هؤلاء بعض أئمة الحفاظ من علماء القرون الأولى، ومما ذكرناه عنهم يعلم القارئ أن كل اعتمادهم في تلك العصور إنما كان على الحفظ، لا على الكتب، وأن حوافظهم كانت لا تزال قوية كما كانت في عصر الجاهلية؛ وذلك لقرب ما بين الزمنين ، ولبقية بقيت فيهم من تلك الآثار والأخلاق التي قوت فيهم ملكة الحفظ.
ومما يؤيد هذه الروايات ما اشتهر به بعض علماء أوروبا في القرنين الماضيين من كثرة الحفظ المدهش، وهم كثيرون، نكتفي منهم بذكر أمير قيل إنه أكب على قراءة الإنسكلوبيديا، وابتدأ يحفظها من لدن الجزء الأول حتى بلغ الجزء العشرين، وبقيت هذه الأجزاء في ذاكرته حتى مضى على قراءته إياها خمسون عاما، وقراء الإنسكلوبيديا يعرفون اختلاف موضوعات كل جزء منها ومقدار صعوبتها على الحفاظ، مما يدل على مقدار ذلك الرجل النادر المثال.
وكثير من علماء الإسلام في القرون الأولى كانوا جوالين في البلاد لطلب العلم الشفهي بعضهم من بعض، وكانت هذه سنتهم في تلك العصور، يستوي فيهم الطالب والمطلوب منه، غير أن طلب العلم على تلك الصورة الشفهية إذ ذاك كان صعبا لوعورة الطرق وعدم المراكب البخارية، وغيرها من مسهلات الطرق، فكان غير ميسور لكل طالب إلا لمن استطاع أن يضرب له أكباد الإبل، ويكابد المشقات الشديدة في الرحلة إلى الأصقاع البعيدة والأمكنة الشاسعة.
فقد كان طلاب العلم وقتئذ يقتحمون عقبات صعبة، ويعانون في سبيله ما لا يكاد يوصف، ولا بأس من إيراد حكاية هنا تدل على ذلك، وهي أن طالبين رحلا من أقطار بعيدة إلى بغداد - فيما أذكر - لطلب علم الطب عن نصراني، فاتفق يوم قدومهما بغداد أن كان ذلك العالم في الكنيسة، فتوجها إليه للقائه، فوجداه بقميص واحد مكشوف الرأس، يدور حول جدار الكنيسة من داخلها وفي يده نار ببخور، فلبثا حتى فرغ، فإذا به قد توسم فيهما دلائل الاستغراب والاستنكار، فبعد أن سألهما عن أحوالهما وما قصداه منه قال لهما: «لا أستطيع أن أعلمكما حتى تحجا وتعودا إلي.» فلم يريا بدا من امتثال أمره، فذهبا إلى الحج، وبعد أن عادا من مكة قال لهما: «ماذا صنعتما في الحج ؟» قالا: «كيت وكيت.» قال: «وما كانت حالكما في الصفا والمروة؟» قالا: «كنا نهرول فيما بينهما.» فقال لهما: «إذن لا تعجبا من الحال التي كنت عليها في الكنيسة وقت قدومكما، فإن الأمور الدينية يجب أن تؤخذ بالتسليم والقبول من غير اعتراض ولا انتقاد.» وبعدئذ علمهما ما قصداه فيه.
ومع هذه الصعوبات وتلك المشاق كان يزداد طلاب العلم كل يوم رغبة فيه وتهافتا عليه، ولم يثنهم عنه قلة أرزاقهم، ومضايق الزمن، ووعورة الطرق، وصعوبة الطلب، ودل العلماء.
غير أن ما حدث إثر ذلك من اختلاف العلماء في الآراء، وانتشار مذاهبهم، وغلو أنصارهم، واتساع الأمصار الإسلامية، وامتداد سلطانهم، وتفرق الصحابة والتابعين، وغيرهم من حملة العلم في البلدان الشاسعة، والأصقاع المتنائية، وحدوث الفتن، وكثرة الفتاوى بلا علم ولا هدى اتباعا لأهواء بعض الأمراء وطمع بعض العلماء، كل هذا اضطر العلماء إلى تدوين محفوظاتهم، وكذلك حملهم على التدوين اشتغالهم بالنظر والاستدلال والاجتهاد والاستنباط، وتمهيد القواعد والأصول، وترتيب الأبواب والفصول، وتكثير المسائل بأدلتها، وإيراد الشبه بأجوبتها، وتعيين الأوضاع والاصطلاحات، وتبيين المذاهب والاختلافات، وغير ذلك مما ذكره العلماء. ومما دفع العلماء إلى التدوين: رغبة الأمراء في التعلم والتأدب، وعدم استطاعة بعضهم حضور مجالس العلم، ورغبتهم كذلك في تأديب أولادهم، وخوفهم من فقدان العلماء بسفر أو بموت أو بسبب آخر، وقد كان أكثرهم رحالة، وكذلك رغبة العلماء أنفسهم في تعليم أولادهم وأفلاذ أكبادهم وخشيتهم الموت قبل إتمام ذلك.
وأنتم تعلمون أن كتبا كثيرة دونت في الإسلام برسم الأمراء، وبرسم أبنائهم، وبرسم أبناء العلماء، وأمثال ذلك كثير استفاضت به كتب التاريخ والأخبار، ومن هذه الكتب: كتاب «ألف با» الذي ألفه أبو الحجاج البلوي لابنه، وهو كتاب ممتع في الأدب، وكتاب «واسطة السلوك» للسلطان أبي حمو نعمراسن، المطبوع في تونس، المترجم إلى اللغة الإسبانية، وطبع في مدريد، وكتاب طبيب الحجاج الذي ألفه لابنه.
فابتدأ التدوين منذ القرن الأول للهجرة، ولكنه كان ضئيلا لا يذكر، وكثر وازداد في أواخر القرن الثاني أيام الترجمة والنقل واشتغال العلماء بفنون الأدب والحكمة، وسنتكلم على النقل والترجمة بالتفصيل.
ولقد اختلف العلماء في أول من صنف في الإسلام، ولكننا لو اعتبرنا وضع الإمام علي بن أبي طالب وأبي الأسود الدؤلي لقواعد علم النحو تدوينا ، كانا أول من دون في الإسلام، وقد قيل إن أبا الأسود توفي سنة 60ه، وقال ياقوت: «كان نصر بن عاصم الليثي النحوي فقيها عالما بالعربية من قدماء التابعين، وكان يسند إلى أبي الأسود الدؤلي، توفي سنة 89 هجرية، وضع كتابا في العربية.»
وأول من دون في الطب والحكمة - على ما قيل - هو طبيب الحجاج بن يوسف الثقفي المتوفى سنة 90ه، وله كتاب كناس كبير ألفه لابنه، وكتاب أبدال الأدوية، وكيفية دقها وإيقاعها وإذابتها، وشيء من تفسير أسماء الأدوية، فعلى هذه الروايات يكون هذان العالمان من أوائل من دونوا في الإسلام.
ناپیژندل شوی مخ