طربا وفاحت نسمة الأسحار
والنسر هب إلى العلا كأنه
يبغي المسير مع السحاب الجاري
ومن الغمام الشمس حين بدت حكت
وجه الحبيبة لاح تحت خمار
وإذ أفاق من غفلات هواجسه نظر إلى أولاده ونسائه، فرآهم جالسين حوله كغروس الزيتون وهم يتعاطون كئوس الحديث، فأخذ يخاطبهم هكذا: ها إن معارض الصدف قد دفعتنا إلى هذا المكان الفاخر، فلنلبث به ولا نحد عنه. وعلى ما أرى إنه لا يعوز شيء ها هنا مما تحتاجه حياتنا؛ فها أشجار تطرح علينا أفياءها وتنثر أثمارها، وينابيع تدفق لنا مياهها، ومواش تسمح لنا بألبانها ولحومها. وإذا أرعد البرد فرايصنا وغرقتنا الأنواء نصنع من صوف هذه الحيوانات ثيابا تدفينا ومضارب تقينا. فاشربوا هنيا وكلوا مريا في جنات تجري من تحتها الأنهار، حيث لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون.
فولين كان التاريخ يعجز عن تمزيق حجاب القدمية القصوى ليكشف لنا تفصيل ما أحدثه الزمان مع تلك العيلة هناك، إلا أنه مع ذلك قد ينهج لنا طريقا نسير به على قدم الاستقراء إلى حيث نقول: إن هذه العيلة قد اغتنمت لذة العيش في ذلك المحل الخصيب، فتمكنت به آمنة وصارت تعيش بنتاج الأرض وحواصل الحيوانات المنفردة هناك، وتسلك تحت إرشاد الكبير منها خلفا فخلفا، ولم تزل مع تقدم الزمان تنمو وتتسع بانضمام آخرين إليها، حتى صارت جمهورا غفيرا يجري تحت سياسة ذلك الكبير الذي كان يخترع شرايع وقوانين يلتزم باعتناقها كل من هذا الجمهور لدفع وقوع الخلل في نظام الجمعية، وبناء على ذلك سموه أميرا. ولكون المواشي والأنعام قد كثرت أيضا وتعاظمت هناك لتواصل الداخلة وانقطاع الخارجة كما تطلب طبيعة حيوان الكلاء حيث يوجد الإنسان، لم تعد من ثم تلك البقعة كفوا لإشباع الجميع بدون توجيه الاعتناء إليها فصارت القطعان تتشتت؛ ولذلك بادر الناس إلى فلاحة الأرض وتهذيبها، بعد أن تعلموا العملية الإنباتية من نفس الطبيعة؛ لأنهم كانوا يراقبون كيفية هذه العملية من السنابل أو القصلات التي كانت تطرح الحبوب أو البذور في التراب بعد النضج، فتندفن هناك ثم تنهض نامية على شكل الأصل.
ولتسهيل إجراء التقليد للطبيعة بالفلاحة شرعوا يستخلصون المعادن الصلبة من مدافنها، ويعاملونها على النار الموقدة من حطب الغاب، فيسكبونها آلات ويستخدمونها لحرث الأرض وتحريك الأثقال آخذين الثيران أعوانا لهم.
وعلى هذا النمط: أخذوا يتمتعون مع مواشيهم بغلات الأرض وأثمارها مضاعفة، فصاروا يدفعون الأعشار لأميرهم أجرة لما كان يعانيه لأجلهم؛ لأنه كان يحمي برجاله مزارعهم وحقولهم، ويمنع تعدي هذا على أمتعة ذاك، مدافعا عن تخومهم هجوم المغتصب، ساهرا على جميع أحوالهم السياسية بدون أدنى خلل في ترتيب الجمهور، حاكما ما بينهم بالعدل، قاضيا بالإنصاف ناشرا على الجميع راية شريعة واحدة، غير ملتفت إلى الامتيازات الأدبية ما لم يكن لأربابها نفع الصالح العام، مجتهدا بكل إمكانه في راحة شعبه ورفاهيتهم، عارفا أن من يأخذ أجرته يطالب بالعمل، وإذا لم يعمل يسقط من عين ذاته بحيث من لا يؤثر أن يعمل فلا يأكل، عالما أن السياسة أو الرياسة إذا وقعت في غير محلها تطلب من الشعب إنقاذها، غير مأخوذ بخمرة حب الرياسة التي متى خامرت العقل منعت بأبخرتها الكثيفة نفوذ أشعة الصواب فيه. متيقظا لكل واجباته، صاحيا في كل أعماله، ذا سلوك حسن مع الجميع، محبا للغرباء، قادرا على السياسة، لا سكيرا ولا ضرابا ولا طماعا، وبعد مضي فترة من الزمان صار أولئك القوم ينحتون من الجبال حجارة ويشوون من التراب قرميدا ويوقدون من خشب الشجر نارا.
ولما رأى أولئك القوم أن هيئتهم الاجتماعية قد انطوت على كل شروط الأمن والسلام، وصارت حديقة حياتهم تزهو بأثمار الدعة والسكون تحت سياسة أميرهم واعتنائه، أعلنوا جميعهم وجوب الطاعة والانقياد له، دافعين قلوبهم إلى محبته، وصاروا يسمون ذواتهم عبيده، ويحامون عن حقوقه وبيته بكل مقدرتهم، وهو كان يضاعف اهتمامه بجميع صوالحهم العامة والخاصة، غير مفتكر إلا في دوام راحتهم، ولا ملتفت إلا إلى وقايتهم من كل المزعجات، مسميا إياهم شعبه وأولاده.
ناپیژندل شوی مخ