هناك تحوم عقولنا على كل حادثة طبيعية وظاهرة أدبية، فترتقب طيور السماء متبصرة باجتماعاتها وانفراداتها واختلاف أصواتها وحركاتها، وتتبع مسير وحوش الغاب متأملة في فرائسها المرتعدة وحروبها المتقدة، وتهب مع الرياح الأربع إلى حيث لا يعرف إلى أين ذهابها ولا من أين إيابها. وتقف حائرة عند نهوض الزوابع وانتشاب الأنواء وتراكض البروق وانقضاض الصواعق وهدير الرعود، حيثما لا يدرك الباحث من الأسباب سوى ما يظن به ولا يعلم من الحقائق سوى ما يراه ماديا. فيغرق في بحور الاندهاش والذهول ملتطما بأمواج الهذيان والبحران،
5
مأخوذا بخمرة الهواجس والأوهام إلى أن يصبح كريشة تتجاذبها رياح الأحكام المضطربة، ويأخذ في تصوير الغيوم إلى أشكال وصور تتجدد على ممر الدقائق والأوقات خالعة كل هيئة حقيقية.
هناك نهجس بهذه المواد الكونية من أسمى جرم إلى أدنى ذرة، باحثين عن أصولها وفروعها وعلاقاتها ونسب بعضها إلى بعض وغاياتها وأحكامها، ناظرين في كل من أجناسها حركة متوزعة على سائر أنواعه تحت ناموس المناسبة. فالبعض يجمد متصلبا، والبعض يسيل مائعا، والبعض ينتشر طائرا، وهذا ينمو بلا حياة ولا انتقال، وذا يتمتع بالنمو والحياة ولا يتحرك، وذاك يفاخرهما بأسلوب نموه وحياته وحركته المطلقة والإرادية.
هناك نتصفح هذه الأشياء وتلك الحوادث فنقول إن كلا منها له حياة خصوصية تقوم بتدبير وظائفه وحركاته الذاتية، وحياة عمومية تشركه مع بقية الأشياء وتربطه بعللها. ثم لا نرضى فنقول إن الكهرباء هي السبب الوحيد لجمع وتحريك كل العناصر بما أنها روح العالم. ثم لا نرضى فنقول إن سيال الحرارة هو عنصر جميع الحركات والمتحركات، وعليه مدار سببية الحياة والتقنم. ثم لا نرضى فنقول إن النور ذاته هو القائم بإحياء وتحريك كل مادة مؤلفة أو بسيطة. ثم لا نرضى فنقول إن شريعة التثاقل التي تثبت أقدام الأكوان في مراكزها وأوضاعها وترشد جميع خطواتها إلى سواء السبيل هي هي ذاتها سبب القيام العام ومبدأ الحركة. ثم لا نرضى فنقول إن الفضاء الغير المتناهي هو ينبوع البداية والنهاية، ومنه أخذت كل الأصول العالمية وإليه سترجع ثم لا نرضى فنقول إنه يوجد رب متنزه عن إدراك الأفهام، ذو عناية دائما بتدبير عموم تلك المخلوقات، ومنه الحياة كانت وكل به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كون، وهو محرك الحركات وأصل الكائنات، وإليه مصير الأشياء جميعها، لا إله إلا هو ولا معبود سواه. فحالا نرضى بهذا المقال ونسحب جميع أفكارنا من مواقع الأوهام والوساوس الغريبة، معانقين عروسة الحقائق وبكر كل برية متمتعين بلذة الحياة وحرية المعيشة.
وبينما كان الفيلسوف مواصلا خطابه، كان الملك والملكة شاخصين فيه بأعين يخامرها الذكاء والإصغاء، مستوعبين معانيه بكل اتضاع ودعة، وغب نهاية مقالته جعلت الملكة تقول له هكذا: إننا قد عرفنا عدم إمكان وجود حرية للإنسان، بل ولا لسائر الأنواع، وإن جميع الأشياء لكونها مرتبطة بخدمة بعضها البعض، فهي مقيدة أيضا بعبودية بعضها للبعض، ولكن عندما تكون هذه العبودية غريبة عن الفائدة أو مضرة لصالح الأمور، فالاجتهاد بإبطالها ضرب من اللزوم وقانون صوابي؛ وبناء على ذلك: عندما نظرنا دولة الاستعباد تتداخل ما بين شعوبنا تحت طرق مختلفة حيثما لا ينجم عن هذا التداخل سوى الإضرار بهم وفساد طبائعهم السليمة، نهضنا حالا ضدها وسطونا عليها سطوة إسكندر على داريوس وسجناهم كما علمت.
أما حصول الشخص على لذة الحياة معتوقة من كل حاكم وصافية من كل مكدر، فهو أمر لا يمكنه البتة ولو تطبع على تتبع تلك النواميس التي ذكرتها، والتي تصعب في الإجراء بمقدار سهولتها في التصور حسب كل الأعمال الفلسفية؛ لأن التطبع لا ينقلب طبعا، وما كان هكذا فهو غير لذيذ عند الطبيعة وبعيد عن السهولة، وإذا أمكن الإنسان السلوك - كما أشرت - فلا يكون ذلك إلا لمن وسمته العناية بسمة الانفراد وهذا شاذ، وليس حكم الشاذ إلا الحفظ وعدم القياس عليه.
وعلى كل حال إن الإنسان إذا كان متعبدا لأحكام دولة التمدن والصلاح، يكون داخلا في حقيقة الحرية التي تطلبها الواجبات الإنسانية، على أنه إذا كان التعبد لازما فتلك الحرية ملزومة؛ لأن اعتناق الإنسان واجباته لا يدعى عبودية، ولكن إذا كان الشخص معتوقا من رق تلك الدولة فهو يكون بالضرورة داخلا في عبودية ضدها تبعا لمقتضى الحال.
ولكون الدخول في أحكام دولة الخشونة والبربرية يفسد أحوال البشر وينثر نظام جمعيتهم، نازعا عنهم كل الصفات الحميدة والسلوك السليم - وذلك هو الأمر الذي لا يوجد أضر منه لمملكة التمدن والصلاح - وجب علينا دفعا لوقوع البلبال والوبال فيما بين رعايانا أن نثور على تلك الدولة الآبقة التي إذا لم نمح آثارها لم تقم حرية الإنسان المطلوبة أصلا، وهي الحرية التي لا يمكنك إنكارها مهما رددت الهواجس والأوهام الفلسفية التي لا وجود لها إلا في العقل الذي قد يخطر فيه ما لا حقيقة له في الظاهر.
فأردف الفيلسوف كلامه قائلا: أنا لم أمنع إمكان الحرية الأدبية بل الطبيعية، ولا شك إنا إذا أطلقنا أنظارنا إلى عالم الآداب وتبصرنا بشرائع الحكمة، نعاين أقواما أحرارا وآخرين عبيدا حسبما تقتضي أحوالهم وكيفياتهم. وعلى كل حال إن الاجتهاد في عتق العبيد وهدم مباني العبودية هو أمر ضروري وواجب.
ناپیژندل شوی مخ