وطالما كنت أركع لديها وأنا أعفر خدي بالثرى كأنني في أشد العبادة والنسك، بل طالما كنت ألتمس منها كمن يلتمس من إله أن تغسل نفسي بدمعة من دموعها وتطهرني بشعلة من نارها وتنفخ في نسمة من أنفاسها حتى لا يعود بي شيء مني سوى تلك القطرة التي اغتسلت بها والشعلة التي طهرتني والنسمة التي أحيتني، وحتى أستحيل إليها وتستحيل إلي بحيث لو دعانا الله في يوم موقفه لا يقدر أن يميز بين نفسين قد مزجتهما آية الحب فصارا نفسا واحدة، وأستغفر الله!
فيا أيها القارئ، إذا كان لك أخ أو ابن أو صديق لم يعرف الفضيلة بعد، فاسأل له الله حبا مثل هذا الحب؛ لأنه متى عشق بلغ إلى درجة من الكمال تعادل ما في قلبه من ذلك الغرام.
وهيهات أن أصف ما كان يتولاني من الخجل من نفسي في حضرة من كنت أهواها، ولكن نصائحها كانت ذات حنو ونظراتها ذات حلاوة وكلماتها ذات رقة، كنت أشعر معها في خضوعي لديها أنني أرتفع وأعظم، ولله ابن الفارض حيث قال:
فحالي وإن ساءت فقد حسنت بها
وما حط قدري في هواها به أعلو
ثم كنت أقابل بينها وبين من رأيت من النساء فأجدها تمحو كل أثر لهن من قلبي، وأنشد:
محا حبها حب الألى كن قبلها
وحلت مكانا لم يكن حل من قبل
وكانت محادثاتها تنقل أفكاري إلى عالم من التصورات لم أكن أقوى على إدراكه حتى حسبت أنني قد صرت في غير هذه الدنيا، ووجدت كل ما كان بي من الخفة والطيش والشراسة والانقباض قد تلاشى لديها دفعة واحدة حتى لم أعد أعرف نفسي، ورأيت أن حبي لها قد رفع حاضر حياتي عن ماضيها حتى صرت أستكبر من الالتفات إليه، فعلمت عند ذلك أن أعلى درجات السعادة لا توجد إلا في أرفع درجات الغرام.
ثم لقد كنت أجد كل ما تقوله أبديا وكل ما تنظر إليه مقدسا، حتى لقد كنت أحسد الأرض التي تمشي عليها وأحسب ما يمسها من شعاع الشمس مغبوطا سعيدا، وأود أن أجني ما تتنفسه من الهواء حتى لا يخالط غيره وأسد كل مكان تمر فيه من الفضاء حتى لا يشغله بعدها مخلوق سواها.
ناپیژندل شوی مخ