ثم فاتته وظيفة الوكيل كما فاتته وظيفة الرئيس، وكان كوك أشد معارضيه في هذه المرة كراهة له، وتوجسا من وكيل كان ينافسه على الرئاسة، ولا يرجى منه الإخلاص في المعاونة، وساعده اللورد إسكس هنا ما استطاع كما ساعده ما استطاع في المنافسة الأولى، فلما أخفق هنا كما أخفق هناك خجل أن يعده مرتين ولا ينجز له وعده، وأنف أن يعجز عن تعيينه وعن تعويضه ... فوهب له ضيعة حسنة تسوم بألف وثمانمائة جنيه، وتغل للمنتفع بها ريعا لا يستخف به في ذلك الزمان.
وانقضى عهد الملكة اليصابات التي كانت تدعوه بحامل أختامها الصغير، وليس له نصيب في عهدها من الوظائف العامة، التي كان يحلم بها، ويتمناها كما كان يحلم بها ويتمناها كل فتى من نظرائه في عصره، اللهم إلا تلك الوظيفة الاستشارية المهملة في عالم المحاماة بغير مرتب مقدور، ولا عمل معروف. وليتهم مع هذا قد حرموه هذه الوظيفة كما حرموه غيرها، إذن لسلم تاريخه من أقبح وصمة خلقية حسبت عليه.
ذلك أن اللورد إسكس نصيره ووليه قد ساءت مكانته عند الملكة في هذه الفترة، وتمكن أعداؤه ومنافسوه في البلاط من الكيد له، وتكدير الصفاء الذي بين الملكة وبينه، فندبته لولاية أيرلندة في أحرج الأزمات التي مرت بتاريخ تلك البلاد، ولم تكن سياسة الأمم الثائرة من ملكات اللورد المغامر الجسور، فعصفت الفتنة بكل حيلة من حيله، وتعمد منافسوه في البلاط أن يشلوا يديه ويعرقلوا سعيه، ويقطعوا الصلة ما بينه وبين الملكة كلما حاول أن ينهي إليها أمرا من الأمور.
وعاد اللورد محنقا خائبا إلى العاصمة تسبقه سمعة الفشل والغشم، وسوء التدبير وقلة الولاء، فخيل إليه أنه لا يزال بمكانته التي عهدها في قلب الملكة ونظرها، وأبى إلا أن يقسرها على إقصاء منافسيه عن البلاط، وعقابهم على الدس والتقصير في خدمة الدولة وتشجيع الفتنة، فلم تصغ الملكة إليه ولم تصفح عنه، ولا غضبت على منافسيه، فجن جنونه من الغضب، وعول على الثورة المسلحة لإكراه الملكة على ما يريده، ثم ثار وانهزم بعد مقاومة ليست بذات بال.
كانت ثورته بينة وكانت العقوبة عليها مقررة معروفة، ولكن الملأ الإنجليزي في ذلك العصر - على كثرة ما شهد من القضايا السياسية - لم يشهد قط من بينها قضية، كانت أعقد ولا أغرب ولا أشد اختلافا بين بواطنها وظواهرها من هذه القضية.
فلم يكن أحد في البلاد الإنجليزية يريد للورد المحبوب أن يلقى جزاءه، الذي استحقه بحكم القانون والشريعة الموروثة، بعد استثناء أعدائه ومنافسيه.
كانت الملكة صاحبة القسم الأوفى والحق الأكبر في القصاص؛ لأنها هي صاحبة السلطان الذي اجترأ اللورد إسكس عليه، ولكنها مع هذا لم تكن تكره أن ينجو اللورد من عقابه بحجة من الحجج، التي تحفظ الصور والأشكال، فقصارى ما كانت تتقيه أن تظهر بالوهن والخطل في صفحها عن اللورد الثائر، وأن يجترئ أحد مثل اجترائه، ثم يفلت من الجزاء بغير علة راجحة من علل القانون أو السياسة، فأما إذا حوكم وجاءه العفو أو التخفيف من قضائه ومحاميه، ولم تكن هي المتهمة فيه بالوهن والخطل، فقد رضيت ورضي القانون والسياسة، وأراحت نفسها من ذلك الندم الذي كانت تخشاه وترهبه، وقيل: إنه غام على عقلها الحصيف بعد موت اللورد المحكوم عليه، فجعلها تفترش الأرض ليالي متواليات من برح الألم ولجاجة اليأس والتكفير.
وكان جمهور الشعب يأبى أن يدان اللورد الجميل المقدام، وإن كانت عقوبته مما لا تختلف فيه العلية والجماهير، ولكن أبطال الجماهير قلما يخسرون سمعتهم بينها بعمل من أعمال الإقدام.
وكان الجيش يحبه ويعجب به، ولا يسيء الظن بثورته وبذوات طبعه، ويعزوها إلى الحدة والمجازفة ولا يعزوها إلى الكنود والخيانة، ويتمنى لو نظر إليها قضاته بهذه العين، فسرحوه بريئا أو التمسوا له تخفيف الجزاء.
وكان النائب العام إدوارد كوك - منافس باكون - يلمح هذه الطوايا الملكية والشعبية، فيقتصد كثيرا أو قليلا في تقرير التهمة، وتعزيز الأدلة وتضييق الخناق على الثائر المحبوب، ولا يزال يطاول في المحاكمة ويرخي الحبل ويفسح طريق النجاة، لعله ينتهي في خاتمة المطاف إلى مخرج يرضي الملكة، ويرضي الشعب والحق ولا يغضب القانون.
ناپیژندل شوی مخ