184

العالم مخلوق بتدبير كامل وتقدير شامل وحكمة بالغة وقدرة غير متناهية.

** الثالثة

الملائكة وما فيها بقعة عصي الله فيها ، ولما أتى آدم عليه السلام بتلك المعصية أهبط من الجنة وقال الله تعالى : لا يسكن في جواري من عصاني. وقال تعالى : ( وجعلنا السماء سقفا محفوظا ) [الأنبياء : 32] وقال : ( تبارك الذي جعل في السماء بروجا ) [الفرقان : 61] وورد في الأكثر ذكر السماء مقدما على ذكر الأرض. والسماويات مؤثرة والأرضيات متأثرة ، والمؤثر أشرف من المتأثر. وقال آخرون : بل الأرض أفضل لأنه تعالى وصف بقاعا من الأرض بالبركة ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا ) [آل عمران : 96] ( في البقعة المباركة ) [القصص : 3] ( إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ) [الإسراء : 1] ( مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها ) [الأعراف : 137] يعني أرض الشام. ووصف جملة الأرض بالبركة ( وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام ) [فصلت : 10] فإن قيل : وأي بركة في المفاوز المهلكة؟ قلنا : إنها مساكن الوحوش ومرعاها ، ومساكن الناس إذا احتاجوا إليها ، ومساكن خلق لا يعلمهم إلا الله تعالى ، فلهذه البركات قال تعالى : ( وفي الأرض آيات للموقنين ) [الذاريات : 20] تشريفا لهم لأنهم هم المنتفعون بها كما قال : ( هدى للمتقين ) وخلق الأنبياء من الأرض ( منها خلقناكم ) [طه : 55] وأودعهم فيها ( وفيها نعيدكم ) [طه : 55] وأكرم نبيه المصطفى فجعل الأرض كلها له مسجدا وطهورا. ولما خلق الله الأرض وكانت كالصدفة والدرة المودعة فيها آدم عليه السلام وأولاده ، ثم علم الله أصناف حاجاتهم قال : يا آدم لا أحوجك إلى شيء غير هذه الأرض التي هي لك كالأم فقال : ( أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا ) [عبس : 25 ، 26] ( وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ) [إبراهيم : 32] يا عبدي إن أعز الأشياء عندك الذهب والفضة ، ولو أني خلقت الأرض منهما هل كان يحصل منها هذه المنافع؟ ثم إني جعلت هذه الأشياء في الدنيا مع أنها سجن لك ، فكيف الحال في الجنة؟ فالحاصل أن الأرض أمك بل أشفق من الأم ، لأن الأم تسقيك نوعا واحدا من اللبن ، والأرض تطعمك ألوانا من الأطعمة. ثم قال : ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ) [طه : 55] معناه نردكم إلى هذه الأم وهذا ليس بوعيد ، لأن المرء لا يتوعد بأمه وذلك لأن مقامك من الأم التي ولدتك أضيق من مقامك من الأرض ، ثم إنك كنت في بطن الأم الصغرى تسعة أشهر فما مسك جوع ولا عطش ، فكيف إذا دخلت بطن الأم الكبرى؟ ولكن الشرط أن تدخل بطن الأم الكبرى كما كنت في بطن الأم الصغرى ، ما كانت لك زلة فضلا من أن يكون لك كبيرة ، بل كنت مطيعا لله ، فحيث دعاك مرة بالخروج

مخ ۱۸۶