إن أعمال إزرا باوند وتي إس إليوت «أوروبية» الطابع بشكل واضح ... فالشاعر «الأوروبي» لديه وعي كبير جدا بالعالم الاجتماعي الذي يعيش فيه، وينقده، ولكن بأسلوب تهكمي وليس بأسلوب ساخط، ويؤقلم نفسه عليه، ويهتم بمخزونه المتراكم من الموسيقى والرسم والنحت، بل وحتى بتحفه الثمينة القديمة. وإذا كان الشاعر منخرطا في التقليد «الأوروبي»، فإنه يصف عناصر الحضارة أينما وجدها: في روما، في بلاد الإغريق، لدى كونفوشيوس، أو حتى في كنيسة العصور الوسطى، ويعقد مقارنة بين ما تتسم به عناصر تلك الحضارة وعنف الحياة المعاصرة وفوضاها .
لقد اتخذ الحداثيون منظورا شديد الاتساع للثقافة وجدوا فيه أنفسهم؛ فلا تزال مطالبة إليوت ب «حس تاريخي» بها متسع لماري لويد و«تلك العبارة الشكسبيرية» في «الأرض الخراب». ومع ذلك، إذا قرأت القسم الأول من القصيدة منفردا، فسوف تضطر على الأقل لمعرفة قدر عن تشوسر، وشكسبير، وفاجنر، والعهد القديم، والأسطورة الإغريقية، وأسطورة «النبات»، وبودلير، وما إلى ذلك. في الواقع، وبحسب تعبير إليوت في مقاله «التقليد والموهبة الفردية»: «ليس فقط الأجزاء الأفضل، ولكنها الأجزاء الأكثر فردية من عمل [الشاعر] هي الأجزاء التي قد يؤكد فيها الشعراء الراحلون؛ أي أسلافه، على خلودهم بأقصى قوة.» لأن الأصالة الطليعية هنا نابعة من طريقة استخدام اختيارات إليوت من قواعد ومبادئ الأدب الأوروبي، حسب رؤيته له، لتشكيل وجهة نظر معقدة عن العلاقة بين الحضارات عبر الزمن. وهذا الاستعداد لتعديل أعمال الماضي شائع لدى جويس، وبيكاسو، وسترافينسكي، وبيرج، وشونبرج، وتوماس مان وكثيرين آخرين. والتقليد بالنسبة لسترافينسكي «ينتج من قبول واع ومدروس ... فالطريقة تتبدل: (بينما) التقليد يتم ترحيله من أجل إنتاج شيء جديد. وهكذا يؤكد التقليد استمرارية الخلق». كان حداثيو القرن العشرين يتأملون تأملا واعيا علاقة وتناقض أعمالهم مع أعمال الماضي التي ينافسونها؛ فأعمالهم متأثرة بالتاريخ، وتمارس تأثيرها من خلال تكرار الأفكار والموضوعات (التي تمنحها العالمية)، ومن خلال تباين متزامن مع الماضي (الذي ينقل في أحيان كثيرة للغاية سخرية نسبية). ومع ذلك، فثمة اختلاف كبير للغاية بين تقليد كورال لباخ في «أوبرا البنسات الثلاثة»، والذي يوحي بانحدار الدين إلى عاطفة رخيصة وغير صادقة، وبين اقتباس كورال باخ «يكفي هذا» من مقطوعة الكانتاتا «الخلود، أنت صوت الرعد»، التي تشكل ذروة رثائية بشكل لا يحتمل لمقطوعة «كونشرتو الكمان» لبيرج. ويمنح كلا المؤلفين عمقا في المعنى لأعمالهما، بتوقع تقبلها والاعتراف بها؛ ومن ثم يمكن لشيء من السياق النصي الأصلي أن يكون بمنزلة أثر عاطفي للعمل الحديث. ومثل هذه التأثيرات تتجاوز مجرد المزج والمحاكاة؛ لأنها ليست مجرد انحرافات أسلوبية، ولكنها تثير شعورا بالتوافر الخالي من الحنين - بوجه عام - لأعمال من الماضي كمعايير لمشاعرنا في الحاضر.
وقد وضعت هذه التوزيعات جزءا كبيرا من الحداثة داخل حركة أوروبية بشكل واع للذات؛ فآمن باوند وإليوت وجويس (أي أمريكيين وأيرلندي واحد) ب «عقل أوروبا»؛ الذي رأوا أن أفكار هنريك إبسن، ونيتشه، وبرجسون، وفرويد، وأينشتاين، ومارينيتي وآخرين قد قدمت له إسهامات حيوية. وكان جميع الحداثيين الكبار على وعي بالغ بلغات وثقافات أخرى، حتى عندما كانوا أيضا منشغلين انشغالا عميقا باهتمامات قومية (مثل ييتس، الذي كان لديه اهتمام شديد بالثقافات الهندية واليابانية وكذلك الكلتية)، فكان نطاق قراءات ييتس، ومان، وجيد، وجويس، وسترافينسكي، على سبيل المثال، واسعا بشكل مذهل. وكانت إشارات بيكاسو المرجعية إلى الرسم، وإشارات شونبرج وبيرج إلى موسيقى الماضي، جامعة بشكل مماثل، وكانت أعمالهم على نفس الدرجة من التعقيد مثل أعمال إليوت وجويس في هذا المقام.
ولكن لا يوجد حداثيون كبار في أوروبا لم تكن أعمالهم مستوحاة - بشكل كبير - من الثقافات القومية غير الأوروبية، متضمنة جوانب من الثقافات غير الغربية في كثير من الحالات، كما في سيمفونية مالر «أنشودة الأرض»، ومسرحيات ييتس المحاكية لمسرح النو وأشعاره الأخيرة، وديوان «كاثاي» لباوند»، ومسرحيتي «المرأة الطيبة من سيتشوان» و«دائرة الطباشير القوقازية»، ورواية «سيدهارتا» لهيسه. وكان الرسامون التعبيريون الألمان، وبيكاسو في المرحلة الأولى من حياته، وداريوس ميلهود، وسترافينسكي، ودي إتش لورانس من بين الحداثيين العديدين المهتمين بما كانوا يعتقدونه ثقافات «بدائية»، وأغلبها من الثقافات الأفريقية، وتكييفها داخل الفن الأوروبي.
اعتمد تطور الفن التجريبي أو المتقدم في أمريكا بشكل كبير أيضا (في المرحلة الأولى) على امتصاص للثقافة الأوروبية، وكان ذلك واضحا للغاية في حالات والاس ستيفينز، وإي إي كامينجز، والأعمال الأولى لويليام كارولز ويليامز، الذين كانوا جميعا من الفرانكوفيل.
كان لويليامز وستيفينز اهتمام خاص في هذا المقام؛ نظرا لمعرفتهم بالرسم ما بعد التكعيبي، لا سيما عند عرضه في نيويورك في «معرض مخزن الأسلحة» عام 1913. وبحسب وصف ويليامز:
في باريس، كان الرسامون بدءا من سيزان حتى بيكاسو يرسمون لوحاتهم القماشية الثورية على مدى خمسين عاما أو أكثر، ولكن عندما وقعت عيناي على لوحة مارسيل دوشامب «عارية تهبط السلم» انفجرت ضاحكا من الارتياح الذي جلبته لي! لقد شعرت كما لو أن عبئا هائلا قد رفع عن روحي، وهو ما شعرت نحوه بالامتنان على نحو جامح.
إن تخليه عن التسلسل السردي، على سبيل المثال في مجموعته الشعرية «إلى من يريده»، يجعل قصائده أشبه كثيرا بلوحات فنية؛ فقد أراد إحداث تأثير مثل تأثير الرسم الحديث، كما في الصورة البصرية في قصيدة مثل «الشكل المنظوم». وقد قاده هذا إلى اهتمام بالشيء أو الجسم (كما في أعمال سيزان والتكعيبيين)؛ ومن ثم بتطوير الحياة الجامدة الديناميكية في الشعر؛ فالقصيدة، من وجهة نظره، مثل أعمال الفن المرئي، جسم حر مستقل بذاته له شكله الخاص.
ويقول في مقدمة كتابه المنتمي للسريالية الأولية «كورا في الجحيم»: إن «القيمة الحقيقية تكمن في تلك الميزة الخاصة التي تمنح شيئا ما شخصية خاصة به، والقيمة الترابطية أو العاطفية زائفة.» وتعد قصيدته «آلام الربيع» (ضمن المجموعة الشعرية «إلى من يريده» التي قد ترجع إلى أواخر عام 1916) محاولة لتجربة الرسم التكعيبي في الكلمات. ويتضح تفتيته للعبارات والصور الذهنية في «الشخصية العظيمة». وهي قصيدة ترجمت إلى رسم على يد تشارلز ديموث، في لوحته «رأيت الرقم 5 بالذهب» [1928]، والتي رسمها بالاشتراك مع ويليامز. في هذه الفترة، كان يبحث عن الموضوع «الأمريكي» المميز (إلى جانب ستيجليتز وديموث وهارتلي). وفكرته عن الجديد راسخة بقوة في التقنيات والأساليب الحداثية، ولكنها كانت بحاجة إلى موضوع أمريكي جديد بالقدر نفسه لكي تصبح مستقلة، في الشعر، عن التقليد ذي الطابع الأوروبي، المتبع من قبل باوند وإليوت؛ ففي الأجزاء النثرية من «الربيع وغيره»، يقوم بتوليف قيم التجريد مع رغبته في اكتشاف الشيء الأمريكي (مثل المصورين والرسامين في جماعة ستيجليتز) في «الواقع المرئي للمشهد الأمريكي». ويشير دجيسكترا إلى سلسلة «صباح يناير» المؤلفة من خمس عشرة قصيدة في ديوان «إلى من يريده»، التي يحوي كل منها شيئا أو اثنين يلاحظان عن كثب؛ «من أجل تشكيل «مجموعة» صور فوتوغرافية في الأساس»، وتعد قصيدة عربة اليد الشهيرة نموذجا لها.
كان والاس ستيفينز يتسم دائما بطابع «أمريكي» من خلال عمله في إطار نوع من التقليد الإيمرسوني الرفيع، ولكنه أيضا، شأنه شأن ويليامز، كان شريكا لرعاة الفن والتر أرسينبرج وكارل فان فيشتن؛ ومن ثم كان على وعي جيد بالواقع الطليعي في الرسم، بما في ذلك لوحة دوشامب الشهيرة «عارية تهبط السلم»، التي شاهدها في شقة أرسينبرج. ويتجلى تأثر لوحاته الأولى تأثرا واضحا بالنسبيات المماثلة في التجربة المرئية، واشتهر كثيرا في زمانه حين أظهر هذا في قصيدته «ثلاث عشرة طريقة للنظر إلى الشحرور» (1917). آنذاك كان النظم الحر لستيفينز المصوغ ببراعة وإبداع دليلا كافيا جدا على طليعيته. وتعد قصيدته «الرجل ذو الجيتار الأزرق»، المنشورة عام 1937، بمنزلة تلخيص رائع لرؤيته للفن الحداثي، وفلسفة تعاطينا مع العالم. إنها تأمل ممتد للتشكيل الفني الحداثي للواقع من جديد، في الشعر والرسم.
ناپیژندل شوی مخ