إن «الثقافة الرفيعة» لمثل هؤلاء الكتاب من شأنها حفظ أفكار مهمة ثقافيا في قوالب تجعل فهمها سهلا على شتى المستويات، وأيضا تقدم القضايا التي تؤرق الثقافة في قالب إشكالي وقابل للنقاش. وهذا تحديدا ما يمكن أن نقوله عن أعمال مثل: «الأرض الخراب»، «البرج»، «يوليسيس»، «ميدان ألكسندر في برلين»، «ممر إلى الهند»، «البحث عن الزمن المفقود»، «ألحان جوني»، «الجبل السحري»، «الخطباء»، «بين قوسين»، «بين الفصول»، «رجل بلا صفات»، «دكتور فاوستس»، و«دائرة الطباشير القوقازية». بهذا القدر، ترتبط الحداثة ارتباطا وثيقا بصراعات التقليد التراجيدي، ولكن حري بنا أن نشير إلى أن الأعمال المشار إليها للتو تتسم جميعها تقريبا بطابع ساخر وكوميدي، وبمخاطبته الضمنية للاستجابة الإنسانية العادية، يبعد اللاهوتي المتغطرس، بوجه عام، فيما تصبح مزاعم الفلسفة (ولكن ليس الأخلاق) نسبية بشكل محكم ودقيق.
كانت الأعمال المقبولة بالنسبة لمثل هؤلاء الحداثيين هي نقاط مرجعيتهم للحظات مهمة وجدلية في الأساس في تاريخ ماضي الإنسانية، كان بعضها خطيرا ومحوريا، مثل استخدام إليوت لتشوسر وفاجنر وبوذا، وأسطورة النبات في «الأرض الخراب»، والآخر أكثر هامشية، كما في الأجزاء الأول من قصيدة «الأناشيد» لباوند، بتعديلها المتجاور لأسلوب شعر براونينج النظيري، والاعتماد على رؤية فينلوزا عن الصينيين، واستخدام نظريات دوجلاس الاقتصادية، والقراءة الشديدة التفرد والتميز لعصر النهضة والتاريخ الاقتصادي، التي أثبتت جميعا أنها أكثر ثانوية لاهتمامات القرن العشرين منها لاهتمامات إليوت.
إن مثل هذه الأفكار تحررية بطبيعتها، حين تؤخذ معا؛ ما يوفر وسيلة يمكننا من خلالها التوافق مع تعددية الرؤى للعالم واستيعابها، وتناقض القيم داخل الحضارة الغربية، وأيضا فهم كيفية نشأة العصر الحديث. والأهم من كل ذلك أنها تجنبت هوس اليقين والانتقائية لتلك الأيديولوجيات التي عارضت الفن الحداثي في ثلاثينيات القرن العشرين وما بعدها.
فكرة الخرافة
ربما يمكننا رؤية كل هذا بشكل أفضل نوعا ما في إطار مثال أشمل وأوسع نطاقا.
كان الاتهام السيكولوجي للحياة المعاصرة في «الأرض الخراب» يحظى بتقدير سهل من جانب المعلقين الأوائل؛ فقد اعتبر آي إيه ريتشاردز القصيدة تعبيرا عن «الحالة الذهنية لجيل في فترة ما بعد الحرب»؛ وهي تدور حول «الجنس باعتباره مشكلة جيلنا مثلما كان الدين مشكلة الجيل السابق». ورأى سي داي لويس أن القصيدة: «تعطي انطباعا حقيقيا صادقا عن عقلية المثقفين خلال فترة الانحدار النفسي الذي حدث عقب الحرب مباشرة.»
ولكن القضايا الأكبر داخل القصيدة، لا سيما قضايا الدين، لم تكن رؤيتها سهلة للغاية؛ لأنها هنا، كما في «يوليسيس» ترى في إطار الخرافة، التي كان العديد من الحداثيين (لا سيما هؤلاء ذوي العقليات التحليلية النفسية) يرونها تعبيرا، ليس فقط عن الخيالات «البدائية» للبشر المعاصرين، ولكن أيضا عن الطبيعة الطفولية لبدايات النوع. ومن خلال ذلك، نشأت الفكرة المزعجة التي مفادها أن الخرافة القديمة قد تقف سرا وراء التجربة الحديثة، لا سيما حين تكون جنسية أو تراجعية. هذا هو ما يعول عليه إليوت في «الأرض الخراب»، بعد إعجابه بجويس لقيامه بالشيء نفسه في «يوليسيس». فقد كان إليوت في الواقع يعتبر «الأسلوب الخرافي» الذي وجده فيها مشابها لاكتشافات أينشتاين؛ نظرا لتأثيره المحتمل على الكتابة الإبداعية. ويرجع هذا إلى أن «علم النفس (كما هو عليه، وسواء أكان رد فعلنا تجاهه هزليا أم جادا)، وعلم الأجناس البشرية، وكتاب «الغصن الذهبي» قد التقوا لجعل ما كان مستحيلا حتى قبل بضع سنوات ممكنا». (كان مستحيلا واضحا حتى بالنسبة إلى ييتس، الذي لم ينل حظه المستحق من الثناء عن طريق مدحه كمجرد «مصمم» للأسلوب لا أكثر). كان الأسلوب الخرافي «خطوة نحو جعل العالم الحديث ممكنا للفن» (وهنا يكمن المكسب المعرفي المعلن). وبغض النظر عن الإشارة الضمنية من (أ) إلى (ب)، يمكن أن يكون هناك أيضا تجاور دقيق، على سبيل المثال، في قصيدة «الأرض الخراب» حين كان العاشقان على نهر التيمز في الحاضر - الفتاة في القارب الصغير، التي غرر بها بالقرب من ريتشموند - يبدوان أكثر خسة من العاشقين - الملكة إليزابيث وليستر - اللذين يلهوان على نهر التيمز في قارب ملكي من الماضي، أم تراهما ليسا كذلك؟
اتجه إليوت والعديد من معاصريه إلى ثقافة الأفكار بحثا عن مفهوم للخرافة التي تتسم في جوهرها بالإشكالية والجدلية، كما يمكننا أن نرى إذا ألقينا نظرة على تباين الآراء المدلى بها في العديد من مصادره؛ فالاستخدام الحداثي للخرافة في العمل الإبداعي عبارة عن توليفة من محاورات متضاربة متعددة، جميعها لها علاقاتها المثيرة بالثقافة التي يعمل الفنان في إطارها. بالنسبة إلى إليوت وحده، كنا سنضطر للنظر إلى مجموعة كبيرة من المصادر الممكنة، كتلك المذكورة في «المعلومات الوهمية» الواردة بالملاحظات الخاصة بقصيدة «الأرض الخراب». وبمجرد أن نعكف على بحث كهذا، كما فعل كثيرون وكثيرون على أمل العثور على خرافة نموذجية لتوحيد القصيدة، سوف نجد أنه يتعين علينا أيضا الدخول في سجال مع أفكار إليوت عن علاقة الخرافة بالبدائية والدين، وقراءاته لفريزر (لا سيما عن «الرب المحتضر» في المجلد رقم 4 من «الغصن الذهبي»)، ولجيسي إل ويستون (لحد معين)، وجان هاريسون وغيرهم من علماء الأنثروبولوجيا بكامبريدج، ومفاهيمه عن الطقوس فيما يتعلق بالخرافة، ومعرفته العامة بالأنثروبولوجيا التي استقاها من مناهجه الجامعية، وما إلى ذلك.
فور تحديد مثل هذه المواد، نحتاج بعد ذلك لتقييم «وزنها الثقافي» المتباين مع دخولها وخروجها من القصيدة. قد تكون مثل هذه المحاورات جزءا من محادثة أو عبارة في كتاب (مثل تعريف ستيفن ديدالوس للتاريخ بأنه «كابوس أحاول الاستيقاظ منه»، والذي يكمن بالتأكيد وراء قصيدة «جرونشن»)، أو جاءت من الأطروحات والقصائد والأعمال الأنثروبولوجية والفلسفية والسيكولوجية العميقة المشار إليها أعلاه.
كل هذه المصادر المحتملة لفكرة إليوت العامة عن الخرافة تجعلنا على وعي بالقضايا أو الأزمات التي تؤرق الثقافة. ومن بين هذه الأزمات القضية الجدلية التي تدور حول ما إذا كان ممكنا أن تدعم الخرافة الدين أو تحل محله. وقد ساعدت هذه الأزمات على ضمان المكانة المعتمدة كنسيا للعمل وأهميته المتواصلة في التأويل (وهو ما يعد واضحا بشكل مماثل لأعمال مثل «يوسف وإخوته» لمان، ولوحة «جورنيكا» لبيكاسو، مثلما سنرى). وينبغي أن تمثل قضية مكانة الخرافة أهمية للمؤمنين الورعين مثلما شكلت أهمية بالنسبة إلى إليوت في «الأرض الخراب»، ولأسباب مماثلة. إن الهدف من الأسلوب، في الواقع، هو إجراء تشخيص ثقافي في ضوء التاريخ؛ ولذلك تعد «الأرض الخراب» (و«مسودة 16 أنشودة» لباوند) «رؤية للاضمحلال الأوروبي» (كذلك مثل «نساء عاشقات» للورانس، و«الموت في فينيسيا» و«الجبل السحري» لمان، وقصيدة «ألف تسعمائة وتسعة عشر» لييتس، والعديد من النصوص الأخرى في تلك الفترة).
ناپیژندل شوی مخ