oxford: Oxford University Press, 2001). On the continuing tradition and importance of realist art in all periods, cf. Brendan Prendeville,
Realism in Twentieth Century Painting (London: Thames and Hudson, 2000).
Also of interest are David Peter Corbett,
Modernism and English Art (Manchester: Manchester University Press, 1997) and Lisa Tickner,
Modern Life and Modern Subjects (New Haven: Yale University Press, 2000). On abstraction, see John Golding,
Absolute (London: Thames and Hudson, 2000). On music in the 20th century, see Alex Ross,
The Rest is Noise (London: Fourth Estate, 2008), Glenn Watkins,
at the Louvre: Music, Culture and Collage from Stravinsky to the
(Cambridge, Mass., and London: Harvard University
The Oxford History of Western Music,
vol. 4,
The Early Twentieth Century (New York and Oxford: Oxford University Press, 2005). Stephanie Barron (ed.), 'Degenerate Art’: The Fate of the Avant Garde in Germany,
exh. cat. (Los Angeles: Los Angeles County Museum of Art, 1991). And for music in Germany in this period, see Michael Kater,
Composers of the Nazi Era (New York and Oxford: Oxford University Press, 2000).
مصادر الصور
(1-1) © ADAGP, Paris, and DACS, London 2010/Digital image. © The Museum of Modern Art, New York/Scala, Florence. (1-2) Private collection, Roubaix. © ADAGP, Paris, and DACS, London 2010/André Held/akg-images. (2-1) © Succession H. Matisse/DACS, London 2010. Photo: Scala, Florence. (2-2) Kunsthaus, Zurich. © ADAGP, Paris, and DACS, London 2010/André Held/akg-images. (2-3) Collection of the Gemeentemuseum Den Haag, The Hague. © 2010 Mondrian/Holtzman Trust c/o HCR International, Virginia, USA. (2-4) © ADAGP, Paris, and DACS, London 2010/Yale University Art Gallery. (2-5) © ADAGP, Paris, and DACS, London 2010/Digital image © The Museum of Modern Art, New York/Scala, Florence. (2-6) © Succession Picasso/DACS, London 2010/Digital image. © The Museum of Modern Art, New York/Scala, Florence. (3-1) © Everett Collection/Rex Features. (3-2) Private collection, Paris. © Salvador Dali, Gala-Salvador Dali Foundation/DACS, London 2010/The Bridgeman Art Library. (3-3) © DACS 2010/Moderna Museet, Stockholm. (4-1) © BPK, Berlin/Scala, Florence. (4-2) © The Heartfield Community of Heirs/VG Bild-Kunst, Bonn, and DACS, London 2010. Photo courtesy of Mrs Gertrud Heartfield/akg-images. (4-3) Museo Nacional Centro de Arte Reina Sofía, Madrid. © Succession Picasso/DACS, London 2010/John Bigelow Taylor/Art Resource/Scala, Florence.
ناپیژندل شوی مخ