الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
ترجمة لامارتين
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
ترجمة لامارتين
غصن البان في رياض الجنان
غصن البان في رياض الجنان
تأليف
ألفونس دو لامارتين
ترجمة
نجيب الحداد
الفصل الأول
حكى صاحب الرواية عن نفسه، قال: يوجد عند مدخل سافوا بين جبالها وآكامها واد متسع يتصل بقرية شامبيري على سفح جبال الألب، قد كسته الخضرة بنضارتها، وآنسته الجداول بخريرها، وحلته البحيرات بمائها الشفاف كأنه سبائك الفضة في إطار من الزمرد، وإلى شمال هذا الوادي جبل ينطح النجوم بروقيه، ويناجي السماء بأسراره، وقد ألبسته الطبيعة هيئة قاتمة ينعكس النور عما برز منها، فتظهر كثنايا الجبين في الوجه العابس على شكل لم تعمل فيه غير يد الله، ثم يأخذ بالانبساط على مقربة من شامبيري حتى لا يعود فيه سوى بعض هضبات تجللها أشجار السنديان والجوز مكللة أعاليها بأغصان الدوالي والأعراش، فإذا بلغ السائر إليها رفعت له منازل القرى البيضاء كأنها الحمائم في المروج، وفي أسفلها بحيرة واسعة تبلغ مساحتها ستة أميال تتدلى فيها أغصان ما حولها من الأشجار والأغراس.
كأراقم عطشى تدلت واردا
أو فاتحا للورد منها فاه
ثم تنفرج من أحد جوانبها فرجة واسعة بين صخور سوداء تنسرب منها مياهها وتصب في نهر الرون، وعلى صفحتها بعض زوارق للصيادين تدفعها الرياح فتجري أمامها كأنها السوابح في الميدان.
وعلى جانب هذا الوادي تقوم مدينة إكس ذات المياه الحارة المعدنية، ومن حولها أغراس الكروم وأشجار الصفصاف قائمة على صفين متقابلين بينهما طريق تؤدي إلى تلك البحيرة، وتنبسط عن جانبيها مروج خضراء تزينها الكروم بعناقيدها، وتظهر منها البحيرة على أشكال مياهها تبعا لألوان السماء بين صفو وكدر.
ولما وصلت إلى إكس وجدتها خالية من زوارها، ووجدت فنادقها وقاعاتها مقفولة الأبواب مقفرة من كل من كانت آهلة بهم ممن يقصدونها في أيام الصيف؛ طلبا للاستشفاء بمائها وهوائها، ولم يبق فيها إلا بعض سكانها الفقراء أو بعض مرضاها المعضلين. وكان يومئذ فصل الخريف، وقد أخذت أوراق الأشجار تتناثر عن غصونها تحت صقيع الصباح، والضباب يغشى الآفاق إلى حد الظهيرة حتى يسد ذلك الوادي فلا تعود تظهر منه إلا أعالي الأشجار الباسقة، وقمم الجبال الشاهقة، حتى إذا بلغت الشمس كبد السماء وهبت نسائم الهاجرة جلت ذلك الضباب عن تلك البحيرة كما تجلو كف العذراء صدى أنفاسها عن مرآتها، ثم تمر بين معاقل تلك الجبال فتسمع لها همهمة كأنين العاشق وزفير المشتاق، ثم يسود السكوت على أثرها لا تخالطه رنة ولا يكدره صوت حتى يكاد شاهدها يمسك أنفاسه خوفا من تكديره، ثم يعاود السماء بهاؤها، وتظهر جبال الألب شامخة الذرى في جلد أزرق صاف لا تغشاه كدورة ولا يمر فيه سحاب.
إلا أن ذلك لا يطول إلا ريثما تميل الشمس إلى مغربها فيقابلها ضباب الأفق كأنه يتلقاها بالراحتين ثم تتوارى بالحجاب، وتصبح الطبيعة بعدها كأنها ماتت كما يموت الشباب في نضارته ونمائه أو الجمال في ريعانه وبهائه. فكانت تلك البلاد في مثل ذلك الفصل وتلك المناظر على مثل شبابي وقلق أفكاري داعية إلى شرود نفسي وهواجس قلبي، فأغوص في بحر من الحزن عميق، كله تأمل وجمود، يضيع به فكري في ذلك الفضاء فأستريح منه حتى لا أحب أن يرجع إلي، وحتى عزمت على أن أستأنس إليه، وأنفر من كل مخلوق يكدر مسمعي إلى سكوت ووحدة وسكون لا أرى فيه غير مناظر الطبيعة وأعمال الله.
وكنت عند مروري على شامبيري قد وجدت صديقا لي يدعى لويس في مثل حالتي من الأكدار والأحزان، يتأفف من مرارة الحياة، ودهر يضع الرجال في غير مواضعها، ونفس تطمح بأبصارها إلى العلاء وهي مقيدة بقوم هم لأصحاب العقول والأقلام بمنزلة حديد القيود من الأقدام، فهي منخفضة عنها في المقام ولكنها مانعة لها عن التخلص والإقدام. فحادثته في شأني وما عزمت عليه، فدلني على بيت في أعلى مدينة إكس معد لنزول المرضى والقيام بما يقتضونه، قد افتتحه طبيب شيخ، وأقام فيه مع أسرته، وهو منزل واقع على طرف المدينة، ومن ورائه حديقة زاهرة تفرشها الخضرة والأعشاب، وتكللها الدوالي والأعناب، ثم وعدني بأنه يتبعني متى فرغ من شأن كان له في شامبيري على أثر وفاة أمه، فوعدت نفسي منه بصديق حلو العشرة طيب الصحبة؛ لمشابهة في أخلاقنا، ومشاكلة في أحوالنا. وعندي أن التشابه في المصائب والاشتراك في الأحزان أدعى إلى الصحبة وأقرب إلى السكون من الاشتراك بالسعادة والمسرات، وإنما كان ذلك لأن رابطة الحزن أقوى أثرا في القلوب وأشد اتصالا بالنفوس من رابطة الغبطة والهناء، فودعته على هذا الأمل، وانصرفت وأنا أعلل نفسي بلقائه على عجل.
فقابلني الطبيب وأهله بكل ترحيب وإكرام، وأخلوا لي قاعة تنفتح نافذتها على تلك الحديقة وما وراءها من الحقول، وكان المنزل فارغ القاعات إلا القليل منها، ومائدة الطعام لا يشغلها إلا أهل المنزل وثلاثة أو أربعة من المرضى أنحلهم الفقر أكثر مما أنحلهم الدهر، فجاءوا بعد عودة المرضى إلى أوطانها رغبة في فراغ المكان وبخس أجرة السكنى، فأخبرني الطبيب وامرأته أن عندهما فتاة غريبة الأهل بقيت بعد انصراف الناس طمعا بالشفاء من نحول تولاها فأزمن فيها، وأنها مقيمة وحدها من أشهر في أقصى مكان من المنزل يؤتى إليها فيه بالطعام، فلا تنزل إلى المائدة ولا ترى إلا في نافذة غرفتها من خلال ستائر الأغصان أو على السلم وهي عائدة من التنزه في تلك الجبال، فوجدت بيني وبينها مشابهة في الانقباض، ومشاكلة في الغربة، ومماثلة في المرض؛ لأنها قادمة للاستشفاء، ومضارعة في الحزن؛ لأنها تتجافى عن الضجيج وتتوارى عن أبصار الناس. ولكني على كثرة ما كنت أسمع من ذكرها وإظهار العجب من أحوالها لم أكن أحب أن أراها؛ لأن ما قاسيته من أهوال العشق وصنوف عذابه صير قلبي رمادا ونفسي خامدة وأبصاري ناكسة كأنها لا تريد أن ترى إنسانا أو أن يراها إنسان، ولأني وجدت الحب مع ما فيه من فكاهة اللهو ولذة اللقيا لا يخلو صاحبه من لواعج الوجد وحرقة الصبابة، ووجدت أنني عاجز عن أن أحمل هموم نفسي وأستهدف لمصائب دهري، فكيف أجمع إليها نفسا أخرى لأحمل همومهما جميعا، وأعظم ذلك الهدف حتى تتضاعف فيه نبال الزمان؟ وأقول الهموم والمصائب لأن السعادة لم تخطر لي في بال.
فكنت أصرف صباح يومي في مطالعة الكتب ودرس الأسفار والرسائل، ومساءه في قطع تلك الجبال والوديان والغابات وحيدا فريدا لا مؤنس لي غير أفكاري ولا سمير إلا همومي حتى أعود وقد أخذ مني التعب كل مأخذ، فأدخل إلى غرفتي وأتكئ على نافذتها تمر علي الساعات وأنا ناظر إلى السماء نظرات أحسب أن نفسي تنطاد فيها على آثارها كما يغوص الحجر الصلب في لجة البحر العميق، حتى لقد ذهبت إلى أن في السماء قوة تجذب النفوس كما أن في الأرض قوة تجذب الأجسام وشبه الشكل منجذب إليه، ثم أعود فأنام بين مساورة الأفكار ولجج الهواجس حتى توقظني قارصة الشمس، فأستفيق على نغمات الأطيار وخرير المياه لأعود إلى مثل شأني بالأمس.
الفصل الثاني
شرك الغرام
فبينما أنا في بعض الليالي وقد تطلعت من نافذتي بصرت على مقربة مني بنافذة منارة قد اتكأت عليها فتاة لم أر منها في بادئ الأمر إلا يدا كأنها المرمر الشفاف، ترفع ضفائر شعرها فتنجلي عن وجه ينعكس منه نور القمر عن محيا صافي الأديم أصفر شفاف يزينه شعر حالك كالغراب، قد لصقت منه خصلة مدورة على صدغها فزادته جمالا. ثم سمعت صوتها وقد كلمت من معها في داخل الغرفة، فإذا به غريب اللهجة صافي الرنة لطيف الوقع في الآذان أثر في نفسي وإن لم يدر في مسمعي معناه، حتى خلت أن صداه ما برح يتردد في أذني بعد وقعه بساعات كما يتردد صدى الأعواد في آذان الطروب النشوان، وحتى حسبت أنه رنة أوتار لا صوت إنسان، وأنا لا أعلم أنه سيكون له نصيب في نفسي وشركة في حياتي لا تقطعها عوامل الأيام، ثم انتبهت في اليوم الثاني وقد ذهب عني كل ذلك كأن لم يكن شيء مما كان.
وبينما أنا عائد يوما وقد بلغت المنزل قبل المساء بصرت بتلك الفتاة الغريبة جالسة على مقعد مستندة إلى الجدار في طرف الحديقة، فلم تنتبه إلى وقع أقدامي حتى تقدمت فتواريت وراء كرمة تبعد عنها بضع خطوات ووقفت مدة أراها ولا تراني، فرأيت وجها تتردد عليه خيالات الأوراق بين شعاع الشمس الغاربة فتزيده حسنا، وقامة فوق الربعة كأنها تمثال رخام ملتف برداء يظهر منه شكله ولا تظهر تقاطيعه، وقد عقدت يديها على ركبتيها وغطت رأسها بفضل ردائها وقاية من ندى الليل، وهى مائلة العنق، مطبقة الأجفان، ناحلة الأعضاء، صفراء اللون، جامدة الحركة، كأنها تمثال الموت ولكنه الموت الذي يميل بالنفوس ويجتذب القلوب والأبصار إلى الحياة الخالدة ودار النعيم.
ثم سمعت وقع أقدامي ففتحت أجفانها عن عينين ملؤهما السحر والحور، يتقوس فوقهما حاجبان كأنهما خطا بحمم، ولهما نظرات لم تحوها مقلة ناظر، وأنف كأنه حد السيف في دقته وحسنه، فوقه جبين واسع الجبهة ناتئها كأنه جبين عالم ضغطته كثرة الأفكار، وفم أحمر الشفتين رقيقهما ينفرج عن ثغر كأنه اللؤلؤ المنظوم، وهي قد بدا عليها الذبول والانتحال حتى يخيل لناظرها أنها خطرة فكر لا هيئة إنسان فلا يتحول عنها إلا وقد ارتسمت في فؤاده كما يرتسم المعنى الدقيق في النفس الوقادة، بحيث كانت على ما بها من ظواهر السقم وهزال الداء كأنها أجمل تمثال من كف أحذق صانع.
فلما رأيت أنها رأتني حييتها بإكرام، ومررت مسرعا من أمامها وأنا منكس الرأس خافض الطرف كأني أسألها العذر عن إزعاجها بعد أن نظرت إلى خديها وقد صبغت صفرتهما حمرة الخجل، ثم دخلت إلى حجرتي وأنا مضطرب الأعضاء خافق القلب، وأحسب أن ذلك من تأثير التعب وبرد المساء. ولم يمض قليل حتى رأيتها مرت من أمام بابي ذاهبة إلى حجرتها، فكنت بعد ذلك أراها كل يوم في مثل تلك الساعة في تلك الحديقة أو في صحن الدار وأنا لا يخطر لي ولا أتجاسر على أن أكلمها، ثم كنت أراها في بعض الأيام سائرة في الحقول أو راكبة زورقا في البحيرة فلا أقابلها إلا بسلام معتاد، ثم يأخذ كل منا في طريقه إما في الجبال أو على الماء. إلا أنني كنت أشعر بانقباض واشتغال كل مساء لا يتفق لي أن أراها فيه، فأنزل إلى الحديقة وأنا لا أعلم لماذا، أو أجلس في النافذة ساعات لا أشعر ببرد الليل وعيناي محدقتان في نافذتها، فلا أنصرف عنها حتى أرى خيالا منها من خلل الستائر، أو أسمع رنة عودها أو صوتها، أو أنصرف حزينا كئيبا.
وكانت الحجرة التي تسكنها محاذية لحجرتي لا يفصل بينهما إلا باب ضخم ذو مصراعين، بحيث كنت أسمع منها وقع أقدامها وحفيف ثوبها وتقليب صفحات كتابها، حتى كان يخيل لي أحيانا أنني أسمع أنفاسها تتردد في صدرها، فوضعت منضدة (طاولة) كتابتي تلقاء ذلك الباب، وأسندت مصباحي إليه؛ لأنني كنت أشعر بخفة الوحدة علي عندما أسمع همس تلك المخلوقة على مقربة مني، وأنني على انفرادي كأنني مع رفيق.
وبالجملة فقد كنت أجد في نفسي كل عوامل الحب وهواجسه وخطراته قبل أن يداخلني الظن في أنني بلغت إليه، وإنما كان ذلك لأني لم أكن أعتبر الصبابة تنشأ في قلبي في ساعة أو مكان أو نظرة أو اتفاق أقدر أن أتجنبها وأتجافى عنها، بل كنت أجدها أشبه بذرات الأثير التي تحدق بالمرء بين الهواء والنور واختلاف الفصول ومدى الحياة. ولقد زاد بي الأمر حتى صرت أرى الحب ينبعث إلى قلبي من قرب تلك الفتاة مني ومن تباعدي عنها أحيانا تباعدا أراه يزيدني تقربا منها واتصالا بها، ومن ردائها الأبيض الذي كان يلوح لي من خلال أشجار الغابات كأنه راية الحب تدعوني إليها، ومن شعرها الأسود حين تنشره رياح البحيرة على جانب زورقها، ومن وقع أقدامها على السلم، وبريق نورها من النافذة، وصرير قلمها على أوراقها، حتى من سكوتها نفسه في تلك الليالي الطويلة التي كانت تقضيها في جواري بين قراءة أو كتابة أو تأمل، بل من ذلك الجمال الباهر الذي ارتسم على صفحات قلبي فصرت أراه ولا أراه، كأن الجدار بيني وبينها قد استحال أمامي إلى زجاج شفاف، وما هو إلا فؤادي ارتسمت عليه فشف عنها للعيان كل ذلك، وأنا لم تداخلني رغبة أو يخطر لي فكر في أن أطلع منها على سر وحدتها أو أزيل ذلك الحجاب بل ذلك الباب الفاصل بيني وبينها، وما عسى أن تهمني فتاة مريضة القلب والجسم، ألقتها يد الاتفاق في طريق حياتي بين تلك الجبال في غربة نازحة وأنا قد نفضت غبار الحب عني، وعزمت على ألا أصل رغبتي في أسباب الحياة بحب أو ميل قلب على الإطلاق، واحتقرت الحب احتقار من مارسه فلم يجد فيه إلا هموما وخفة ولم يلق منه إلا أهوالا وصنوف عذاب.
ثم أغرقت في الفكر فقلت: ما عسى أن تكون تلك الفتاة، أإنسية مثلي أم خيال وهم يمر على مقلة الفكر فلا يترك بعده إلا دهشة العينين؟! ثم هل هي من وطني أم من وطن بعيد نازح لا تلبث أن تعود إليه وتتركني بعدها دامع العين على فراقها وأنا لا أجد السبيل إلى اتباعها ولا أقدر على لحاقها؟ وفوق ذلك فهل هي خلية القلب مثلي فتجيبني إلى هواي، وإلا فكيف يجوز في العقل أن مثل هذا الجمال الباهر يقطع مراحل العمر بين ركب الناس ولا تعلق به آثار حب أو لاعجة صبابة وهو في إبانها؟! ثم هل هي ذات أب وأهل أم ذات حليل أو خليل قضت الأيام ببعدها عنه إلى حين ولا تزال تلهج بذكره حتى تراه؟
ولقد كنت أخاطب نفسي بكل ذلك كأنني أريد أن أخدعها؛ لأثنيها عن عزمها في حب لا أريده لها وهي تريده مدفوعة إليه بالرغم عنها، والقلب بيننا عصي طيع، ثم زاد بي الأمر حتى صرت أرى سعيي في استطلاع أمر تلك الغريبة حطة ونقصا في شأني، ووجدت أنه خير لي أن أظل تائها عن حقيقتها لا أهتدي إلى عرفانها إلا أن أسرة الطبيب ونزلاءه لم يكونوا من رأيي هذا، فكانت تدفعهم رغبة المحادثة في كل اجتماع إلى مفاتحتي بشأنها ومحادثتي عنها، بحيث كنت أطلع على بعض أمورها وأنا لا أريد، بل كثيرا ما كنت أحول مجرى حديثهم عنها حتى لا أقف على شيء منه فأجده ملء أفواه الجميع بين رجال ونساء وفتيان وفتيات وأدلة طريق ونوتية سفائن؛ لأنها كانت قد أثرت في جميع القلوب، ومازجت كل النفوس من غير أن تكلم أحدا، فكان مثلهم في ذلك مثل الأعمى الذي يشعر بحرارة الشمس ولا يراها.
وكان جل ما علمته عن تلك الفتاة أنها تقطن باريز، وأن زوجها رجل عجوز قد اشتهر بالعلوم والفلسفة، أثر فيه جمالها وعقلها فتبناها ليورثها لقبه وماله، وكانت تحبه محبة الأبناء للآباء، وتكاتبه في كل يوم بجميع ما يمر عليها، وكان قد أصابها من عامين نحول طال أمره، فأشار عليها الأطباء بالاستشفاء في إيطاليا فقدمتها وحدها، ثم أشار عليها أحد أطبائها بالاستحمام في مياه إكس، وواعدها بأن يجيء فيأخذها إلى باريز في أوائل الشتاء.
ذلك كل ما علمته عن سيرة تلك الإنسانة التي كنت أدافع نفسي عن حبها، وأصور لها أنني غير مهتم في الذي أسمعه عنها. إلا أنني مع ذلك قد وجدت زيادة حزن عليها من هذا المرض الذي أصاب صباها كما تصاب الزهرة في نضارتها، وصرت على اهتمامي بما أدهشني من جمالها، وأنا أشد اهتماما بما لاح لي من ظواهر سقمها وانتحالها. ثم استمرت سيرتنا بعد ذلك أياما ونحن متقاربان في الجوار ومتباعدان في الألفة والتعارف.
الفصل الثالث
فاتحة الكلام
وكان الثلج قد أخذ يكسو أعالي الأشجار ببياضه الناصع بعد أن أخذت يد الشتاء في تجريدها، وأصبح الهواء في الأماكن السافلة والمواقع المنخفضة أقل رطوبة وأخف بردا منه في الأماكن المرتفعة والجبال العالية؛ فانصرفت عن النزهة في الجبال هربا من بردها إلى ركوب متن البحيرة طمعا في دفئها وحرارة هوائها، فكنت أصرف بياض أيامي في الزوارق بين نوتيتها حتى صارت بيني وبينهم ألفة شديدة. وكانت الفتاة الغريبة قد شعرت بالذي شعرت من برد الهواء، فمالت إلى الذي ملت إليه من ركوب الزوارق ونزهة الماء.
فبينما هي ذات يوم في زورق لزيارة قرية على أحد شواطئ البحيرة وقد توسطت اللجة، عصفت الرياح وثارت الأنواء وأرغى الماء وأزبد فصار يتلاعب بالزورق كما تتلاعب العواصف بالريشة الطائرة، وقد تعذر الرجوع وعظم الخطر وساقني الاتفاق إلى ركوب زورق حتى صرت على مقربة منها، فبصرت بقاربها تعبث به الأمواج وقد أحدق به الهلاك من كل جانب، فأمرت نوتيتي باقتحام الخطر ومصادمة الأمواج، فنشروا الشراع وأعملوا في التجذيف جهد المستبسل المستميت، فسار بنا الزورق كأنه السهم مرق عن قوسه يشق عباب الماء حتى يكاد لا يمسه، والأنواء تدفع زورقها أمامنا فلا يكاد يظهر شراعه حتى تحجبه جبال الأمواج، إلى أن أدركناه وقد بلغ الشاطئ المقصود من البحيرة وركبه في سلامة وأمان.
فلما دنونا منه ألقينا بأنفسنا في الماء، وصرنا نخوضه بالقدم حتى وصلنا إلى نوتيته وهم يشيرون إلينا بالأيدي ويصيحون كالمستغيث، ثم نظرنا إلى الزورق وإذا بالفتاة مغشيا عليها فيه وهي فاقدة الحس والحركة وقد بيضت أثوابها رغوة البحيرة وزبد الأمواج، وكان شعرها يتموج على عنقها وكتفيها كأنه جناح الغراب ووجهها ساكن الحركة منبسط الأعضاء كأنها في سبات النوم، حتى ظننت أن آخر نسمة من نسمات حياتها قد نقشت على وجهها آخر آيات الجمال أثرا للفراق وذكرى للوداع، وخلت أنني لم أرها في جمال كالذي رأيته عليها في تلك الحال، وقلت في نفسي: أترى كان تمام هذا الجمال موقوفا على تمام تلك الحياة، أم أراد الله ألا يترك لي منها إلا أبهى صورها أثرا يتردد في قلبي مدى العمر وتعاقب الأيام؟!
ثم أسرعنا جميعا إلى الزورق لنرفعها من ذلك المهد المزبد إلى إحدى الصخور، وتلمست قلبها بيدي لأحس خفقانه فشعرت كأنني لمست بها صدر تمثال رخام عليه كرتان من العاج، ثم وضعت أذني على شفتيها فكأنني وضعتها على شفتي طفل نائم فوجدت خفقان قلبها شديدا ولكن بغير انتظام وأنفاسها متقطعة فاترة، فعلمت أنها في إغماء طويل على أثر الخوف وبرد الماء فاستعنت بأحد النوتية على رفعها وهي أشبه بالأموات، وسرنا بها إلى بيت حقير لأحد الصيادين على ذلك الشاطئ ليس فيه إلا قاعة ضيقة مظلمة قد سودها الدخان ولا أثاث فيها إلا مائدة عليها آثار الطعام، يصعد منها بسلم من خشب إلى غرفة دانية السقف ينيرها مصباح بغير زجاجة ولها نافذة تطل على البحيرة وقد نصبت فيها ثلاثة أسرة لأهل المنزل فوضعنا الفتاة على أحدها، وقامت نساء المنزل بتغيير ثيابها وقد حاولن مرارا أن يسقينها شيئا من الخمر فما أمكن، حتى إذا تحققن خيبة المسعى أخذن في البكاء والعويل وهن يقلن: لم يعد لها إلا الرثاء والدفن.
فصعدت السلم مسرعا وأنا طائر اللب من الجزع، ودخلت الغرفة فوضعت يدي على جبهة الفتاة فوجدتها كأنها تلتهب نارا، ثم أصغيت إلى أنفاسها فوجدتها تختلج في صدرها متقطعة فترفعه ثم تهبط به على حسب ترددها فيه، فأسكت النساء المعولات ثم سألت عن طبيب فقيل لي إنه غير بعيد، فدفعت دينارا إلى أحد النوتية وأرسلته في طلبه.
فجلس رجال الزورق إلى ناحية مطمئنين على بقائها، وتشاغلت نساء المنزل بإحضار الطعام، وجلست أنا إلى جانب السرير عند قدميها وأنا شاخص في وجهها الساكن وأجفانها المطبقة، وكان الليل قد أقبل وأنيرت الغرفة بمصباح خامد يلقي شعاعه الضعيف على محياها الأصفر كأنه شعاع الشمعة على وجوه الأموات، فلبثت على حالتي تلك جامد النظر في وجهها عدة ساعات وأنا كأنني معلق بين الحمام والغرام؛ لأنني لم أكن أعلم هل هذا الجمال الساطع أمامي يكون لي سبب كدر وحزن دائم تعده لي تلك الليلة أم أثرا لغرام ينشأ في قلبي منه عند إفاقتها من الإغماء.
وكانت حركة النوم قد أزاحت فضل غطائها عن إحدى كتفيها، فظهر من تحته معصم كالعاج الصافي وكف موردة البنان قد التف عليها شعرها، فلاح من خلاله بريق حجر من الياقوت في إحدى أصابعها يحاكي وميض البرق في الليلة الدلماء، وما زلت كذلك حتى صاح الديك مبشرا بالصباح فقامت النساء وخرجن من الغرفة ساكنات إلى أعمالهن وبقيت وحدي.
وكان نور الصباح قد أخذ ينبعث من زجاج النافذة، فقمت وفتحته على أمل أن نسيمات الصباح أو طلائع شعاع الشمس التي تنبه كل حي في الطبيعة تنبه لي تلك الحياة المغمى عليها بعد أن كنت أشتهي أن أنبهها ولو بنسمة حياتي، فهب الهواء باردا وانتشر في المكان حتى أطفأ مصباحه إلا أن الفتاة بقيت على حالها لا تتحرك، ثم سمعت النساء يصلين تحت النافذة قبل أن يبدأن في أعمالهن، فخطر لي أن أصلي لأني وجدت الصلاة آخر ملجأ ينزع إليه ضعيف يئس من معونة الناس فصار في حاجة إلى قوة فوق قدرة الإنسان فأقبل يلتمسها فلم يجد غير معونة الله، فركعت إلى جانب السرير وضممت يدي عليه وشخصت بأبصاري إلى وجه الفتاة، وأخذت في صلاة طويلة حتى بكيت فسالت دموعي حتى ملأت عيني وحالت بين نظري وبين من كنت أدعو لها الله.
ثم طال علي الأمد وأنا على حالتي تلك لا أشعر بطول الساعات، ولا أجد ألم ركبتي على البلاط لاستغراق نفسي في الذي كنت آخذا فيه. ثم ضايقت الدموع أجفاني فرددت يدي لأمسحها، فشعرت بيد لمستني ثم ألقيت على رأسي كأنها تفرق شعري عن جبيني، فشهقت شهقة المستفيق ونظرت فرأيت الفتاة قد انفتحت مقلتاها وانفرجت شفتاها للتنفس والابتسام ومدت يدها إلي لتصافحني، ثم قالت: أحمدك اللهم، فقد وجدت لي أخا!
وكانت كأن برد الصباح قد أيقظها وأنا في تلك الصلاة غارق الوجه في شعري ودموعي إلى جانب سريرها، وكأن الوقت انفسح لها ريثما تبينت شدة صلاتي وتأملت في تقاطيع وجهي، ثم وجدت نفسها منقطعة عن كل معين وناصر وليس أمامها إلا فتى يدعو لها دعاء الأخ ويبكي لمصابها بكاء الشقيق، فأثر فيها ذلك المنظر حتى توهمت أنها في موقف إخاء فقالت ما قالت وهي لا تفقه ما تقول. فأخذت يدها بيدي وأزلتها برفق عن جبيني كأنني غير أهل لأن تمد إلي، ثم قلت لها مستنكرا: أخ يا سيدتي! لا والله بل عبد لجمالك، بل خيال لقدميك، لا يلتمس منك إلا السماح له بذكرى هذه الليلة، وحفظ هذه الصورة على صفحات قلب يحب أن يتبعها إلى الموت أو يحتمل ببقائها وقر الحياة.
وكانت هذه الكلمات تخرج متقطعة من فمي كتقطع أنفاسي، وتورد ماء الحياة يجول في وجنتيها كما يجول احمرار الشفق في أديم الغيوم البيضاء، ثم لاحت على شفتيها ابتسامة حسبت أنها تباشير السعادة تلوح أمامي كأن كلامي لها قد أصاب ما في نفسها مني، وما أحسب أن الانتقال من الموت إلى الحياة ومن الحلم إلى الحقيقة يكون أسرع ظهورا وأقرب حصولا منه على تلك الفتاة، حتى لقد خلت أن الاندهاش والنحول والنشوة والراحة والحياء والدلال والجمال قد ارتسمت كلها دفعة واحدة على ذلك الوجه الجميل الذي زانته اليقظة وورده الشباب، وأن أنوار محياها كانت تضيء ذلك المكان بأكثر مما تضيئه أنوار الصباح، وأن في جمالها وسكوتها معاني غرام توحيها إلي بما لا تحويه عبارة ولا تحكيه سطور، فعلمت عند ذلك أن في الجبين لغة تقرؤها العيون، وأن في وجه الشباب أوتار أعواد يحركها الغرام بلحظة من لحظاته فترن في القلوب رنات لا تؤولها كلمات في لغة من لغات الدنيا على الإطلاق.
ورأيت أن في ثيابي التي كانت لا تزال مبللة وفي تفرق شعري من كثرة ما مررت عليه بيدي سواد ذلك الليل، وفي تقرح عيني وشحوب وجهي وشدة لهفتي وحنوي وسروري واندهاشي ووقفتي في وسط تلك الغرفة لا أخطو من مكاني كأنني أخشى أن أكدر ذلك الموقف وانعكاس نور الشمس عما كان لا يزال عالقا بأهدابي من دمع أجفاني؛ ما كان يلقي على وجهي آثار انعطاف تشف عن غرام هيهات أن تجده تلك الفتاة في وجه إنسان سواي.
ولما لم أعد أقدر على احتمال ذلك السكوت، ناديت نساء المنزل فصحن مندهشات من إفاقتها حتى كدن يحسبنها من العجائب، ثم لم يلبثن حتى دخل الطبيب على آثارهن فأمر المريضة بالراحة وأن تشرب عصارة بعض أعشاب تنبت في تلك الجبال بعد أن قال أن لا خوف عليها ولا خطر، فانبعث صبيان المنزل في طلب تلك الأعشاب من منابتها. وتركت القوم في أعمالهم وخرجت أطلب الوحدة في تلك الجبال، فكنت أشبه برجل تخلص من حمل ثقيل فصار يتنهد ملء أنفاسه ويسير متجانفا ذات اليمين وذات الشمال وهو فاتح فمه كأنه يريد أن يعي هواء الفضاء في رئتيه، ولم يكن ذلك الحمل الذي أنقضني سوى وقر قلبي وقد وهبته لسواي فخفت مئونته عني واستعضت الحياة مكانه.
ولا بدع في ذلك فإن الرجل إنما ولد للحب، حتى لا يجد نفسه رجلا إلا متى امتلأ قلبه منه، فهو لا يزال دائب السعي حزينا قلقا تائه الأفكار حتى يعشق فيستريح من سعيه ويقف في مكانه وقد سالمته الأيام وعرف ما هو نصيبه من المقدور.
فجلست إلى شاطئ البحيرة على صخور هناك، وسرحت طرفي في زرقة ذلك الماء وقد تشابه لونه ولون السماء حتى لم أعد أقدر أن أميز أين يلتقيان، وحتى حسبت نفسي قد طارت منى فأخذت تسبح بين الأزرقين وأنا غارق القلب في السرور أبعد غورا من لجة ذلك الماء وأقصى مدى من تناهي ذلك الفضاء لا أقدر أن أصوره لنفسي على صفحات الوهم، فكيف أصوره لغيري على صفحات القرطاس؟! ولم أجد له مثلا إلا مثل الروح الخفي تشعر به النفس ولا يقدر أن يفصح عنه اللسان، وأقسم أني لو مر علي في حالتي تلك ألوف من السنين ثم انتبهت لرأيت أنه لم يمر علي أكثر من ثانية أو لحظة عين، وقد علمت من ذلك كيف يكون الخلود قصير المدى على أنفس الخالدين، وكيف قال داود في زبوره:
ألف سنة في عينيك يا رب مثل يوم أمس الذي عبر.
ثم انتبهت إلى ذلك السرور فوجدته أعظم من أن يوصف، وأوحد من أن يجزئه فكر أو تقسمه كلمات، ثم هو مع ذلك لم يكن ناشئا عن جمال تلك المحبوبة لأني لم أتصور جمالها إلا يغشاه اصفرار الموت فيحول بيني وبينه، ولا عن ازدهاء بأني محبوبها لأني لم أكن أعلم هل أثرت فيها أم كنت لديها كالخيال في الحلم يذهب بانقضائه، ولا عن أمل أن أتمتع بمحاسنها لأني كنت أجلها عن أن أنزل بها إلى مثل ذلك ولو بخطرات الأفكار، ولا عن طمع بأن أصل أيامها بأيامي وأجعلها من نصيبي؛ لأني كنت أعلم أنها نصيب سواي، ولا عن رجاء بأن أراها أو أتبع آثارها؛ لأني لم أكن مطلق التصرف بنفسي بأكثر مما كانت مطلقة بنفسها إلى أمد لا تلبث أن تعود بعده إلى موطنها فتفرق بيننا الأيام، ولا عن يقين بأنها تهواني؛ لأني لم أكن أعرف من قلبها شيئا سوى ما سمعته من كلمة ذلك الإخاء وعرفان الجميل ... ولكنه كان ناشئا عن انعطاف طاهر أدبي هو الراحة من بحث طويل عن ضالة غرام كان ينشدها قلبي فلا يلقاها حتى وجدها، فأصبح لاحقا بها معلقا على آثارها مستريحا من سعيه لديها كالحديدة التي يجذبها المغناطيس فلا تزال تتحرك وتضطرب حتى تنجذب إليه، فإذا لصقت به سكنت واطمأنت، أو كالنفس الذي لا يزال يتغلغل في الصدر ويلتمس الخروج حتى يفارق الشفتين فيتخلل الهواء ويتلاشى فيه.
ومن الغريب أنني لم أكن أشتاق إلى أن أراها أو أسمع صوتها أو أدنو منها أو أحادثها، وما ذلك إلا لأنني رأيتها فوعيتها في قلبي فلم يعد أحد يقدر أن ينزع صورتها منى، وسواء علي قربت أو بعدت وحضرت أو غابت ما دامت ساكنة في قلبي وداخلة في نفسي، وقد قيل:
ما للنوى ذنب ومن أهوى معي
إن غاب عن إنسان عيني فهو في
وإنما كان ذلك لأن الحب متى بلغ تمامه واستتم كماله كان صبرا في قلب صاحبه؛ لأنه يكون فيه بمنزلة الأبد السرمد، ومن شأن الأبد الانتظار والصبر لأنه لا نهاية له، وهيهات أن ينزعه شيء من قلبي إلا إذا نزع قلبي معه؛ إذ قد وجدت صاحبته لي ألزم من النور للعين عند انفتاحها، ومن الهواء للصدر عند تنفسه، ومن الفكر للنفس عند اشتغالها، وحتى صرت أراهن العالم على أن ينتزعها مني إذا كان ذلك في إمكانه، وكل ذلك لأنني كنت قد رأيتها فأحببتها وكفى. وما عسى أن يهمني بعد ذلك إذا كانت تحبني أو تمر أمامي ولا تراني وأنا قد أحدق بي جمالها حتى تسربلت بشعاعه فلم تعد هي نفسها تقدر أن تسترد بهاءها مني إلا إذا كانت الشمس تقدر أن تسترد ضياءها بعد انبعاثه، وحتى استوت حالات قلبي فلم يعد فيه برد ولا ظلام ولو عشت ألف سنة؛ لأنها تظل مشرقة فيه كما كانت مشرقة في تلك الليلة؟
وكانت تلك الأفكار تزيد حبي ثباتا وسكونا واتساعا ونشوة سرور لا توصف، فجعلت أنفق الساعات لا أحسبها على ثقة بأن أمامي ساعات لا نهاية لها، وأن كل ساعة منها تزيدني وجدا وغراما حتى لو غبت عمن أحبها قرنا كاملا ما أنقص ذلك القرن ذرة من ودادي، فكنت أذهب وأرجع وأقعد وأقوم وأجري وأمشي وأنا لا أكاد أمس الأرض كأنني الخيال الساري من شدة ما استطارني من السرور، ثم كنت أفتح ذراعي للهواء والبحيرة والنور كأنني أريد أن أعانق الطبيعة لأشكرها على إنعامها علي بمخلوقة جمعت فيها كل أسرارها ومحاسنها وحياتها وسرورها، وأركع على الحجارة والصخور الجاسية وأنا لا أشعر بها، أو على شفا الوديان العميقة وأنا لا أراها، وأصيح بكلام متقطع لا معنى له تضيع نبراته في هدير أمواج البحيرة، وأمد بصري إلى السماء بنظرات بعيدة المرمى كأنني أريد أن أخترق بها حجب الجلد لأرى من ورائها صورة الله فأشكره على إنعامه.
وبالجملة فإنني لم أعد إنسانا بل صرت نسمة حية صارخة منشدة داعية مناجية شاكرة عابدة، وقلبا طروبا ونفسا طائرة تقود على شفا تلك اللجج جسما لا تشعر بهيولاه ولا تحسب له وقتا ولا مدى، ولا مماتا ولا دينا ولا آخرة.
ولم أكد أشعر بانقضاء ساعات النهار حتى أدركتني حرارة الشمس ساعة زوالها وبلوغها كبد السماء، فنزلت بين أشجار الغابات أتخطى من صخر إلى صخر ومن جذع إلى جذع وقلبي يخفق خفقانا خفت أن يشق صدري من شدته حتى دنوت من المنزل، فبصرت بها جالسة إلى جدار في الحديقة وفي يدها كتاب تقرأ فيه حينا ثم تلاعب من حولها من صغار الأولاد عند مللها منه، فلما رأتني مقبلا استوفزت للقيام كأنها تريد أن تلاقيني فجرأني ذلك على الدنو منها، فدنوت وأنا أرى حمرة الخجل تصبغ خديها وشفتيها تتحركان كأن لسانها يتلجلج بما يريد بيانه، فزادني ذلك منها هيبة وحياء، فوقفت أمامها ونحن مرتبكان حائران لا ندري ما نقول حتى أشارت إلي بأن أجلس إلى جانبها في مكان خلت أنها أعدته لي فجلست على بعد إجلالا لها.
وعاد السكوت بيننا إلى مجراه وأنا أرى أن كلا منا يحاول أن يجد كلاما هو حيلة المتكلم في مثل تلك الحال فلا يجد - أو لا يجسر - فيقف الكلام على شفتيه، حتى طال بنا الأمر وامتد علينا السكوت، فرفع كل منا عينيه من الإطراق فصادف عيني صاحبه تحدقان إليه، ثم تعاقد النظر فجعلت أنظر إليها وتنظر إلي وقد بهت كل منا في وجه ناظره حتى جالت الدموع في أعيننا معا، فرددنا أيدينا إليها سترا لها بل سترا لما انبعث عنه، وظللنا كذلك برهة لم أعلم مقدارها حتى انتبهت لصوتها وهي تقول لي بلهجة تمازجها بعض الحدة كمن فرغ صبره: أتبكي علي وأدعوك بأخي وتدعوني بأختك ثم لا نجسر على الكلام؟! ألا تدري أن دمعة حنو من قلب غريب لأعظم ثمنا من حياتي وأبعد أمدا من آمالي؟! ثم أردفت بصوت كصوت اللائم: أتراني صرت غريبة عنك من حين لم أعد في حاجة إلى اعتنائك؟! ثم قالت: أما أنا فلم أعرف منك سوى اسمك ووجهك، ولكنني عرفت بذلك كل دخائل نفسك حتى لا تزيدني السنون بها علما.
فأجبتها: أما أنا فلا أريد أن أعرف من أمرك شيئا سوى ما علمته من أنك حاضرة لدي، وأنك قد سمحت بأن أنظر إليك في حضورك وأذكر جمالك في غيابك.
فقالت: قف ولا تبالغ في تعظيم حياة تشتهي ساعة انقضائها، بل تعرفني كما أنا، امرأة بائسة تموت في يأسها ووحدتها، وليس لها من هذه الحياة الدنيا إلا بعض شفقة وحنو كما ستعرف ذلك حين تعرف من أنا، ولكني أسألك عن شيء أثر بي منك من يوم رأيتك في الحديقة، وهو ما بالي أراك وأنت في زهرة الشباب وعنفوان العمر وحيدا حزينا كما أنت الآن؟ ولماذا تبتعد عن الناس جهدك إما شاردا في الجبال أو راكبا متن البحيرة أو محتبسا في حجرتك لا يكاد مصباحك ينطفئ منها كما قيل لي؟ أتراك ذا سر خفي لا تبثه لسوى الوحدة والانفراد؟
فأجبتها: ليس لي سر سوى أن لا سر لي، وإنما ذلك وقر قلب لا يكاد يخففه سرور من صدري، وإنني بعد أن سلمت هذا القلب مرارا إلى من لم يكن أهلا له اضطررت إلى استرجاعه بحزن وأسف جعلاني أخاف من الحب وتضعف عزيمتي فيه وأنا في مقتبل هذا الشباب. ثم جعلت أقص عليها ما لم أكن أذكره لغير الله من كل ما يهم إيراده من تاريخ حياتي، كولادتي من أواسط الناس وأن أبي كان رجلا جنديا، وأمي امرأة هذبتها المعارف والعلوم، وأخواتي فتيات ساذجات عابدات، وأنني نشأت في يد الطبيعة بين غلمان الجبال والرغبة في الدرس والمطالعة، وأسفاري، وحوادث حبي الماضية، وخيانة الأيام لي بالسلام عند دخولي في الجندية وخروجي منها، ومسيري على غير هدى وعودتي إلى بيت أبي قانطا من الدنيا راغبا في الموت كارها كل شيء كأنني شيخ أنقضت ظهره السنون وأنا لم أتجاوز الرابعة والعشرين من عمري.
وكنت أقص عليها حوادث دهري المحزنة ونكبات أيامي السوداء وأنا في غبطة وسرور من ذكراها؛ لأنني لم أعد أنظر إليها ولا أشعر بها، وقد كفتني نظرة ممن أخاطبها لأن تنزع مني كل ما مر علي، بحيث كنت أتكلم عن نفسي كمن يتكلم عن فقيد؛ لأني شعرت أن حياتي قد تجددت وأنني قد تجليت في رجل جديد.
ولما فرغت من كلامي رفعت بصري إليها كمن ينظر إلى قاضيه لسماع حكمه عليه، فوجدتها صفراء الوجه راجفة الأعضاء، ثم قالت: يا رب، كم أثرت بي! فقلت لها في ذلك، فقالت: لو لم تقل لي إنك تعيس عاثر البخت لكان سرور كل منا بأخيه أقل مما هو الآن؛ إذ لا ينتظر منه أن يرثي لمصابه، ولكنت فارقت هذه الحياة الدنيا وأنا لا أرى خيال نفسي إلا في مرآتي، فإن ما قصصته علي إنما هو تاريخ حياتي أسمعه من فيك، ولا فرق بيننا سوى أنك لا تزال في فاتحة عمرك وأنا ...
فصحت بها مقاطعا: لا، لا. ثم وضعت شفتي على قدميها وضغطت بيدي عليهما كأنني أريد أن أثبتها على الأرض، وقلت: لا تنتهي حياتك أو تنتهي بحياتين. وكأنني قد خجلت من تسرعي فيما قد أتيته من تقبيل قدميها وقولي لها، فلبثت في مكاني كالمصعوق لا أجسر أن أرفع بصري إليها، فقالت لي: قم، ولا تعبد غبارا أدنى من غبار تدوسه بقدميك ثم تذروه الرياح، ولا تغرنك هذه الفتاة البائسة الواقفة أمامك، فإنما هي خيال الشباب وخيال الجمال وخيال الغرام الذي لا يبقى له أثر سوى ذكراه، واحفظ فؤادك لمن كتبت لهن الحياة، ولا تهبني سوى ما توهب الأموات من يد تسندهم في مسيرهم إلى ظلمة القبر ودمعة تبكي بعدهم عليه.
وكانت لهجتها حزينة كئيبة رنت في أعماق قلبي فشخصت ببصري إليها فرأيت شعاع الشمس عند مغيبها ينعكس عن وجهها فيضاعف أنواره كأنه ينعكس عن مرآة، فقلت في نفسي: كيف يستتر الموت تحت هذه الحياة الناضرة؟! ولكن ماذا يهمني منها إذا كانت هي الموت فإنما أنا أعشق الموت وإياه أحب، ولعل الحب الشديد الذي وجدته بها لم يكن يوجد إلا في تلك الحال، بل لعل الله لم يبعث إلي نور هذا الجمال وهو على وشك الانطفاء إلا ليتبعني به فأسير على آثار شعاعه إلى القبر أو إلى السماء.
وبينما أنا في تلك الأفكار أساورها وتساورني نظرت إلي وقالت: لا تفكر، واسمع ما أقول لك، إنني لا أريد أن تعلق نفسك على صورة باطلة، وحلم زائل، وإنما أريد أن تعلم أنك تسلمني قلبا لا أقدر على حفظه حتى أخونه، فإنني تعودت أن أكره الكذب وأتحاماه حتى لو كانت السماء موقوفة لي على كذبة لما أقدمت عليها وعفت السماء، وإنني لو حصلت على السعادة استراقا لم أعد أحسبها سعادة بل عذابا وتبكيت ضمير.
وكنت أجد في صوتها وهي تتكلم لهجة إخلاص ورنة صدق حسبت معها أن الحقيقة بعينها قد تمثلت لي على ذلك الوجه الصافي، توحي كلامها إلى أذني ونظراتها إلى عيني ونفسها إلى قلبي، فاتكأت إلى جنبي على قدميها وأسندت رأسي بيدي وأحدقت ببصري إلى شفتيها كأنني أريد أن أحرص على كل كلمة أو حركة أو نفس يصدر عنها.
ثم أخذت تقص علي سيرتها، فقالت: إنني ولدت في بلاد غريبة من ديار الشرق كما يظهر لك ذلك من لون شعري واصفرار وجهي بما يخالف صفرة النساء في أوروبا، أو كما تسمع من غرابة لهجتي التي لم أقدر أن أغيرها ولا أريد؛ لأنها آخر ذكرى بقيت لي من آثار أوطاني. أما اسمي فغصن البان دعتني به أمي، ثم ماتت غريقة وقذفتني الأمواج إلى شاطئ وجدتني عليه إحدى النساء فردتني إلى أبي، فأتى بي إلى فرنسا وأنا بنت ست سنوات ثم لم يلبث أن توفي، فأخذني حاكم البلد إلى مدرسة لليتامى نشأت فيها بين الصلاح والعلم وأنا أتقدم في الذكاء والمعرفة والجمال على ما كان يقال لي، ولكنه جمال ذابل كجمال الزهرة تنقل إلى غير منبتها، ثم بقيت على حالتي تلك أعواما تذهب في أواخرها صواحبي إلى أهلهن وأبقى وحيدة لا يسأل عني أحد ولا أعرف أحدا، حتى صرت ألوم المرأة التي التقطتني وردتني إلى أبي ولم تدعني أموت على ذلك الشاطئ حيث ألقتني يد الأمواج.
وكان يزور مدرستنا أحيانا شيخ جليل يأتي من قبل الملك لفحص الطالبات، فأعرض عليه في مقدمتهن كمثال للحذاقة والذكاء فيتلقاني بالبشاشة والدعة وهو يقول: ما رأيت هذه الفتاة إلا أسفت على أن ليس لي ولد.
وبينما أنا ذات يوم جاءتني الرئيسة فأخذتني إليه وهو في ردهة (قاعة استقبال) المدرسة، فتلقاني وقال لي: لقد بلغت السابعة عشرة من عمرك، ولا تمضي عليك بضعة أشهر حتى لا يعود لك مقام في هذا المكان لانقضاء مدتك منه، ولقد أرى أنك فتاة لا وطن لك ولا منزل ولا مال ولا أهل ، وأنك إذا اعتمدت على المعيشة من شغل يدك كانت معيشة شاقة على فتاة مثلك، وإذا نزلت على إحدى صواحبك كانت نزلتك ثقلة عليها وضيقا عليك، ثم أنت ذات جمال باهر والجمال إذا أغفل كان مجلبة للنقيصة وإغراء على ارتكاب الدنايا، كالذهب المتروك الذي يكون عرضة للسارق ومطمعا للمختلس، فماذا عساك تصنعين؟ وكيف ترين؟
قلت: لا أدري لي سبيلا للخروج من هذه الحال إلا بالموت أو معونة الله. قال: بل أرى لك سبيلا آخر، ولكني لا أجسر على بيانه. قلت: بل تأمر يا سيدي، فإنما أنت لي أب تجب علي طاعته وإكرامه. فقال: لا، لست بأبيك، ويا ليتني كنت إياه! ولكني أعرض عليك أمرا أحب أن تجيبيني عليه أو تجيبيني إليه، أنت ترين أنني رجل قد بلغت إلى آخر أيامي ولا ولد لي ولا أهل أترك لهم ما حصلته بكدي من حطام هذه الدنيا، ولقد صرفت ما تقدم من عمري وحيدا لا مؤنس لي غير كتبي وأقلامي حتى بلغت إلى هذا السن، فوجدت وأنا في نهاية مدتي أنني لم أبدأ بالحياة بعد؛ لأنني لم أشعر بالحب، وأنني لم يعد يليق بي أن أرجع إلى طريق السعادة - وهي الغرام - بعد أن صرت في آخر الطريق التي تخيرتها لنفسي وهي المجد والإعظام، ولكني مع ذلك لم أرد أن أموت قبل أن أترك لي ذكرى هذا الوجود في وجود سواي، وهو الخلود الذي لا أعتقد سواه، وأنا لا أرجو أن أحصل عليه إلا بك من طريق الوداد وعرفان الجميل، فأتخذك في الظاهر امرأة لي على أعين الناس قطعا لألسنتهم عني وعنك وابنة في حقيقة الأمر تجدين مني حنو الوالد على أولاده.
فوقع كلامه مني موقعه من وحيد يحتاج إلى أهل ويتيم يرغب في منزل يأوي إليه، فأجبته إلى ما طلب ودخلت منزله ابنة لأب لا زوجة لزوج، وهو لا يريد إلا أن أدعوه باسم الوالد وإن دعاه الناس عني باسم القرين، ثم أخذ يعتني بي أحسن اعتناء ويعاملني خير معاملة، فكنت عنده في ناد من شيوخ ذلك العصر وعلمائه؛ بين كتبة وفلاسفة وساسة ممن نجوا من سيف الثورة وخلصوا من رق الاستبداد، ثم اختار لي فضليات النساء لمعاشرتي وتهذيبي، ولم يكن يمنع عن عشرتي أديبا من أدباء ذلك العصر رجاء أن أميل إلى أحدهم فيميل إليه معي ولكني لم أمل إلى أحد.
واقتنعت من الدنيا بما أنا حاصلة عليه، فكنت أقضي نهاري بين درس ونزهة، وليلي بين جمعية من أكابر العلماء وشيوخهم، بحيث كان شبابي زهرة غارقة في ثلج ذلك المشيب، وأنا أشتهي أن أجد فتى أو فتاة في مثل صباي فلا أجد حتى تولاني الذبول والانتحال، ولم يخف ذلك على من كنت أدعوه أبي، فكان ينظر إلي نظر الحزين الكئيب، ويعالجني بكل دواء من حسن عشرة وحضور محافل وزيارة أندية ومشاهدة ألعاب وأنا لا ينفعني شيء من ذلك، حتى قال لي يوما: أتراك ذات قلب شيخ في ابنة عشرين؟! ألا تدرين أنني أحب أن أراك مائلة إلى واحد ممن يعشقون جمالك؛ ليكفل حنوي إليك من بعدي؟ فأجبته: إن ودادك يكفيني، وأنا بخير ما دمت أراك. قال: إذن ما بالك تهرمين وأنت في مقتبل شبابك؟! ألا تدرين أنه لا ينبغي لسواك أن يغمض عيني عند مماتي؟ فازدهي وسري وأحبي على شرط ألا تموتي أو ألا أحيا بعدك.
ثم أخذ يستدعي لي طبيبا بعد طبيب، وكلهم يجمعون على أنني مصابة بتشنج في القلب، وأنه ينبغي لي تغيير معيشتي، وإقامتي في مكان بعيد عن برد باريز، ففضل زوجي أن يحرم قربي وأكون سليمة على أن يراني بين يديه عليلة سقيمة، فعهد بي إلى أسرة غريبة أخذتني إلى إيطاليا وسويسرا فصرفت فيهما سنتين، ثم أشار علي بعض أطبائهما بالقدوم إلى هذا المكان والإقامة فيه ما دام في هوائه بعض الحرارة، حتى إذا توسط الشتاء عدت إلى زوجي. وإني - علم الله - كنت أود أن أعود إليه وقد شفيت وانتعشت، ولكني أرى أنني لا أعود إلا لأزيد في أحزانه أو أموت بين يديه.
ثم عادت فقالت: سيان عندي الموت والحياة بعد أن وجدت الأخ الذي طالما كنت أنشده حتى ظفرت به اليوم. ثم غطت وجهها بيديها وأردفت وقد برقت دموعها بين أناملها: أجل، لقد وجدت بك في صباح هذا اليوم من طالما كنت أحلم به في ما تقدم من ليالي حياتي، فيا حبذا لو تكتب لي الحياة بعد ذلك، فقد صرت أشتهي الآن أن يطول مدى عمري ليطول سروري بهذه العين التي بكت علي واليد التي ضرعت لأجلي والنفس التي حنت إلي والصوت الذي دعاني بأخته، وأؤمل أنه لا يحرمني هذا الاسم في حياتي ولا بعد موتي.
وما أتمت كلامها حتى سقطت واهي القوى على قدميها وشفتاي لاصقتان بهما وأنا صامت لا أعيد ولا أبدي. ثم لم ألبث أن سمعت وقع أقدام البحارة قادمين إلينا ليخبرونا بسكون البحر ووجوب العودة فقمنا وتبعناهم، وكنت أسير وإياها بقدم قلقة كأننا في سكر، وهيهات أن أصف سروري عندما كنت أشعر بجسمها اللطيف مستندا علي كأنها تقول لي به أن لا نصير لها سواي، فلقد مضى علي من ذلك العهد عشرون عاما وأنا لا أزال كأنني أسمع وقع قدميها على الهشيم اليابس، وأرى خيالينا قد اتحدا يتبعاننا كأنهما تابوت أو نعش يتبع الشباب والغرام ليدفنهما قبل الأوان، وأشعر بلمس كتفها لقلبي الخافق وتموج خصلة من شعرها كان يلقيها نسيم البحيرة على وجهي، فأمسكها بشفتي لأتمكن من تقبيلها. ويل منك أيها الزمان! كم تخفي من سرور النفس في تلك الساعة! ولكن كم أنت عاجز عن محو تذكاره وإخفاء آثاره!
الفصل الرابع
آية العفاف
وكان اليوم ساكن الريح فاتر الهواء على البحيرة بقدر ما كان عاصفا باردا بالأمس، وكانت الجبال غارقة في بحر من الشفق البنفسجي لا يكاد يتميز عنها بلونه، والجلد صافيا توشيه نكت من الغيم الأحمر كأنها ريش ببغاء تناثر في السماء تحت مخالب نسر جارحة، وكانت البحيرة صافية الماء شفافة الأديم كأنها مرآة ترى بها خيال المجاذيف والوجوه، وفاترة الحرارة حتى كنا نضع أيدينا فيها فلا نشعر من الماء بسوى جرمه. وكان يفصل بيننا وبين النوتية شراع صغير فاتكأت غصن البان إلى جانب من الزورق بعد أن لففت جسمها بردائها وغطيت رجليها بردائي وقاية لها من ندى الليل، ثم اتكأت على شبكة هناك وأنا طافح القلب ممتنع الكلام شاخص البصر إليها، وما عسانا نحتاج إلى خطاب ونحن نرى الشمس والمساء والجبال والهواء والماء والمجاذيف واهتزاز الزورق وزبد آثاره، ونظراتنا وسكوتنا وأنفاسنا ونفوسنا قد اجتمعت كلها تتكلم عنا؟ بل كنا كأننا نخشى أن تبدر منا كلمة تكدر ذلك السكون السار، حتى لقد حسبنا أننا سابحون من زرقة البحيرة إلى زرقة السماء، لاشتغال أبصارنا عن الشاطئ المقبلين عليه.
وفيما نحن كذلك سمعت منها تنهدا امتد به نفسها أكثر من غيره كمن يتنهد من تعب، فاستويت مجفلا وقلت لها: أتتألمين؟ قالت: لا، ليس ذلك بألم بل هو فكر. قلت: وما عساه يكون؟ قالت: إني أفكر أنه لو أمر الله الطبيعة الآن بالسكون فوقفت الشمس في مكانها لا تغيب، وهذا الظل في موقعه لا يزول، وهذه البحيرة بمائها، وهذا الهواء في فتوره، وهذا الشاطئ على بعده منا، وهذا النور ينعكس عن جبينك، وهذه النظرة الحلوة في عينيك، وهذا السرور الطافح في قلبي، واستمر ذلك إلى ما لا نهاية له؛ ما قدرت على إدراك ما أنا فيه الآن. قلت: وما هو؟ قالت: اجتماع الأبدية في دقيقة والخلود في وقفة ساعة.
فسبقني لساني إلى أن أجبتها بعبارة من عبارات الحب الفاسد بدرت مني خلافا لما في قلبي من الطهر والعفاف، ومعناها أن مثل هذا السرور لا يكفيني إن لم يكن مقدمة لسواه، وكأنها أدركت ما أريد فاحمر لونها خجلا مني، وأشاحت بوجهها وقد أنار عليه العفاف، ثم التفتت إلي وقالت بصوت منخفض: لقد أسأت إلي كثيرا، فادن مني واستمع: إنني لا أدري إذا كان ما في نفسي منك وفي نفسك مني هو ما يدعونه بالحب في هذه الدنيا، التي يكون للكلمة فيها معنيان لا أريد أن أعلم أحدهما ولا أريد لك العلم به، ولكن الذي أدريه أن أعظم سرور النفس وسعادتها من نفس مثلها هي أن تجد تلك النفس مشابهة لها في حالاتها وصفاتها حتى لا يتباين جرماهما إذا اتحدا، ولعمري إن مثل هذا السرور بين النفسين والحاستين والفكرين ينحصر فيهما فلا يتعدى إلى ما سوى ذلك لهو السرور الذي يتحد به القلبان حتى يتمازجا كما يمتزج نور الشمس عند مغيبها بنور القمر عند طلوعه حينما يتقابلان في الأفقين، وما خرج عن ذلك من السرور الساقط - الذي لا أدري كيف يسمى سرورا - لأشد بعدا عن صلة الامتزاج واتحاد الأرواح من الغبار السافل عن علاء النجم، ومن الدقيقة عن الأبدية. ثم ماذا عساني أقول لك سوى إني أحبك، عبارة إذا لم أقلها قالتها الطبيعة عني فلأقلها إذن عن نفسي، بل لأقلها عن نفسينا أننا متحابان.
فقلت لها: نعم، قوليها، وقوليها ألوفا، بل لنقلها معا أمام الله والناس والسماء والأرض والعناصر والزمان؛ حتى تساعدنا الطبيعة فتردد صداها معنا. ثم قمت فركعت أمامها وقد انعقدت يداي وتغطى وجهي بشعري، فوضعت أنملها علي فمي وقالت: سكن روعك ودعني أتكلم ولا تقاطعني حتى تستوفي كل ما أريد. فجلست إلى جانبها وسكنت فقالت: لقد قلت لك أو لم أقل بل قال لك قلبي بلسان زفراته إنني أحبك، فأنا إذن أحبك بكل ما بي من القوة في حياة بنت ثمان وعشرين، تقضت أيامها تنظر ولا ترى، وتبحث ولا تجد حاجة قلب أنت سرها ومثالها، وأنا أرى الآن أنني رأيتك وأحببتك في حين لا ينفع الحب إذا كنت تعتقده كما يعتقده سائر الرجال، أو كما ظهر لي منك فيما قلته الآن من تلك العبارة الفاسدة. والآن فاسمع ما أقول واعرفني حق عرفاني، فإنني أسلم نفسي إليك كما أسلمها لنفسي وأنا على يقين من أنني لا أسيء إلى ذلك الأب الذي لا يريد أن يدعوني بسوى فتاته، ولست أمنع عنك مني إلا ما تريد أن أختص به نفسي. ولعلك تعجب من لهجتي هذه؛ إذ تراها ليست بلهجة النساء في أوروبا اللواتي لا يحببن إلا قليلا ولا يحببن إلا كذلك، فهن يخشين أن يبحن بأسرارهن خشية أن يذهب ذلك بحبهن من القلوب، أما أنا فلست منهن في شيء لا في وطن ولا قلب ولا تربية؛ لأنك تعلم أنني نشأت في منزل فيلسوف بين جماعة من العلماء لا يكتمون فكرا ولا يعرفون إيمانا من مثل إيمان الناس، فشببت لا أعتقد بعقاب تنخفض لديه جبهة النساء خجلا واستحياء إلا عقاب الضمير وقاضي النفس، ولا أومن إلا بإله غير منظور نقش وصاياه على صفحات الطبيعة وشريعته في القلوب وآدابه في العقول، وبذلك لم يكن لي دين سوى العقل والوجدان والضمير، ولا شيء من هذه الأصول الثلاثة يمنعني عن أن أكون لك، بل أنا ألقي نفسي على قدميك إذا كنت لا تجد السعادة في سوى ذلك.
وبعد، أفليس أبقى للحب وأصون للوداد وأحفظ للقلوب أن نبقى أرفع منزلة في الغرام وأعلى مقاما في العفاف من أن ننزل بهذا الحب الطاهر إلى حمأة الفساد وأدران الخسائس؟
ثم صمتت برهة وقد احمر وجهها كما يحمر الخد إذا أدني من النار، ثم قالت: إذا عرضت لك يوما فرصة خلوة ولوثة عشق فطلبت مني آخر برهان على الحب، فاعلم أن ذلك البرهان لا تكون به نهاية عفافي بل نهاية حياتي؛ لأنك حين تنزع طهارة قلبي تنزع معها أسباب حياتي، فتحسب أن بين يديك السعادة ثم لا تجد إلا خيالا ولا ترفع إلا جثة باردة.
ثم ساد السكوت بيننا ساعة، ثم تنهدت من أعماق قلبي، وقلت: لقد فهمت ما تريدين، وقد أقسم قلبي يمين العفاف قبل أن تأتي على آخر طلبه مني. وكأن هذا الجواب قد زاد سرورها فزاد جمالها وحنوها، وكأن الليل قد أطبق بظلامه والنجوم قد زهرت بأنوارها، وشمل السكوت حولنا فلم نعد نسمع هدير ريح ولا حفيف شجر كأن الطبيعة قد أصغت لتسمع ما يتناجى به قلبانا. ثم أخذ النوتية في بعض أناشيدهم المطربة فذكرني ذلك بصوت غصن البان حين كنت أسمعه على مقربة مني، فقلت لها: ألا تنعمين علي هذه الليلة الناعمة بصوت تلقينه على هذا الهواء والماء يترك لك فيهما أطيب ذكرى؟ ثم أشرت إلى النوتية فرفعوا مجاذيفهم من الماء، فتساقطت قطراته متتابعة على صفحات البحيرة بإيقاع أطيب من إيقاع النغم على دف الفتاة، ثم أخذت في إنشاد صوت شجي لم يمر على سمعي أطيب منه حتى خلت أنه صوت الملائكة في سمائها، وحتى صرت لا أسمعه من أحد بعدها إلا خرجت هاربا كمن ينفر من خيال، ولا أردت البكاء فغنيته إلا بكيت وأنا لا شيء يبكيني.
ولم نزل كذلك حتى رسونا على شاطئ إكس على بعد مرحلة منها، وقد تناصف الليل حتى لم نعد نجد ركوبة تنقل الفتاة في وعر تلك الطريق إلى منزلها، فعزم النوتية على أن يحملوها، وصنعوا من مجاذيفهم وحبالهم هودجا أجلسوها عليه، وسرنا معا على أحسن حال، ولقد حاولت في الطريق أن أنازع كلا منهم في حملها فلا يريدون، فسرت إلى جانبها ومددت يدي إليها لأثبتها على ذلك الهودج فلا يزعجها اهتزازه. وكنا نسير ونحن سكوت تحت القمر الساطع في تمامه بين أشجار الصفصاف، وقد وجدت المسافة على طولها قصيرة المدى كأن الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها، فاشتهيت لو أظل سائرا على مثل تلك الحال إلى آخر خطوة من حياتي.
ثم لقد كنت لا أكلمها ولا تكلمني، بل أشعر بوقر جسمها متكئا على ذراعي، وأحس بيديها الباردتين حول يدي وهي تنفخ فيها أحيانا كأنها تريد أن تدفئها، وما أحسب أن سكوتا يكون فيه مثل هذا الغرام ولا أن سعادة قرن تحويها ساعة! ولما وصلنا إلى المنزل حالت الناس بيني وبينها فنزعت يدي من يديها كأنني تركت بينهما قلبي، فوجدت عليها قطرات دموع فمسحتها بشفتي وشعري كأنه طيب أحرص عليه أن يضيع، ثم ذهبت فانطرحت على سريري بثيابي.
ولقد حاولت كثيرا أن أنام وأنا أتقلب على فراشي فأجد النوم ينفر مني؛ لأن الأمور التي صادفتها في ذينك اليومين كانت تتعاقب على مخيلتي متواترة شديدة التأثير كأني لا أزال أرى ما رأيته وأسمع ما سمعته، أو كأن اليومين لم ينقضيا، وكنت كأن حرارة قلبي صعدت إلي رأسي، فجعلت أقوم وأقعد مرارا وأنا لا أجد راحة في الحالتين، فقطعت آمالي من النوم. وحاولت أن أغالب أفكاري بخفق أقدامي، ففتحت النافذة ثم قفلتها، ثم كنت أقلب صفحات كتبي فلا أفهمها وأتراوح في حجرتي لا أستقر في مكان، وأنقل مقعدي في الزوايا عساني أجد له وضعا أرتاح عليه فأقضي ليلتي ساهرا.
وكان هذا الصوت قد بلغ إلى حجرة المريضة فصيرها في مثل حالي من السهد والقلق، فسمعت خفق أقدامها يدنو من الباب الذي بيني وبينها، فوضعت أذني على قفله فسمعت تنهدا متقطعا وحفيف ثوب على الحائط، فعلمت أنها واقفة مثل وقفتي تكاد تسمع خفقان قلبي، ثم سمعت صوتا يقول لي همسا: هل أنت مريض؟ فأجبتها: لا، ولكني سعيد، وإن للسعادة حرارة تفوق حرارة الحمى، ولكنها حمى الحياة التي لا أخافها ولا أريد الشفاء منها، بل أنا أسهر لأتمتع بها. فقالت لي: أيها الصبي، اذهب ونم وأنا أسهر، فقد آن أواني لأن أسهر عليك. قلت: بل لماذا لا تنامين؟ قالت: لأني لا أريد أن أضيع في سبات النوم دقيقة من دقائق هذا السرور الجديد، فإن زماني أقصر من أن أتمتع به، فأنا لذلك أحرص على كل قطرة منه أن تذهب سدى في بحر الرقاد، ولقد أتيت فجلست هنا لعلي أسمعك أو أجد نفسي على مقربة منك. قلت: إذن فلماذا البعد؟ ولم هذا الباب بيننا؟ قالت: ألا يحول بيننا سوى هذا الباب من سابق أقسامك؟ وإلا فإذا كان لا يمنعك سواه فها أنا أفتحه لك فتعال. ثم انتزعت مزلاجه وهى تقول: لا شيء يمنعك عن الدخول إذا كان حبك يدفعك إليه ... ولكن لا، لا تدخل لأنك قد تجد فيه ما تدعوه سعادة وهو ذلة عليك وعلي، أنزل بها من رفيع مقام نزلته في فؤادك.
فأثر بي هذا الكلام تأثيرا نازع ميل قلبي إلى الدخول، فسقطت سقطة رجل جريح على عتبة ذلك الباب المقفول، ثم عادت فجلست وراءه، وصرفنا قطعة من ذلك الليل بكلام خفي يقطعه السكوت فترات تتكلم بها القلوب لغة لا يعرفها اللسان والشفتان، ثم أخذت فترات السكوت تطول والصوت ينخفض حتى غلبني النعاس، فنمت وأنا ملصق خدي بالجدار وعاقد يدي على ركبتي.
وما انتبهت إلا وقد تعالى النهار وحميت حرارة الشمس، فبدلت ثيابي وغسلت عيني من تأثير السهر، ولبست عدة صيدي وأخذت بندقيتي، ونزلت إلى قاعة المائدة حيث وجدت أسرة الطبيب وضيوفه، فسمعتهم يتحدثون عن عاصفة أول أمس والخطر الذي خلصت منه الفتاة وإغمائها على أثره واتفاق مقابلتي لها وإتياني بها، فتقدمت إلى الطبيب أن يذهب إليها عني فيستخبرها عن صحتها ويستأذنها في أن أرافقها إلى نزهتها، فلم يغب إلا قليلا حتى عاد بها ولها رونق جمال لم يكن عليها من قبل بهرت به أعين الجميع، ولم تكن تنظر إلا إلي نظرات لم يفهم معناها سواي، ثم ركبت بغلة أدنيت لها وسرت في أثرها ماشيا حتى بلغنا أعلى ذروات تلك الجبال، فقضينا نهارنا لا نكاد نتكلم بسوى القلوب والأبصار، فكنا ننظر تارة إلى ذلك الوادي فنراه ينفرج أمامنا كلما ارتفعنا، ونقف تارة على شفا الشلالات تنثر دقائق مائها فتنسج عليها الشمس قوس السحاب، ونتهادى طورا بما نقطفه من أزاهر الحقول كأنها رسائل غرام خطتها يد الطبيعة عنا، ونجلس طورا على جذوع الأشجار ومقاعد الصخور، ونقول: ما أسعد مخلوقين مثلنا ينفردان عن الناس ويلهوان بمناظر الطبيعة وحفيف الريح والشجر ولا يكدرهما إنسان!
ثم دنت الشمس من مغربها، فعدنا ننحدر بقدم بطيئة وسكون شامل ونحن نلتفت إلى حيث كنا لفتة من ترك ملكه وسعادته وراءه حتى بلغنا المنزل، فصعدت إلى حجرتها، وتعشيت مع أهل الطبيب ثم صعدت فطرقت الباب بيني وبينها، فتلقتني لقاء من مضى عليه دهر في غيابه عنها، وأخذت من عهدئذ أقضي ليالي عندها، فكنت أجدها في غالب الأحيان متكئة على مقعدها وأمامها منضدة عليها مصباح وكتب ورسائل وعلبة للشاي - أهدتها إلي، وهي لا تزال عندي إلى الآن - وكان الطبيب يصعد أحيانا فيجلس إلينا يحادثنا ساعة، ثم يرى أن انفرادي بها أنفع لها من طبه وعلاجه فينصرف ويتركنا بين الدفاتر والحديث، حتى إذا انتصف الليل أقوم فأقبل يدها وأنصرف إلى حجرتي فلا أنام إلا بعد أن لا أعود أسمع حركة من حجرتها.
واستمر أمرنا كذلك بضعة أسابيع طويلة إذا عددت بها خفقات قلبي، وقصيرة بما كان فيها من السعادة والغبطة. وكانت الطبيعة كأنها قد ساعدتنا فمدت فصل خريفها فلاح كأنه الربيع المعتدل لولا تجرد أغصانه وقصر أيامه التي كنا نستعيضها بطول لياليه، وكأن ريحها صوت يقول لنا: اغنما فرصة الحديث وكشف السرائر قبل الفراق فإنما أنا طائره ونذيره.
وقد زرنا في خلال تلك المدة كل الشواطئ والقمم والمضايق والوديان والكهوف والشلالات والصخور، وتمتعنا بمناظر الأشجار والقرى والغيوم والأمواج والجبال والماء والغابات، وكنا لا نمر في مكان حتى نترك فيه أثرا من أنفاسنا أو كلامنا أو نظراتنا أو تعاهدنا أو خفقان قلوبنا ونحن نسأله أن يحفظ ذكرى الساعات التي صرفناها والأفكار التي خطرت لنا والهواء الذي تنشقناه والماء الذي كنا نتساقاه في تجاويف أكفنا والزهور التي كنا نقطفها ونتهاداها وآثار أقدامنا على العشب الندي، وأن يرد لنا كل ذلك عند عودتنا حتى لا تضيع ذرة من سعادتنا في خزانة تلك الطبيعة التي لا يضيع فيها شيء حتى النسمة ولا زمان حتى الدقيقة. وما أظن أنه ورد على تلك البحيرة والجبال من يوم نشأتها قلبان عاشقان كقلبينا، ونفسان فيهما من الحياة والحب ما يكفي لإحياء كل تلك الطبيعة من مائها وسمائها وأرضها وصخورها وأشجارها، ومنحها أنفاس الحب وصبابته وحراراته وصوته وطيبه بما يكفي لأن يملأ طبيعة أعظم من طبيعة العالم بأسره، حتى لأقسم إنه لو خلق الله لنا كرة أرضية خالية لقمنا بإنمائها وإحيائها إلى الأبد.
فمن ينكر بعد ذلك أن نفس الإنسان خالدة لا نهاية لها، إلا إذا كان يقدر أن يدرك حد السعادة في عاشق مثلي أو يدرك حد النجم في تناهي بعاده؟ وعندي أن الحب إنما هو إمام الدنيا وهاديها، ولولاه لما خطر للمرء أن يعتقد في أبدية أو خلود.
وكانت تلك الأيام المعدودة قد أخلصت سبك قلبي ومحصت معدن نفسي حتى أخلصتها من كل ما علق بها من الدنايا إلى ذلك الحين، ووجدت أن الحب شعلة نار أنارت لي الطبيعة والعالم ونفسي والسماء، فلاح لي عند ذلك عبث الدنيا وباطلها حين رأيتها تصغر في عيني لدى شعلة من تلك الحياة الحقة، فكنت أحمر خجلا من نفسي؛ إذ ألتفت إلى ما مر من حياتي وأقابله بما أراه من الطهارة والعفاف في تلك الفتاة حتى كأنني دخلت منها في بحر من الجمال والرقة والصيانة والآداب والغرام كان يتسع أمامي وينفسح في عيني كلما نظرت إليها وسمعت صوتها وحادثتها.
وطالما كنت أركع لديها وأنا أعفر خدي بالثرى كأنني في أشد العبادة والنسك، بل طالما كنت ألتمس منها كمن يلتمس من إله أن تغسل نفسي بدمعة من دموعها وتطهرني بشعلة من نارها وتنفخ في نسمة من أنفاسها حتى لا يعود بي شيء مني سوى تلك القطرة التي اغتسلت بها والشعلة التي طهرتني والنسمة التي أحيتني، وحتى أستحيل إليها وتستحيل إلي بحيث لو دعانا الله في يوم موقفه لا يقدر أن يميز بين نفسين قد مزجتهما آية الحب فصارا نفسا واحدة، وأستغفر الله!
فيا أيها القارئ، إذا كان لك أخ أو ابن أو صديق لم يعرف الفضيلة بعد، فاسأل له الله حبا مثل هذا الحب؛ لأنه متى عشق بلغ إلى درجة من الكمال تعادل ما في قلبه من ذلك الغرام.
وهيهات أن أصف ما كان يتولاني من الخجل من نفسي في حضرة من كنت أهواها، ولكن نصائحها كانت ذات حنو ونظراتها ذات حلاوة وكلماتها ذات رقة، كنت أشعر معها في خضوعي لديها أنني أرتفع وأعظم، ولله ابن الفارض حيث قال:
فحالي وإن ساءت فقد حسنت بها
وما حط قدري في هواها به أعلو
ثم كنت أقابل بينها وبين من رأيت من النساء فأجدها تمحو كل أثر لهن من قلبي، وأنشد:
محا حبها حب الألى كن قبلها
وحلت مكانا لم يكن حل من قبل
وكانت محادثاتها تنقل أفكاري إلى عالم من التصورات لم أكن أقوى على إدراكه حتى حسبت أنني قد صرت في غير هذه الدنيا، ووجدت كل ما كان بي من الخفة والطيش والشراسة والانقباض قد تلاشى لديها دفعة واحدة حتى لم أعد أعرف نفسي، ورأيت أن حبي لها قد رفع حاضر حياتي عن ماضيها حتى صرت أستكبر من الالتفات إليه، فعلمت عند ذلك أن أعلى درجات السعادة لا توجد إلا في أرفع درجات الغرام.
ثم لقد كنت أجد كل ما تقوله أبديا وكل ما تنظر إليه مقدسا، حتى لقد كنت أحسد الأرض التي تمشي عليها وأحسب ما يمسها من شعاع الشمس مغبوطا سعيدا، وأود أن أجني ما تتنفسه من الهواء حتى لا يخالط غيره وأسد كل مكان تمر فيه من الفضاء حتى لا يشغله بعدها مخلوق سواها.
وبالجملة فقد كنت أرى كل شيء وأشعر بكل شيء وأعبد كل شيء من خلال ذلك الجمال الباهر حتى الله جل جلاله! وأقسم لو استمرت حياتنا على مثل تلك الحال ووقفت لها الطبيعة وسكن الدم عن مجراه وانقطع القلب عن خفقانه ولم تعد حركة ولا صوت ولا موت ولا حياة فينا، لما اشتغلت نفسانا برهة عن شرود كل منهما في صاحبتها، وما عساني أقول عنها أو أصف حبي لها بسوى أنها جعلتني أعبد الله فيها عبادة من يشكره على أنه أبدعها له ... •••
وكانت كأن سعادة الحب ووحدة المكان واكتشافها كل يوم على فكر من أفكاري وهواء الخريف ونزهتنا في الجبال أو على الماء بين الركائب والزوارق وأول نفحات الغرام التي تحمل قلب العاشق إلى سماء السرور على جناح السعادة؛ قد حسنت في صحتها بعض التحسين فكانت تتقدم في مدارج العافية، وتزول شحوب المرض عن وجهها كأنها آثار الموت تمسحها يد الحياة، ويتورد خداها وتعاودها نضارتها ويصفو أديمها وتلمع مقلتاها وتراجعها قواها ونشاطها وخفة جسمها وحدة صباها، حتى كان طبيبها يعجب من آثار التعافي عليها بين ذهابها إلى النزهة وعودتها منها.
وعلى الجملة فقد كانت السعادة تفيض منها كأنها شعاع يكتنفها حتى يكتنف من يراها، وعندي أن بهاء الجمال وورود الصبابة والغرام ليست بتصورات شاعر كما يقال، وإنما هي حقيقة خفية يراها الشاعر البصير وإن خفيت عن أعين الجهلاء، وإذا تغزل شاعر بفتاة فقال إنها تنير الظلام فأنا أقول إن غصن البان كانت تنير ما حولها، بحيث كنت أسير وأحيا في نور ذلك الجمال وإن لم يدركه سواي إلا كمر الخيال.
وكنت عندما أخلو في حجرتي مدة فراقها أشعر بنفسي وأنا بالظهيرة كأنني في سجن مظلم لا هواء فيه ولا نور، وأجد أن الشمس لا تكاد تنيرني إلا إذا قارنتها بوجهها عند النظر إليها، بل كنت كلما زدتها نظرا تزيدني حسنا وعجبا حتى أرى اعتقادي يضعف في أنها مخلوقة من الناس مثلي، وحتى انتهى بي إجلال حبها عن طبقة الحب إلى إجلال شخصها عن رتبة الناس، فكنت أجهد في أن أجد لها اسما يوافقها أو يطابق معناها فلا أجد.
ثم تمادى بي الأمر فدعوتها سرا من أسرار الطبيعة أجد به حنو الإنسانية وزهوة السرور وحقيقة الوجود وسماء العبادة، ثم طال غرامها بي حتى دعاني إلى نظم الشعر أحيانا، فكنت أنظم القطعة والقطعتين ثم لا أعرضهما عليها لأنني وجدتها قليلة الرغبة فيما تخالطه الكلفة والتعمل من صناعة اللسان، وأنها أميل إلى البساطة في التعبير والتنزه عن التعمق في بيان الشعائر والوجدانات مما هو من أساليب الشعر ومقتضيات أوضاعه، وما عساني أنظم فيها وهي الشعر المطلق مجردا كالقلب وبسيطا كأول لفظة وهادئا كالليل ومنيرا كالنهار وسريعا كالبرق ومتناهيا كالفضاء؟ بحيث إنني لو طال مقامي معها لما احتجت إلى قراءة الشعر أو نظمه؛ لأنني كنت أجد فيها قصيدة الطبيعة ونفسي، أرى شعائري في قلبها وصورتي في نظراتها وأنفاسي في صوتها.
ولقد كانت تحاول مرارا أن تقرأ لي مما لديها من دواوين الشعراء فتجد أن ليس في أحدها ما يبلغ إلى وصف حالنا، فتطرحها كمن فرغ صبره حتى أشبهها بأوتار أعواد مقطعة لا ترن لنقر الضارب، وفوق ذلك فإني لم أكن لديها إلا بمنزلة الشقيق، بحيث لم يكن يهمها كوني شاعرا بل لا يهمها مني سواي.
وكان صديقي لويس قد زارنا ليصرف معنا بعض أيام، فكنا نقضي ليالينا إلى أنصافها بين محادثات وقراءة ومذاكرة علم أو سكوت طويل حول مكتبتها ونحن كأننا أصنام لا حراك بنا، إلى أن أثر أمرنا ذات ليلة في صديقي الذي كان شاعرا، فطلب قلما وكتب بعض مقطعات خلتها صادرة من صميم فؤاده فهاجت الشعر في نفسي، فأخذت منه القلم وخلوت إلى جانب من الحجرة فخططت أول أبيات خرجت من قلبي لا من أفكاري، ثم أنشدتها إياها وأنا لا أجسر أن أرفع طرفي إليها وهي هذه ...
ولكن لا فقد محوتها الآن؛ لأن كل قريحتي كانت في غرامي، وقد خمد الغرام اليوم فجمدت القريحة. ولما فرغت من قراءة تلك الأبيات نظرت إليها وإذا بي أجد على وجهها آثار اندهاش وسمات جمال لا يقوى على وصفها يراع ولا لسان، وكان منظرها هذا قد أثر بي وبصديقي على السواء فركعنا لدى مقعدها وقبلنا أطراف الرداء المتهدلة على قدميها، أما هي فوجدت أن ما قلته في وصفها لم يكن إلا صورة ما أكنه من هواها فأثنت عليه، ثم لم تعد تفاتحني في شأنه كأنها كانت تفضل مغازلتنا الطبيعية وسكوت كل منا إلى جانب صاحبه على تلك الأبيات التي تزخرف شعائر النفس ولا تظهرها، وخير المحاسن ما كان مجردا. أما صديقي لويس فقد برحنا إلى موطنه بعد أيام.
وكان الفصل قد تجاوز الخريف إلى شتاء لطيف البرد تمازجه بعض الحرارة من شمس تلوح أحيانا من خلل السحاب، ونحن لا نزال نخدع أنفسنا بأنه فصل الخريف؛ إذ كنا نخاف من ذكر فصل الشتاء لأنه كان فصل الفراق، وكان الصقيع يحلي الأرض بنكت بيضاء في صباح أكثر الأيام ثم لا يلبث أن تذيبه حرارة الشمس عند زوالها، فيدفأ الهواء على البحيرة في بعض الأحيان ثم يبرد سريعا لقصر الأيام. وكنا نقضي أغلب تلك الأوقات في البحيرة وحولنا من شعاع الشمس واخضرار الصخور وتغريد الأطيار وخرير الماء وزبد الأمواج ووقع المجاذيف وتجعيد المياه ومناظر الطبيعة وخلوتنا في عزلة عن الناس، ما يستفزنا سرورا ويزيدنا صبابة ولذة غرام لا يمكن أن يكون لها مزيد لولا ما كان يكدرها من خوف انقضائها، حتى كنا نخال أن وقع كل مجذاف خفق قدم تخطوها بنا الأيام إلى ساعة الفراق، فنتنهد لهذا الأمر خوفا من وصوله ونحن لا نجسر أن نذكره تجافيا عن شدة ذكراه.
وبينما نحن يوما جالسان في زورق تحت شعاع الشمس بين لسانين من الأرض على خرير شلال بعيد، نزل نوتيتنا إلى الشاطئ لإصلاح شباك لهم، فبقينا وحدنا والزورق مربوط إلى جذع تينة، ثم حركته الأمواج فانقطع الحبل وسار بنا الزورق تدفعه حركة الماء حتى توسطنا ذلك الخليج، وكان ماء البحيرة صافيا شفافا كأنه مرآة صقيلة، وكنت أقدر أن أحرك المجذاف فأرجع بالزورق إلى حيث كان، ولكني وجدت في تلك العزلة والوحدة لذة وهناء، حتى صرت أود لو يستمر الزورق سائرا بنا على ذلك المجرى لا على بحر له ساحل بل في فضاء لا نهاية له، ثم تقدمنا حتى لم نعد نسمع صوت النوتية وقد حجبتهم عنا الصخور، بل لم نعد نسمع إلا وقع الشلال وأنين بعض الأمواج تلطم جانب الزورق وقد خف بنا حتى صار يحركه رجع أنفاسنا، وكانت الشمس وظل الجبل يتنازعانه وهو بينهما وأنا جالس عند قدمي غصن البان كجلستي يوم قابلتها بعد إغمائها، وهي متكئة على مقعد الزورق ويدها مدلاة في الماء تعبث به بأناملها واليد الأخرى على رأسي تلعب بحلقات شعري، وكنت رافعا بصري إليها حتى لا ترى عيني من الأفق إلا السماء ووجهها، وقد عطفت بمحياها إلي وهي تتأملني كأنها ترى شمسها في جبهتي وحياتها في عيني، والحب يورد خديها والسرور يطفح على محياها فيزيده جمالا حتى خلته صورة جديرة بأن يحيطها ذلك الإطار من زرقة السماء، وإذا بها قد اصفرت فجاءة وجذبت يديها واستوت جالسة ثم غطت وجهها بكفيها واستمرت برهة لا حراك بها، ثم جلت يديها عن مقلتيها وقد بلت أناملها بعض المدامع وقالت بصوت المسرور الباسم: آه، فلنمت! ثم سكتت ساعة وعادت فقالت: نعم، فلنمت، فلم يعد في الأرض مزيد على ما نحن فيه ولا في السماء وعد لأكثر منه.
ثم أدارت نظرها فيما حولها بين السماء والجبال والبحيرة والأمواج الشفافة في ظل الزورق، وقالت: انظر كيف أن كل شيء حولنا معد لدفن حياتينا، فهذه أجمل شموس أيامنا تغيب عنا ولعلها لا تعود لتشرق علينا، وهذه جبال الساحل حولنا تمد إلينا ظلالها كأنها تقول لنا ادفنا نفسيكما في هذا الكفن الذي أمده لكما، وهذه الأمواج الصافية العميقة تعد لنا مضجعا من الرمل لا يوقظنا منه أحد ليقول لنا: يا أيها القوم، هبوا قد دنا السفر، ولا ترانا عين إنسان ولا يعلم أحد لأي سبب عاد هذا الزورق خاليا من ركبه، ولا يبقى بعدنا أثر يدل على أن جسمي عاشقين غاصا في تلك اللجة وهما متعانقان، أو أن نفسي متحابين صعدتا في أثير ذلك الهواء وهما مسرورتان، بل لا يبقى بعدنا رنة صوت على الأرض إلا صوت التقاء الماء بعد نزولنا فيه ... آه! فلنمت في سكرة هذا السرور، فإن الموت فيها حلو لذيذ، وقد يمر بنا يوم نريد فيه الموت فلا نجده في مثل هذه المسرة والهناء.
إنني أكبرك ببضع سنين، ولكن هذا الفرق الذي لا نشعر به اليوم تزيد فسحته مع الأيام حتى لا تعود ترى في وجهي من آيات الجمال إلا أثر امحائها، ولا يعود لك منه إلا رسم سرور وذكرى غرام زائل، وفوق ذلك فإنك لا تقدر أن تجد بي إلا روحا تناجيها بمساجلات ودادك وأنت في حاجة إلى ما يعقبها من سعادة العشق التي تقدم لك ذكرها. وشهد الله أنني لا أجدك بين يدي فتاة سواي إلا مت من الغيرة، ولا أجدك محروما بسببي إلا مت من الحزن والوجد، فلنمت إذن ولنطفئ شعلة هذا المستقبل الهائل بآخر نسمة تخرج منا.
وفيما هي تكلمني كنت أناجي نفسي بمثل كلامها، وأثرت بي تلك المناجاة المزدوجة بين نفسي وأذني كأن كلا منهما صدى الأخرى، حتى نسيت الدنيا وأجبتها: فلنمت. ثم عمدت إلى حبل السفينة فقرنت به بين خصرينا بربط محكم، ورفعتها بين يدي لأزج بها وبنفسي في قاع ذلك اليم العميق، وإذا بي أجد رأسها قد مال إلى كتفي كما يميل رأس المائت وتراخى جسمها حتى كاد يفلت من وثاقه على قدمي، كأن شدة تأثرها وسرورها من موتنا معا قد سابق فعل الموت فيها، فتهدلت مغشيا عليها بين يدي، فلاح لي عند ذلك أنني إذا اغتنمت فرصة إغمائها فألقيتها في ذلك اللج وقد يكون بالرغم عنها كنت قاتلا على عمد، فجثوت بها وحللت الحبل عني وعنها وألقيتها على مقعد الزورق، وجعلت أنضح ماء البحيرة على وجهها ساعة طويلة حتى استفاقت وقد هبط الليل، فقلت لها: أبى الله أن نموت وإلا أن نحيا، فإن الموت الذي ساغ لنا في شريعة الهوى إنما هو ذنب في ذنبين علينا لذوي قربانا ولله. ورفعت عند ذلك بصري إلى السماء كأنني أنظر إلى جلال الله على عرشه، فقالت لي بصوت منخفض: دع من هذا الشأن ولا تعد إلى ذكره، فقد أردت لي الحياة وأنا أقبلها منك تفاديا من جرم يلحقني إذا قدتك إلى الموت معي لا إذا مت وحدي. فأجبتها وقد لعبت بي أيدي الصبابة: ما أحسب أن في جنة الخلد ساعات كالتي قضيناها، أما الحياة ففيها وفي ذلك كفاية وغنى. ولم آت على آخر كلامي حتى عاودها زهو الصبا وابتسام الشباب، فأخذت بمجذافي الزورق حتى بلغت به إلى حيث كان فسلمته إلى أصحابه وعدت بها إلى المنزل ونحن سكوت والهوى يتكلم.
الفصل الخامس
لوعة الفراق
ثم دخلت حجرتها بعد العشاء فوجدتها جالسة وراء مكتبتها دامعة الطرف وأمامها كتب مفضوضة، فاستقبلتني وهي تقول: يا ليتنا متنا معا! فهذا موت الفراق قد بلغ إلي.
وكان زوجها قد استطال غيابها وخشي عليها برد الشتاء، فأخذ يكاتبها بالحضور وأنه يحس دنو أجله ويريد أن يراها قبله، وكان لديها بين تلك الرسائل كتاب من الطبيب القادم لأخذها يقول لها فيه إنه عرض له عائق في الطريق فأرسل لها رجلا ينوب عنه في صحبتها وهو حامل كتابه إليها، وقد عين لها موعد السفر في الغد. فكان وقع ذلك الخبر علينا على شدة توقعنا له كأنه فاجأنا ولم يكن لنا في حساب، فقضينا سواد ليلتنا لا نتكلم ولا ينظر أحد منا إلى وجه صاحبه خوفا من أن يصادف نظره فتسيل دموعه، ثم قمت وقد عزمت على أن أسافر أيضا.
وكان اليوم التالي آخر يوم للوداع، فتركنا القوم يشتغلون بزم الركائب وقصدنا الجبل لنقضي واجب الوداع، فأخذنا نمر على كل أثر لنا من الآكام والأشجار والصخور والشواطئ حتى انتهينا إلى مكان محجر فجلسنا على أحد صخوره، فأشارت بيدها إلى نكتة سوداء في أقصى الأفق لا تكاد تميزها العين لبعدها، ثم قالت: قد يأتي عليك يوم لا تذكر فيه مواقف حبنا إلا كما تبصر هذا السواد.
وكان صوتها تمازجه رقة حزن ورنة صبابة استنزلت دموعي، فسترت وجهي بيدي لكي لا ترى بكائي، ولكنها رأت مدامعي تنساب بين بناني فعادت وقالت: يا روفائيل، إنك لا تنساني ولكن الغرام قصير والحياة بطيئة، وإنك لا بد عائش بعدي سنين طويلة تستنزف بها ما في الطبيعة من سرور وكدر، ثم تكون رجلا عظيما بما يظهر لي من مخائل آدابك ودلائل نجابتك وذكائك، ولتمتع بما يستلذه الناس من هذه الحياة الدنيا، أما أنا ... ثم وقفت برهة ورفعت عينيها إلى السماء وقالت: أما أنا فقد عشت وقد كفاني حياة بعد الذي وجدته فيك من ضالة حياة كنت أنشدها ألا وهي الغرام الذي أموت به صبية ولكنني أموت غير آسفة، علما بأني أكون حية في ذاكرتك ما بقيت، ثم أنظر إلى هذه السماء والشاطئ والبحيرة والجبال، وأعلم أنها كانت خير أمكنة حياتي في هذه الدنيا، فأقسم لي أنك لا تزال تذكرها وتذكرني معا حتى لا أكون في قلبك وتكون مناظرها في عينيك، إلا شيئا واحدا وأخيرا أنك إذا رجعت يوما فرأيت هذه الطبيعة تذكرني بها كأنني لا أزال حية أمامك وعاشقة لك ... ثم أمسكت عن الكلام وقد خنقتها العبرة، فبكت وبكيت ساعة لا أذكر منها سوى امتزاج زفراتنا بهدير الأمواج ووقع مدامعنا على صفحة الماء، وعلم الله أني أخط هذه الذكرى وقد مر عليها عشرون سنة وأنا لا أتمالك عن البكا.
أيها الناس، لا يشغلنكم أمر وجداناتكم، ولا تخشون أن يذهب بها الزمان، فإن ذاكرة الإنسان ليس لها اليوم ولا الغد بل الأبد، وعندي أن الذاكرة نوعان: الذاكرة الحسية، وهي التي تذهب بذهاب المحسوس، وذاكرة النفس التي تخلد كخلودها ولا تزول.
ويا أيها العشاق، اطمئنوا فإن الزمان لا قدرة له إلا على ساعاتكم لا على شعائركم.
ولقد حاولت أن أكلمها فلم أستطع، ولكن كانت زفراتي تنطق ودموعي تتكلم عني بأفصح من لساني. ثم نهضنا وعدنا وقد مالت الشمس إلى المغيب فدخلنا المنزل عشاء، ورافقتها إلى غرفتها فجلست معها إلى نصف الليل، ثم قمت لأفسح لها وقتا تنام فيه فشيعتني إلى الباب، فقلت لها: إلى الغد. وانصرفت حزينا كئيبا وأنا أسمعها تقول: هيهات ليس لي غد! ولما كان الفجر نهضت فأيقظتها ورحلنا من غير أن نوقظ أحدا هربا من وداع صديق أو دموع مودع، وما زلنا نتشاكى النوى ونتذاكر سابق أيامنا وغرامنا حتى بلغنا شامبيري وواديها البهيج، فلم نحب أن نبرحها قبل أن نزور منزل جان جاك روسو، ونذكر أحاديث غرامه وحوادث صباه مع دي وارين وما كان له في ذلك المكان من خطرات الحب ولواعج الصبابة والشباب؛ لأننا لم نكن نعتبر المكان إلا الرجل الذي كان فيه أو المرأة التي نزلته، وإلا فما عسى أن تكون فوكلوز لولا بترارك، ولورات لولا الشاعر ليتاس، وسيسيليا لولا تيوكريت، وشامبيري لولا جان جاك روسو إلا أن تكون كلها:
سماء بلا شمس وصوت بلا صدى
وجسم بلا نفس وعود بلا طرب؟
وعندي أن الرجل لا يحرك الرجل فقط بل يحرك الطبيعة بأسرها إذا وجه أفكاره إليها، وأنه إذا وجد الخلود بعد الموت فإنما يترك الخلود أيضا للمكان الذي كان فيه حتى لا تمحى آثاره منه ولا يزول ذكره من كل من وقف عليه.
وقد وجدنا في منزل روسو امرأة عجوزا تسكنه، فسمحت لنا بأن نقيم فيه ساعة نذكر فيها ذلك الرجل وبدء حياته ومكان اشتهاره، فنزلنا إلى الحديقة التي كان يطارح فيها معشوقته الغرام، ورأيت أن هذه الذكرى قد أثرت في فؤاد غصن البان كما أثرت في، فجعلت أتبعها حيث تسير حتى وجدتها قد انزوت عني في مكان وغاصت في لج من الأفكار عميق، فتبعتها وقلت لها بلهجة اللائم: بماذا تفكرين وحدك دوني، أترينني أفكر بشيء دونك؟! قالت: إنني كنت أشتهي أن أكون لك دي وارين أخرى شهرا واحدا ولو تكون نهاية حياتي كنهاية حياتها في الهجر والعار وتكون أنت مثل روسو في العقوق والنميمة.
ثم رفعت عينيها إلى السماء كأنها تناجي صورة تلك المخلوقة التي تغبطها، وقالت: رحمها الله، ما كان أسعدها! فقد قدرت أن تبذل نفسها في سبيل من تهواه. فطوقتها بذراعي وعدت بها إلى المنزل وأنا أقول لها: بالله ما هذا الكفران بالنعمة التي نحن فيها؟! فهل ظهر لك بكلمة من كلماتي أو لحظة من لحظاتي أنني أشكو من نقص سعادتي معك؟! أولا ترين في نفسك أنك دي وارين ثانية لي؟ أنا روسو الثاني ولكنك دي وارين صبية عذراء طاهرة نقية عاشقة وأختا معا، باذلة نفسك الشريفة الزاهرة بدلا من النفس الفانية والجمال الزائل الذي بذلته تلك، معطية كل ذلك لأخ ضال مهتد، شاب شارد، فاتحة له عوضا عن أبواب منزلك وحديقتك أبواب حنوك وغرامك، مطهرة له بشعاع جمالك، غاسلة أدران حياته بماء دموعك، ممهدة له سبل الطهارة والمحبة والعفاف بمحاسن كلامك وعظاتك، مظهرة له الدنيا وزخرفها وفضائلها وفخرها وبهاءها في قلب امرأة شريفة جميلة، وهي سعادة لو قفلت دونه أبوابها في هذه الحياة الدنيا لم يكن يجد مثلها إلا في جنان السماء.
ولم أكد أتم كلامي هذا حتى سقطت على كرسي هناك وقد سترت وجهي بيدي، وبقيت على حالتي تلك ساعة لا أعرف مدتها، إلى أن قالت لي: هلم بنا نعود، فإني أشعر ببرد هنا. فقمت وأعطيت صاحبة البيت ما تيسر وعدنا أدراجنا إلى شامبيري، فقضينا فيها سحابة النهار، ثم سافرت حبيبتي في الغد إلى ليون.
وكان صديقي لويس قد زارني في ذلك اليوم، فعرضت عليه أن يذهب معي فنقضي أياما في بيت أبي على طريق ليون فرضي، ونزلنا فاستأجرنا مركبة صغيرة وسرنا في أثر من أهواها، وكنا عند كل مرحلة ننزل من مركبتنا فنسأل عن صحتها، فنجدها حزينة ذابلة كأن بعدها عن مكان غرامنا قد نزع ما كان فيها من رونق الحياة والشباب، أو كأنها الزهرة تنقل من منبتها لتغرس في مكان آخر فتذبل في الطريق. وكانت كلما قربنا من الموضع الذي سنفترق فيه تزيد حزنا وذبولا، وتظهر آثار ذلك على وجهها بأفصح مما يوحيه كلام أو سطور.
حتى إذا كنا ذات يوم وقد دنونا من ليون دخلت وصاحبي إلى مركبتها، وسألتها أن تغني لنا الصوت الذي غنته ونحن في الزورق، فأخذت في الغناء ولكنها لم تبلغ منه إلى ذكر الفراق حتى انقطع صوتها وخنقتها العبرة فسترت وجهها بيديها وشهقت بالبكاء، ولم تأت على تمام الصوت حتى أغمي عليها، وكنا قد وصلنا إلى ليون فنقلناها إلى فندق هناك وأقمنا نعالجها حتى تعافت، فرحلنا في اليوم التالي إلى ماكون حيث كان لا بد من الفراق فودعناها أمر وداع. وسألت صاحبي أن يذهب فينتظرني في بيت أبي، ووعدته بأني أذهب إليه في الغد، ولكنه لم يكد يغيب عني حتى نسيت الوعد الذي وعدته، ورأيت أنني لا أقدر أن أفارقها وهي في مثل حالها من لوعة الحزن والجوى، فعزمت على أن أتبعها إلى باريز من وراء وراء بحيث لا تشعر بلحاقي وأكون رفيقا لها في سفرها تلافيا لأمر يحدث لها في الطريق؛ لأنني كنت أتصور أنها رحلت وحدها وأصابها مرض أو إغماء وجعلت تناديني وتستغيث بي، فتضيق بها الدنيا ولا أجد صبرا على المقام.
فذهبت إلى سائق مركبتها وأعلمته بما عزمت عليه من لحاقها، وسألته أن يخبرني عن المنازل التي يقف فيها والفنادق التي ينزلها؛ لكي أقتفي أثرها ولا تراني، فأجابني إلى كل ما سألت. ثم أركبتها في المركبة وسارت بها وأنا في مركبة على آثارها أنظر إليها سائرة أمامي كما ينظر البخيل إلى ماله يؤخذ منه والسعيد إلى سعادته ترحل عنه، ثم أطبق عيني فأتصور جمالها كأنها واقفة لدي حتى أكاد من الوهم أسمع أنفاسها تتردد في صدرها، وأحسب أنها جالسة إلى جانبي في حقيقة لا في خيال، وما أدري الآن كيف كنت صابرا عن مرآها كل هذه الرحلة الشاسعة، وكيف لم أتقدم إليها وأركع على قدميها عاشقا عابدا، وأظهر لها أنني أتبعها وأنني لا أقدر على فراقها، ثم ليكن ما يكون.
وما زلنا سائرين نطوي البلاد، أرى مركبتها أمامي وهي لا تراني حتى جاوزنا مدينة أفالون وقد غامت السماء وسقط الثلج واشتد البرد، فنظرت أمامي فرأيت مركبتها قد وقفت في وسط ذلك الطريق المقفر ونزل سائقها عن مكانه وجعل يصيح وينادي، فأقبلت مسرعا وقد استطار فؤادي رعبا فرأيتها بين يدي خادمتها مغشيا عليها من تأثير البرد والتعب، فصعدت إلى المركبة وأسندت رأسها إلى صدري وجعلت أتأمل فيها تأمل العاشق الخائف وأنا إخال أنني أحس الموت والحياة يتنازعان ذلك الجسم الجميل على صدري. وما زلت أنفخ على جبينها ويديها والخادمة تفرك رجليها وأناملها حتى انتشرت الحرارة في أطرافها فتحركت وتنفست نفسا دلني على قرب إفاقتها فألقيت رأسها على وسادة هناك وخرجت مسرعا كيلا تراني، حتى وقفت وراء مركبتها فسمعتها تقول بصوت ضعيف: حبذا لو كان روفائيل هنا فقد ظننت أنه هو.
فتركتها ورجعت إلى مركبتي، وسارت بنا الخيل عدوا، وأنا أسال في كل موقف عن حالها فيقال لي إنها قد تعافت، حتى صرنا على مقربة من باريز، وقد بلغنا مكانا تنفرج فيه الطريق إلى طريقين، وكلتاهما توصلان إليها، فأخذت في الطريق القريبة لأسبقها وأرى وصولها وأتمتع بجمالها وهي داخلة إلى منزلها، فوصلت إلى المدينة قبل الليل، وانطلقت إلى الفندق الذي كنت أنزل فيه فوضعت أمتعتي في إحدى غرفه، وعدت إلى منزل حبيبتي - وقد كنت أعرفه من وصفها لي إياه كأنني قضيت فيه حياتي - فوقفت على جسر تلقاءه، وأقمت أنتظر وصولها وأنظر إلى نوافذ المنزل وأنا أرى الأنوار تتردد من وراء زجاجها كأن من فيه يستعد للقاء ضيف عزيز. ثم أبصرت شبحا قد أقبل إلى إحدى النوافذ وأطل ينظر إلى الطريق، فعرفت أنه زوجها أو أبوها ينتظر وصولها كما أنتظره أنا، وشتان ما القلبان في هذا الانتظار!
وبعد أن مضى على وقوفي ساعة وقد خيم الظلام رأيت مركبة قد أقبلت حتى وقفت أمام المنزل، فأسرعت وكمنت بحيث أرى من فيها فرأيتها قد نزلت على أيدي الخدم، وأقبل الشيخ يعانقها كما يعانق الوالد ولده بعد غياب طول، ثم صعدت السلم وتبعها أهل منزلها ومضت المركبة في طريقها وبقيت وحدي، فعدت إلى مكاني من الجسر ووقفت أنظر إلى النوافذ وأنا أرى الخدم يجولون من ورائها مدة طويلة، ثم انطفأت أنوارهم وسكن المنزل بمن فيه، ولم أعد أرى منه إلا نافذة منارة بنور ضعيف، وبعد قليل رأيت خيالها يرسم على زجاج النافذة كأنه غصن البان في طوله واعتداله، ثم أقبلت ففتحته ونظرت إلى النهر مدة، واستقر نظرها في حيث كنت كأنه انجذب بمغناطيس الغرام من غير أن تدري، ثم التفتت فنظرت إلى نجم في الشمال كنا نراه معا ونتواعد على أن تلتقي أبصارنا وأفكارنا فيه إذا افترقنا، وما أشبه هذا المعنى بما قاله الشاعر العربي:
إلى الطائر النسر انظري كل ليلة
فإني إليه بالعشية ناظر
فشعرت أن نظرتها تلك جذوة نار نزلت في صدري، وحرك ما بي من لواعج الغرام اتفاق أفكارنا وأميالنا ونظراتنا، ووجدت أنني قد زدت بها هياما حين رأيتها تنظر إلى ذلك النجم كأنها تقول لي إنها تفكر بي وتوافيني إلى ذلك الموعد الوهمي، فهممت بأن أثب إليها وأركع تحت نافذتها وأناديها باسمها وأعلمها بوقوفي أمامها ولكنها قفلت النافذة وعادت وانطفأ النور على أثرها. وكان نصف الليل قد قرب فدنوت من الباب فقبلته قبلة خاشع عابد كمن يقبل باب هيكل مقدس، ثم ركعت على عتبته وجعلت أسأل تلك الحجارة والأخشاب والرخام القائم منها المنزل أن تحفظ لي تلك الوديعة الثمينة التي أودعت معها فؤادي وحياتي.
ثم برحت باريز في اليوم التالي من غير أن أرى أحدا من أصحابي الذين أعرفهم فيها وكنت أجد من ذلك سرورا عظيما، وأحمد الله على أنني لم أقابل أحدا سواها في رحلتي حتى تكون زيارتي كلها موقوفة عليها، ومصروفة لها وحدها لا يشاركها فيها أحد. ولكنني قبل رحيلي وضعت لها رقعة في البريد هذا نصها:
لقد تبعتك وكنت حارسا عليك كل الطريق من غير أن تعرفي، ولم أقدر أن أتركك إلا بعد أن رأيتك بين أيدي من يحبونك ويحرصون عليك، ثم لما فتحت النافذة أمس عند منتصف الليل ونظرت إلى النجم كنت واقفا تجاهك أتأملك وأنظر إليك، ولقد كدت أتقدم وأسمعك صوتي لو لم تسرعي بقفل النافذة، أما الآن فأنت تقرئين هذا الأسطر وأنا قد برحت باريز وأصبحت بعيدا عنها وعنك.
وكنت أسير الليل والنهار وأنا في حالة من الارتباك والاضطراب لا أقوى على وصفها جعلتني لا أشعر ببرد ولا جوع ولا تعب حتى وصلت إلى قرية «م»، لا أذكر شيئا مما مر علي، ولا أكاد أتذكر أنني رحلت إلى باريز إلا كمن يتذكر حلما أو كمن هب منتاشا من لج عميق، فوجدت صديقي لويس ينتظرني في البيت الصغير الذي كان مصيف أبي كما تقدم لي منه الوعد، وشعرت من وجوده معي بتعزية وسلوى عن بعض مصابي؛ لأنني كنت أقدر أن أحدثه عمن أحب، وكان يقدر أن يساعدني على ترديد اسمها وذكراها، فأخذنا ننام في غرفة واحدة، ونقطع أكثر ليالينا بحديثها والكلام عنها حتى خلت أنه لا يقل عني حبا لها وإعجابا بمحاسنها وآدابها، ووجدت أنه كان يعتبرها أشبه بمثال الوهم وطيف الخيال، ويرى أنها امرأة فوق طبائع النساء وأعظم مدارك ومقاما من سائر طبقات الناس؛ أي شاعرة عاشقة فاضلة أبدعها الله صورة كاملة تجوز الأرض طائرة لا تمسها بقدميها، ولا تقف على مكان منها إلا ريثما تدهش الأبصار وتجتذب القلوب وتميل بالنفوس إلى التأمل الدائم والتفكير المستمر والنظر المستطيل، وتكون آخر ما يبلغ إليه مدى التصور ونهاية ما يقف عنده مدى الأفهام والأوهام.
كل ذلك وهو لم يكن يجسر أن يرفع درجة غرامه بمحبوبتي إلى أكثر من درجة إعجابه بها؛ لأن فؤاده كان قد تعلق صغيرا بهوى فتاة يتيمة من عشيرته، وكان جل ما يصبو إليه من دنياه أن يقترن بها ويعيش وإياها في عزلة وانفراد، وكان يمنعه من ذلك ما هما عليه من فقر كانا يخشيان أن يحط من شأن بيتيهما ويكون عارا وذلا على بنيهما حتى عاجلت الفتاة المنية فقصفتها غصنا رطيبا في شرخ صباها على أثر همومها وافتقارها وهي أجمل زهرة رأيتها تذبل وتجف؛ لامتناع بعض أنوار السعادة عنها، وكانت قبل وفاتها قد أثر بها البكاء والسهر من سوء حالها، فذهب بصرها وأصبحت تدور كفيفة تقودها إحدى أخواتها. وأذكر أني قابلتها مرة على تلك الحال، فلما سمعت صوتي اصفر لونها اصفرارا شديدا، وقالت وهي تبكي: لا تؤاخذني إذا بكيت لديك، فقد اعتادت أذني أن تسمع صوتا آخر معك. تريد به صوت حبيبها. وقد شقي كل منهما بصاحبه بين الموت والحياة.
ولقد قضيت شهرين بعيدا عمن كنت أحب خلتهما عامين؛ من ضجري ومرارة صبري. ثم نفد ما معي من المال الذي كان يجريه أبي راتبا علي، قبل أوانه، وأصبحت مضطرا لانتظار الراتب الجديد؛ لأعود به إلى باريز وأقيم فيها بقرب من أهواه ولو قضيت أيامي هناك بالإمساك والصوم، وكنت أرجو أن أحصل بعد أيام على مقدار من المال من راتب أبي وهدايا أمي وإمداد بعض ذوي قرباي، أستعين به على رحلتي والإقامة في الجوار الذي كنت لا أتمنى سواه ولو أعطيت ملك الدنيا جميعا، فجعلت أقطع أيامي بتذكارها والاشتغال بهواها اشتغالا كان بيني وبينها على السواء؛ إذ كنا نصرف أصباح أيامنا في أن يكتب كل منا لصاحبه، فلا يردني كتاب منها حتى يردها مثل ذلك مني مع كل بريد، وفي كل يوم، بحيث كانت كتبنا وأفكارنا تختلف بيننا مستمرة.
يقابل منها الكتاب الكتاب
ويحمل كل نسيم سلاما
ولم تكن بيننا على ذلك فرقة وابتعاد إلا بعض ساعات من النهار حين لا أكتب لها ولا تكتب لي، إلا أنني لا أسمي ذلك ابتعادا ولا فراقا؛ لأنني كنت لا أستريح من الكتابة إليها إلا للتفكير بها ولا من التفكير بها إلا لقراءة رسائلها ولا من قراءة رسائلها إلا للتأمل في معانيها، فكنت أنشرها على مكتبتي في النهار وأنثرها على سريري في الليل، وأحفظها عن ظهر قلبي في ساعات الفراغ وأنا أكرر منها كل معنى لطيف وأترنم بكل عبارة غرامية صادقة، وأنا أمثل في ذلك صوت صاحبتها ولهجة إلقائها وحركة أعضائها، ثم أجيب نفسي بما كنت أحب أن أجيبها به لو كانت لدي.
وتمادى بي الأمر وأفرط بي هذا الجنون الذي يسمونه الغرام إلى أن صرت أحتسب الخيال حقيقة، ومناجاة الضمير سماعا وعيانا، وأسخط على كل من يقطعني عن تلك الحال من زائر يزورني أو غلام فندق يدعوني للطعام، كأن كل داخل علي يبعدني عنها أو يطردها من أمامي.
وكنت أخرج غالبا إلى النزهة في المروج الخضراء والغابات الكثيفة وشطوط الأنهار المزبدة ومعي من رسائلها قراءة أيام، فأجلس على بعض الصخور وأعيد تلاوتها كأنني لم أقرأها من قبل أو كأنها بناء مزخرف كلما دخلت إليه مرة وجدت فيه شيئا جديدا. وكانت الوجهة التي أقصدها في نزهتي وجهة باريز اعتقادا مني أن كل خطوة فيها كانت تقربني إليها، فأبعد في سيري ولا أدري حتى أمسي وقد قطعت أرضا بعيدة، فأعود على أعقابي كارها وأنا أقدم رجلا وأؤخر أخرى، وأحسد كل ما يمر بي من الطير لو يكون لي جناحاه أطير بهما إليها، ولسان حالي ينشد:
مرت بنا سحرا طير فقلت لها
طوباك يا ليتني إياك طوباك
وكان أطرب صوت في مسمعي وقع أقدام الموزع أمام حجرتي حين يأتيني برسائلها، حتى إذا أطل علي ورأيت كتابها في يده أشعر أن الأرض قد دارت بي، وأن سحابة قد غشيت عيني فأتناوله منه بيد راجفة وقلب خافق، ثم أختلي في حجرتي وأوصد بابها كأنني أخشى أن يفاجئني أحد ينزع ذلك الكتاب مني أو يكدر تلك الخلوة علي، فلا أفرغ من قراءة الرسالة إلا وقد محوت أسطرها بدموعي، وأثرت كتابتها في شفتي، ثم أجلس بعد أن يسكن روعي وآخذ في الإجابة عليها ساعات تنخطف بها نفسي إلى عالم الخيال، وأحسب فيها أنني أخاطبها بلسان لا بقلم، فأنسى الدنيا جميعا وأذهل عن لوعة الفراق، ثم أنظر في رسائلي فأجدها مضطربة مرتبكة لا مطلع لها ولا ختام ولا مخلص، ولا نحو فيها ولا صرف ولا بيان، ولا ما يسمى بالترسل وحسن الإنشاء؛ وذلك لأنني كنت أضع فيها شعائر قلبي مجردة عن كل صنعة، وأعرض فيها خواطر لبي عارية عن كل كلفة إلى خواطر لب مثلها لا تكلف بينها ولا تجمل، ولأنني كنت أجد لغة الناس لم يخلق بيانها وفصاحة إنشائها إلا لمخاطبات اللسان، وأنها بكل بلاغتها وإبداعها عاجزة عن بيان خفقة قلب من مغرم وعلامات غير كاملة الدلالة على ما يخامر فؤاد المحب الولهان، بل كنت أشعر أن كل عبارة من فصاحتها تذوب على قلبي كما يذوب الثلج على حرارة النار، فأعدل عنها إلى لغة غرامي وألفاظ صبابتي التي لا يدركها إنسان سواها ولا يكتبها كاتب سواي. ثم كنت أتصور أنه لو انبسط هذا الفلك قرطاسا لدي، وجرى ذلك البحر مدادا على قلمي، وصار إلي أمر الله أن أملأه غراما وشرح وداد ووصف هيام؛ لما وسع بعضا مما كنت أشعر به وأتصور مقداره في نفسي، فكنت أملأ صفحاتي سطورا لا يقف القلم إلا في آخرها وأنا أحسب أنني لم أقل شيئا مما أحب أن أقول، وما عساني أبلغ المستحيل وأحصر ما لا نهاية له بين صفحتي كتاب.
وعلى ذلك لم تكن رسائلي بنات أفكار يفتخر بها، بل بنات قلوب يحن إليها الفؤاد، ويحسن وقعها في القلوب لا في الآذان، وكنت أحاول فيها أن أصور شعائر قلبي كما هي فيخونني ضيق اللغة، وقلة ألفاظها، وقصر تراكيبها عن الغاية التي يبلغ إليها الفكر، فأصبح وإياها في نزاع شديد كأنني أحاول غصب المعاني منها فلا تعطي مقادا، ولا يتسع بها لفظ يمثل أنات قلبي وما أنا فيه من حالة الوجد والهيام، فأتضايق منها وأشد على القلم في يدي حتى ينكسر رأسه على القرطاس، فيخرج من كسره الصوت الذي يشبه أنة القلب، وكنت أرجوه في مداده لا في انكساره كضارب الآلة لا يزال يشد وترها يبتغي منه النغم العالي حتى ينقطع في يده، فلا يخرج منه ذلك النغم إلا بانقطاعه، ثم أنهض بعد فراغي من الكتابة وأنا أتصبب عرقا كمن يخرج من قتال عنيف، وقد تركت على صفحات تلك الرسائل آثار دموع ذرفتها هي أفصح لغة وأبلغ بيانا من كل ما كتبت.
أما رسائلها إلي فكانت أطلى من رسائلي كلاما وأسمى عبارة، أو كنت أحسبها كذلك؛ إذ كنت إخال منها أنها أقدر مني على بيان الشعائر وجلاء الوجدانات، حتى كنت إخال عند قراءة كتبها أنها ماثلة لدي وأنني أرى خيال جمالها وأسمع رنة صوتها من خلال السطور؛ لأنها لم تكن تستعمل التراكيب الفصحى، ولا تنتقي الألفاظ انتقاء كما تفعل الكتاب، بل كان كلامها سهلا مرسلا لا يمكن أن يأتي به إلا أمثالها من النساء.
وماذا عساني أصف ما كان فيها من حدة المطالع، ورشاقة الألفاظ، ورقة المعاني، وانسجام العبارات، وامتزاج الشوق بالحنو، واتحاد الحب بالنصح كما يمتزج الماء والنار في الحجر الكريم ويتحد السرور والحياء على جبين العاشقة العذراء؟
الفصل السادس
حلاوة اللقاء
ومرت بي الأيام على تلك الحال حتى دنا ميعاد رحيلي، واقتربت ساعة سعادتي، فأخذت ما كان لي من المال، ووهبتني أمي آخر خاتم بقي لها، وكنت قد نظمت بعض القصائد والمقطعات في خلواتي، ورجوت أن أجد في باريز من يطبعها لي، وأن تروق في أعين بعض الناس، فكتبت إلى صديق لي هناك كنت أراسله بحديث من أهوى ليعد لي مكانا عنده أنزل فيه، ثم رحلت إلى باريز وأنا أقتصد في نفقات الطريق ما يكون لي ذخر أيام كنت أحسبها سعادة أعمار هناك حتى وصلتها مساء، فقابلني صديقي فأرسلته إليها يعلمها بقدومي، ويستأذن لي بزيارتها بعد خروج الناس، وأقمت أنتظره في أحد الأندية وقلبي يخفق خفوقا شديدا لقرب اللقاء.
حتى إذا كانت الساعة الحادية عشرة من الليل أقبل إلي، وأخبرني أنها في انتظاري، فسرت وإياه وأنا أكاد أطير سرورا وابتهاجا حتى بلغنا الباب فتركني وانصرف، وكانت ساعة لا أقدر أن أتصورها فكيف أقدر أن أصف حالتي فيها؟ إذ صعدت فوجدت غصن البان واقفة في انتظاري وهي لابسة ثوبا أسود يزيد في بياضها وجمالها، فدهشت لمرآها كما تندهش العين من نور الشمس، وأقبلت مسرعا وأنا محتبس اللسان حتى سقطت على قدميها، وكانت في حالة لا تفرق عن حالتي من الدهشة والسرور، فجعلت أقبل الأرض بين يديها، ثم أشخص إليها ببصري كأنني أريد أن أتثبت موقفي وأنني لست في حلم، فوضعت إحدى يديها على شعري واستندت بالثانية على كتفي، وسقطت راكعة أمامي وجها لوجه، وأقمنا على ذلك مدة نحاول أن نتكلم فلا نقدر أو لا نجد كلاما يفي ببيان ما نحن فيه، وطال بيننا السكوت ولا لغة إلا لغة العيون توحي نظراتها بعضها إلى بعض ما يخالج قلبينا من بهجة المسرة والاغتباط، ولا أدري كم لبثنا على تلك الحال:
أعانقها والدمع بالدمع واشج
نمازجه والخد بالخد ملصق
سوى أن أقول: إنها أبد الدهر في موقف ساعة، حتى استفقنا لخفق أقدام تصعد السلم فنهضنا، واتخذ كل منا مكانا.
ثم دخل علينا رجل من أصدقاء قرينها ساءني قدومه إذ كدر علي سكرة ذلك الغرام، وسرني إذ حماني وإياها من عواقب تلك السكرة التي لا تكاد تقف نفس دونها لولا مثل هذه الموانع، فنهضت وسلمت عليه، وعرفتني به، وكانت قد قرأت له شيئا من شعري فسر منه وأثنى علي، وجلسنا برهة نتحدث، ثم قمت وانصرفت لكيلا ينصرف قبلي ويداخله ريب من انفرادي بها، وخرجت وأنا لا تسعني الدنيا سرورا بحاضري وتصور سرور في مستقبل أيامي بأني سأراها كل يوم بعد ذلك اللقاء.
وصرت أهيم على وجهي في شوارع باريز، وأفتح صدري للهواء طمعا بأن يطفئ بعض ما بي من حرارة الجوى، حتى انتهيت إلى منزل صديقي وقد بقي هزيع من الليل، فلم أقدر أن أنام إلا وقد بزغت الشمس وتعالى النهار، وجعلت كل يوم أقوم فأكتب لها لأقطع بذلك نهاري إلى المساء، ثم أذهب فأقابلها قرب منتصف الليل وأعود في الغد إلى مثل شأني بالأمس، وأنا في خلال ذلك لا أنفك عن المطالعة والدرس حتى تعلقت بالسياسة وكتبت فيها شيئا قيل لي أن قد كان له حسن الوقع لدى القراء، حتى إذا دنت ساعة اللقاء أذهب فأتراوح أمام منزلها وأنا أعد بلاط الطريق، وألقي بعض الدراهم في صحون الفقراء، وأرجو أن يكون لرنينها صوت يبلغ إلى عرش الله، فيتخذه دعاء مني له ليحفظ لي من أحب ولا يحرمني قربه واجتماعه.
وكان بيني وبينها علامة في أنوار المنزل تنبئني بانصراف الضيوف لأصعد إليها، فلا أبرح أراقب تلك الأنوار حتى تبدو لي منها العلامة التي أنا بانتظارها.
وكانت غصن البان قد عرفتني بأبيها فقابلني أحسن مقابلة، لما قصته عليه من أخبار أيامنا في سافوا، ولما عرفه في قلبينا من طاهر الود والولاء، وما زال يحادثني وأتحبب إليه حتى مال إلي وأحبني وسمح لي أن أصرف ليالي في مجلسه بين ضيوفه وزائريه، فكنت بين أعظم شيئين يحبهما من كان مثلي، وهما: رؤية من أحب جالسة أمامي، وشيخ خليل تحيط به العلماء الأفاضل وخزائن الأسفار، حتى إذا تناصف الليل وانصرف الجميع خلوت بها في تلك القاعة على حديث أرق من الزلال، وشكوى غرام أعذب من السلسبيل، ثم ينقطع الكلام وتنطلق بيننا رسل العيون وتفيض القلوب غراما وصبابة، وتلتقي الشفاه حتى لا يخرج الكلام من بينها إلا صفيرا، وكله كلام متقطع لا سؤال يسبقه ولا جواب عليه، وهو كل يوم يتجدد على مثل الحلاوة التي مر بها كما تقطف الزهرة بعد أختها وكلتاهما من لون وعطر واحد؛ لأننا لم نكن نجني الثمرة بينهما ولا جنيناها قط إلى أن قضى الله بيننا بقضائه.
وكانت لغة الحب بيننا كثيرة الألفاظ متعددة العلائم والطرائق: من النظرة التي توحي كل شيء إلى إغماض العين الذي يمثل للنفس كل صورة، ومن نشوة الحب إلى ذهوله، ومن التنهد المستطيل إلى الأنة الخفيفة، ومن السكوت المتواصل إلى الكلمات المتقطعة التي يلفظها اللسان مكرها ولا تفهم منها الألباب شيئا، فكنا نقضي ساعات جالسين وجها لوجه نتحدث بحديث لا أذكر منه عبارة سوى أننا كانت تمر بنا الأوقات ونحن لا نحسبها إلا طرفة عين أو رجع نفس حتى تأمرنا دقات الساعة بالافتراق، وقد قضينا وقتا طويلا في تذكار أيامنا السابقة وتعداد الأماكن التي زرناها والأحاديث التي تطارحناها والصخور التي كنا نجلس عليها في وديان سافوا وآكامها، كأننا فتاة انتثر منها عقدها وهي سائرة فعادت مطرقة تلتقط كل حبة من حباته وتحرص على ألا تضيع واحدة منها.
وكانت تشرد بها الأفكار أحيانا في أثناء حديثنا، فتجري دموعها على خديها كالدر انقطع سلكه، وما هو إلا من ظنها أنها تحرمني السعادة التي يصبو إليها كل عاشق ووجدانها نفسها خيالا بين يدي وغصنا له أزهار الحب وليس فيه ثماره، فتقول لي بصوت حزين: كم أتمنى أن أموت الآن وأنا فتاة محبوبة عاشقة؛ لأنني أجد نفسي هبة وحرمانا لك، ولذة وشقاء بين يديك، وهما أشد مرارة الحب وحلاوته يمتزجان في وقت واحد، فاسأل الله أن يجعل حياة هذا الغرام سببا لموتي حتى تخلص من قيود ذله وتكون مطلقا في أن تهوى سواي؛ لأنه أحب إلي أن أموت لهنائك من أن أحيا عثرة في سبيل لذاتك.
فأجيبها وأنا واضع كفي تحت عينيها لأتلقف ما يسقط من دموعها: ألا تجدين في وقفتنا هذه ما يعادل سرور العالم بأسره؟ وألا يكفيني أن تسقط هذه الدمعة من دموعك على يدي كما يسقط ندى السماء على الزهرة الذابلة ثم أرشفها كما يرشف الظمآن ماء حياته؟ وبعد، أفليس أرفع لنا في درجات الغرام أن يذهب كل منا شهيد عفافه حتى تحسدنا أولياء الأرض بل تحسدنا الملائك في السماء؟ أوليست الشعلة التي نزلت علي من نار غرامك كافية لأن تحرق كل ما بي من العشق الدني وتذروه رمادا؟ فأحسني ظنك بنفسك، واحفظي دموعك لحزن أشرف من الحزن الذي تتوهمينه بي؛ لأنني لا أجد من حبك عذابا على الإطلاق، ولا أجد حياتي معك إلا سعادة مستمرة وسلاما دائما ونوما هادئا لا أحلام فيه سواك، أفتحسبينني بعد ذلك في حرقة وعذاب وأنت قد محوت كل ما كان بي من قبل حتى لم يعد في حاضري أثر من ماضي، وحتى صرت أتمنى أن أجد بعض الحزن والعذاب أقدمه ضحية لله وشكرا على إنعامه بك علي؟ وهبي أن حبي لك مماتا فما أحلاه فناء يعقب حياة خالدة وملكا لا يبلى!
وجرت بنا الأيام على ذلك مدة حتى رحل صديقي وترك لي منزله أقيم فيه كما كنت، ثم أخذت أمي تكاتبني بوجوب أن أجد لي مقاما يليق بشأني أو أن أعود إليها وأقيم في بيت أبي أقاسم من فيه معيشتهم في السراء والضراء، فأثرت بي هذه الأقوال من أمي وعزمت على أن أجد لي مركزا في باريز، فجمعت ما كنت قد نظمته من الشعر وقصدت به أحد أصحاب المطابع، وسألته أن يطبعه لي ثم يأخذ أجرته من ثمن ما سأبيع منه، فأخذ القصائد مني وسألني أن أعود بعد أيام يقرؤها فيها، فذهبت وأنا أعلق آمالي بذلك اليوم الذي أعود فيه إليه حتى انقضت المدة، وذهبت أتقاضاه الوعد فقابلني باسما وقال لي: لقد قرأت شعرك فوجدت فيه بعض الطلاوة، ولكنني لم أجد له نسقا يشبه الشعر القديم، وما أدري أين تعلمت النظم ولا من أوحى إليك هذه الطريقة البكر التي لم يجر عليها شاعر قبلك، وعندي أن من الأولى لك أن تتبع آثار من تقدمك من الشعراء الذين يحبهم الناس ويميل إلى شعرهم المطالعون. ثم رد إلي الكتاب فوضعته تحت ثوبي، وخرجت حزينا كئيبا حتى دخلت منزلي، فأوقدت النار وألقيت تلك الأوراق فيها وأنا أقول: لا خير فيك ما دمت لا تشترين لي يوما من أيام غرامي، أما المجد وبقاء الذكر فأمر لا يهمني لأن مجدي وبقائي في غرامي. ثم خرجت في المساء فبعت الخاتم الذي كنت قد أخذته من أمي بثلاثين دينارا وأنا آسف على هذه الذخيرة أن تذهب مني، ولا أزال أود إلى الآن أن أسترجعها لو كنت أعرف مقرها بألوف من الدنانير.
وكان الربيع قد أقبل وبرزت حدائق باريز بأثوابها الخضراء حول قصورها، واكتمل البدر يزينها بأنواره كأنها ماء الفضة على تلك الزمردة الخضراء، فعادت غصن البان إلى تعافيها، وأخذ يعاودها رونق الشباب وزهوه كما كان يعاود الأرض في ذلك الفصل، فسألتها أن نخرج للنزهة في ضواحي باريس ورياضها فرضيت واستأذنت أباها فأذن لها، وأخذنا نخرج كل يوم إلى الصحراء في مركبة مقفولة تحجبنا عن أنظار الناس، حتى إذا بلغنا تلك المروج نزلنا وتوغلنا في غاباتها ولسان حالنا ينشد:
ونجوس هاتيك الغياض كأننا
لصان نبغي في الخبا أقصاه
أو صائدان من السماة تبطنا
خمرا أثيثا يقنصان ظباه
هذا وقد فرش الربيع بساطه
في ظل قبته التي تغشاه
هي قبة الأغصان والأوراق قد
حجبت عن النظر الحديد سماه
متسايرين وتارة متخاصرين
أضمه ويضمني زنداه
ثم كنا نسير ونحن نتكلم عن مستقبل أيامنا ويتمنى كل منا أمنية ينالها في تلك الأيام، حتى نعود مساء فأوصلها إلى دارها وأنطلق إلى منزلي فأقيم فيه أنتظر الصباح؛ لأعود معها إلى مثل شأني بالأمس، فنمر على الأشجار والأنهار، ونجلس في ظلال الدوح حيث أحفر أول اسمي على كل شجرة جلست تحتها لكيلا تضيع عني ولا يضيع وسمي من قشورها.
حتى إذا كنا مرة جالسين في حديقة بين الخضرة والزهر وقد سكت كل منا وذهبت به أفكاره كل مذهب نظرت إليها، فرأيت الدمع يجول في عينيها، فقلت لها: من أي شيء تبكين؟ قالت: من السعادة، فإن هذا اليوم وهذه السماء وهذا المنظر وهذا السكون والسكوت والوحدة واختلاط نفسينا حتى لا تحتاج إحداهما إلى الكلام؛ كل هذه أكثر من أن تحملها فتاة مثلي يقتلها السرور كما يقتلها الحزن. ثم تورد خداها وبرقت عيناها حتى خفت أن يستحسنها الموت على تلك الحال فيأخذها مني، ورأت ما كان بي من الاندهاش، فقالت كمن ينبهني من حلم: يا روفائيل، إن في الدنيا إلها، وإن الله موجود. قلت: وما الذي دعاك إلى هذا الكلام الآن؟ قالت: الحب، فإن الذي أشعر به منه أشبه بنهر يجري في فؤادي وله صوت لطيف تطرب له آذاني بما لم أتعود سماعه قبل اليوم، ولا شك أن المنبع الذي يجري منه مثل هذا النهر فيسر قلوب العاشقين لهو الله يرسله من أعلى سمائه، إذن فالله موجود ومحبته عظيمة فائقة ليست محبتنا إلا نقطة منها، فلا تحسبن أنني أحبك أو تحبني، فإنما نحن نحب الله ولا ندري، ونحسب أن كلا منا يحب أخاه.
فأعجبني كلامها حتى نهضت فقبلت الشجرة التي كنا نستظل بها على اعتبار أن ما قلناه كان وحيا هابطا علينا من خلال أغصانها، ثم اتفقنا فسميناها شجرة العبادة.
الفصل السابع
دنو الفراق
ومرت بنا الأيام على تلك الحال حتى أثر بي ما كنت فيه من حرارة الوجد وضيق الحال وظهرت آثار السقم على وجهي، فخافت علي وسألتني أن أذهب فأستشفي بهواء وطني ولو كان فراقي حزنا وغما عليها، ثم أرسلت لي طبيبها فرآني وأشار علي بمثل مشورتها، فعزمت على السفر وخرجت وإياها آخر يوم للوداع، فقضيناه في الحدائق والغابات بين حديث متقطع وزفرات متواصلة ودموع منسجمة حتى رجعنا مرجعا لا أقدر أن أصفه، ثم رحلت وأنا ألتفت إلى ورائي كما خرج آدم من جنان النعيم. وسارت بي المركبة أياما حتى وصلت إلى منزل أبي، فقابلتني أمي مسرورة، وأخذت تعالجني وتلطف في خدمتي حتى عاد إلي رونق الصحة وزالت عن وجهي آثار السقام، فرحلت إلى سافوا طمعا بزيادة الاستشفاء فيها، فكنت أزور أمي كل أسبوع فأجد بيتنا في حالة من الحاجة والعوز على أثر إنفاقي تزيد بها همومي وأكداري.
حتى إذا كان أول الشتاء وردني كتاب من غصن البان تشكو فيه من خوفها على صحة أبيها ، وأنه آخذ في الانحطاط كل يوم عن أمسه وهو ما أوجب طول بقائها في باريز، ثم سألتني أن أذهب إلى حيث كنا في شامبيري وأنتظرها شهرا توافيني في آخره من غير بد، فاستأذنت أمي بالسفر فأعطتني ما كان معها من مال التقتير والاقتصاد، فرحلت ماشيا بهيئة صياد آكل وأنام في أحقر البيوت وأصغر المزارع حتى وصلت بعد أيام إلى شامبيري، وأقمت أنتظر قدوم حبيبتي وأنا أذكر كل يوم ما كان لي معها، وأزور كل مكان زرته وإياها، حتى إذا كنت يوما على شاطئ البحر حيث ركبنا الزورق وجدت نوتيا مقبلا يستوقفني وفي يده كتاب من صديقي فألقاه إلي وانصرف، فوجدته كبير الحجم ثقيل الحمل فعلمت أن فيه كتبا كثيرة، وأن أحدها - ولا شك - يبشرني بقدوم من أهوى فانطلقت مسرعا إلى المنزل الذي استأجرته، فأشعلت المصباح وفضضت غلاف الرسالة فكان أول ما وقع نظري عليه غلافا محاطا بالسواد وعليه خط الطبيب الذي أشار علي بالسفر ومعه عدة أوراق تساقطت من يدي لارتجافها وأنا لا أجسر أن ألتقطها أو أقرأ حرفا منها خوفا أن يكون فيها الخبر الهائل الذي لا يقوى على حمله فؤادي، ولكني تجلدت أخيرا وفضضت كتاب الطبيب وإذا فيه:
كن رجلا، واصبر لحكم الله، ولا تنتظر أحدا؛ لأن التي تنتظرها على الأرض قد سبقتك إلى السماء في صباح الخميس بعد أن كلفتني بأن أرسل إليك آخر كلماتها التي كتبتها بيدها قبل وفاتها إلى أن أوقف الموت يدها بعد تمام اسمك.
ولم أكد أتم الرسالة حتى سقطت مغشيا علي في مكاني، فلم أستفق إلا عند منتصف الليل ورسالة النعي بين يدي، فتركتها وتناولت رسائل غصن البان فإذا هي مخطوطة على هذا النسق، قالت في الرسالة الأولى:
عفوا يا روفائيل، يا حبيب فؤادي، ويا أخي، واغفر لأختك طول غشها لك، أقول ذلك لأنني لم يكن لي أمل بأن أعود فأرى سافوا، ولأنني كنت عالمة بأن أيامي معدودة لا تنفسح لي إلى نيل هذه السعادة. ثم إني يوم قلت لك عند فراقنا الأخير: إلى الملتقى يا روفائيل. لم تفهم ما أقصد بهذه العبارة، ولم يفهمها إلا الله؛ لأنني كنت أقصد فيها ميعاد اللقاء في السماء حيث أنتظرك وأدعو لك. واعلم أيها الصبي أنني أوصيت طبيبي بأن يخدعك أيضا، وأن يساعدني على رحيلك من باريز؛ لأنني أردت بل رأيت من الواجب علي أن أكفيك شدة هذا الحزن عن قرب؛ إذ خشيت أن يقتطع قطعة من فؤادك أو من حياتك فتقصر أيامك بسببه، وزد على ذلك أنني لم أكن أريد أن تراني أموت بل أن يكون بيني وبينك حجاب من الأيام قبل الموت. آه يا روفائيل! إن الموت بارد جدا، وأنا أشعر به وأراه وأخاف لأجله من نفسي، والأمر لله. لقد كنت أحب أيها الصديق أن أترك في عينيك صورة آثار من جمالي الزائل تذكرني بها بعد موتي، أما الآن فقد قضي الأمر فأقم في مكانك ولا ترحل إلى سافوا ولا تنتظرني في مكان، فإنه لا يمضي علي يومان أو ثلاثة حتى لا يعود لي أثر في هذه الحياة الدنيا سوى روحي خافقة ترفرف على رأسك حيثما كنت. انتهى.
وكان على الرسالة آثار دموع جفت، فجعدت الورقة من تحتها. ومن بعدها رسالة أخرى مؤرخة في اليوم نفسه، وهي كما يأتي:
نصف الليل
إن صلواتك يا روفائيل قد أنزلت على قلبي بردا وسلاما، فقد ذكرت أمس الشجرة التي جلسنا عندها حيث رأيت جلال الله من خلال نفسك، فوجدت بهذه الذكرى تعزية وسلوة، ثم استدعيت كاهنا شيخا فكشفت له دخائل نفسي فعزاني كثيرا، وأظهر لي نعمة الله وفضله وشدة كفران الإنسان لإحسانه عليه، وكيف لا يكون محسنا وقد سمح لي بأن أحبك في هذه الحياة الدنيا ثم أكون ملاكك بعد الموت؟
ثم يتلوها رسالة أخرى مضطربة الحروف مشوشة الكتابة كأنها مخطوطة في الظلام، تقول فيها ما يأتي:
بعد منتصف الليل
أريد أن أقول لك كلمة بعد يا روفائيل؛ لأنني قد لا أقدر أن أقولها غدا، فإذا مت لا تمت علي حزنا، فإني سأدعو لك الله في السماء ويكون دعائي مقبولا متى تقربت من عرشه المجيد، وأحب بعدي من تشاء فإن الله سيرسل لك أختا ثانية تكون رفيقة حياتك من بعدي وأكون أنا الشفيعة فيها، فلا تحسب بذلك أنك تسوءني فإن الغيرة ممنوعة في جنان الخلود، وقبيح بي أن أغار من سعادة تنالها، وقد كلفت طبيبي بأن يشرح لك ما لا يقوى قلمي الآن على بيانه، ويؤدي إليك قطعة من شعري فاقبلها منه تذكارا، واسمح لي أن أنام قليلا.
ثم رسالة أخرى لا تكاد تقرأ لاختلال سطورها حاوية هذه العبارات:
أين أنت يا روفائيل، فإني قد شعرت بقوة قدرت بها أن أخرج من سريري، فقلت للمرأة الساهرة علي بأنني أريد الخلوة، ثم تحاملت على نور المصباح أنتقل من كرسي إلى كرسي حتى بلغت إلى المكتبة حيث أكتب لك، ولكنني لا أرى شيئا وكأن عيني لا يحيطهما إلا ظلام فلا تبصران إلا نقطا سوداء على القرطاس، ويلاه! لم أعد أقدر أن أكتب إلا هذه الكلمة. ثم خطت بعدها بحرف كبير في ذيل الرقعة هاتين الكلمتين: الوداع يا روفائيل.
ولما فرغت من هذه القراءة الهائلة سقطت الرسائل من يدي وجلست أشهق بالبكاء، وإذا بي أرى رسالة أخرى مخطوطة بخط أبيها الشيخ فتناولتها وإذا بها ما يأتي:
لقد ماتت من تحب بين يدي بعد أن كتبت لك وداعها الأخير ببضع ساعات، وبوفاتها فقدت ابنتي فكن أنت ابني ما بقي لي من أيام هذه الحياة. أكتب لك الآن وأنا أراها ممددة على سريرها كأنها نائمة والتبسم مطبوع على شفتيها كأنها ماتت وهي تفكر فيك، ولا أذكر أنني رأيت عليها مثل هذا الجمال قبل اليوم، فاعلم أنني أحببتك لأجلها فأحبني أنت كذلك. ا.ه.
أما أنا فلم أكد أصدق أنها ماتت؛ لأنني وجدت من الصعب على طبع الإنسان أن يصدق بهذا الفراق بينه وبين من يحب ولو كان حولي من شواهد موتها كل تلك الرسائل، بل كنت أرى صورتها وتقاطيعها ورنة صوتها وحلاوة ألفاظها وجمال وجهها حاضرة كلها لدي حتى كأنها لم تفارقني، وحتى كان مماتها حياة وغيابها حضور لدي، ولعل ذلك التصور نعمة من الله يضعها بين الشك واليقين فلا يخلص اليقين إلى القلب إلا بعد برهة كما لا يصل صوت الفأس البعيدة إلى الأذن إلا بعد وقوعها على جذع الشجرة بثوان، وهي مدة كافية لأن تصون القلب من هول تلك الصدمة، فلا يزال صاحبه يتصور وجود من فقد كما تتصور العين قرص الشمس بعد مغيبها إذا طال تحديقها فيها، وكأن الله أشفق علي من وقع هذا الخطب على فؤادي فزاد ذاكرتي تصورا لها حتى صرت أحسبها حاضرة ولا أصدق أنها ماتت وأنني لم أعد أراها.
ولم أزل كذلك حتى انطفأ المصباح بين يدي، فاحتملت تلك الرسائل وأنا أقبلها، ثم أخذت بندقيتي ووثبت من الغرفة وهمت على وجهي بين تلك الجبال تحت ظلام الليل الدامس وعصف الرياح الشديدة والهدير المتواصل من أمواج البحيرة التي كانت مهد غرامنا ومنشأ صبوتنا وحافظ تذكارنا، وأنا في كل ساعة يخال لي أنني أسمعها تناديني باسمي فأقف وألتفت، ثم أضحك على نفسي وأنصرف وشر البلية ما يضحك، ولو لم يدركني أحد أصدقائي ويرجعني من بين تلك الصخور لبقيت هائما على وجهي إلى ما شاء الله.
وقد مر علي من تاريخ هذه الحادثة إلى الآن عشر سنين وأنا لا أزال أذكرها كأنها بنت أمسها، ولا تكاد تمر بي سنة حتى أزور تلك الأماكن وأقف على شاطئ تلك البحيرة، وأذكر ما كان لي فيها من مواقف صبابة وغرام تعيد لي ماضي حياتي ممزوجا بماضي حياتها فأحسب أنها لا تزال حية لأن حياتنا كانت واحدة، فلا تنصرف أفكاري إليها حتى أصادفها كما كانت، وكذلك التذكار عمر ثان.
أتت من بني الدنيا التي خير ما بها
يكون له الحظ التعيس المعجل
بدت وردة فيها فكانت كوردة
تفتح في رأد الضحى ثم تذبل
ترجمة لامارتين
هو الشاعر الفرنسوي الخطيب والسياسي الكاتب البليغ، مؤلف هذه الرواية من بين ما ألف من بدائع الأسفار ونفائس الآثار، ولسنا الآن نتعمد ترجمة حياته بأسرها فإنها طويلة المجال واسعة الأطراف، تقتضي تاريخا لكل صفة من أوصاف هذا الرجل الشهير الذي يقسم إلى عدة رجال في عدة فنون، يستلزم كل رجل منها ترجمة مستقلة بين السياسة والشعر والخطابة والتأليف، ولكننا نذكر عنه لمعة من تاريخه نحيط فيها بجميع هذه الأوصاف أو نصف بها كل أولئك الرجال في ذلك الرجل على طريق الإيجاز والاختصار بقدر ما يحتمله هذا الكتاب وما تكون فيه الكفاية لفائدة القراء.
ولد لامارتين عام 1790 في مدينة ماكون من أبوين شريفين، وربي على يد أمه بعيدا عن باريز وما كان ينتابها من نيران الثورات والفتن، ثم دخل مدرسة الرهبان فتعلم فيها، وطاف إيطاليا بعد ذلك حيث جرت له عدة حوادث غرامية نشر بعضها في قصائده وبعضها في قصصه مثل هذه القصة وسواها من سائر رواياته وأشعاره، واشتهر في النظم شهرة عظيمة، وانفرد منه بأسلوب جديد لم يسبقه إليه أحد، ولم ينسج قبله شاعر على منواله، ولا سيما في تعظيم الصغير، ووصف الحقير، وتجسيم الخيال، واستخراج الموجود من العدم حتى سمي شاعر اللاشيء أو شاعر الوهم والخيال.
وساعده الغرام الذي علق به والأماكن التي زارها والمعشوقات التي هويها على الإجادة في هذا الفن الغرامي من المنظوم، فكانت تخرج قصائده أشبه برنة العود المحزنة أو همهمة النسيم اللطيف أو أنة العاشق الولهان، كما وصفه كثير من مدوني ترجمته ومعاصريه العارفين برقة أخلاقه وإبداعه في المنظوم والمنثور. وتتابعت قصائده على فرنسا بأرق من نسيم الصبا وأطيب من عرف الكبا حتى جعلت له شهرة واسعة في الأدب ومهدت له سبل الوظائف والسياسة، فأرسل مستخدما إلى سفارة فرنسا في نابولي، ثم أرسل في سفارة إلى فلورانسا، وكان جميل الصورة حلو الحديث، فأحبته إنكليزية غنية فتزوجها ومات عمه في أثناء ذلك فأصبح غنيا من إرثه وزواجه. وكان قد نظم عن إيطاليا عدة قصائد هجائية أوجبت له مبارزة مع أحد قوادها، فجرح في ذلك البراز.
والذي يؤخذ عليه في سكناه إيطاليا أنه صرف أيامه فيها على الصبابة ونظم الغزل، وكان الأولى به أن يفحص أحوال البلاد وسكانها وشئونها، ولو فعل ذلك لكان للثورة التي نشأت عام 1848 فائدة على فرنسا لا تنكر، ولكان لإيطاليا أسرة مالكة إلى الآن.
ثم عاد إلى باريز وأدخل في جمعية علمائها، وعلى أثر ذلك أرسله الملك شارل العاشر سفيرا مفوضا إلى أثينا قبل حدوث الثورة في فرنسا، فأقام فيها مدة ثم عاد إلى باريز، واشتغل بالسياسة، وترشح للنيابة عن الشعب فلم ينجح، فاستأجر سفينة في 20 آذار سنة 1832 وسافر مع امرأته وابنة له يطوفون البحار حتى بلغوا إلى سورية فطافوها، وذهب فزار مدرسة عين طورة وحفر اسمه على سنديانة فيها ولا يزال محفورا إلى اليوم، ثم توفيت ابنته بعد ذلك في بيروت فحزن عليها حزنا شديدا، وأمر فحنطت ووضعت في تابوت وأخذها معه في المركب وسار بها مع امرأته إلى إتمام سياحتهما، فطافا جانبا من بلاد اليونان والمملكة العثمانية. وفيما هو في سياحته ورده الخبر بانتخابه في باريس، فعاد إليها ودخل إلى المجلس، وتكلم لأول مرة بين نواب فرنسا بكلامه البديع الرنان الذي خلب به عقول السامعين، وكان ذلك عام 1834.
ثم ظهرت المسألة الشرقية، فأظهر الرجل فيها أنه لم يستفد من سكنى الشرق شيئا ولا اختبر من أحواله حالا؛ لأنه قال أثناء الجدال في المجلس على هذا الشأن إن من رأيه تقسيم المملكة العثمانية وإقامة عشرين مدينة فيها، وجعل النصرانية تسود على أهل جميع الشعوب في آسيا، وإنه يضمن ألا يمر على هذه الأمم الجديدة عشرون سنة حتى ترقى في معراج التقدم والنجاح.
ثم انتخب بعد ذلك في الانتخابات العامة نائبا عن مدينة ماكون، فأعجب كثيرون بشعره وفصاحته حتى تألف حوله حزب من المعجبين به سموا أنفسهم الحزب الاشتراكي، ثم ألف كتاب «الثورة الأولى» وامتدح رجالها امتداحا غريبا جعل في البلاد ثورة جديدة، وحرك في القلوب أميالا إلى الحرية ومعاودة الحكومة الجمهورية وتمام الاستقلال، بما كان قد أوتيه من أنواع البلاغة وأساليب الإجادة في الإنشاء، حتى ثار الشعب بعد ذلك بسنة يطلب الجمهورية ويريد خلع الملك القاصر وإبطال الوصاية على الملك، وذهب ألوفا إلى المجلس وأمامه الوصية والملك الصغير.
فوقف لامارتين على المنبر وأخذ في يده أمر هذين الحزبين، يرى من جهة امرأة وولدا قاصرا يريدان الملك، ومن جهة ثانية شعبا بأسره يريد الجمهورية والاستقلال، فتكلم في بدء حديثه كلاما لا فائدة منه ولا ميل فيه إلى جانب دون جانب، حتى رأى أن الشعب أولى بالاتباع وأحق بالرعاية، فنطق مع الشعب ومال إليه وصرح عن حقه في مطالبه، ونشأت هنالك الثورة، وخرج الخطيب وحزبه يدوسون أجساد القتلى في شوارع باريس حتى رأى الشعب مقبلا من كل مكان كالبحر الهائج وهو يطلب بصياح أن يقيم الجمهورية ويبدل الراية المثلثة الألوان بالراية الحمراء، فوقف لامارتين فيهم خطيبا وقال في جملة كلامه: «إن الراية الحمراء التي تطلبونها لم يكن لها من الفخر إلا أنها طافت شوارع باريس مغموسة في دماء الفرنسويين السائلة على السيوف الفرنسوية، وأما الراية المثلثة فهي التي طافت أرجاء العالم كله يصحبها مجد النصر والحرية والوطن»، فكسروا الراية الحمراء عند ذلك، وعادوا على أعقابهم طائعين بعبارة من كلام هذا الخطيب العظيم الذي أصبح محبوبا من الشعب، مطاعا في القول نافذ الكلمة في كل مكان بين خاصة الناس وعامتهم.
وفي اليوم الثاني من إلقاء هذا الخطاب الذي رد به شعب باريس، وكسر تحت عوامل حدته الراية الحمراء؛ قام في مجلس النواب يطلب إلغاء الحكم بالموت في المسائل السياسية، فكان لطلبه وقع عظيم حتى لو تمثلت الأمة رجلا فردا لعانقت هذا الرجل العظيم عناق المسرور من أعماله؛ لأنها كلها كانت تميل إلى منع هذا الإعدام الذي خضبت به الثورة ساحات باريس بدماء الفرنسويين تحت الصوارم الفرنسوية.
ثم تولى لامارتين عدا عن وظيفته في الحكومة المؤقتة وزارة الخارجية، وأرسل لرجال السياسة منشورا رن صداه في كل قلب وطربت لفصاحته كل أذن، حتى كان كأنه يلعب بالقلوب الفرنسوية في كلامه، وحتى لو طلب صاحبه تاج فرنسا في ذلك الحين لما تأخر الشعب عن إعطائه إياه لشدة ولوعه وإعجابه به. ثم رسم للحكومة الفرنسوية الخطة التي يجب أن تسير عليها مع أوروبا إثر ثورتها عام 1848، كان من محصلها انتظار إنكلترا، والسعي مع بروسيا، وملاحظة الروسية، وتسكين بولونيا، وتمليق ألمانيا، واجتناب أوستريا، والتبسم لإيطاليا، وتطمين تركيا، وترك إسبانيا لنفسها.
وما أشبه لامارتين في كلامه هنا عن الدول بكلامه عن معشوقاته، حتى كأنه يغازل السياسة كما يغازل الفتاة الحسناء ويعتبر الدول اعتبار النساء الحسان، ومع ذلك فقد أثر كلامه في الشعب وإن كان بعيدا عن السياسة؛ لأنه قد أخذ بمجامع القلوب بمحاسن كلامه، فانقاد له الشعب انقياد الأعمى كما هو شأنهم في اتباع كل لسان فصيح.
وعاد في أواخر حياته إلى ممارسة الإنشاء وهو الميل الغريزي فيه، فكتب تاريخ الثورة الأخيرة، فلم يحسن فيه كل الإحسان، ثم أصدر جريدته التي سماها «ناصح الشعب»، ثم عاد بعد ذلك يكر الطرف على ماضي حياته ويدون ما مر له من حوادث الغرام ومواقع الصبابة والغزل، فكتب أشعاره الغرامية ثم دون بعض القصص وأردفها بتاريخ روسيا والقيصر وغيرها، وكلها كانت تتابع بسرعة زائدة كأنها تمطر من شق قلمه سيولا منهمرة، وكان أشد تأثيره على الشعب في رواياته وقصصه ولا سيما على النساء مثل قصة كراتسيلا، وهي رواية لطيفة رواها عن نفسه حين عشق فتاة بهذا الاسم في إيطاليا كان أبوها صيادا، وجرى له معها حديث طويل استفرغ فيه كل ما يكنه فؤاد فتى من شعائر المحبة والغرام.
ثم أردفها برواية «روفائيل» وهي التي سميناها «غصن البان»، وقد أجاد في أثنائها إجادة تشهد له برقة الشعائر وطول الباع في أساليب الإنشاء وصبابة الفؤاد بما يكاد يسيل معه المعنى زلالا، وتبصر عيون الألباب منه سحرا في البيان حلالا، مثل قوله في أثناء الرواية يصف مجلسا له وإياها: «فاتكأت غصن البان إلى جانب من الزورق ... ثم اتكأت على شبكة هناك وأنا طافح القلب ممتنع الكلام شاخص البصر إليها، وما عسانا نحتاج إلى خطاب ونحن نرى الشمس والمساء والجبال والهواء والماء والمجاذيف واهتزاز الزورق وزبد آثاره، ونظراتنا وسكوتنا وأنفسنا ونفوسنا قد اجتمعت كلها تتكلم عنا بل كنا كأننا نخشى أن تبدو منا كلمة تكدر صفاء ذلك السكون السار؟ حتى لقد حسبنا أننا سابحون من زرقة البحيرة إلى زرقة السماء؛ لاشتغال أبصارنا عن الشاطئ المقبلين عليه»، ثم قوله يصف الحب بعد ذلك: «ووجدت أن الحب شعلة نار أنارت لي الطبيعة والعالم ونفسي والسماء، فلاح لي عند ذلك عبث الدنيا وباطلها حين رأيتها تصغر في عيني لدى شعلة من تلك الحياة الحقة، فكنت أحمر خجلا من نفسي إذ ألتفت إلى ما مر من حياتي وأقابله بما أراه من الطهارة والعفاف في تلك الفتاة، حتى كأنني دخلت منها في بحر من الجمال والرقة والصيانة والآداب والغرام كان يتسع أمامي وينفسح في عيني كلما نظرت إليها وسمعت صوتها وحادثتها، وطالما كنت أركع لديها وأنا أعفر خدي بالثرى كأنني في أشد العبادة والنسك، بل طالما كنت ألتمس منها كمن يلتمس من إله أن تغسل نفسي بدمعة من دموعها، وتطهرني بشعلة من نارها، وتنفخ في نسمة من أنفاسها حتى لا يعود بي شيء مني سوى تلك القطرة التي اغتسلت بها والشعلة التي طهرتني والنسمة التي أحيتني، وحتى أستحيل إليها وتستحيل إليه، بحيث لو دعانا الله في يوم موقفه لا يقدر أن يميز بين نفسين قد مزجتهما آية الحب فصارتا نفسا واحدة، وأستغفر الله! فيا أيها القارئ، إذا كان لك أخ أو ابن أو صديق لم يعرف الفضيلة بعد، فاسأل له الله حبا مثل هذا الحب؛ لأنه متى عشق بلغ إلى درجة من الكمال تعادل ما في قلبه من ذلك الغرام.»
وهو وصف للحب لا يمكن أن يشعر به واصف ولا أن يصفه شاعر بأبلغ من هذا البيان الذي كأنه يصور الغرام بمداد من دماء القلب، ولا يكاد يشعر العاشق بأعظم منه.
ومن عقيدته في الحب قوله يصف مجلسا له أيضا ثم يمازج فيه بين الديانة والعشق وهو: «حتى إذا كنا مرة جالسين في حديقة ... نظرت إليها فرأيت الدمع يجول في عينيها فقلت لها: من أي شيء تبكين؟ قالت: من السعادة ، فإن هذا اليوم وهذه السماء وهذا المنظر وهذا السكون والسكوت والوحدة واختلاط نفسينا حتى لا تحتاج إحداهما إلى الكلام، كل هذه أكثر من أن تحملها فتاة مثلي يقتلها السرور كما يقتلها الحزن. ثم تورد خداها وبرقت عيناها حتى خفت أن يستحسنها الموت على تلك الحال فيأخذها مني، ورأت ما كان بي من الاندهاش فقالت كمن ينبهني من حلم: يا روفائيل، إن في الدنيا إلها، وإن الله موجود. قلت: وما الذي دعاك إلى هذا الكلام الآن؟ قالت: الحب، فإن الذي أشعر به منه أشبه بنهر يجري في فؤادي وله صوت لطيف تطرب له آذاني بما لم أتعود سماعه قبل اليوم، ولا شك أن المنبع الذي يجري منه مثل هذا النهر ... هو الله يرسله من أعلى سمائه، إذن فالله موجود ومحبته عظيمة فائقة ليست محبتنا إلا نقطة منها، فلا تحسبن أنني أحبك أو تحبني فإنما نحن نحب الله ولا ندري ونحسب أن كلا منا يحب أخاه.»
ومن تفقد سائر روايات لامارتين وتتبع مواقع كلامه فيها وطالع ما له من النظم البديع في هذه المعاني، وفي جملتها كتاب له شعري نزع فيه إلى فلسفة الغزل وحقيقة الغرام سماه «سقطة ملاك»؛ يجد أن الرجل خيالي محض، ولكنه زاد في الخيال حتى جعله حقيقة وأبدع في وصف الوهم حتى صوره مثالا تكاد تبصره العين، وتلاعب بالقلوب والأفكار تلاعبا خيل معه لأبناء عصره أن القلوب واقفة على قلمه وأن النفوس سائلة على أثر ما يسيل من مداده، ولا يزال رجال العلم في فرنسا يعجبون كيف تولى على أعمال السياسة الصارمة رجل مثل هذا صناعته الرقة ودأبه الصبابة والأغزال؟!
ذلك هو الرجل من حيث قلمه وسياسته، أما من حيث إنه رجل فقد كان طويل القامة، حلو العينين، جميل الصورة، طلق اللسان، حاضر البديهة، رقيق الفؤاد جدا، يتأثر لأقل مصاب ويبكي لتعاسة كل إنسان، وقد نظم في غصن البان حين ذهب ليراها على البحيرة فعاقتها المنية دون لقائه كما هو مبين في آخر القصة مرثية مفجعة استبكى بها كل ذي فؤاد رقيق في فرنسا وغيرها من عارفي ذلك اللسان، وقد صنعوا لها لحنا حين ظهورها في مكان يوجد فيها آلة موسيقية إلا ضربت هذا اللحن ولا أجادته موسيقى حق إجادته إلا أبكت به من حضر، قال في مطلعها:
أكذا تمر بنا أويقات الصفا
وتقودنا كرها إلى ظلم الردى
ونخوض في بحر الحياة بسرعة
من غير أن نرسو به فيمن رسا؟!
ومنها يشير إلى الليلة التي عاد بها مع حبيبته إثر غرقها، وغنت له في الزورق ذلك الغناء الذي مر ذكره:
هل تذكرين بحيرة الوادي لنا
ليلا تقضى بالسرور وبالهنا
ثم وصف الحالة وصفا بلغ به منتهى الإبداع بما يضاف إليه من متانة القوافي وحسن النظام.
وكانت وفاته إلى رحمة الله عام 1869 بعد أن ترك من حسن المآثر ونفيس الرسائل والكتب ما يوجب له الأسف، ويستدر عليه الرحمة من كل لسان.
ناپیژندل شوی مخ