الأشكال الملونة هي وسيلة التصوير، فأي جوانب الطبيعة يمكن تمثيلها، خير تمثيل بهذه الوسيلة من وسائل التعبير؟ فانظر إلى الأشكال الملونة: ما هي وكيف تكون في الطبيعة؟ إن المصور إذ يتناول لوحته، غايته المنشودة أن يثبت على مسطحها أشكالا ملونة جنبا إلى جنب، فالمادة التي يستخدمها المصور تتألف من أجزاء يقع بعضها إلى جانب بعض في حيز من مكان، فهذا التجاور المكاني خاصتها الطبيعية وشرطها اللازم، ودع مصورنا لحظة وجل ببصرك في جوانب الطبيعة، التي قد هم ذلك المصور أن يمثل منها جانبا، أو إن شئت فقل الطبيعة، التي هم المصور أن يختار منها موضوعا لفنه، فماذا في الطبيعة يجاور بعضه بعضا في حيز من مكان؟ هي «الأجسام» فكل ما في الطبيعة مما يتجاور في المكان نسميه «أجساما»، فلو اختار المصور أجساما يمثلها في صورته - أجساما حية أو جامدة - فقد اختار من الطبيعة موضوعا لفنه شديد الصلة بوسيلته في التعبير؛ لأن ظروف الأجسام في الطبيعة وظروف الأشكال، التي يثبتها على لوحة واحدة لا خلاف بينها، وأعني بها التجاور في المكان. خير ما تستطيع الأشكال الملونة المتجاورة على لوحة الفنان، أن تمثله من الطبيعة أشياء يجاور بعضها بعضا في المكان، ومن ثم رأيت المصور يختار الأجسام موضوعا لفنه، أو بعبارة أخرى فإن موضوع الصور الفنية كلها إما صور لأشخاص، أي صور لأجسام حية، وإما صور لمناظر من الطبيعة، أي صور لأجسام جامدة. وليس أدل على ذلك من جولة في أي متحف شئت من متاحف الفنون، فلن ترى هناك إلا صور أشخاص أو صور مناظر طبيعية، وإن صادفت بينها قليلا من الشذوذ، لا يستقيم مع القاعدة، فذلك شذوذ في الظاهر كما سنبين بعد حين.
وانظر إلى الشعر على نحو ما نظرت إلى التصوير فماذا ترى؟ انظر إلى المادة التي يتخذها الشعر وسيلة لتعبيره، وإلى الظروف التي تحيط بتلك المادة شرطا لوجودها، ولك أن تقرر بعد ذلك أي جانب من الطبيعة يقع في هذه الظروف عينها، فيكون ذلك الجانب هو موضوع الشعر، فالخامة التي يتكون منها الشعر ألفاظ، لكن الألفاظ لا تقوم في مكان كما تقوم الأجسام. نعم تقع اللفظة المكتوبة أو المطبوعة، في حيز مكاني من الصفحة التي كتبت عليها أو طبعت، لكن هذا الرمز المرقوم على الصحيفة ليس هو ما نقصده بالألفاظ؛ إذ نقول إنها أداة الشاعر. الألفاظ - كما يستخدمها الشاعر - أو كما تستخدمها أنت ويستخدمها كل إنسان للتعبير عن خواطره ومشاعره - ليس لها شيء من خصائص المكان، هي حركة عقلية ونشاط ذهني، فهي لا تملأ حيزا من مكان ، وإنما تشغل جزءا من الزمان، اللفظتان أو الألفاظ لا تتجاور في مكان، لا يقف بعضها إلى جانب بعض كالأشجار والأحجار، لكنها تتعاقب بعضها في إثر بعض في فترة من زمان، انطق بالعبارة فلن تجد لعبارتك مساحة، ولكنك ستجد لها زمنا قيلت فيه، وإذا ما نطقت بالكلمة الثانية فقد ذهبت الأولى إلى العدم، أو قل أصبحت ماضيا، ويستحيل عليهما معا أن يقفا جنبا إلى جنب كما تفعل الأجسام. وأحسبك الآن تستطيع في غير عسر، أن تحزر أي جوانب الطبيعة، يخضع لنفس الظروف التي تخضع لها الألفاظ، حتى تتخذ منه موضوعا لها، أي الأشياء في الطبيعة لا يملأ حيزا من مكان، ولكنه يستغرق فترة من الزمان؟ أي الأشياء في الطبيعة تتعاقب ولا تتجاور؟ هي «الأفعال» ولا فرق بين أن يكون الفعل حركة في جماد أو في كائن حي، لا فرق بين أن يكون الفعل لإنسان أو زهرة، لماء متدفق أو ريح عاصفة، فالشعر - إذا - بطبيعة مادته الخامة التي يتألف منها - وهي الألفاظ - أنسب ما يكون وسيلة لتصوير الأفعال، فهو في ذلك المجال أبرع وأروع ألف مرة من تصوير الأجسام. وكما أشرنا عليك بجولة في أي متحف شئت من متاحف الصور؛ لترى صدق ما زعمناه من أن روائع التصوير، إنما تمثل أجساما حية أو جامدة، فكذلك نشير عليك الآن أن تستعيد ما شئت من قصائد الشعر؛ لتعلم أن مجال الشعر تصوير الحركة والفعل.
وهنا نورد ذكر ما قد يبدو لك شذوذا، لا يطرد مع القاعدة ولا يستقيم، فكأني بك معترضا تقول: أليس من الشعر ما يصور أجساما ولا يمثل فعلا؟ فما هذا «الشعر الوصفي» إذا، إن لم يكن وصفا لمناظر من الطبيعة وقد سميتها أجساما؟ لكن هيا نمعن في النظر، أيستطيع الشاعر حقا أن يصور منظرا من مناظر الطبيعة، بالمعنى الحرفي الذي يفهم من هذه العبارة؟ إن المصور في وسعه أن ينشر لوحته، فيثبت القمر في ركن من أركانها، وقد أحاط به الغيم، ويضع تحته الأشجار، وفي ظلها يقيم دارا ويشق طريقا ويجري جدولا، حتى إذا ما فرغ كانت الصورة كلها منشورة أمام أبصارنا، قمرا وسحابا وشجرا وبيتا وطريقا وجدولا، متجاورة كلها في مكان واحد وفي لحظة واحدة. أما الشاعر فما شأنه؟ يصف القمر في البيت الأول من قصيدته، والسحاب في بيته الثاني، والأشجار في الثالث وهكذا، حتى إذا ما جاء إلى وصف الجدول في بيته الأخير، فأين ذهب القمر؟ لقد انحدر إلى غروب! لقد بات ماضيا؛ وذلك لأن الوسيلة التي يستخدمها الشاعر في تصويره - وهي الألفاظ - لا تقوم جنبا إلى جنب في مكان واحد، وفي برهة واحدة، إنما تتعاقب خلال فترة من الزمن، وهي إذ تتعاقب على هذا النحو، لا تبلغ آخرها إلا وقد ذهب عنك أولها، فبديهي أن الشاعر لا يستطيع أن ينافس المصور في تمثيل المناظر الطبيعية، ليس في وسع الشاعر أن يصور القمر مستقرا في السماء، كما يصوره زميله المصور. أما إن أراد غروبه - مثلا - فها هنا تراه يجول في ميدانه؛ لأن الغروب فعل وحركة، وليس هو بالحالة المستقرة الثابتة.
ومع ذلك كله فلسنا ننكر - ولا نريد أن ننكر - أن القصائد الوصفية جزء من الشعر؟ كلا، بل لا تكاد تجد قصيدة واحدة تخلو من الوصف في بعض أجزائها، لكنه - في الأعم الأغلب - لا يكون وصفا بمعنى التصوير، فقد يبدو لك الشاعر وكأنما يصف منظرا كالذي أسلفنا، لكنه في حقيقة الأمر لا يريد أن يمثل لك مجموعة الأجزاء كلها، متماسكة في منظر واحد، فهو في ختام قصيدته لا يرجو أن يضع أمام عينيك في آن واحد ما هنالك من قمر وشجر وجدول، هو لا يريدك على أن ترى القمر وأنت تنظر إلى الجدول، وإنما يطالبك أن تحتفظ بذكرى القمر فتعكس ضوءه على الجدول إذ ترنو إليه. ولا شك أن القمر في موقف كهذا لم يعد قمرا، لكنه ذكرى، وأما ضوءه معكوسا على صفحة الماء «ففعل» يناسب الشعر، فليس الشاعر في قصيدة كهذه يصور منظرا معينا من مناظر الطبيعة، لكنه يمثل أثر القوى الطبيعية بعضها في بعض، أو بعبارة أخرى يمثل أفعالا. قد يصف الشاعر قرية وحقولها، لكنه فيما يفعل لا ينافس المصور في عمله، وإنما يتخذ من منظر الدور والحقول بطانة، يقيم عليها ما يريد من أفعال وعواطف، مما تضطرب به حياة الناس في القرية، ما تجيش به صدورهم. والشاعر قد يصف لك نهرا وزهرا، فيخيل إليك أنه قد اختار لقصيدته موضوعا، كالذي يقع في نطاق المصور، لكنك إن أمعنت النظر، ألفيت الشاعر يصف الأجسام متحركة، فيصور النهر دافق الموج مسموع الصوت، والزهر راقصا مع الريح ناشر العطر. وتدفق الموج وانبعاث الصوت ورقص الزهر ونشر العطر «أفعال»، ويستحيل على الشاعر الحق أن يريد الأجسام لذاتها، كما هي جامدة في الطبيعة، إنه يريدها كما تستعيدها الذاكرة، ليعيد وضعها وترتيبها كما يحلو لنفسه، وهذا التشكيل الجديد لأجسام الطبيعة «فعل»، يدخل في نطاق الشعر والشاعر. يريد امرؤ القيس أن يصف جواده، فلا يصف فيه إلا حركة و«فعلا»:
مكر مفر مقبل مدبر معا
كجلمود صخر حطه السيل من عل
وحتى إن وقف عند بعض أجزاء الجسم، يصفها ويصورها فلكي تعلق بذهنك ذكراها، وتتخيلها وهو في فعله وحركته، وكذلك قد يصف الشاعر منظرا ليستثير به الذكريات، وعندئذ يكون بمثابة من بث الحركة في المنظر الجامد؛ لأن المحور الرئيسي في هذه الحالة، لا يكون الجسم الموصوف، بل حركة الخواطر والذكريات تتداعى وتتعاقب في ذهن الرائي.
من ذلك كله ترى أن «الفعل» هو خير مجال، تتجلى فيه قدرة الشعر على التعبير، فإن حاول وصف الأجسام لذاتها قصر دون التصوير، كما يقصر التصوير دون الشعر، إن حاول تمثيل «الفعل». خذ - مثلا - صورة تاريخية تحاول أن تمثل فعلا وقع، فماذا ترى؟ تراها لا تصور - ولا تستطيع أن تصور - الفعل في ذاته وهو يجري، وكل ما في وسعها أن تفعله، هو أن تصور الفعل منظرا، أعني أنها تصور الفعل وقد تم أداؤه، أو على وشك أن يقع، تصور قدم الجواد مرفوعة؛ لتعلم أنه يوشك على الوثوب، أو ذراع الجندي منشورة والسهم في قبضتها؛ لتري أنه قد هم بقذفه وهكذا . أما الوثوب نفسه والقذف نفسه وما إليهما، فأفعال يستحيل تصويرها وإن أمكن أن يوحى بوقوعها.
تلك خلاصة لما يقوله الشاعر الناقد الألماني «لسنج»، في كتابه العظيم «لاو كون» وهو بغير شك مما يعيننا على تفهم الفنون، فالفنون الجميلة كلها وسائل للتمثيل والتصوير، وهي تكون في كمالها، إن تشابهت وسيلة التمثيل والشيء الممثل، أي إذا كان الشيء ووسيلة تصويره في ظروف متماثلة متشابهة، ومن ثم كان لكل فن مجال خاص به بحكم خامته، وإنما يبلغ كل فن درجة كماله الفني، إذا ما أحسن القيام بمهمته. وها نحن أولاء قد عرفنا أن مهمة الشعر ومجاله، تصوير «الفعل» وتمثيله، وبقي لنا أن نعرف أي ضرب من ضروب الفعل يناسب القصة، وأيها يلائم الرواية المسرحية، وفي محاولتنا أن نعرف ذلك سنصادف الموازين، التي نرجح بها قصة على قصة، ونؤثر بها مسرحية على أخرى.
الفصل الرابع
ناپیژندل شوی مخ