فكأن الشرق باب للدجى
ما له خوف هجوم الصبح فتح
ومع ذلك لا يجب على التمدن أن يستأصل جميع جذورك من أرضه يا أيها الجهل؛ فإنه لا بد من بعض دخل لك في غوطته استدراكا لشيوع الدعوى بتمام العلم مع ما بين غير أهله شيوعا لا ينكر ضرره؛ لأن الإنسان المدعي بالمعارف على غير أصل إنما ينشئ أضرارا جمة؛ إذ يزرع في عقول أصحابه ورفقائه الذين يثقون به قواعد وحقائق كاذبة باطلة، وهم ينقلونها إلى غيرهم إلى أن تشيع وتذيع، وربما صارت أساسات يبني الناس عليها ما يفضي بهم إلى الضلال والطغيان، فيعود مقتضيا لنفوذ أنوار الحقائق في أبصار بصائرهم عناء عظيم، ويكون سبب ذلك هذر الجاهل المدعي. فيجب إذن للتمدن أن يترك يدا لقائد الجهل في دائرته لكي يوحي إليه بواسطة تغلب العلم أن يلطم أفواه تبعته، ويضع أقفالا عليها؛ فلا يعودون يفوهون بما يؤذي؛ إذ يصيرون خاضعين لتبعة العلم ومجتهدين في نوال الحقائق قدر الإمكان، وعارفين أنفسهم أنهم منتسبون إلى الجهل. حتى إن المتوغلين في بواطن الأشياء أيضا كثيرا ما يلتجئون إلى حكم الجهل لكثرة ما يرون من المجهولات التي يفوتهم إدراكها، وكلما ازداد الإنسان علما ومعرفة وجد لحكم الجهل عليه اتساعا وغلبة؛ لأن نسبة ما يمكن علمه إلى عالم المجهول هي كنسبة ما يمكن للنظر إحاطته من البحر إلى ساحة المياه جميعها أو ما يمكن رؤياه من النجوم الظاهرة القليلة إلى بقية الأجرام المختلفة الممتنع عددها، فكما أن كروية البحر ورحابة الفلك تقدمان للنظر أمدا وعددا أكثر كلما ارتفع الناظر وقوى أسطرلابه إلى أن يحكم أخيرا أخيرا بعدم إمكانية الإدراك العام فيرجع بصفقة المغبون. هكذا العلم يعرض للدارس حقائق ومبادئ أكثر كلما ازداد توغلا فيه إلى أن يجزم أخيرا بامتناع الاطلاع المطلق، فيرتد ضاربا أسدريه آخذا الجهل عذرا له.
فعلى كل حال إذن يجب أن يكون العلم والجهل مترافقين في خدمة مملكة التمدن، ولكن بشرط أن يكون الثاني مردودا إلى الأول؛ وهكذا يكون كل منهما عارفا بواسطة رفيقه حقيقة حدوده، فيلبث الواحد مجدا في تمهيد مسالك العمار والطلب، ويرجع الآخر عن المعارضة إلى توقيف خطوات الخراب والدعوى؛ بحيث يصير هذا مدركا حده وذاك عارفا نفسه.
الكبرياء
أما أنت يا أيها الكبرياء فمن أدهى الأرواح التي تتعب في مرادها الأجسام، ومن أعظم القوات التي تجعل البشر سالكين تحت نير العبودية؛ لأنك تتركهم عديمي الحرية في تتميم مقاصدهم وواجباتهم. فتعدم كلا منهم جزءا كبيرا مما يخصه من الحقوق على الهيئة التي هي أيضا تفقد أهم حقوقها على أبنائها؛ بحيث يصير هذا محروما من التمتع بتمام الألفة والمخالطة، وتلك معاقة عما تطلبه من الانتظام والالتئام.
فهل دخلت يا أيها الروح الشرير في أحد إلا وتركته خابطا في لجة البلبال والتعب، وجعلته مرذولا ومبغوضا من جميع بني نوعه، فحيثما جلس رأى نفسه أرقى من محله وأعز من جلسائه، وإذا ألقى سلاما على أحد أو تكلم معه زعم أنه صنع تنازلا عظيما أو منح الفوز الكبير وإن اقتضته الحاجة إلى السؤال على أمر أو استفادة شيء ما من أحد الناس يقع في حيرة عظيمة واضطراب لا مزيد عليه، ويصير محلا لتنازع عوامل الطلب والترك؛ إذ يرى لسانه منبسطا إلى المطلوب وقلبه منقبضا عنه، فتثور في جوانحه نار الألوهية، ويأخذ في ضرب الرموز والإشارات على مقصده، عسى ينال الجواب والفائدة بدون تصريحه بسؤال رسمي. وإذا أعياه بلوغ المراد حاول أن يسبك السؤال في قالب قصد التنكير لمعرفة لا طلب التعريف لنكرة دفعا لنسبة الجهل أو الوقوع تحت المنة واختلاسا للفائدة. وإذا أوقعته الصدف بمرافقة أحد إلى الدخول في مكان ما حاول كل المحاولة أن يتقدم عليه ويبقيه خلفه. وهكذا لا يزال هذا المستكبر معجبا بنفسه عاقدا حواجبه، إذ يظن أن السماء تعنو لديه والأرض تجثو لأقدامه، مع أنه يكون بمقتضى هذه الأطوار مبغوضا وممقوتا من الجميع ومحلولا من وثاق الهيئة الاجتماعية التي تتأسف عليه جدا، كما أنه هو نفسه يندب ذاته ويتأسف على حياته المقيدة بسلاسل العبودية لكبريائه؛ إذ يرى حاله مقهورا لطبعه ومحروما من لذات الخليقة ومرذولا لدى الخلائق ومدانا من الخالق، فلا يعتبر إلا كورقة الخريف المستعدة للهبوط من أعاليها لدى أوهى حركة.
فقل لنا يا أيها الروح المتعجرف: من أنت وما أنت لنعطيك حقك؟ فإن كنت بشرا فما فضلك على البشر؟ وإن كنت ملاكا فأنت إبليس الاستكبار؛ إذ لم تسجد لآدم متواضعا. وإن كنت ملكا فأنت خادم الناس ما دمت كبيرهم، ولا تنفعك كبرياؤك عليهم، وستحل في قبر النسيان قبل حلولك في قبر الأبدان، وقد قال قبلك الملك والنبي داود: أنا داود ولست إنسانا. وإن كنت نبيا فما عندك آية سوى الكبرياء وهذه سيماء الدجال. وإن كنت رسولا فقد كذبت رسل من قبلك، وإن كنت من ذوي الفضل والإحسان فهذا من الواجبات البشرية ولا يسمح لك واجبك بالعجب والتكبر على غيرك، وإن كنت غنيا فثروتك لنفسك ولا تنفع بها أحدا ما لم تنتفع منه أولا، على أن الأغنياء والفقراء متبادلون حقوق المعيشة سواء. وإن كنت حيوانا فأنت مخضع تحت قدمي الإنسان؛ إذ تكون نعجة أو بقرة أو إحدى بهائم البقاع.
ومع ذلك لا ينبغي الرفض المطلق لقائد الكبرياء من مملكة التمدن حذرا من حصول الدناءة التي لا تليق بالبشر، بل يجب تركه مقيدا بحكم الاتضاع حتى يستوفي كل منهما حقه حسبما يقتضي الحال، فتكون النتيجة حصول عزة النفس المقبولة في شرائع التمدن، وزوال عبودية الاستكبار عن الأنفس.
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر
ناپیژندل شوی مخ