وتيسرت له وظيفة «محام مستشار» لا مرتب لها ولا عمل في الحكومة، ولكنها من وظائف الشرف التي يستعين الوزراء بأصحابها في تحضير بعض التهم أو ترتيب بعض القضايا أو مناقشة بعض الخصوم.
وفي سنة 1593 خلت وظيفة النائب العام، فظن باكون أن أقرباءه لا يحولون بينه وبينها في هذه المرة، بعد أن تمرس بالنيابة والمحاماة، وشئون القضاء برهة تحسب لمثله في ذكائه ووفرة محصوله.
فإذا هم وقوف له بالمرصاد.
وكان يؤيده في طلب هذه الوظيفة لورد إسكس
Essex
الفارس النبيل الجميل صديق الملكة المشهور، وصديق العلماء والأدباء.
فاشتدت الملاحاة بينه وبين رئيس الوزراء وابنه روبرت سسل في ترشيح باكون لتلك الوظيفة، وغضب إسكس حين اعتذر روبرت سسل بشباب باكون، وحاجة الوظيفة المطلوبة إلى السن والدربة، فقال مجبها له: إنك مثله في السن، وأنت تشغل من مناصب الدولة منصبا أرفع وأحوج إلى السن والدربة من منصب النائب العام.
وقيل غير مرة للورد إسكس، وهو يلح في ترشيح باكون لذلك المنصب: إنهم يدخرون له وكالة النائب العام، فهي حسبه في الثانية والثلاثين من عمره وفي بداية ارتقائه لسلم المناصب الكبيرة، وخيل إلى اللورد إسكس هنيهة أنهم جادون فيما يعدون، ولكنه ما لبث أن علم أنهم وعدوا بما ليس في اليد؛ لأن الوكالة قد كانت مشغولة في ذلك الحين، فلما خلت بعد قليل إذا هم يضنون على صديقه بوظيفة الوكيل، كما ضنوا من قبل بوظيفة الرئيس!
وقد كان اللورد إسكس رجلا ذكيا كريما شريف الخصال شجاعا مفرطا في الشجاعة محبوبا في الجيش والأمة، وسيم الطلعة يفتن النساء بوسامته ونخوته، وعلو صيته، ولم يكن يعاب في أخلاقه إلا بفرط الشجاعة والخيلاء، وقلة الدهاء في عصر لا تصان فيه حوزة بغير الدهاء، وكانت الملكة اليصابات تعجب بشجاعته وجماله، ولكنها لا تركن إلى رأيه وتدبيره، ولعلها كانت تستريح إلى مخالفته في بعض المطالب معاندة له أو تدللا عليه؛ لتكف من تيهه وتذكره بقيمة الزلفى لديها، وتذكي الغيرة بينه وبين منافسيه، وتجعل رجحانه عليهم أبدا في يديها، فتملكه على الدوام بهذا الزمام، وكانت في نفسها موجدة على صاحبه باكون لكلمات قالها بمجلس النواب جاوز بها حدود الصراحة التي ترضاها في مناقشة حقوق الملكة، وحقوق المجالس النيابية، وهي ولا ريب كانت تدخر وظائف الأبناء لمرضاة الآباء والأسر الكبيرة، التي ينتمون إليها، فإذا كانت أسرة باكون ترضى بتأخيره ولا ترضى بتقديمه، فهي إذن في حل من تحويل الوظيفة عنه إلى الرجل الذي ترشحه أسرته وترشحه أسرة باكون على السواء، فتغنم بذلك موظفا كفؤا ورضى أسرتين، ولا تخسر إلا رضى باكون وهو مأمون العداوة مرجو الخدمة في كل حين.
وكذلك انقضى العام في المنافسة على الترشيح بغير جدوى، ثم انتهت هذه المنافسة الطويلة بتعيين «إدوارد كوك» للوظيفة المطلوبة بتزكية رئيس الوزراء ورهطه، وجماعة من ذوي النفوذ، وخرج باكون من هذه المنافسة الطويلة بشيء واحد لا يحسد عليه، وهو عداوة كوك وسوء نيته من نحوه مدى الحياة، وقد جرت عليه هذه العداوة مصائب كثيرة، منها النكبة الأخيرة التي قضت عليه.
ناپیژندل شوی مخ