به السعد يغدو والنحوس تروح
فلا يسمح التمدن بالدخول تحت لوائه لأحد ما لم ينصب في هيكل قلبه تمثال المحبة مقدما بخور الأفكار الطيبة والعواطف الجيدة وصارخا بلسان الروح هكذا: ها هنا يجلس التمدن على عرش الكمال فتتخذق أمامه بيارق الخشونة ويمزق التوحش ثوبه. هنا تخب بلابل السكون على منابر شجر السلامة فيصمت صياح القلق ويخفي الإضراب صوته، هنا ترن صنوح الأفراح وتضرب طبول البشائر فتخرس صرخات الأكدار ويتلاشى ذوي المصائب. هنا يشرق صباح الأعضاء ويتلامع شعاع التغاضي فيغور ديجور الضغينة وتنجاب الظلمة عن الحق، هنا يتبدد دخان الانتقام ويتقشع ضباب الغضب فيتضح أثير الصفح ويتلألأ ضوء الرضا، هنا تنفطر صخور القساوة وتمور جبال الجفاء فيجري سلسبيل الشفقة وتتمهد سهول الوفاء، هنا ثغر الابتسام ويضحك محيا الندى فيجم جبين الاكتئاب ويبكي وجه القتار، هنا يفرع غرس التمني، هنا يثمر غصن الرجاء، هنا تدور الهيئة على مركز التمام والكمال، هنا ينثل عرش العبودية وترفع الحرية بيارقها.
فإذا كان يوجد للمحبة أثمار طيبة المخبر وشهية المنظر كهذه الثمرات، فكيف لا تحسب إذن دعامة راسخة للتمدن؟ نعم إن التمدن لا يستغني عن هذه الدعامة أصلا، ولا يمكن ثباته بدونها كما لا يمكن وقوف قناطر الهيئة إلا عليها، وبعد ذلك فلا بد من وجوب حد للمحبة لا تتجاوزه لئلا تجانس ضدها في النتائج القبيحة، على أنه ولو كانت المحبة تحسب روح الانتظام البشري وحياته، لكن يوجد للإفراط فيها كثير من النتائج المضرة؛ وذلك كمعارضة السلامة مثلا لمشروعات الحرب حيثما تكون هذه المشروعات واجبة لإصلاح حالة ما أدبية. وكالمعاملة بالشفقة إذ تكون الصرامة واجبة وكإيقاع الأعضاء والصفح موقع الانتقام الذي ربما يوجد لازما للتعليم، وكالإسفار عن الرضا بينما تكون لوائح الغضب مطلوبة للتهديد.
هذه عدا ما ينتج عن إفراط المحبة الخصوصية في قلب شخص خصوصي لمحبوب ما فإنه وإن كان أصلا تتفرع عنه جملة غصون صالحة لتمدن صاحبه كتلطيف الروح وتهذيب الطبع وترفيع العقل والذوق وحسن المعاشرة، إلا أنه إذا بلغ أشده يترك وراءه جملة آفات تنكد عيش المعترى به وتسلبه كل راحته كقهر الحرية الذاتية مثلا، والاضطرار إلى البطالة، وإهانه الدراهم التي يدعوها البعض إله العيشة، وتسليم النفس إلى تأثير ثوائر الانفعالات الشاقة وتعاقبها؛ كالحزن فالفرح، والخوف فالجراءة، والتعب فالراحة. وهذا ما خلا التأثيرات الكثيرة التي تفترسه على ممر الأوقات، فلا يبرح قلبه في حضرة المعشوق هدفا لنبال العيون وموقد الجمرات الخدود وموقعا لرمح القوام وقدرا لغليان ماء المحيا. ولا تزال روحه في الغيبة أتونا لارتفاع لهيب الأشواق والأتواق، ومحلا لتناثر شرر الأفكار والتصورات، وميدانا لمسابقة خيول الأميال والعواطف؛ فيجيء الليل سهرا وأرقا، ويقضي النهار تعبا وقلقا؛ إذ يرى ذاته ضاربا في أودية الوحدة والانفراد حيثما يشاهد قلبه طائرا على أجنحة شياطين الوساوس والأوهام، خائضا في بحور الآمال والمطامع، وهكذا يرى العالم بأسره كأنه مرسح للغرام ويخال الكائنات جميعها تصور لديه ملعب الهوى وتتنفس بأماراته وخواطره؛ فيظن الشمس ممثلة لديه أشعة جمال الحبيب، ويحسب القمر رسم وجهه مطبوعا في مرآة الفلك ويخال الأهلة قلامات من ظفره، ويزعم الكواكب أعينا ترشق نظرات الرقيب، ويفترض الجبال منطوية على معنى أثقال الجوى، أو يظنها أوتاد التمكين خيمة السماء على عالم الهوى، ويرى السحاب سارقا دموعه والضباب ممثلا ولوعه. لا بل يرى طوفان نوح كعبرته ونار الخليل كزفرته، ويتخذ الريح رسولا لتبليغ الأشواق، ويرى الماء مقلدا له أنين العشاق، ويعاين الأغصان مترنحة بأعطاف المحبوب، والأطيار شاكية لوعة فراقه، والأزهار نافحة بعطر نفثاته، والغزلان تغزل بنظراته وتفك طلاسم لفتاته ونفراته. وهاك هذا القصيد شرحا للعشق العنيد:
ماذا ترى في العشق ماذا تزعم
يا أيها الصب الكئيب المغرم
هل فيه غير المؤلمات فدونه
مقل تسيل وأكبد تتضرم
إني نفقت العمر في سوق الهوى
بخسا ولم أربح سوى ما يؤلم
ناپیژندل شوی مخ