وهذه الجملة الأخيرة هي المفتاح للتحرر الوجودي من صياغة جمالية حداثية للحياة، والتوجه نحو نوع من العفوية الحياتية، والتي تتحول إلى مسئولية وجودية. إن ما واتى روكنتان من «كشف مفاجئ ... بأنه سعيد كبطل رواية» نابع من شعور من المصادفة التامة، بينما اقتيدت وولف إلى شعور مقبول ميتافيزيقيا بالترابط (ووجود علاقة بالشيء المادي). فيرى روكنتان أن:
الكينونة قد كشفت فجأة عن نفسها. كانت قد فقدت صفتها كفئة مجردة، كانت جوهر الأشياء. كان ذلك الجذر متأصلا في الكينونة، أو - على الأصح - كان الجذر، وحواجز الحديقة، والمقعد، والعشب النادر، كل ذلك قد تلاشى. لم يكن تنوع الأشياء وفرديتها إلا مظهرا؛ طلاء. وهذا الطلاء كان قد ذاب، فبقيت كتل ممسوخة رخوة في غير انتظام؛ عارية عريا فظيعا داعرا ...
لقد كنا كومة من الكائنات المنزعجة المرتبكة، ولم نكن نملك أي سبب لنكون هنا، لا نحن ولا الآخرون، وكان كل كائن قلقا مضطربا يحس نفسه زائدا عن اللزوم بالنسبة للآخرين.
تستهل الفقرة التالية بعبارة: «إن كلمة عبثية تولد الآن تحت قلمي.» ومعها تولد وجودية ما بعد الحرب، بما لها من التزامات أخلاقية وسياسية تحولت من طريقة حداثية إلى طريقة بعد حداثية لرؤية الكون، فكان الكون بالنسبة للحداثيين، على أقصى تقدير، وحدة موحدة كعمل فني. أما بالنسبة للوجودي الملحد، فهو كيان عارض على نحو تهكمي؛ إذ لا يشكل أي معنى سوى معنى هزلي، وليس به مكان خاص للبشر الذين يحاولون عبثا التوصل إلى تفسير سردي له. ومثلما يفعلون في كتابات ألبير كامو وصامويل بيكيت، اللذين ربما يجدان أو لا يجدان، في الحياة ما هو أكثر إرضاء من استنتاج روكنتان هنا: «كل كائن يولد بلا سبب، يطول به العمر عن ضعف منه، ويموت بمحض المصادفة.»
لكل هذه الأعمال أواصر تربطها بالأطر الاجتماعية للاعتقاد، ولكن الحداثة الرفيعة الحالمة التي تفند تلك الأطر اعتمدت - بشكل شبه كلي - على القيمة الرفيعة للغاية التي علقتها على تكامل الرؤية الفردية الذاتية للحياة، وهي الرؤية التي سوف تتعرض- كما سنرى - لقدر حاد من الضغط والاختبار بفعل المطالب السياسية في ثلاثينيات القرن العشرين، والتي تثور ضدها الفردية الوجودية.
الأبطال الحداثيون
تتبعت في الجزء السابق بعض خبرات وتجارب التجلي من خلال ثلاثة كتاب في الأدب الإنجليزي، ثم انتقلت إلى سارتر، باعتباره يمثل نقلة كبيرة في مفهوم التحول الوجودي. ولكن ثمة خط مشابه للغاية للتطور كان يمكن تبيانه لجميع الآداب الأوروبية الأساسية، على سبيل المثال في تطور مارسيل حتى التجليات الأخيرة لرواية بروست «البحث عن الزمن المفقود»، ومرورا بسرد أندريه جيد الانعكاسي الواعي بالذات لصنع الرواية في «المزيفون»، حتى سارتر، أو من رؤيا أشنباخ الأخيرة في المنام في رواية مان «الموت في البندقية»، ومرورا بتجارب فرانز بيبركوف في رواية «ميدان ألكسندر في برلين» (التي تدين بقدر ضخم لرواية جويس «يوليسيس»)، ووصولا إلى الرؤى التي ربما تكون الأخيرة، ولكنها لم تكتب قط في النهاية، لأولريش في رواية روبرت موزيل «رجل بلا صفات».
تعد مثل هذه التطورات أساسية لجزء كبير من العمل الحداثي، وبخاصة للنوع البعيد تماما عن العادي للوعي الذاتي ذي الطابع البطولي الذي أظهره العديد من أبطاله؛ ومن ثم، على سبيل المثال، يأتي الحل لاضطرابات هانز كاستورب الفلسفية في «الجبل الذهبي» في شكل تجربة أشبه بالحلم وسط عاصفة ثلجية.
ويعد هذا الحلم الأخير الذي يستقى من «مولد التراجيديا» لنيتشه بمنزلة رؤية مقتصرة على لحظة معينة، فيما يسميه ستيرن «اللحظات المميزة على هوامش الحياة العادية». فنراه يدرك بعد التدبر في الحجج والمجادلات التي سمعها (والتي وضعها لنا مان بخط مائل) أنه «باسم الخير والحب، لا يجب أن يدع الإنسان فكرة الموت تسيطر على أفكاره». ولكن هذا هو الاستنتاج النهائي لعدد من التأملات بشأن تجربته الشبيهة بالحلم، وفيها «نحلم بلا أسماء، وفي صورة جماعية، إن لم يحلم كل واحد منا وفق أسلوبه. إن الروح الكبيرة التي نحن جزء منها قد تحلم من خلالنا». ثمة جانب للإنسانية تتجاهله الواقعية ويراه كاستورب في الثلج. ولعل في الاستنتاج النهائي الذي مفاده أن «الإنسان هو سيد النقائض»؛ لأنها «تتخلله، وهو أكثر نبلا منها»، تشابها كبيرا مع استنتاج ييتس في المرحلة الثالثة عشرة من «رؤية». كاستورب، في النهاية، قبل أن يستبد به التاريخ على ساحات معارك الفلاندرز، ينضم إلى ستمبريني، ذي النزعة الإنسانية المتحررة: الحياة هي ما نفسره بأنه الوجود. ليس لها مصدر خفي أو سام للمعنى.
بالطبع يعتبر هنري جيمس السلف الأبرز هنا، بعد أن ركز رواياته على البطل أو البطلة اللذين يجمعان بين الحيرة والذكاء في ذات الوقت في «صورة سيدة»، و«السفراء»، و«الإناء الذهبي». ولكن ستيفن ديدالوس، والزوجان بلوم، ورجل موزيل عديم الصفات، الموصوف بأسلوب ساخر، وآخرين، والأبطال السيرياليين، كما سنرى، داخل وخارج الفن، في الأدب وفي الرسم، جميعهم مر بهذا النوع من التجارب، ولكنهم لا يميلون لأن يكونوا أبطال حركة، فكما يعلق كوينونز، هناك «غياب للإرادة» لدى مارسيل، وكاستورب، وبلوم، وتيرسياس، وجيكوب، والسيدة دالواي، والشخصيات الست في رواية «الأمواج»؛ فهم يميلون لأن يكونوا «مشاهدين متأملين وسلبيين وغيريين ومتسامحين». وبحسب تعبير تشارلز راسل:
ناپیژندل شوی مخ