مقدمة
1 - الحلم
2 - الهواجس
3 - مملكة الروح
4 - السياسة والمملكة
5 - التمدن
6 - قواد الشر
7 - المحاكمة
8 - اليقظة
مقدمة
ناپیژندل شوی مخ
1 - الحلم
2 - الهواجس
3 - مملكة الروح
4 - السياسة والمملكة
5 - التمدن
6 - قواد الشر
7 - المحاكمة
8 - اليقظة
غابة الحق
غابة الحق
ناپیژندل شوی مخ
تأليف
فرنسيس فتح الله مراش
مقدمة
إنني بينما كنت ذات ليلة ضاربا في أودية التأملات العقلية، وطائرا على أجنحة الأفكار المتبلبلة في جو الهواجس والأحلام التخيلية، وإذا قد انفتح لدى أعين خواطري مشهد عجيب تلعب فيه أشباح الأعصار السالفة، وترن في هوائه نغمات الشعوب الغابرة من وراء حجب التواريخ الخالدة؛ فرأيت ممالك العالم القديم تتعالى إلى أوج العظمة والكرامة، وترتقي إلى سدرة الآداب والتهذيب حيثما ينتهي مجد الإنسان النازل من الخليقة منزلة الأول من العدد.
فبينما كنت أرى المصريين مشتغلين بتهذيب الفلاحة والزراعة وتربية العلم وصناعة الأيدي، والآثوريين مجدين في اختراع ظرافة المشادات والأبنية، والفينيقيين آخذين بتوسيع المتاجر وشق عباب البحار وتقريب صلة الهيئة الاجتماعية؛ وإذا راية فارس مقبلة من بعيد حاملة شمسها الساطعة وأسدها الزائر، وهي تخفق على رءوس جيش عرمرمي يتموج فوق صهوات الخيول الصاهلة التي كلما كانت تضرب بحوافرها أديم الأرض، كانت تثير غبارا يلقي وخط الشيب على هامة الزمان وينسج برده الأشهب لجسد التاريخ.
وهكذا لم يزل يتقدم ذلك الجيش الجرار تحت الراية الخافقة، إلى أن مد بساط سطوته على كل أولئك الشعوب الذين كانوا يرفلون في حلل الثروة والنعيم؛ فأحنى كل ركبة لدى تلك النار الفارسية، وأهال كل قلب بطلعة ذلك الأسد السائد.
وما برحت دولة فارس ممتعة بتلك الأراضي المحروسة وذاك الغنى الوافر، حتى برزت عساكر مكدونية وأحدقت من كل جانب تحت بيارق الإقدام والبسالة، مثيرة لهب الحروب الهائلة، إلى أن ظفرت بجميع هاتيك الممالك، وأخمدت نار فارس، ولم يزل الصولجان المكدوني يفرع تقدما ونجاحا، وميدان ملكه يتسع بالسطوة والاقتدار إلى أن رأيت نسر الرومانيين صاعدا من الشمال وهو يخفق بأجنحة النصر والظفر، منقضا على جميع ما امتلكه المكدونيون من تلك الممالك الواسعة والبقاع الشاسعة؛ وهكذا قد بسط جناحيه وخيم على العالم؛ فانتصب لدى أعيني حينئذ قوس النصر الروماني في وسط ساحة الدنيا، وعدت أرى جميع شعوب الأرض تتقاطر أفواجا أفواجا، وتمر تحت ذلك القوس العظيم إشارة للخضوع والطاعة، وما برحت تلك الدولة العجيبة تمتد وتتسع بالغلبة والجبروت إلى أن انفطرت إلى شطرين عظيمين؛ فكان الأول شرقيا، والثاني غربيا، فأخذ ذاك يتعاقب بين ارتفاع وهبوط تحت رحمة الأقدار، وهذا يتشعب ويتفرع إلى جملة ممالك وولايات تحت اختلاف الأطوار، ولم تزل تحصحص لأعين فكرتي تلك الظواهر، إلى أن انفتح أخيرا لدى أبصار بصيرتي باب رحب مكتوب على قنطرته: «العقل يحكم» ومنه عاينت برية فسيحة جدا.
ولاح لي عن بعد بيرق يخفق مقتربا؛ فوضعت نظارة الاختبار وأمعنت النظر فرأيت مكتوبا به «العلم يغلب»، وظهر لي حينئذ من ورائه جيوش التمدن الزاهر ممتطية متون الاختراعات العجيبة والمعارف الكاملة، وهي تخطر متموجة بأنوار أسلحة الحكمة والعدل، متدرعة بدروع الحرية الإنسانية والخلوص المحض، ورأيت أمام هذه الجيوش المظفرة تتراكض ممالك الظلام مع كافة أجنادها، ناكصة على أعقاب القهقرة والانكسار، وهي تزاحم بعضها البعض إلى الهبوط في لجج العدم والاضمحلال حيثما لا حركة ولا صوت؛ وهكذا مدت دولة العقل قوتها على كل بقعة ومكان، وعم السلام على كافة المسكونة.
وبينما أنا مشمول بشمول هذه المرئيات التصورية في هذا العالم الفكري، ثمل بما أشاهد في هذا المرسح الجديد الذي تتلامع به شموس هذا العصر الحديث، وإذ قد ظهر لي من وراء الأفق الغربي دخان كثيف مدلهم، وأخذت آذاني تسمع لغطا آتيا من بعيد يشبه لعلعة رعد شاسع، وكادت حينئذ نواظري تستلمح تلامع أسلحة الحرب، وإذ داخلني روح العجب لما عاينت من المنقلب، نادتني أصوات الأخبار الشائعة قائلة: هو ذا العالم الجديد (أمريكا) قد رفض قبول شريعة التعبد؛ ولذلك قد نهض ضد هذه العادة الخشنة بالأسلحة والنار إذ لم يعد يحتمل وجود بقية لدولة التوحش على سطح الأرض، وها دخان المواقع يبرقع وجه السماء، وتموجات رعود المدافع تنفتح في كتلة الهواء. فعندما استوعبت هذه الحوادث ووفيت التمعن حقه؛ تلاعبت يد الاضطراب في جهاز الحياة ، ومالت الأعضاء إلى الارتياح، ولم أزل فريسة ترتعد بين مخالب تلك الانفعالات إلى أن أخذتني سنة المنام، وانفتح لدى أعيني مرسح الأحلام.
الفصل الأول
ناپیژندل شوی مخ
الحلم
ولما غمرتني لجج الرقاد؛ وجدت ذاتي أتخطر في برية واسعة، وكان يظهر لي عن بعد غابة عظيمة ذات أشجار ضخمة عالية، بأغصان متكاثفة الأوراق ملتفة بعضها على بعض، بنوع أنه لا يمكن لأشعة الشمس أن تخترق قبابها الشاهقة إلى كبد السماء لكثرة تلبدها الشديد، وهي تفرش على الأرض بساطا ثخينا من ذلك الظل الذي لا يتقلص.
وبعد أن أجهدت المسير إلى أن تبطنت هذه الغابة، رأيت نفسي من ثم محاطا بسكوت عميق يتخلله من فترة إلى أخرى هدير مبهم يشبه دوي غدير متدفق ممزوج ببعض زمرات من وحوش الغاب، أو تغريدات من طائر السماء؛ فأخذت أتتبع هذا الصوت الذي يظهر كأنه ينعي ألم الوحدة أو يبث شكوى الفراق، ولم أزل مهتديا به إلى أصله وأنا أركض تارة وأتوقف أخرى إلى أن انتهى بي الجد إلى فسحة فسيحة واقعة في جوف تلك الغابة، ومحاطة بسياج من أعظم الأشجار، وهناك رفعت نظري فرأيت السماء حينئذ واقعة على تلك الفسحة المحاطة بذلك الشجر الهائل وقوع قبة من زجاج على عمد وقناطر من زبرجد، وإذ أطلقت نظري قليلا وجدت صخرة منفردة القيام مائلة على ناحية يتدفق من أسفلها غدير عظيم تدفقا يسابق الطير سرعة، وهو يتشعب إلى جوار تذهب متشتتة في أقطار ذلك الحرش تاركة عند انفصالها صياحا وأنينا موجعين.
وبينما كنت شاخصا في هذا المشهد البهيج، ومتأملا بما تصنعه الطبيعة من الفلتات الغريبة؛ وإذا بعاصف من الريح قد نهض من سكناته، وهب هبوبا كاد أن يقتلع جميع الغابة ويطير بها إلى أعالي الجبال الشامخة.
نفضت نواظري إذ ذاك لدى تلك الزوبعة الطائرة خوفا من لذع غبارها الثائر، ولما فتحت أجفاني رأيت عرشين منتصبين أمامي على الفور كأنهما مصاغان من الذهب الإبريز، وهما مرصعان بأفخر الأحجار الكريمة، ووضعهما كان قريبا من تلك الصخرة وذلك الغدير، وفي كل منهما لمحت شخصا جالسا وعليه من اللياقة والكمال ما لم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر.
أما الشخص الأول: فكان رجلا مكتسيا حلة أرجوانية تتلامع كأنوار الضحى، وفي يده اليمنى صولجان طويل، وقابض باليسرى على رقعة مطوية بغير نظام وهو معتقل سيفا ذا شفرتين، وعلى رأسه تاج مكتوب على إكليله: «يعيش ملك الحرية.» وكانت عيناه تتناثر شررا وهو عاقد الحاجبين مقطب الوجه؛ بحيث يتضح للناظر كونه منفعلا بنوبة عظيمة من الغضب لأمور تدخل في سياسته، وكان شاخصا في نقطة من الأفق يتصاعد منها دخان وقتام.
وأما الشخص الثاني: فكان امرأة، وعلى ما بان لي أنها زوجة الأول، وهذه المرأة قد كانت ذات وجه بيضي الشكل، يلوح عليه حسن بلغ أعلى درجة من سلم الجمال، بأعين تتلامع بأنوار الحور على سواد الكحل، وأجفن كأنها سكرى بخمرة الفتور ومأخوذة بسحر الغزل، وحواجب كأنها صورت بقلم رافائيل أو نقشت بإزميل ميخائيل قد جمعت بين الاقتران والزجج، جمع جبينها بين السعة والبلج، ورأسها متوج بشعر مسترسل يترامى على أقدامها كطالب شفاعة بهيئة تكل عن إحاطة تشخيصها الصناعة، وسواد يتموج بسنا الصقال اللامع كالليل الذي يخامره ضياء الفجر الساطع وهو مزنر بإكليل من الذهب والغار علامة للظفر والانتصار، وكأن وجنتيها صفحتا لجين قد اندفع إليهما نور الشفق، وكأن جيدها ومباسمها كشقيق أخذ ينفتح إذا ما الصبح انفلق، وكأن جيدها صيغ من بلور لطيف يعلو على صدر يحمل كرتي مرمر نظيف. أما معاصمها فقد كانت لدوائر الأساور مراكز ترسل أقطارا متساوية الاتصال، وكذلك أرساغ أقدامها كانت تملأ الخلخال. أما لباسها فقد كان جامعا لكل الاحتشام؛ بحيث لم يكن سوى جلباب عريض حريري النسج يحيط بجميع قوامها من العنق إلى الأقدام، مزرورا على صدرها، ومستدقا عند معاطفها المحاطة به كنطاق، ومن هناك يأخذ بالاتساع إلى أسفل بدون أن يبدي مشهد قبة عظيمة.
وبينما كنت أنظر إليها نظر المندهش الحيران؛ مأخوذا بخمرة ذلك الجمال البديع، مضطربا بوقوع تأثيراته على قلبي الذي كنت أضغطه بيدي خوفا لئلا يطير شعاعا ؛ إذ لاح لي سطر من أحرف نارية على إكليلها الذهبي يعلن: «هكذا تحيا ملكة الحكمة.»
وإذ شرعت أتأمل بعد تلاوة تلك الأحرف في أبهة هذه الملكة المتواضعة رأيت جبينها زاهرا بأنوار النباهة والذكاء، وأعينها متقدة بأشعة التعقل والفطنة، وأصداغها منتفخة بالحزم والرشد وهي تبتسم بالبشاشة والوقار، ملتفتة إلى ذلك الملك الغضبان التفاتا يرسم شكل القمر في الليلة الإحدى عشر، ومنحنية أمامه بأيد منبسطة تستميل خاطره وتستعطف قلبه بكلام يقع في السمع وقوع الدر في الصدف، فسمعتها تقول له هكذا: نعم يجب التغاضي عن هذا الملك الظالم الذي لا يبرح مجتهدا في زرع زوان الخشونة والتوحش في حقل مملكتنا ذات التمدن والتهذيب، ولا ينبغي الإضراب عن استئصال كل أعوانه وأنصاره الذين يلبسون جلود الحملان، وينشرون ما بين خراف رعايانا كلما غفلت عنهم أعين التيقظ والانتباه، واضعين على وجوههم براقع المكر والخديعة حتى إذا ما تمكنوا من استعطافهم بقوة الاحتيال يأخذون حينئذ بإفساد ضمائرهم السليمة، مظهرين لهم شرف التعبد لملكهم وما به من الفوائد والمنافع إلى أن يطرحوهم أخيرا بأيدي ذئاب عبوديته، ولكن مع ذلك لا ينبغي معاملة ذلك الملك العنيد وأولئك الأعوان المردة إلا بما يقتضيه قانون شريعتنا العادلة؛ أي بالأناءة والحلم والتدقيق حذرا لئلا تحسب من الأجانب ظلاما أو حمقى. - كيف يمكنني أن أعامل هؤلاء القوم بما تقتضيه نواميسنا حسبما تشورين، مع أنني قد أفرغت جهدا طويلا وتكلفت تعبا ليس بيسير حتى أوقعتهم أخيرا في قبضتي؟ أفما يخشى من هربهم بواسطة الحيل والخدع إلى حيث لا نعود نظفر بهم ثانية؟ فها أنا قد اعتمدت على شنق هذا الملك الخبيث وسجن جميع حفدته وعبيده مؤبدا، تدير مملكة العبودية بكل سرعة، ولم يعد لي حاجة لما كانت تدفعه هذه الدولة من الخراج؛ لأن جميعه آت من مال الظلم. - إياك تصنع هكذا يا أيها الملك العظيم لئلا نفتح سبيل التمرد والعصيان إلى شعوب مملكتنا، وتعود الثورات الأهلية قائمة؛ لأنه معلوم لديك كم وكم من الناس يميلون طبعا إلى تلك الدولة ما عدا الذين قد مالوا إليها بقوة الفساد والغش؟ فإذا - لا سمح الله - أخذت الحروب الأهلية بالانتشاب نعدم راحتنا ونقع في وجل عظيم، فتصير المصيبة الأخيرة شرا من الأولى؛ إذ نكون كالطبيب الذي يسرع إلى سفك الدم حالا في الحميات الخبيثة بدون ملاحظة المزاج والبنية؛ فيهلك المريض بشدة انحطاط القوى الحيوية.
فأشور عليك إذن يا أيها الملك المهاب، وأرجو أن تتنازل إلى قبول مشورتي بأن تستحضر لديك ذلك الملك العنيد مع أهم أعوانه، وتضع عليهم شرائع وقوانين جديدة يسلكون بموجبها، وتشدد ذلك الوضع بالصرامة اللازمة بعد توبيخهم وتبكيتهم، ثم تجعل لكل منهم مناظرا من طرفك، وكذلك يجب أن تكون أكثر عساكرهم من جنس عساكرنا؛ كي لا يعود لهم مقدرة على مخالفة الناموس أو العصيان والتمرد، ولكي يعلموا أنك أنت هو الملك الأكبر مقدارا والأشد عزيمة والأوسع مملكة وأجنادا، وأنه بأي وقت تشاء يمكنك شن الغارة عليهم وأسرهم حسبما فعلت الآن. - قد ظهر لي الآن من كلامك يا أيتها الملكة السعيدة أنه يجب إرجاع هؤلاء الظلمة إلى مملكتهم بعد تلك الحروب التي أثرناها عليهم، وكل ذلك التعب؛ فأنا أتعجب منك! كيف مع كونك بهذا المقدار حكيمة تشيرين علي بهكذا مشورة ولا تشورين باستئصالهم عن آخرهم لكي نأمن غوائلهم ومكايدهم؟!
ناپیژندل شوی مخ
فقاطعته الملكة قائلة: إن إشارتي إليك يا أيها الملك الجليل بوضع شرائع جديدة على أولئك القوم أصحاب تلك المملكة المشئومة، وبإرفاقهم بمناظرين عليهم من طرفنا وبجعل أكثر عساكرهم من جنس عساكرنا، إنما هو عين استئصالهم وإبادتهم؛ لأنه بذلك يمكننا وضع الأيدي على مملكتهم وضمها إلى مملكتنا بكل سهولة وبدون أدنى انزعاج لداخليتنا، ولكن مع طول الزمان والصبر الأمر الذي به قد نجحت أكثر ممالك العالم حسبما تخبرنا التواريخ، ولكن إذا أوقعت بهم الآن حد السيف بدون التبصر بعواقب العجلة، فأخشى عليك من الوقوع في بلبلة البال والندم على المحال.
وبينما كانت هذه الملكة الحكيمة تبسط أفكارها لذلك الملك الجليل، وإذا برجلين مقبلين من جوف الغابة بأقدام مهرولة، وبوجوه عليها سيماء الانشغال، ولم يزالا يتقربان إلى أن وصلا أمام المظهر الملوكي وسجدا هنالك بكل احترام ووقار، وكانا متدرعين بأسلحة الحرب، وأعينهما ملتهبة بضرام المواقع، وأحذيتهما متوشحة بما نسجه النقع، والدماء سائلة على حد ظباهما ومضمخة ثيابهما العسكرية، وكان مكتوبا على خوذة أحدهما: «هذا قائد جيش التمدن.» وعلى منكب الآخر: «هذا وزير محبة السلام.»
وعندما وقعت من الملك التفاتة إليهما حياهما بالإكرام، وقال لهما: هات أخبراني بما فعلتما شفاها. فأخذ الأول يسرد الحوادث هكذا: إن نصرتنا الكاملة على الأعداء لم تحتمل أكثر من موقعتين: أما الأولى فكان حدوثها على هذا الوجه، وهو أن هؤلاء الأخصام عندما شاهدوا جيوش آدابنا المستظهرة مقبلة عليهم فرقا فرقا؛ عدوا حالا على قتالنا منظمين صفوف أجناد مقاومتهم، وأخذوا يدافعون هجومنا عليهم بنيران مدافع العناد بدون أدنى اكتراث بنا، وكان حامل بيرقهم رجلا يسمى بالبغض.
فعندما لاحظنا قحتهم هذه زمرنا حالا ببوق النار الدائمة، ورفعنا بيرق النزال، فكنت ترى حينئذ جيوشنا تلك الغضنفرية غائصة في سحب دخان الغيرة، متلامعة ببروق سحيق التعاليم على صهوات جياد المدارس التي كانت تحمحم طلبا للهجوم وشوقا للاقتحام، ولم تزل قنابر براهيننا تنقض على صفوف الأعداء كالصواعق من أفواه مدافع استظهاراتنا التي كانت ترعد تحت سماء حرب الحرية، ولم تبرح بنادق ألفاظنا تمطر عليهم رصاص العزيمة إلى أن رأيت تلك الصفوف أخيرا متفرقة كبنات نعش، ومنهزمة أمام نظام فيلقنا الذي كان يحكي الثريا شملا والجوزاء مسيرا، وهكذا لم نزل هاجمين عليهم وهم ناكصون على أعقابهم حتى ظفرنا بالغلبة والانتصار، وتركنا أكثرهم بين قتيل وجريح، والبقية أدبروا وتحصنوا في معاقل الآراء السابق تصديقها.
أما الواقعة الثانية فكان وقوعها على هذه الكيفية، وهي أن أولئك الأعداء قد أرسلوا إلينا رسولا حاملا من طرف ملكهم رقعة بها يعدنا أنهم يتركون الأسلحة بشرط أن تنحي عنهم قليلا عساكرنا، فوعدهم سعادة رفيقي هذا - وأشار إلى وزير محبة السلام - أن يجري شرطهم، وكتب لهم بذلك رقعة ودفعها للرسول فأخذها وذهب، وهكذا أتممنا الوعد.
ومذ شاهدوا تنحينا عن معاقلهم طمعوا بتغاضينا، وأخذوا يجمعون عساكر جديدة مجددي العزم، واندفعوا علينا ثانية كالوحوش الضارية تحت إدارة سبعة قواد تسمى بالأرواح الشريرة، وكان حامل سنجقهم جنديا يقال له: «الخيانة».
فعندما رأينا تأهبهم للقتال وهجومهم علينا اغتيالا ومفاجأة تحت لواء الخيانة هرعنا حالا إلى أسلحتنا القاطعة وقابلناهم بأمواج كتائبنا المنتصرة، وأخذنا نصادمهم مصادمة بني أسد لبني كلب، وكنت أنا وهذا الوزير نخترق صفوف أجوقهم شاهرين سيف الهمة والمسعى، ونضرب يمينا وشمالا بكل عزائمنا لكي نشد قلوب الجنود المنقضة عليهم كالنسور، وكان دخاننا يبتلع دخانهم ورعود مدافعنا تخرس مدافعهم، ولم نزل نجزر مدهم ونفل حدهم حتى استظهرنا عليهم مليا وأوضحنا تقهقرهم جليا، ولم نرجع عنهم حتى أوقعنا جميع عساكرهم وقوادهم في قبضتنا بعد حرب أقوم من ساق على قدم، وأشهر من نار على علم.
ولم نكتف بهذه الغلبة فقط، بل دخلنا أيضا إلى معاقلهم السخيفة لكي نستخرج ما فيها من القوات، وبينما كنا نتجسس ونبحث في تلك الحصون واحدا فواحدا وجدنا في أحدها رجلا هرما قد نفضت أقدام الأيام على هامته غبار الشيب، وهو مختبئ في إحدى زوايا حجرة ناكس الرأس مكفهر الوجه منحط العزائم والقوى ذارف الدموع منحني الظهر، حتى يرى كأنه صنم لا يمكنه أدنى حراك؛ فقبضنا عليه أيضا وأخرجناه إلى الخارج وربطناه مع سبعة قواده المذكورين ومن يحمل بيرقه بسلسلة حديدية، ووضعناهم في سجن عندنا تحت الأسر، وحالا أخذت قلما وقرطاسا وسطرت به هاتين الواقعتين كواحدة على وجه الاختصار وأرسلت الأسطر إلى عظمتكم مع بريد مخصوص.
أجاب الملك: قد وصلتني رقعتكم مع البريد المذكور، ولكني لم أستوعب كل الحوادث حسب الواجب؛ ولذلك رددت إليكم البريد لكي يدعوكم إلى هنا وأفهم الأمر منكم مشافهة، فمن الرقعة التي أبرزتموها لي لم أعلم سوى موقعة واحدة وأنكم موعودون من الأعداء بالتسليم وترك الأسلحة عندما كان نظري يسبق ويرى من بعيد دخان وغبار معركة مهولة، وأذني كانت تسمع لغطا يشبه دوي رعود من أفق شاسع، ولم ألبث أن أغرقتني لجة البلبال؛ لأنني لم أعلم النصر لمن يكون. - نعم، إن هذه المعركة التي هي الثانية ربما كانت جارية حينما كنتم تشرفون معروضنا بتلاوته؛ لأننا بعد برهة قليلة من نهاية الكفاح الأول أسرعنا إلى إخبار عظمتكم وشرعنا في الاعتراك الأخير ونلنا النصر والظفر من حيث لا تعلمون.
ومع ذلك كنا نقتصر على إنجاز تلك الموقعة الأولى حسب المرغوب لو لم يدخل غش هؤلاء المردة على سلامة قلب وزير محبة السلام. وأشار إليه، أما هذا الأخير فقد كان مطرقا في الأرض غير متحرك وكأنه واقع في هواجس كثيرة، فالتفت الملك إليه، وقال له: بالحقيقة إن سلامة قلبك قد صارت السبب الوحيد لانتشاب تلك الموقعة الثانية؛ لأنه لو كنت تعرض عن تصديق دعواهم بالتسليم عالما أن الحرب خدعة لكانت جيوشنا أنهت الموقعة الأولى حسبما اقتضت الثانية، وكنا اغتنينا عن ثقلة هذه الأخيرة ووفرنا رجالا ومالا.
ناپیژندل شوی مخ
فأحنى الوزير رأسه لدى الملك، وقال: إنه لم يخطر بي البتة إمكان هجوم هؤلاء البرابرة علينا مرة ثانية بعد أن شاهدوا ما شاهدوه من بسالة أجنادنا الأقوياء في الحروب، وتيقنوا جيدا عجزهم وضعفهم بالنسبة إلى ثباتنا وقوتنا؛ فقد جرت الأقدار بما لم يخطر بالأفكار، ومع ذلك فليست إجابتي لطلبهم كانت مبنية على اقتناعي فقط بكونهم لا يجسرون على محاربتنا ثانية، بل وعلى طمعي بحقن الدم أيضا؛ إذ قد خطر لي أنه إذا لم نجب طلبتهم وواصلنا الحصار والمهاجمات فقد يمكن أن يجري نهر من الدماء حسبما جرى ذلك في كثير من مواقع العالم منذ يشوع أريحا إلى تيطس أورشليم وما بعده ...
فقاطعه الملك قائلا: إنه يوجد في طريق الإنسان كثير من الموانع التي لا يمكن الحصول على رفعها إلا بسفك الدماء، وكذلك قد يصيب الإنسان كثير من الحوادث التي لا يمكنه دفاعها إلا ببذل الروح، وعلى كل حال:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم - ولكن يا أيها الملك المعظم ليس بجيد للإنسان أن يسرع حالا إلى إهراق الدماء على نزر الأشياء، وليس جميع الحوادث والأحوال تساوي الدم الإنساني الذي لا يوجد أثمن منه، ولا يجب مضارعة أولئك الشعوب الذين يبادرون إلى شن الغارات وفتك بعضهم بعضا على أقل أرب لا يعتد به، أو أدنى خرافة لا بيت لها في رقعة التمدن؛ بحيث لا يئول صنيعهم هذا إلى دمار ودثار أخصامهم فقط، بل وإلى انحطاط وخراب هيئتهم أيضا؛ إذ إن الرجل الظالم يرتد وجعه على رأسه، وعلى هامته يهبط ظلمه؛ فلا برهان إذن على سمو عقل الإنسان وتروض أخلاقه ودعة سجيته أعظم من محبته للسلم ونفوره عن الحرب والخصومات، على أنه بالسلامة تنمو الهيئة الاجتماعية وتتسع دائرة تقدمها بالثروة والمعارف والآداب.
بالسلامة تخصب الحقول وتغطي الأرض غلاتها وتجود الفلاحة ويكثر الحصاد.
بالسلامة تعمر البلاد والقرى وتتسع التجارة التي عليها يقوم مدار الاشتراك مع كافة العالم.
بالسلامة تتقوى الممالك وتعظم رجالا ومالا.
وبالإجمال إنه بالسلامة يقوم شرف البلاد ومصالح العباد.
ولكن إذا أخذنا نتصفح الحروب وغوائلها إنما نرى العكس تماما.
على أنه بالحرب تتبدد الهيئة الاجتماعية وتضيق دائرة تقدمها ونجاحها حينما يرسل إليها مركز الجهل أقطار الخراب.
ناپیژندل شوی مخ
بالحرب تمحل الأرض وتضن بإنتاجها وتتقهقر الفلاحة ويقل الحصاد.
بالحرب تنهدم البلاد وتغور المتاجر في أودية الاضمحلال، وتنقطع الشعوب عن مشاركة بعضهم بعضا.
بالحرب تضعف الممالك وتقل رجالا ومالا. وبالجملة إنه بالحرب تذل البلاد وتبيد القبائل ويصفر الخراب.
ومع كل ذلك فقد تلد السلامة حروبا والحروب سلامة.
بناء على أن زيادة الراحة تنشئ أضرارا جمة لا تذهب إلا بواسطة التعب والرياضة. وأيضا زيادة التعب قد تسبب جملة أعراض رديئة لا يمكن إخضاعها إلى الزوال إلا تحت سلطنة الراحة والسكون.
أما ترى حينما تمردت علينا مملكة العبودية وأخذت تفسد في الأرض بواسطة أعوانها وتعيث بسذاجة شعوبنا كيف نهضنا ضدها ابتدارا، وأشهرنا أسلحة الحروب حذرا من أن يبتلعنا القعر وتطبق البئر علينا فاها؟
وهكذا أتممنا تشتيت شمل العدو، وصحنا عليه بصافور الغلبة والظفر، ضاربين بطبول الحرية التي نحن أولادها. وحينئذ فأنا الذي تدعونه وزير محبة السلام قد اخترقت بذاتي جماهير معسكر هذه الأعداء، واقتحمت قلاعهم ناضيا سيف الهمة والمسعى، حتى أنزلت بهم النكال دفعا لوقوع القلق والاضطراب في بلادنا، ورفعا لتسلط القبائل الأجنبية علينا؛ الأمر الذي يفعل الخراب أكثر مما تفعله الحروب، فهنا نرى أن السلامة قد أنشأت حربا.
وعندما تسترجع هذه الحروب راحتنا السابقة وهدوءنا الاعتيادي منادية بكون سيف السلطان طويلا؛ نقول من ثم إن صخرة الحرب قد أفاضت مياه السلامة الدائمة التي بها يتمتع كل آت بعدنا، كما يتمتع بماء هذه الصخرة التي فجرتها العناية بعصا موسى الإعتاق كل سارح في برية الحرية أو غابة الحق. وأومى إلى الصخرة التي يتدفق منها الماء وأحاط بالإيماء جميع الغابة.
وبينما كان هذا الوزير يتكلم كانت الملكة الآخذة وضع الجلوس المحتشم متكئة على ساعد العرش السامي ومزهرة راحتها بوردة خدها الأزهر، وعلى مباسمها تقرأ الحلاوة آية الكوثر، وهي تهز رجلها اللطيفة إشارة لاستيعاب الخطاب متوسمة بوجه محبة السلام بأعين تفيض جمالا وكمالا على طلعة تنفث في العقول سحرا وتدير على القلوب خمرا؛ فهي ترمي فؤاد فانوس - إلهة العشق - بنبال الفتور، وتأخذ قلب باكوس - إله السكر - بنشوة الخمور، مع أنها تخلق في مينارفا - إلهة الحكمة - مهابة واحتراما، وتجري في روح المريخ - إله الحرب - بردا وسلاما.
فما أتم الوزير كلامه إلا ورأيت زنجيين مهرولين من بعد إلى ساحة هذا المرسح ولم تزل بطون الأدغال تبتلعهما تارة وتتقاياهما أخرى حتى أدركا أخيرا هذا المحط، وسجدا على الفور تجاه المشهد الملوكي مكشوفي الرأس مطرقي الأعين، قد عبثت بأنفاسهما غصص الرعشة والهلع. وغب سجودهما أبرز أحدهما من جيبه درجا مطويا، ورفعه منشور لدى العظمة الملوكية مطأمن الظهر منحل العزائم.
ناپیژندل شوی مخ
فألقت عليهما الملكة لمحة عين، ثم أمرت قائد الجيش بحركة الإيماء أن يتناول الدرج ويتلوه عليا؛ فالتفت القائد وأشار إلى حامل هذا الدرج بالدنو، فدنا وألقى بين يديه الكتاب ونكص، فتلاه ذاك بصوت عال، وإذا مكتوب به هكذا:
إلى العظمة الملوكية
إن تقادير النحس والتعاسة قد حركتنا - نحن معشر الأشقياء - إلى رفع الأسلحة إزاء وجه عظمتكم الملوكية بحيث لم نكترث بيدكم القوية وساعدكم الرفيع؛ وهو الأمر الذي جلب علينا من لدن ملوكانيتكم غضبا لا يخفى وسخطا لا يطفى، فسقتم علينا جيوشكم الزاخرة، وصيرتمونا كالهباء الذي تذريه الريح عن وجه الأرض، فلبسنا اللعنة كالثوب؛ لأنه لم نعلم - لكثرة جهالتنا - أن كل سلطة هي من الله؛ ولذلك قد منعنا رب الحكمة كل حركة وأبقانا لديكم كعمود لوط، حاملين على عاتقنا رجسة الخراب، مسودي الوجه مضطربين بين يدي الغضب الآتي.
فإذا كان لم يزل يوجد في قلوبكم نحونا ذرة رحمة فاقبلوا من عبيدكم إعلان الندم على ما فات، وأطلقونا من سجن الحماقة وأسر الجهالة. ونحن نعدكم وعدا ثابتا أننا نجري جميع أوامركم وقوانينكم في كافة ولاياتنا الصغيرة، ولا نعود لوضع أدنى خلل في نظام مملكتكم ذات الاتساع والعمار، عالمين أن سيف السلطان طويل، وأن الذي يعصي السلطان أو الشريعة تكون نهايته الدمار والدثار، وأنه لا يمكن قط لأي ملة كانت أو أمة قهر الصولجان الملوكي، أو مجاوزة قوانين السياسة، وأنه واجب على كل إنسان أن يخضع خضوعا مطلقا لعظمة السلطان عالما أن الله قد جعله على الأرض قهرمان، وسلمه مقاليد الشريعة ذات الأمان.
فحينما أتم القارئ تلاوة الدرج طرحه على الأرض مرتعدا بثوران الحمية وصرخ: «يا للمكيدة!» فتناوله وزير محبة السلام وتلاه بفم الضمير ثانية، بينما كانت الملكة مشرئبة والبهتة شاملة وجهها وصارخة: «يا للحيرة!» وبعد برهة صمت تكفي تكرارا لتلاوة السرية رفع الوزير عينيه بحياء إلى حضرة الملكة واضعا الدرج جنبه برفق، وأخذ يستميل بلحظاته قلبها إلى إجابة أولئك المسجونين، ويحركها بظرافة تبسماته إلى الشفقة عليهم.
فانعطفت هذه السيدة إلى الجانب الملوكي ورمقته بأعين رطبها الإشفاق، وقالت له بتبسم يطفح بأنوار الحنو: دعهم يحضروا إلى المحاكمة عسى يفلحون. - أخشى وقوع المكيدة. - أنا أكفل ذلك والحكمة تعرف طريقها. - ليكن لك حسب قولك.
فالتفتت الملكة إلى الوزير وقالت له: قم فاذهب بذاتك واستحضر المسجونين إلى هنا كي نحاكمهم. فنهض الموما إليه للوقت وجاز مسرعا، ثم قالت الملكة لقائد الجيش: اكتب رقعة إلى الفيلسوف واستعجله بالحضور إلى هنا. ففعل، فقالت له: أرسلها مع هذين العبدين. فدفع لهما الرقعة حالا بعد أن أطلعهما على محلته في مدينة النور؛ فذهبا يذرعان الأرض، والقائد راح يتخطى في ناحية، وأخذ المظهر الملوكي يضرب في أغوار التفكرات. وما عدت أرى سوى هيبة السكوت المتعمق، ولا أسمع سوى هدير الماء المتدفق.
الفصل الثاني
الهواجس
وبينما كنت أجول في مراسح الأوهام العقلية، وأطوف في مسارح الخيالات الفكرية، إذ استلمحت شبحا يتقارب من بعد، وهو يخب في بطن الغاب غائصا في غمر الظلال المتكاثف، وما زال يعسف على قدم الإقدام حتى نفذ من تلك الغمرات المدلهمة، وظهر في مرسح الأحلام ظهور القمر من كبد الغمام.
ناپیژندل شوی مخ
وما برح يتردد قدوما ويتحذر هجوما حتى رأيته خر لدى العرشين بأسلوب ما به شين، وإذا هو رجل أحرز سمة الوقار، وعلى وجهه تلوح حذاقة الأفكار، فهو ذو جبهة تشير برحابتها إلى تمام العلم والعمل، ونظرات أشد نفوذا من نبال بني ثعل، وكان لباسه جامعا بين المهابة والاحتشام جمع الحرف بين الصحة والإشمام، ذو قامة لا تغرب عن العامة، ورشاقة تتوقد بها النامة. أما سنه فلم تتجاوز آحاد الخمسين على ما كان يلوح لي ويستبين.
فلما صادفته لحظات الجالسين على مقام السلطنة، بثته أشاير التحية مظهرة دلائل الابتهاج بقدومه، ثم أومأت إليه الملكة أن يجلس حذاها، فتقرب وجلس مستريحا على ركبتيه، فأوعزت إليه براحة الجلوس ففعل.
وبعد فترة من السكوت التفتت إليه هذه السيدة وقالت له: هل عرفت كيفية نهاية الحرب؟ - نعم قد بلغني أن النهاية كانت انتصارا لكم، والله يعطي النصر لمن يشاء. - ولكن بعد موقعتين يحكيان العويرض بما تكلفناه من تعب شاق، لا راحة إلا بعد تعب. - ولا نعيم إلا بعد شقا. - وهل بلغك أن ملك العبودية وأعوانه قد أسروا وطرحوا في السجن تحت سطوتنا بعد أن أدرنا عليهم رحى المنايا وأمطرنا على هامهم البلايا؟ - لا، لم يبلغني أمر الأسر.
أجاب بدون عبء: نعم هكذا تم الأمر. وقد أنفذوا إلينا عرض حال ينطوي على ترك التمرد والعصيان، والوعد بعدم الرجوع إلى زرع الخلل في نظام مملكتنا، نادمين على ما اجترموه ضدنا، ومسترحمين منا أن نطلق سجنهم ونفك أسرهم. - لا شك أنه يجب إجابة استرحامهم. أجاب الفيلسوف رافعا كتفيه: ولا ينبغي معاملتهم بالقساوة حذرا من ملامة العموم.
فقاطعه الملك بعد صغي وإمعان قائلا: إن الأمارات التي بها نهجوا سبل التوحش والعبودية في مملكة التمدن والحرية تستحق النهوض ضدهم بكل قساوة؛ لأنهم أخذوا يسلبون حرية الناس ويزرعون بينهم الخصومات والخرافات، فلو لم تستدركني هذه السيدة بمشورة حكيمة لكنت أنفذت أمرا بشنق ملكهم وسجن أعوانه وأنصاره مؤبدا.
هكذا تم الأمر. أجابت الملكة: أما المشورة التي تنازلت عظمة الملك بقبولها هي أننا نستحضر أولئك الأثمة، ونضع قوانين وشرائع جديدة يسلكون بموجبها، ونرفقهم بنظار من طرفنا، ونمزج عساكرهم بعساكرنا؛ وبذلك نأمن غوائلهم ونستولي على ولاياتهم بالتدريج بدون إثارة الحروب وشن الغارات؛ فنخلص من فخاخ دولة العبودية.
فأطرق الفيلسوف ساعة ثم رفع عينيه إلى السماء وأخذ يتأمل قليلا، ثم أدار رأسه يمينا ويسارا، وأحاط جميع الغابة بنظره وهو يهمهم بكلام مترادف، ثم أعاد الأطراف ثانية وأسدل على عينيه براقع الجمود حتى صار لبواشق الأفكار فريسة.
فشرعت الملكة تتأمل في هذه الظواهر مندهشة كأنها ترى مشهدا عجيبا، وأخذ الملك يفاوض العدل والحلم، وما كان إلا كلمح البصر حتى نبر الفيلسوف من هواجسه، وقال: لم أفهم معنى الخلاص من دولة العبودية، وهل يمكن أن يوجد لأحد خلاص منها؟
أجابت الملكة: كيف لا يمكن ذلك؟ وهل يخفاك فعل المدافع والبنادق؟
إنني لا أرى وسيلة يمكن بها الخلاص لأحد من لزوم التعبد، على أنني أرى جميع الطبيعة مربوطة بسلسلة الاستعباد بعضها لبعض، أجاب الملك: وكيف ذلك؟ وهلا يوجد حرية في العالم؟ - لا. - ولا يوجد طريقة بها يحصل الإنسان على شبه الحرية لكي ينال لذة؟ - نعم يوجد. - أوضح لنا ذلك.
ناپیژندل شوی مخ
فأطرق الفيلسوف برهة، ثم أخذ يتكلم هكذا: إننا إذا تتبعنا الإنسان منذ ولادته إلى نهاية أمره؛ إنما نرى حياته تجري خاضعة إلى ما لا ينتهي من العبوديات، وهكذا نرى في جميع المخلوقات؛ فالطفل المولود عندما يسقط على الأرض يصرخ وينتحب علامة لإشعاره بوقوع سلطان المحيطات به عليه. ولم يزل عبدا طبيعيا لأمه ما دام يتغذى من لبنها، إلى أن تضع له المر على الثدي إشارة لطرده من حلاوة الحياة القاصرة إلى الدخول في مرارة الحياة المستقلة؛ وحينئذ يميل بوجهه إلى مواجهة عالم الغلبات، فتدفعه شرائع الاستقلال الحيوي في عبودية الموجودات، وتعصف به زوابع الأقدار في مفازة الطبيعة، فيعود مدافعا ومحاذيا جميع الكائنات أملا في الخلاص من فواعلها وتأثيراتها الطارئة عليه، فيخضع للحرارة ليستعين بها على الفرار من سلطة البرد. ويميل إلى هذا الأخير ليدفع عنه غلبة تلك الأولى، ويبسط يديه لدى مكارم المملكة الآلية
1
علنا ليسترجع منها ما اقتنصته من بنيته بالانحلال أو التنفس خفية. ويبتني من الجوامد بيوتا لتحميه من حوادث الجو وهجير الشمس، ويستنجد المعادن لوقاية أبنيته من غوائل الصواعق المنقضة، ويستخدم أجنحة البخار ليطير بها إلى كل فسحات الأرض.
وهكذا لا تبرح طيور أفكاره تحوم على دوحة الطبيعة، وأقدام آماله تعدو في ميادين العالم حتى تنتصر أخيرا على جميع قواته كل تلك الأكوان، وتزجه في أودية العدم حيثما تحيط به ظلمات الفناء وتكتنفه غمرات السكوت، بعد حياة قد تقضت بالتعبد لكافة الحادثات، وجرت تحت رق المصائب والأتعاب والأمراض، خاضعة لقوي مقتدر أو ضعيف مستتر حسبما تقتضي الغاية أو الضرورة؛ فلا حرية إذن للإنسان.
وهكذا تجري على هذا المجرى سائر الموجودات، أما ترى الحيوان القوي كيف يستعبد الضعيف؟ أما ترى أن كل الحيوانات كيف تسترق لخدمتها جميع جماهير الوجود النباتي؟ أما ترى كيف تجمع القوات الجاذبة ما بين المفترقات العنصرية وتخضعها لسلطان الاجتماع والتراكم تحت عبودية الفواعل الكيماوية وأسر قوات التماسك؛ بحيث لو أمكن للعناصر الهيولية أن تأخذ حرية الانفراد لما أمكن قيام النظام الطبيعي أصلا؟ أما ترى كيف تدخل السيارة في سلطة الثوابت؟
قم بنا لنطير في أجنحة التصورات ونرتفع ببخار الأفكار إلى سماء الحقيقة. وهناك أريك كيف أن هذه الكرة الأرضية تظهر لنا عن بعد سابحة في أعماق الفضاء وهي تدور منحنية على نفسها كشيخ أحنت ظهره أثقال السنين، وكيف أن هذا الجرم العظيم منقاد بسلاسل سرية إلى الخضوع لنظام الفلك الشمسي بحيث لا يمكن له الخروج عن حدود دائرته المضبوطة بأقطار من تشعشع جاذبية ذلك المركز الثابت. وكيف أن جميع الأجسام المنتشرة على سطحه خاضعة لحكم تقلب الفصول والأوقات حسبما يقتضي حلوله في إحدى جهات تلك الدائرة المنطقية، وكيف أن كل تلك الأجسام نراها ثائرة على بعضها لتدفع عبودية التغلبات حتى نشاهد بينها معامع مهولة؛ فهناك تسمع ضوضاء حرب الجو تضج ضد غلبة المؤثرات، وترعد في آذان الأرض التي نراها تقذف السماء بلهيب غضبها. وعجيج عالم المتحركات يصدع رءوس الجبال العالية؛ إذ تشاهد كلا من أنواعه يشن الغارة الشعواء على ضده حتى يهلك الجنس ويباد. فترى أسلحة تتلامع في الشمس وتقعقع في الهواء، وجيوشا تتضارب على صهوات الخيول تاركة سحب غبارها تغشي وجه السماء، وأيادي تتجالد وتتقارع، ومخالب تخلب وتجرح، وأظافر تنشب وتهشم، وحوافر ترفس وتصدع، وأجنحة تخفق وتلطم، وذنابات وأفواها تلدغ وتلسع.
وكذلك نرى مملكة الحياة النباتية مشتغلة بدفاع غارات
2
الطقوس بوسائط وطرق لا ينجلي غموضها، ولا يحصى عددها، وهي تضج وتئن ليلا ونهارا مما تفعله بها لطمات الأرياح الهائجة التي تخطف ورقها وتنثر ثمرها. ونرى أيضا عالم السوائل يقاسي تبديد التبخير تحت أحكام الحرارة فيهب إلى العلا وينضم هناك إلى بعضه على أشكال متخالفة، ثم يهبط غائرا في بطون الجوامد فيصادمها وتدفعه ثم تقذفه إلى حيث يذهب آنا مضطربا منذعرا مما قاسى. فكيف لا يمكن والحالة هذه أن يقال لا حرية في الخليفة ولا خلاص من العبودية؟!
ومع ذلك فقد يمكن للإنسان أن يحصل على شبه الحرية ويتمتع بلذة الحياة على نوع ما. أما حصوله على الحرية فلا يمكن إلا إذا أدرك أن سني وجوده مهما كانت عديدة بالنسبة إلى ما سبقه من العدم وما سيرد عليه ليست إلا كبرق طفيف لمع في ليل دامس. وأن جميع مصائب الدنيا وأكدارها تحيط بهذه الفترة الحقيرة من الحياة التي يجب أن يستثني منها أوقات نومه وطفوليته وشيخوخته، وهي الأوقات التي تعتبر عدما. وأن جميع المحيطات به تجتهد في هدم بنيته لتسترد منه ما سرقه من موادها بالاغتصاب، ولا تغفر السرقة إلا بالرد الذي هو حكم المغتصب.
ناپیژندل شوی مخ
فإذا عرف هذا جميعه يعود متحررا من سلطان الوقائع ومعتوقا من عبودية الزمان؛ فلا يلبث معرضا للأكدار والأحزان لعدم ميلانه إليها، ولا يوجد هائما بالمسرات والملذات لكونه لا يعتبرها، بحيث يرى الجميع بخارا يتصاعد قليلا ثم يضمحل. ومن لا يبالي بالألم لا يشعر بمضضه، ومن لا يعبأ باللذة لا يدرك بهجتها.
إذا كان وقع السيف ليس يمضني
فعندي سواء غمده وغراره
وإن كان جمر الخطب ليس يصيبني
فلا خوف لي مهما يهب شراره
أنا لا أرى في الأرض شيئا يروقني
لذلك نور العمر عندي ناره
أيطربني هذا الزمان وكله
عراك على الدنيا يثور غباره
أما حصول الإنسان على لذة الحياة فلا يقوم إلا إذا طرح ثقل العالم عن ظهره وارتضى بما قسم له من الله لقيام وجوده، خالعا كل أمارة تجعله عبدا وأسيرا لمن يتعالى عليه، وذلك كالحسد والطمع والكبرياء والحقد ... وهلم جرا. موجها أقدامه على هذه الأرض حسبما يهديه الصواب والاختبار، منعزلا عن الناس ما أمكن، واضعا لأفكاره ناموسا يحفظها في قيود الاستقامة والرشد، لاجما لسانه عن كثرة الكلام لئلا يحسب تكلمه هذيانا، راكضا وراء الحكمة والعلم، معرضا عما يئول إلى خراب بصره وبصيرته، كالتهافت على اللذات الجسدية والتمرغ في أوحال التهافت والفساد. ناظرا في كل لحظة إلى الموت الذي يتهدده على ممر اللحظات، عالما أن كل نفخة من نفسه مأخوذة من روحه، عارفا أن القوة الضابطة لأقدامه على سطح الأرض ستكون يوما ما سببا لابتلاعه إلى عمقها.
ناپیژندل شوی مخ
فبهذا جميعه قد يحصل الإنسان على لذة قصوى في مسير حياته؛ إذ يشاهد ذاته محلولا من جميع وثاقات الأكدار والآلام الأدبية والطبيعية، ومنقطعا عن كل عالم العبوديات اللازمة والمتعدية.
وإذا تحركت به الأميال إلى مخالطة أشباهه بالنوعية، فعليه باختيار من حسن وطاب واجتناب من قبح وخبث . على أنه بذاك تنفسد الفطرة السليمة التي هي أصلية في الإنسان؛ وبهذا تصلح وتجود وتسمو إلى أوج الكمال.
وإذا اتفق وجوده في مركز بعيد عن دائرة المخالطة الحسنة فعليه بالانفراد بذاته ومخالطة العوالم المحيطة بحواسه حيثما ينال لذات لا مزيد عليها ويغتني بها عما سواها.
فإن الإنسان المثقف لا يدرك لذة أعظم اعتبارا من تلك الملذات التي يدركها عندما ينشر شراع التعقل لسفينة أفكاره، ويطلقها في بحور هذه الموجودات لدى مهب أرياح الحوادث.
هناك نرى غزالة العالم تبرز يومئذ من كناس المشارق الذهبية ناشرة أنوار بهجتها على وجه السماء حيثما تعود كافة الخليقة مستبشرة بلقاها وتخطراتها؛ فالجبال تتمنطق بمناطق لجينية، وترفع قممها الغاطسة في غمرات الظلام فاتحة باعاتها لاعتناق طفحات الضوء. والمياه تتموج بلمعان الأشعة المنبعثة من لدن أبي الأنوار كأنها متسربلة بدروع نارية. والأشجار تمرجح رءوسها لدى بشائر النسيم كذي طرب متموجة بأكاليلها العسجدية ذات المنظر البديع. والأزهار تبتسم إزاء وجه الطبيعة نافحة بأطيابها التي تذهب مبشرة سائر الخلائق بثوران حركة الحياة. والأطيار تغرد وتصيح مهللة ومكبرة على أدواحها العديدة ومنازلها المتفرقة، وسائر الحيوانات تأخذ بالحركة والانتعاش.
هناك نشاهد هذه الغزالة
3
مائلة على خط الزوال بوجه يقدح شررا، حتى إذا ما بلغت الطفل
4
وأوشكت الفراق صبغت بدموعها الدموية وجنات المغرب وغارت في كهف الأفق، سادلة على المسكونة ستار الظلام، تاركة العالم في حالة سكون الموت، منهضة الخمود العميق في جميع البنية الآلية، سالبة من جميع المواد المظلمة ما أفاضته عليها من الصور الجلية حيثما تتبلبل الأرض مع السماء، وتضيع الجبال في الأودية، ولا يعود يقال سوى: ما هذا السكوت العظيم؟
ناپیژندل شوی مخ
هناك تحوم عقولنا على كل حادثة طبيعية وظاهرة أدبية، فترتقب طيور السماء متبصرة باجتماعاتها وانفراداتها واختلاف أصواتها وحركاتها، وتتبع مسير وحوش الغاب متأملة في فرائسها المرتعدة وحروبها المتقدة، وتهب مع الرياح الأربع إلى حيث لا يعرف إلى أين ذهابها ولا من أين إيابها. وتقف حائرة عند نهوض الزوابع وانتشاب الأنواء وتراكض البروق وانقضاض الصواعق وهدير الرعود، حيثما لا يدرك الباحث من الأسباب سوى ما يظن به ولا يعلم من الحقائق سوى ما يراه ماديا. فيغرق في بحور الاندهاش والذهول ملتطما بأمواج الهذيان والبحران،
5
مأخوذا بخمرة الهواجس والأوهام إلى أن يصبح كريشة تتجاذبها رياح الأحكام المضطربة، ويأخذ في تصوير الغيوم إلى أشكال وصور تتجدد على ممر الدقائق والأوقات خالعة كل هيئة حقيقية.
هناك نهجس بهذه المواد الكونية من أسمى جرم إلى أدنى ذرة، باحثين عن أصولها وفروعها وعلاقاتها ونسب بعضها إلى بعض وغاياتها وأحكامها، ناظرين في كل من أجناسها حركة متوزعة على سائر أنواعه تحت ناموس المناسبة. فالبعض يجمد متصلبا، والبعض يسيل مائعا، والبعض ينتشر طائرا، وهذا ينمو بلا حياة ولا انتقال، وذا يتمتع بالنمو والحياة ولا يتحرك، وذاك يفاخرهما بأسلوب نموه وحياته وحركته المطلقة والإرادية.
هناك نتصفح هذه الأشياء وتلك الحوادث فنقول إن كلا منها له حياة خصوصية تقوم بتدبير وظائفه وحركاته الذاتية، وحياة عمومية تشركه مع بقية الأشياء وتربطه بعللها. ثم لا نرضى فنقول إن الكهرباء هي السبب الوحيد لجمع وتحريك كل العناصر بما أنها روح العالم. ثم لا نرضى فنقول إن سيال الحرارة هو عنصر جميع الحركات والمتحركات، وعليه مدار سببية الحياة والتقنم. ثم لا نرضى فنقول إن النور ذاته هو القائم بإحياء وتحريك كل مادة مؤلفة أو بسيطة. ثم لا نرضى فنقول إن شريعة التثاقل التي تثبت أقدام الأكوان في مراكزها وأوضاعها وترشد جميع خطواتها إلى سواء السبيل هي هي ذاتها سبب القيام العام ومبدأ الحركة. ثم لا نرضى فنقول إن الفضاء الغير المتناهي هو ينبوع البداية والنهاية، ومنه أخذت كل الأصول العالمية وإليه سترجع ثم لا نرضى فنقول إنه يوجد رب متنزه عن إدراك الأفهام، ذو عناية دائما بتدبير عموم تلك المخلوقات، ومنه الحياة كانت وكل به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كون، وهو محرك الحركات وأصل الكائنات، وإليه مصير الأشياء جميعها، لا إله إلا هو ولا معبود سواه. فحالا نرضى بهذا المقال ونسحب جميع أفكارنا من مواقع الأوهام والوساوس الغريبة، معانقين عروسة الحقائق وبكر كل برية متمتعين بلذة الحياة وحرية المعيشة.
وبينما كان الفيلسوف مواصلا خطابه، كان الملك والملكة شاخصين فيه بأعين يخامرها الذكاء والإصغاء، مستوعبين معانيه بكل اتضاع ودعة، وغب نهاية مقالته جعلت الملكة تقول له هكذا: إننا قد عرفنا عدم إمكان وجود حرية للإنسان، بل ولا لسائر الأنواع، وإن جميع الأشياء لكونها مرتبطة بخدمة بعضها البعض، فهي مقيدة أيضا بعبودية بعضها للبعض، ولكن عندما تكون هذه العبودية غريبة عن الفائدة أو مضرة لصالح الأمور، فالاجتهاد بإبطالها ضرب من اللزوم وقانون صوابي؛ وبناء على ذلك: عندما نظرنا دولة الاستعباد تتداخل ما بين شعوبنا تحت طرق مختلفة حيثما لا ينجم عن هذا التداخل سوى الإضرار بهم وفساد طبائعهم السليمة، نهضنا حالا ضدها وسطونا عليها سطوة إسكندر على داريوس وسجناهم كما علمت.
أما حصول الشخص على لذة الحياة معتوقة من كل حاكم وصافية من كل مكدر، فهو أمر لا يمكنه البتة ولو تطبع على تتبع تلك النواميس التي ذكرتها، والتي تصعب في الإجراء بمقدار سهولتها في التصور حسب كل الأعمال الفلسفية؛ لأن التطبع لا ينقلب طبعا، وما كان هكذا فهو غير لذيذ عند الطبيعة وبعيد عن السهولة، وإذا أمكن الإنسان السلوك - كما أشرت - فلا يكون ذلك إلا لمن وسمته العناية بسمة الانفراد وهذا شاذ، وليس حكم الشاذ إلا الحفظ وعدم القياس عليه.
وعلى كل حال إن الإنسان إذا كان متعبدا لأحكام دولة التمدن والصلاح، يكون داخلا في حقيقة الحرية التي تطلبها الواجبات الإنسانية، على أنه إذا كان التعبد لازما فتلك الحرية ملزومة؛ لأن اعتناق الإنسان واجباته لا يدعى عبودية، ولكن إذا كان الشخص معتوقا من رق تلك الدولة فهو يكون بالضرورة داخلا في عبودية ضدها تبعا لمقتضى الحال.
ولكون الدخول في أحكام دولة الخشونة والبربرية يفسد أحوال البشر وينثر نظام جمعيتهم، نازعا عنهم كل الصفات الحميدة والسلوك السليم - وذلك هو الأمر الذي لا يوجد أضر منه لمملكة التمدن والصلاح - وجب علينا دفعا لوقوع البلبال والوبال فيما بين رعايانا أن نثور على تلك الدولة الآبقة التي إذا لم نمح آثارها لم تقم حرية الإنسان المطلوبة أصلا، وهي الحرية التي لا يمكنك إنكارها مهما رددت الهواجس والأوهام الفلسفية التي لا وجود لها إلا في العقل الذي قد يخطر فيه ما لا حقيقة له في الظاهر.
فأردف الفيلسوف كلامه قائلا: أنا لم أمنع إمكان الحرية الأدبية بل الطبيعية، ولا شك إنا إذا أطلقنا أنظارنا إلى عالم الآداب وتبصرنا بشرائع الحكمة، نعاين أقواما أحرارا وآخرين عبيدا حسبما تقتضي أحوالهم وكيفياتهم. وعلى كل حال إن الاجتهاد في عتق العبيد وهدم مباني العبودية هو أمر ضروري وواجب.
ناپیژندل شوی مخ
فطرح الملك أنظاره على الفيلسوف، وقال: إذن مشروعنا في محاربة مملكة العبودية واستنقاذ شعوبنا من قيودها لا يستحق الملام. - كلا، بل هو حسن وواجب يا أيها الملك المعظم؛ لأن الاستعباد مكروه عقلا وطبعا، وقد نهض العالم بأسره ضد هذه العادة المستهجنة وما سواها؛ فحاربوا من ظلم واعتدى وأعدوا له سلاسل وأغلالا.
الفصل الثالث
مملكة الروح
وإذ كان التمدن والحكمة يناقشان الفلسفة، رأيت جمهورا آتيا من شاسع وما زال يحجل متقربا تحت كراديس الأغصان، حتى بزغ من أفق الغاب وانتصب أمام المشهد المهاب. وبينما كان يظهر لي أن الشمس مالت إلى الطفل، وعاد الغروب يطوي ذلك الشراع الذهبي الذي نشرته أيدي الأصيل على هام الشجر لم أعد أرى حينئذ سوى أشباح ضئيلة تتنحنح في الفسحة، ولا عاد يمكن تمييزها لاندفاع تيار الظلام عليها؛ بحيث أوشكت جميع الغابة أن تنمحي تحت أقدام الظلال، أو تغور في غمر الظلمات المتراكمة.
وما كان إلا فترة قصيرة حتى رأيت نارا لمعت عن بعد فجأة، وصارت تتقرب تاركة خلفها مصابيح مضيئة. ولم تزل تتكاثر هذه النبارس ممتدة إلينا وراء العرشين حتى ملأت ميدان النظر. ولما خزقت الأضواء جلباب الظلام رأيت رجالا كثيرة عليهم أبهة العسكرية، بارزين كمن كمين وهم يوقدون ما لا يحصى من تلك القناديل التي كانت معلقة على الأغصان، وما برحوا يتمون مسعاهم حتى ملئوا الغابة جميعها أنوارا؛ فأخذت تتموج بالأضواء الساطعة وصارت شعلة واحدة حتى أظهرت مشهدا عجيبا لم أشاهد أبهج وأسنى منه. فصار يظهر لي كأن الأرض أخذت تقذف السماء ليلا بما طرحت عليها من شهب الرمضاء نهارا، أو كأن جميع عرائس الغاب جعلت ترشق علينا بروق نظراتها، وعدت حينئذ أخال نفسي كأنني قائم في وسط فلك يتشعشع بالنجوم والكواكب التي لا عدد لها. وما زلت أتبع بأنظاري هؤلاء الرجال الذين زرعتهم الهمم في جميع أقطار الغابة لكي يذيعوا آثارهم ويبثوا أنوارهم اللامعة، حتى رأيتهم يرجعون منضمين أجواقا أجواقا، ويعسكرون وراء المحفل الملوكي مثنى وثلاث ورباع حيثما كان يحثهم الصوت العالي قائلا: أتموا الصفوف؛ فإني أراكم خلف ظهري.
وإذا أمعنت النظر في هذه الصفوف الملوكية رأيت على صدر كل منهم لوحا مكتوبا به: هذا جندي التمدن دام كاسرا. وما لبثت أن أخذت بمجامع حواسي جلالة هذا المشهد اللامع بالأنوار والساطع بالبهجة والازدهار، حيثما كان الملك نازلا في عرشه نزول الشمس في الحمل مغمورا في أشعة الهيبة والوقار، والملكة بازغة من سماء مجدها بزوغ الزهرة من أفق الصباح مكتسية بحلل الكمال وحلى الجمال، والفيلسوف جالسا قبالتهما جلوس الدعامة على أساسها موثق الأعين بسلاسل الأفكار والهواجس، وقائد جيش التمدن متخطرا في محله تخطر الأسد في عرينه، وأجواق الجنود مصطفة حول المرسح كالزرازير على الآجار، بينما كان الليل ناشرا شراع الهدو على جميع حركات الطبيعة، وضاغطا بكل ثقله على الهواء كي لا يخترقه صوت آخر سوى تكتة المصابيح أو تغريد البلابل.
ولما أخذ السكوت قراره طفق الملك يناجي الفيلسوف هكذا: إنه يوجد مملكة كبيرة جدا وقوية إلى الغاية يقال لها «مملكة الروح»، وهي ليست بعيدة عن تخومنا، فهل تعرفها؟ - نعم، إنه توجد هذه المملكة وأنا أعرفها حق المعرفة، فما سبب سؤال العظمة عنها؟ - لأنني أريد شن الغارة عليها أيضا. - وما الداعي إلى ذلك؟ - هو سماعي عنها أنها تتصرف كثيرا بما يضاد سياستنا، وأن ملكها الجالس على العرش القديم كثيرا ما يجتهد بخراب شرائعنا واضمحلال كل مملكة لا تخضع لنواميسه.
فهز الفيلسوف رأسه وأجاب هكذا: لا تعط صغيا لكل محدث أيها الملك المعظم؛ لأن أكثر خراب العالم ينشأ عن أحاديث ذوي الغرض، وكثيرا ما يتكلم الناس بلغة من لا ينتظر، وحقيقة الأمر هي بخلاف ما بلغ أذنيك؛ لأن العالم لم يدخل في دائرة التهذيب، ولم تقم مملكتكم هذه إلا منذ قيام تلك المملكة القديمة، وإذا كان البعض من رعاياكم ينسبون إليها بعض أراجيف، فهذا ناجم عن الصالح الخصوصي الذي من شأنه أن يهدم بناء الصالح العام.
فأرشق الملك نظره وقال: إن كثيرين من ذوي الصدق والثقة قد أخبروني عن جملة أمور خشنة تواظبها مملكة الروح؛ فهي على ما يقولون: إنها لا تفتر عن بث التصورات الباطلة في عقول الناس لكي تنهض بذلك تصديقات سخيفة تؤسس عليها أقيسة دعواها بالسياسة المطلقة؛ وعلى هذا الأساس قد شيدت قوس نصرها في ساحة العالم ونشرت عليه راية سلطانها. ثانيا: لم يكفها التسلط المطلق على الأنفس والأجساد حتى جعلت تمد سلاسل سطوتها إلى أعماق القلوب أيضا لكي تجتذب السرائر والضمائر إلى ميدان أحكامها وعبوديتها. ثالثا: لا تكل أعوانها وأنصارها من الجولان في كافة المسكونة لأجل زرع الشقاق والفتن حتى إن أكثر الحروب التي جرت في الدنيا كانت مسببة من أطوارهم على ما قيل. فهل يسوغ لنا الصمت عن هذه المملكة إذا كان هذا شأنها؟!
وبعد برهة من السكوت وثب الفيلسوف على قدميه، وأحنى رأسه أمام الملك، وقال: اسمح لي أيها الملك أن أجاوب عظمتك بالتفصيل عما شرفت به آذاني. - قل ما تشاء. - أولا: إن هذه المملكة ما علمت قط - ولن تعلم - إلا بما يقود الناس إلى نوال السعادة الحقيقة كما يظهر لنا ذلك تدقيق الاستقصاء والفحص بدون التفات إلى ما يهذر به أهل الغرض الأعمى. وجميع تعليماتها مأخوذة من الكتاب المعصوم الذي لا ينكره إلا أهل الضلال المبين، ولو لم يرتفع قوس نصرها في ساحة العالم وتخفق رايتها على كافة الأقطار لكان النوع البشري يقع في هاوية الفساد، ويعم الخراب على جميعه، سيما في هذه الأجيال الأخيرة حيثما انتبهت الطباع الخبيثة من غفلات السذاجة لدى ارتفاع نهار التمدن الذي لا يوجد عنده لجم لرد جماح تلك الطباع سوى ما تعلمه مملكة الروح. فإذا رغبت عظمتكم في خرابها تكون هذه الرغبة واقعة على نفس مملكتكم أيضا؛ فلا تنقموا على ذواتكم.
ناپیژندل شوی مخ
ثانيا: إذا كانت تمد سلاسل سطوتها إلى أعماق القلوب فلا يكون ذلك إلا لإيقاع التهديد والخوف على السرائر والضمائر الشريرة لا للاستيلاء عليها، فلو لم تكشف هذه المملكة حجاب غفلات البشر عن المستقبل وتظهر لهم ما يكمن فيه من المخاوف المستعدة لابتلاعهم، من كان يمكنه ردع الفقير عن الغني؟ من كان يستطيع رد جماح المغتال؟ من كان يحسن تقييد رجل السارق؟ من كان يقدر على قمع ثوران الزاني؟ من كان يمكنه قطع لسان شاهد الزور؟ وبالإجمال من كان يمسك العالم البشري عن تمزيق بعضه البعض ويحفظ نظامه من الانتثار؟
ثالثا: إن الإنسان لانطباعه على السوء ينسب جميع المعاصي والقبائح لمن ينهى عنها ويوبخ مرتكبيها؛ وبناء على ذلك قد توهم البعض من الأشرار كون جولان خدام مملكة الروح في الأقطار المسكونة هو لأجل غرس الخصومات والقلاقل بين الناس، مع أن الأمر بالعكس؛ أي إنهم يتهمون دائما بنشر الاتفاق والسكينة في العالم، ولو اضطرتهم الحال أحيانا إلى ترك السلم وإشعال نيران الحروب يجب أن لا تقتصروا على أن تتركوا هذه المملكة وشأنها، بل ينبغي أن تكون مملكتكم موجهة كل قوتها إلى مساعدة مسراها وانتشارها.
على أنه إذا كانت دولتكم قائمة بالأبدان فتلك ثابتة بالأرواح. ومن المستحيل قيام البدن بدون الروح؛ فمن الجهالة تغافل ذاك عن هذه. وإذا خامر أفكاركم الميل إلى محاربتها، فلا يخطر لكم إمكان الانتصار عليها، بل يجب أن تعلموا أنكم سترجعون القهقرى ناكصين على أعقاب الندم؛ لأن يد القدرة ممتدة دائما إلى مساعدتها وإغاثتها، حتى لا يمكن لنفس أبواب سقر أن تقوى عليها. وطالما اجتهدت ملوك قبلكم بدثارها وإسقاطها ولم ينجح لهم اجتهاد، وبمقدار ما كانت الاضطهادات ثائرة عليها كانت هي تزداد قوة وامتدادا إلى أن استغرقت في حضنها العالم وأخضعت كل ملوك الأرض تحت موطئ قدميها. وما ذاك إلا لكون العناية العلوية قد سلمتها زمام السياسة ورافقتها في كل المسالك، ولن تزال هكذا تنمو وتكثر وتشحن الأرض إلى أن تتم المشيئة.
فبعد أن استوفى الملك كلام الفيلسوف ووجده في غاية الصواب، أيقن ببطلان فكره وخطأ اعتماده، وعلم أن ما كان يبلغه البعض من أهالي مملكته ضد مملكة الروح هو ناشئ عن روح التغرض والتعرض. وهكذا عزم على تقديم الإعانة والإغاثة بدل المضاربة والمحاربة، وبعد فترة من الصمت التفت إلى ملكة الحكمة، وقال: إن جميع كلام هذا الرجل صواب، وليس فيه أدنى ارتياب. وكل ما كنا نسمعه كان باطلا ولا حقيقة له، وإذا افترضنا عدم صحته وأشهرنا الحرب، فلا نرجع إلا خائبين، وربما نقع في خطر اضمحلال كل مملكتنا وسياستنا؛ لأن ما يساعده الروح لا يغلبه الجسد.
فأجابت الملكة بتواضع: لا شك فيما تكلم الفيلسوف، ولا ريب أن الاعتماد كان باطلا؛ لأن السياسة العلوية منتصرة دائما على السفلية، وما يكون هابطا من الأعالي يسطو مطلقا على ما ينهض من الأسفل، وما تفعله الصدف لا يغلب مفاعيل القصد. - لعل سياستنا ودولتنا وجدتا على سبيل الصدفة والاتفاق. - إذا تتبعنا شجرة امتداد السياسة والتملك في العالم من حيث الأصل، إنما نراها باسقة من جرثومة المصادفات والتقادير.
فالتفت الملك إلى الفيلسوف، وقال له: ماذا تقول أنت؟
فأطرق الفيلسوف قليلا ثم أجاب: لا شك فيما قالته حضرة ملكة الحكمة. - هات فصل لنا ذلك. - إن تفصيل هذا الأمر يعسر جدا، ولا يوجد نور واضح نستهدي به إلى الحقيقة، وإنما يمكنني أن أورد على ذلك ما أتناوله من الاستقراء والاستنتاج التاريخي. - لا بأس، خذ راحة الجلوس، وقل ما يخطر لك.
فامتثل الفيلسوف الأمر وجلس، وبعد إطراق قليل رفع رأسه، وجعل يقول ...
الفصل الرابع
السياسة والمملكة
ناپیژندل شوی مخ
كما أن نظام هذه الكرة الأرضية لا يمكن قيامه بمجرد حركتها اليومية على نفسها فقط، بل يحتاج إلى الحركة الشمسية حول فلكها أيضا، هكذا الإنسان بما أنه محمول على ظهر تلك الكرة وآخذ جميع مواده ومقوماته منها، فهو تابع بجميع أطواره لأحوالها. فلا يمكنه القيام بمجرد اقتصاره على ذاته فقط؛ وذلك لعدم مقدرته على حفظ نظام حياته الشخصية، بل يحتاج إلى الدوران حول مركز المجموع الإنساني، وكما أن القوة الجاذبة التي تتبادلها جميع الأجرام السماوية لا تسمح بوقوع خلل في نظام الفلك العام، هكذا يحتاج ذلك المجموع الإنساني إلى قوة تحفظه من الوقوع في الخلل والتبديد. وإذا أخذنا نفتش على قوة مثل هذه، فلا نراها سوى في السياسة والشريعة، على أنه بذلك يوجد الإنسان محافظا على التئام شمل جمعيته.
أما ينبوع ظهور السياسة والسيادة والشرائع، فهو جار من تغلب الناس بعضهم على بعض منذ القديم، وهو الأمر الذي أنتج التملك والمملكات على وجه الأرض؛ فلا سبيل لمن يرغب الاطلاع على حقائق الحوادث البشرية وطرائق حدوثها إلا في إطلاق طيور التبصرات الدقيقة لتحوم باسطة أجنحة البحث والاستقصاء على شواجن التاريخ العام، حيثما يشتبك شجر المواقع في منحدرات الأجيال الغابرة وتهوي غدران الوقائع من شواهق القدمية العالية.
فلا ريب أنه إذا تطلبنا معرفة أصل انتماء وانقياد العالم البشري بعضه إلى بعض، وكيفية انتشار السيادة والشريعة فيه، إنما يدعونا الأمر إلى التوغل في أودية التواريخ الفسيحة. وهناك تبرز لدينا عروسة غابة الحقائق من خباء الأزمنة السالفة مقدمة لنا بين أناملها زهرة المراد، فنعلم حينئذ أن الإنسان لم يسد في أول أمره إلا على عيلته ومتعلقاتها فقط، ثم آلت به حركات الظروف إلى أن يسود ويسطو على قبيلة، ثم أفضت به تلك السيادة والسطوة إلى التسلط على شعوب مختلفة وقبائل متنوعة حيثما نودي به: يعيش الملك.
فهات بنا لنهبط بأقدام الاستقراء في أعماق القدمية الغامضة حيثما قد ابتدأت تلك الحركات وأخذت بالصعود إلى قمة التمام الأقصى، حتى إذا ما بلغنا سدرة التتبع مخترقين فلوات الأدهار المتراكمة نجد أنفسنا منتصبين على عرفات البداية؛ إذ نشاهد الإنسان القديم يهرع إلينا شاهرا حسام السيادة هكذا. إنه لما كان النوع البشري تائها في البراري وثقوب الأرض لا يجد له مقرا في بطون الأودية التي كانت تهدده بانقضاض قمم الجبال الشامخة عليه، ولا راحة في فسحات القفر الذي كان يقذفه بثوران العواصف القاصفة، ويلذعه بلهبات الهجير المستعر بين أثافي الجنادل والآكام. ولا مفر من زوابع الجو التي كانت ترشقه بمعجزاتها؛ إذ ترسل بروقها لدى أعينه فتخطفها دهشة، وتطلق صواعقها في آذانه فيرتعد جزعا، وتسكب أنواءها على هامته فيخر ساجدا لديها طالبا رحمة كأنه يطلبها من إله يستحق العبادة، كانت الأرض وقتئذ غير محروثة ولا مزروعة وعديمة كل فلاحة، ومع ذلك فقد كانت تزهو ببساطها السندسي الذي بسطته عليها يد الطبيعة تحت مضارب السحاب منسوجا من كل شجر عظيم ونبات وسيم.
فبينما كان أحد أفراد هذا النوع العظيم مضطجعا على كثيب مرتفع في فلاة قفرة الأديم تحت سماء وضيئة الأثير رائقة النسيم، محفوفا بنسائه وبنيه؛ وإذا بنسمة هبت عليه عند انتصاب عمود الصباح، منطوية على نفحات زهور متنوعة الأطياب، وحاملة صرخات المواشي التي كانت تسبح رب الفلق، فأرشدت لحظاته الزائغة إلى أفق شاسع يترعرع بجلباب خضل الاخضرار، ويترقرق تحت مساحب ذيول الغمام ومساقط أنداء الفجر.
فعندما بدا لديه ذلك المشهد الناضر وثب على قدميه في الحال، وصاح بلفيف عيلته المقرون وهو باسط يد الإيماء قائلا: أما تنظرون ذلك الأفق البعيد الذي يتبين لنا من خلال البزوغ كيف هو بهج المنظر وحسن المظهر؟! قوموا بنا لنذهب إليه ونتجسسه عله يكون صالحا لإقامتنا؛ فنتخلص من هذه الأرض الممحلة وتعب تلك الحياة التائهة، ونتمتع برغيد العيش. فما أتم كلامه إلا ورأى أقدام جميع تبعته تهرول أمامه إلى المحل الموما إليه.
ولم يزل هذا المهاجر يطوي أديم الثرى حاديا رحل رفاقه، آخذا هدير الحيوانات دليلا إلى حيث المناخ، حتى انتهى به المسير أخيرا إلى بقعة رحبة الأرجاء؛ فوقف للحين واستوقف وأطلق نظرات التأمل ليرى جليا ما كان يلحظه عن بعد خفيا، وإذا هو منتصب في غوط قد كسته العناية بوشاح الجمال العجيب، وكللته الطبيعة وأنوار الفصل الرطيب؛ فهناك كانت الشمس تسبل أشعة ضحاها على طلعة ذلك الروض الأزهر فيزدهي بألوان أجنحة الطاووس. هناك كانت الأنداء تتراقص على ثغور الزهر الأنور فتمثل تراقص الحبب في أفواه الكئوس. هناك كان الجو الصافي يتعطر بأنفاس السحر فتهب نسماته ناشرة على الدنيا أطياب البشرى. هناك كانت عرائس الربيع ينثرن من رءوسهن لآلئ النور على حدائق الرياض، ويرسلن نظراتهن الصاحية إلى آفاق الأرجاء الغراء، هناك كانت رءوس أشجار الخمائل تحرق بنيران أنوار المشرق، وأقدامها الثابتة تغرق في مسيل الماء المتدفق، وقدود أغصانها تترنح تحت عقود الزهور لدى خطرات الرياح، وصفحات أوراقها تتلامع بطفحات النور تلامع الأسنة والصفاح. هناك كانت الأطيار تصدح باختلاف الألحان، هناك كانت المواشي تسرح متنوعة الأبدان.
فلما شاهد هذا الإنسان سمو تلك البقعة الزاهرة، وكيف أن الطبيعة قد توجتها بكل أكاليل الجمال، وسكبت عليها مياه البهجة والازدهار، والتفت إلى جمهور ذريته وقال: هو ذا مدبر العالم ومديره قد أرشدنا إلى مقر الراحة في مكان خضرة حيث لا بكا ولا تنهد؛ فهلموا لنمكث ها هنا تحت هذه الأفياء الممتدة بين الزهور والينابيع، ونستريح مما قاسيناه من النصب والوصب في تلك البرية الجدباء. فأحنى كل منهم رأسه امتثالا وساروا جميعا تحت إيعاز إشارته إلى حيث المحط. فكان حلولهم تحت ظلال دوحة لا تلتفحها لفحة الرمضاء، ولا تخترقها أشعة البيضاء.
ولما استروح الكل ريح الارتياح، وطفحت على شفاههم تبسمات الأفراح، جعلوا يتبادلون أحاديث البارحة، ويتذكرون كل غادية ورائحة. أما ربهم فقد كان شاخصا في الأفق حيثما كانت تتراقص بنات الصباح ذوات الأكاليل الذهبية أمام ملكة الشرق الراكبة على عجلة نارية، ومندهشا بما كانت الأنوار ترسمه على وجه الطبيعة ذات الحلل السندسية، وكأن لسان حاله يقول:
هو ذا الصباح بدا وبالأنوار
ناپیژندل شوی مخ
طبعت وجوه الكون في الأبصار
والشمس قد نشرت بيارقها على
قمم الجبال أمام جيش نهار
وعلى عمود الصبح قد شاد الضحى
برج النهار مسلحا بالنار
والشرق أوتر قوس نور وانثنى
يرمي على الدنيا سهام شرار
وغدا يزج على الرياض أشعة
كالنار تحرق أرؤس الأشجار
والفجر مد على السما بحر السنا
ناپیژندل شوی مخ
فهوت دراري الأوج في التيار
والليل مزق ثوبه حزنا على
فقد النجوم وغار في الأغوار
ما زال مد النور يدفع في العلا
جزر الظلال كعاصف لغبار
حتى امتلا جوف الفضاء من الضيا
وزهت بذلك كافة الأقطار
والنهر أصبح بالسنا متموجا
فجرى يرد الضوء للنظار
فترنم القمري فوق غصونه
ناپیژندل شوی مخ
طربا وفاحت نسمة الأسحار
والنسر هب إلى العلا كأنه
يبغي المسير مع السحاب الجاري
ومن الغمام الشمس حين بدت حكت
وجه الحبيبة لاح تحت خمار
وإذ أفاق من غفلات هواجسه نظر إلى أولاده ونسائه، فرآهم جالسين حوله كغروس الزيتون وهم يتعاطون كئوس الحديث، فأخذ يخاطبهم هكذا: ها إن معارض الصدف قد دفعتنا إلى هذا المكان الفاخر، فلنلبث به ولا نحد عنه. وعلى ما أرى إنه لا يعوز شيء ها هنا مما تحتاجه حياتنا؛ فها أشجار تطرح علينا أفياءها وتنثر أثمارها، وينابيع تدفق لنا مياهها، ومواش تسمح لنا بألبانها ولحومها. وإذا أرعد البرد فرايصنا وغرقتنا الأنواء نصنع من صوف هذه الحيوانات ثيابا تدفينا ومضارب تقينا. فاشربوا هنيا وكلوا مريا في جنات تجري من تحتها الأنهار، حيث لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
فولين كان التاريخ يعجز عن تمزيق حجاب القدمية القصوى ليكشف لنا تفصيل ما أحدثه الزمان مع تلك العيلة هناك، إلا أنه مع ذلك قد ينهج لنا طريقا نسير به على قدم الاستقراء إلى حيث نقول: إن هذه العيلة قد اغتنمت لذة العيش في ذلك المحل الخصيب، فتمكنت به آمنة وصارت تعيش بنتاج الأرض وحواصل الحيوانات المنفردة هناك، وتسلك تحت إرشاد الكبير منها خلفا فخلفا، ولم تزل مع تقدم الزمان تنمو وتتسع بانضمام آخرين إليها، حتى صارت جمهورا غفيرا يجري تحت سياسة ذلك الكبير الذي كان يخترع شرايع وقوانين يلتزم باعتناقها كل من هذا الجمهور لدفع وقوع الخلل في نظام الجمعية، وبناء على ذلك سموه أميرا. ولكون المواشي والأنعام قد كثرت أيضا وتعاظمت هناك لتواصل الداخلة وانقطاع الخارجة كما تطلب طبيعة حيوان الكلاء حيث يوجد الإنسان، لم تعد من ثم تلك البقعة كفوا لإشباع الجميع بدون توجيه الاعتناء إليها فصارت القطعان تتشتت؛ ولذلك بادر الناس إلى فلاحة الأرض وتهذيبها، بعد أن تعلموا العملية الإنباتية من نفس الطبيعة؛ لأنهم كانوا يراقبون كيفية هذه العملية من السنابل أو القصلات التي كانت تطرح الحبوب أو البذور في التراب بعد النضج، فتندفن هناك ثم تنهض نامية على شكل الأصل.
ولتسهيل إجراء التقليد للطبيعة بالفلاحة شرعوا يستخلصون المعادن الصلبة من مدافنها، ويعاملونها على النار الموقدة من حطب الغاب، فيسكبونها آلات ويستخدمونها لحرث الأرض وتحريك الأثقال آخذين الثيران أعوانا لهم.
وعلى هذا النمط: أخذوا يتمتعون مع مواشيهم بغلات الأرض وأثمارها مضاعفة، فصاروا يدفعون الأعشار لأميرهم أجرة لما كان يعانيه لأجلهم؛ لأنه كان يحمي برجاله مزارعهم وحقولهم، ويمنع تعدي هذا على أمتعة ذاك، مدافعا عن تخومهم هجوم المغتصب، ساهرا على جميع أحوالهم السياسية بدون أدنى خلل في ترتيب الجمهور، حاكما ما بينهم بالعدل، قاضيا بالإنصاف ناشرا على الجميع راية شريعة واحدة، غير ملتفت إلى الامتيازات الأدبية ما لم يكن لأربابها نفع الصالح العام، مجتهدا بكل إمكانه في راحة شعبه ورفاهيتهم، عارفا أن من يأخذ أجرته يطالب بالعمل، وإذا لم يعمل يسقط من عين ذاته بحيث من لا يؤثر أن يعمل فلا يأكل، عالما أن السياسة أو الرياسة إذا وقعت في غير محلها تطلب من الشعب إنقاذها، غير مأخوذ بخمرة حب الرياسة التي متى خامرت العقل منعت بأبخرتها الكثيفة نفوذ أشعة الصواب فيه. متيقظا لكل واجباته، صاحيا في كل أعماله، ذا سلوك حسن مع الجميع، محبا للغرباء، قادرا على السياسة، لا سكيرا ولا ضرابا ولا طماعا، وبعد مضي فترة من الزمان صار أولئك القوم ينحتون من الجبال حجارة ويشوون من التراب قرميدا ويوقدون من خشب الشجر نارا.
ولما رأى أولئك القوم أن هيئتهم الاجتماعية قد انطوت على كل شروط الأمن والسلام، وصارت حديقة حياتهم تزهو بأثمار الدعة والسكون تحت سياسة أميرهم واعتنائه، أعلنوا جميعهم وجوب الطاعة والانقياد له، دافعين قلوبهم إلى محبته، وصاروا يسمون ذواتهم عبيده، ويحامون عن حقوقه وبيته بكل مقدرتهم، وهو كان يضاعف اهتمامه بجميع صوالحهم العامة والخاصة، غير مفتكر إلا في دوام راحتهم، ولا ملتفت إلا إلى وقايتهم من كل المزعجات، مسميا إياهم شعبه وأولاده.
ناپیژندل شوی مخ
ولما كان لا يمكن لنظر الراوي أن يدرك جليا كيفية امتداد تلك السياسة على العالم، ولا أن يستوضح حقيقة المسلك الذي نهجته لها الأقدار لما يعارضه هناك من ظلمات الأحقاب والأعصار، وجب عليه حينئذ أن يستخدم العقل كمصباح لكي يمكن لأعينه بواسطة أشعة الانتقالات الفكرية أن تنفذ في تلك الظلمات الدامسة فتفوز بمشاهدة ما وراء ذلك.
فهلم إذن يا أيها الراوي واتل علينا بقية ما جرى هنالك، وأخبرنا عما عثرت عليه من المواقع بعد أن استطلعت العقل نيرا في أوج الغوامض.
إنني بعد أن أولجت نظري طويلا في بحر زاخر من الظلام الهائل حيثما كانت أمواج التيه والمعاثر تتلاطم تحت مهب عواصف الأيام والليالي، أنفذته أخيرا من هذه اللجج العميقة إلى سهل فسيح الأمد يعانق بباع نهايته أفق البداية، وإذا مرسح عظيم قد انفتح أمامي؛ وإذ كنت عاجزا عن استجلاء الأشباح اللاعبة فيه تماما لشدة توغلهم في عباب القدمية، وضعت على أعيني نظارة الاستقراء وجعلت أتأمل.
فرأيت جموعا عديدة من الناس قائمين بمهمات عظيمة، ومقيمين ضوضاء حافلة وهم يصيحون بعضهم على بعض قائلين: هلموا نبتني لأميرنا برجا يبلغ رأسه إلى السماء؛ فكان البعض يقطع من الجبال حجارة، والبعض يصنع طينا، وآخرون يشوون لبنا، وغيرهم يسرد ترابا، وما برحوا يحفلون بموسم البنيان حتى انتصب برج عظيم وصارت تخفق عليه راية أمير القبيلة.
وهكذا شرع كل من الناس يبني له بيتا ولمواشيه مذودا حتى قامت مدينة عظيمة المشاد، يضج في شوارعها أفواج وافرة من العباد. ولما صارت الأسواق تطن بمطارق معامل المعادن، والشوارع ترن بأصوات الصنائع والأشغال، والساحات ترتجف تحت أقدام المحافل والمعامع، والمراسح تتموج لدى لطم أمواج الأصوات الاحتفالية الآتية من أفواه آلات الطرب، صار يدوي في آذان الشعوب المتفرقة صوت ذلك الضجيج المرتفع واللغط الهادر، فكانوا يتقاطرون أجواقا أجواقا، ويخيمون في ظلال المدينة طالبين من سكانها أن يقبلوهم في الجوار لكي يتخلصوا من مشاق البادية ويفوزوا براحة الحضر.
وهكذا كانت تلك المدينة تقبلهم بكل إكرام على شرط أن يخضعوا لأحكامها وشرائعها ويؤدوا الأعشار لأميرها؛ فلم تلبث أن تعاظمت جدا، وتضاعفت مساحة وسكانا، وصارت محاطة بأسوار رفيعة وحصون منيعة، حتى أضحت مركز رهبة يدور عليه احترام القبائل وموضوع عظمة يحمل عليه حسد البشر.
وبينما كانت هذه المدينة الزاهرة رافلة بأذيال اليمن والكرامة، مختلة بسربال الهدو والسلامة، تطفح في حاناتها كاسات السرور، وتشدو في حدائقها بلابل الحبور، وإذا عجاج يثور عن بعيد، ونقع غبار يتصاعد إلى الجو، حتى عاد يظن أن زوبعة شديدة قد نهضت من جوف الثرى وهمت أن تكحل أعين السماء بإثمد تراب الأرض، وكانت أصوات كهدير هجمات المياه تهب من تلك الجهة، فصليل تمازجه قعقعة اللجم وصهيل تتخلله نقرات حوافر الخيل. وما كان إلا كتردد الفكر بين شك ويقين، حتى أسفر ذلك الغبار عن جيش جرار يتموج على الصهوات ويفري بطون الفلوات.
فلما نظرت عينا الأمير ذلك العجاج الثائر وسمعت أذناه تلك الأصوات الضاجة، لم يعد عنده ريب أن عدوا سمع بجلال مدينته فدفعه لهيب الحسد إلى إشهار الحرب وإيقاع الحصار.
ولما ثبت عنده ذلك الغضب المقبل، أخذته ثورة الحمية ودارت في رأسه حرارة الوطن، ونادى في جميع المدينة معلنا صوت الحرب حيثما صارت كافة الأهالي فريسة ترتعد بين مخالب الجزع والهلع لما عاينوا مما لم يعاينوا؛ فأوعز إليهم أن يجتمعوا في إحدى الساحات الفسيحة رؤساء ومرءوسين، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، أغنياء وفقراء، بدون أدنى امتياز أو مميز؛ لكون الجميع يلزمهم أن يحاموا عن حقوق الوطن ويقتسموا مطاليب محبته سوية لوجوب حقه على كل من لا ينكر عليه حق التمتع بخيراته.
وعندما تم الاجتماع وشملت النخوة كل الجموع وقف ذلك الأمير على محل عال وأنشأ يقول:
ناپیژندل شوی مخ