ظن سترافينسكي أن «بولسينيلا» عمل ثوري آخر، في وضعه للأصوات الأوركسترالية جنبا إلى جنب وكأنها تباينات لونية (على سبيل المثال، في الثنائي الجازي الرائع بين آلة الترومبون والكونترباص)، ولكن العمل كان ساحرا أكثر من اللازم لدرجة جعلته لا يبدو تجريبيا، والدمج بين اللحن الرشيق وشخصيات الكوميديا المرتجلة ذات الطابع الكلاسيكي الجديد التكعيبي لبيكاسو جعل العمل (والفضل في ذلك يرجع مرة أخرى إلى دياجليف) عصريا بشكل جدي. بحلول عام 1934، استطاع كونستانت لامبرت أن يشكو من أن «أي ملحن بلا غريزة إبداعية وبلا إحساس بالأسلوب، يمكنه أن يأخذ كلمات من العصور الوسطى، وينظمها على طريقة بيليني، ويضيف إيقاع القرن العشرين، ويطورهما بالطريقة التسلسلية والشكلية المميزة للقرن الثامن عشر، وأخيرا يقوم بتلحين العمل برمته بآلات الجاز.» ولكن سترافينسكي لم يكن من هذا النوع من المؤلفين، والباليهات الكلاسيكية الجديدة العظيمة التي تلت «بولسينيلا»، بدءا من «أبوللو» ووصولا إلى «آجون»، التي اعتمدت جزئيا على الموسيقى الاثنتي عشرية؛ تعد الآن أساسية لذخيرة الباليه الحديث؛ بفضل عبقرية تصميمات الرقصات التي وضعها جورج بالانشين.
اتهم سترافينسكي من أتباع شونبرج بالارتداد الرجعي والفشل في إدراك الجدلية الداخلية لتطور فني تقدمي بحق لغة الفن:
اعترض سترافينسكي: «كلا، كلا! إن موسيقاي ليست موسيقى حديثة ولا موسيقى للمستقبل، إنها موسيقى اليوم؛ فلا يمكن للمرء أن يعيش في الأمس ولا الغد.» «ولكن من هم الحداثيون إذن؟»
ابتسم سترافينسكي قائلا: «لن أذكر أي أسماء، ولكنهم هؤلاء السادة الذين يتعاملون مع صيغ كبديل عن الأفكار. وقد فعلوا ذلك كثيرا جدا لدرجة جعلتهم يضعون كلمة «حديث» تلك تحت طائلة الشبهات. أنا لا أحبها. لقد بدءوا بمحاولة الكتابة لكي يصدموا البرجوازيين، وانتهوا بإرضاء البلاشفة.»
علم شونبرج بهذا الحوار، فقام بكتابة رد في مقاله «إيجور سترافينسكي: مدير المطعم» بتاريخ 24 يوليو 1926، وجاء في سطره الأول: «إن سترافينسكي يسخر من الموسيقيين المتلهفين (على عكس ما يفعل؛ فهو يريد ببساطة أن يؤلف موسيقى اليوم) لتأليف موسيقى المستقبل.» ها نحن هنا أمام اثنين من كبار المؤلفين الموسيقيين (وأتباعهما) يصارعان من أجل كسب تأثير طويل المدى: شونبرج الذي يقدس باعتباره موسيقيا تقدميا، وسترافينسكي الذي تعرض للتشهير والذم (من قبل أدورنو في عام 1948) لسقوطه في حالة من الارتداد «الصبياني» أدت إلى الأعمال الكلاسيكية الجديدة التي تعتمد على المحاكاة والمزج.
يصبح هذا الفارق، بين أن تكون جزءا من حركة منظمة نوعا ما وبين مجرد الاستغلال «المعاصر» لأسلوب رائج أو عصري؛ أكثر أهمية مع زيادة تسييس التطورات الحداثية. فيمتثل شونبرج، في رأي أدورنو، للقوانين الداخلية للتاريخ، من منظور ماركسي. وبحسب تعبيره في الجزء المعنون «شونبرج والتقدم»، في كتابه «فلسفة الموسيقى الحديثة»:
إن القواعد (وتحديدا قواعد الموسيقى الاثنتي عشرية) لم توضع اعتباطا، إنها تكوينات من القوة التاريخية الموجودة في المادة . في الوقت ذاته، تعتبر هذه القواعد صيغا تضبط بها نفسها لتواكب هذه القوة. وفيها يتولى الوعي زمام الأمور من أجل تنقية الموسيقى من رواسب المخلفات العضوية المتحللة (تحديدا مخلفات الأساليب السابقة). هذه القواعد تشن حربا ضروسا ضد الوهم الموسيقي.
هذه نظرية ماركسية كتبت في علم الجمال، بإدراكه لوجود جدلية داخلية للتاريخ، وتحديه «للوعي الزائف» للبرجوازية الفردية، وهي متضمنة داخل التقليد الموسيقي المقبول حتى الآن.
ولكن الاتجاه إلى فن الماضي في عشرينيات القرن الماضي لا يبدو كذلك للمشاركين فيه؛ إذ إن هذه المزاعم التلميحية بالاستمرارية قد اتخذت شكلا حداثيا ساخرا ومحاكيا بشكل مميز، اندمج بشكل مباشر ونقدي مع الافتراضات الاجتماعية لجمهوره. وقد كان ذلك مهينا للغاية؛ من حيث إنه أعقب فترة من التجريب الشكلي شديد الجدية بعد الحرب. وكما أشار بول ديرميه: «إن فترة من الوفرة والقوة لا بد أن يعقبها فترة من التنظيم، والتقييم، والعلم؛ أي عصر كلاسيكي.» فيما رأى بيير ريفردي أن «الفانتازيا قد مهدت الطريق لحاجة أكبر لإيجاد بنية». وكان لهذه الإعادة لتقييم علاقة الفنان بالماضي دورها في تأسيس حس جمالي بالوعي الذاتي الأسلوبي؛ ومن ثم تأسيس وعي حاد بالتناقض بين الحداثة والماضي. «لقد كانت «بولسينيلا» هي اكتشافي للماضي، ولحظة التجلي التي أصبحت من خلالها كل أعمالي اللاحقة ممكنة»، على حد قول سترافينسكي. فينظر إلى العمل في إطار تاريخ الفن، والأسلوب المخصص للسخرية التي تعد سمة بارزة من سمات الفن الحداثي الرفيع: «إن التقليد محفوظ: فتتحول سمات الفالس أو الجالوب أو المارش إلى نماذج نمطية، وتتم المغالاة فيها عن عمد، وتعطى طابعا ساخرا؛ ومن ثم توضح النماذج المبدئية عن طريق رسوم الكاريكاتير»، وليس فقط في أعمال سترافينسكي، بل أيضا في أعمال لو سييز، وبروكوفيف، وشوساتكوفيتش، ورافل، وكثيرين آخرين، ولكنه أيضا يتيح في أعمال أكثر جدية مثل «اللحن الثماني» لسترافينسكي، والذي تعود جذوره إلى الطباق (أو مزج الألحان) الباخي، إحساسا أعمق بالتقليد. وكان سترافينسكي يفكر فيها في إطار مصطلحات مستعارة من فن الرسم، كشيء مكاني مشابه للتجريد الهندسي: «إن عملي «اللحن الثماني» ليس عملا «عاطفيا»، ولكنه مقطوعة موسيقية بنيت على عناصر موضوعية كافية في حد ذاتها ... شيء له شكله الخاص. ومثل جميع الأشياء له وزن ويشغل حيزا من الفراغ.» وبحسب تعليق ميسينج:
في هذا العمل، يظهر سترافينسكي في ضوء البنائي، في ضوء الهندسة؛ فكل أفكاره تترجم إلى سطور تتميز بالدقة والبساطة والكلاسيكية؛ والصدقية المطلقة لكتاباته، المتجددة دائما، تكتسب هنا في جفافها ودقتها قوة وسلطة دون تكلف.
ناپیژندل شوی مخ