كانت الحداثة الأوروبية بالنسبة لكاتب أحدث نوعا ما، مثل ويليام فوكنر، تمثل جزءا كبيرا مما كان يعرفه؛ فقد كان يقرأ لجويس وآخرين؛ ومن ثم قام بتطبيق أساليب تيار الوعي الخاصة بهم بقوة؛ فشخصية كونتن كومبسون في روايته «الصوت والغضب» (1929) شخصية واسعة التفكير والثقافة، وتلميحية، وذات ميول شعرية مثل بروفروك وستيفن ديدالوس. وينظر إليه في السياق الجدلي لعائلة كومبسون، وتأثيرات تاريخ ما بعد الحرب الأهلية في الجنوب، الواقعة عليهم جميعا. وكل هذا يتم إدراكه بتفاصيل دقيقة كأي شيء في دبلن، كما تناولها جويس. يسير مع هذا جنبا إلى جنب ترتيب خرافي ورمزي في شدة التعقيد؛ فحلقات رواية «الصوت والغضب»، على سبيل المثال، توازي الأيام الثلاثة لعيد الفصح المسيحي، وينشئ فوكنر هنا، وأيضا في رواية «أبشالوم، أبشالوم»، علاقة تبادلية وثيقة وبارعة بين حبكة الرواية والتجلي التراجيدي للماضي التاريخي المنبثقة منه. إن النظرية المعرفية للرواية الفوكنرية - أي علاقتها بالمدركات والعلاقات المشوهة، وبتقليد تاريخي شفهي - هي واحدة من أعقد النظريات في التقليد الحداثي، وهي تتجاوز أي شيء في أعمال جيمس وبروست. وفي هذا السياق، صار فوكنر، شأنه شأن وولف، واحدا من أكثر الروائيين التجريبيين انفتاحا في القرن العشرين؛ نظرا لأن كل كتاب من كتبه (حتى ثلاثية «سنوبس» التي يغلب عليها الواقعية)، كما هو الحال مع وولف، يكتب بأسلوب النثر الشعري، ويتخذ ترتيبا شكليا معبرا وفرديا بشكل كلي؛ على سبيل المثال، في التفتيت النفسي المتسم بالتعارض والعرضية لتيارات الوعي العديدة المتفاعلة في رواية «بينما أحتضر».
كان الوقت متأخرا للغاية حين رفض ويليامز، على سبيل المثال، هذه الهيمنة الأوروبية المطالبة بتطبيق الأساليب الحداثية على موضوع أمريكي متميز. ولكن كان على الحركات الفنية «الأمريكية الخالصة» ذات الأثر العالمي، التي شقت طريقها بعيدا عن الاهتمامات الحداثية الأوروبية، الانتظار حتى الحرب العالمية الثانية؛ فقط عندما نشأت التعبيرية التجريدية في الرسم، المنبثقة من رحم السريالية وبدايات أخرى غيرها، حققت حركة فنية أمريكية قومية ومستقلة أصالة تجريبية، ومجدا قوميا - بشكل واضح - وذا أهمية عالمية. ومن الواضح بالقدر نفسه أنه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أظهر الأدب التجريبي الأمريكي، على يد والتر أبيش، وجون بارث، ودونالد بارثيلمي، وروبرت كوفر، ودون دي ليلو، وويليام جاس وآخرين، أصالة وحيوية واهتماما أكبر من أي تقليد سردي تجريبي معاصر (وفي ذلك تيار «الرواية الجديدة» الفرنسي المرتبط بالنظرية).
كان أغلب الحداثيين الكبار ينظرون إلى أعمالهم في أغلب الأحيان باعتبارها نابعة من التقاليد الأولى للفن، ردا عليها وإشارة إليها؛ تلك التقاليد التي كانوا على وعي شديد بها. فقد كان لدى ماتيس وبيكاسو، على سبيل المثال، مقدرة بالغة على الرسم بالأساليب الأولى؛ ومن ثم حققا عالمية اتخذت طابع الكلاسيكية الجديدة إلى حد كبير من حيث الإلهام. وحتى ظهور الحركات الدادائية والسريالية، بتركيزها الشديد ذي الطابع الرومانسي المجدد على الخيال والإبداع الفردي، لم يكن الهدف بالنسبة لمعظمهم يقتصر فقط على «التجديد»، أو «الأصالة»، أو «التجريبية»، أو «الثورية»، وكأن لم يكن للمرء أسلاف سبقوه؛ فقد كان الحداثيون الأوائل ينظرون إلى التقليد، أولا وقبل كل شيء، باعتباره مجموعة محددة تاريخيا من القواعد والمبادئ يستطيعون «العمل» في نطاقها، أو يتجاوزونها؛ مثلما تجاوز ديبوسي فاجنر، ومثلما يرى شونبرج أن أعماله تبني على أعمال برامز، وبالتبعية أيضا التحولات اللامقامية لحركة المارش الماهلرية في «المقطوعات الست للأوركسترا» (1909-1910) لفيبرن، و«ثلاث مقطوعات للأوركسترا» (1914-1915) لبيرج.
بالطبع كان بعض الحداثيين يؤيدون الرفض الكامل للماضي قدر الإمكان، وأدى هذا إلى مزاعم قوية بالأصالة، التي كانت آنذاك، مثلما يحدث الآن، غالبا ما يتم تناقلها وتوارثها على حساب الغموض وعدم الوضوح عن طريق معايير الماضي، أو عن طريق الرفض الساذج لها. وكانت اعتراضات مارسيل دوشامب، النابعة من الأهداف التحررية للحركة الدادائية الأصلية، مؤثرة بشكل خاص في هذا المقام. وتعد لوحته «النافورة» (1917) عملا رمزيا من هذا النوع الطليعي؛ فعن طريق شراء مبولة وقلبها رأسا على عقب، والتوقيع عليها باسم «آر موت»، اختبر دوشامب مفهوم المشاهد لمقومات العمل النحتي أو «العمل الفني»، وربما ما كان أكثر أهمية بالنسبة للتطورات اللاحقة ما فعله من اختبار المؤسسات الفنية بسؤالهم عما هم، في الواقع، على استعداد لعرضه، في المستقبل (إن كانوا سيفعلون) كأعمال فنية. وقد فتح ذلك الباب لعدد من الأفكار والموضوعات التي تعد محورية لفن ما بعد الحداثة.
التشخيص الثقافي
بالنظر إلى هذه المجموعة من الافتراضات، اعتبر الفنانون الحداثيون أنفسهم نقادا ثقافيين عظاما. ويتضح هذا في إنجلترا من الأعمال النثرية لباوند، وإليوت، وويندهام لويس، ودي إتش لورانس، وألدوس هكسلي (ومان وجيد وكثيرين آخرين في بقاع أخرى) بكل تأكيد. فقد كانوا يميلون للانفصال عن المجتمع الذي يعيشون فيه والحياة على هامشه، متبعين في ذلك تقليد القرن التاسع عشر الانفصالي المناهض للبرجوازية الذي اتبعه فلوبيرت، وإبسن، ووايلد، وفرويد، وإليوت، على سبيل المثال، الذي يتسم نثره بالمحافظة إلى حد كبير؛ إذ يبدأ بتقليد قصائد جول لافورج الموبخة للذات بسخف وحمق، والذي كان قد عرفه الطريق من خلال إماطة اللثام عن خداعات الذات البرجوازية السائدة في ذلك الزمن، في الشعر الذي اتسم بطابع ساخر وكوميدي. وبالتبعية أيضا، انفصل تأييد جويس لاتباع أخلاقيات مخالفة، من خلال ستيفن ديدالوس، عن القيود السياسية والدينية المتعارف عليها، وذلك في رواية «لوحة الفنان»، التي تعد المثال الكلاسيكي للمعارض الفردي، الذي يجد مهنة في الفن، لا سيما في لغته، وليس في المتطلبات الاجتماعية للدين أو السياسة، فهذا هو ستيفن الطالب الذي يقال له إن مقاله عن «الفن والحياة»، المكرس لإبسن «يمثل مجمل الارتباك الحديث والفكر الحر الحديث». ومن هنا أيضا نبع تطور وعي بروست في «البحث عن الزمن المفقود»، من قبول ساذج للافتراضات الطبقية إلى نقد ذاتي منفصل لها. والعديد من أعمال تلك الحقبة بنيت على اهتمام بالتناقض بين ثقافة الماضي الرفيعة وانحدار الظروف الاجتماعية الحالية.
وكان من أوسع الكتب التي تستكشف هذا النوع من التناقض قراءة كتاب توماس مان «الجبل السحري» (1924)، الذي يعد في الحقيقة أيضا رواية تكوينية (أو رواية للتطوير التربوي)، من خلال الشاب هانز كاستورب، الذي - بحسب المؤلف:
يقتاد بأسلوب كوميدي ومرعب عبر التناقض الروحاني للتوجهات الإنسانية والرومانسية، والتقدم ورد الفعل، والصحة والمرض، ولكن ذلك من أجل منفعتها الجوهرية؛ بهدف التعرف عليها أكثر وليس بهدف تدبر قرار. إن الأمر برمته له روح هزلية عدمية.
إذن هو لا يشبه ستيفن ديدالوس في شيء مطلقا، ولكن إقامته في مصحة علاجية (هي جامعته) تورطه في جدال ممتد بين سيتمبريني (الذي استند إلى الإنسانية والليبرالية التقدمية لإميل زولا ومن جاءوا بعده، ومن بينهم شقيق مان؛ الروائي هنريك)، والرجعية الماكرة لليو نابهتا (وهو شخصية «ضد المنطق»، ويهودي، يسوعي، نخبوي، شيوعي، تشكلت شخصيته على نموذج جورج لوكاس). وقرب نهاية الرواية، نسمع من بيبركورن (الذي يمثل المبدأ الديونيسي النيتشوي، وصممت شخصيته على نموذج جيرهارت هوبتمان). ومن خلال هؤلاء، يمر كاستورب، الأحمق نوعا ما، بمنظور فلسفي تلو الآخر للحياة، بمعنى «الإنسانية، ثم الروحانية، ثم التحليل النفسي، والشيوعية البدائية الممتزجة بقدر من الهرطقة العرفانية»؛ ففي مناقشته على الجبل، يفترض به أن يسمو فوق الظروف الاجتماعية على الأرض، وأن يحقق نوعا من الانفصال التأملي، ولكن كما سنرى لاحقا، كان حل أزمة كاستورب من نوع مختلف غير استطرادي نوعا ما.
على مدار القصة، يتعين على كاستورب والقارئ خوض صراع مع تلك الأفكار المجردة المغلفة بقناع مادي، والتي يراها كثيرون جزءا من الثقافة الألمانية؛ ومن ثم فإن التناقضات الفلسفية والثقافية التي يرغب مان في إبرازها تفتقد أي تمثيل مادي حقيقي. ويعالج إي إم فورستر مثل هذه التناقضات من خلال وعي مماثل بالعلاقات بين الواقعية والرمزية والخرافة الدينية، بشكل أكثر تحديدا بكثير، وذلك في الأجزاء الثلاثة المتناقضة لأكثر كتبه شعرية وحداثة «ممر إلى الهند»، الصادر عام 1925، وفيه تدخل الرؤى الإمبريالية الإنجليزية للعالم ورؤى المسلمين والهندوس في حالة من التناقض والصراع الدرامي.
ناپیژندل شوی مخ