Foundations of Scientific Correction - Draft - Part of 'Aathar Al-Muallimi'
أصول التصحيح العلمي - مسودة - ضمن «آثار المعلمي»
پوهندوی
محمد أجمل الإصلاحي
خپرندوی
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
د ایډیشن شمېره
الأولى
د چاپ کال
١٤٣٤ هـ
ژانرونه
الرسالة الثانية
أصول التصحيح العلمي
(مسوَّدة)
23 / 45
[٢/أ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله كما يحب ويرضى. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى. وأشهد أن محمدًا عبده المصطفى، ورسوله المجتبى.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ على آل إبراهيم. وبارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإنني عُنيت زمانًا بتصحيح الكتب وإعدادها للطبع، ثم بتصحيحها حال الطبع، فتبيَّن لي بطول الممارسة غالبُ ما يحتاج إليه في هذه الصناعة. وخبرتُ أحوال جماعة من المصححين، وتصفحتُ مع ذلك كثيرًا من الكتب التي تُطبع في مصر وغيرها، وعرفتُ ما اعتمده مصححوها. ورأيتُ مع ذلك أن أكثر الناس متهاونون (^١) بهذه الصناعة: يرون أنه يكفي للقيام بها اليسيرُ من العلم، واليسيرُ من العمل! فأحببت أن أجمع رسالة في التصحيح، أشرح فيها ما يتعلق به. ومن الله تعالى أستمدُّ المعونة والتوفيق.
_________
(^١) في الأصل: "منهاوتون".
23 / 47
باب في المقصود من التصحيح
لا يخفى أن التصحيح ــ كما يدل عليه لفظه ــ المقصود منه: نفي الغلط، وإثبات الصحيح، وإبراز الكتاب على الهيئة الصحيحة.
وللصحة اعتباران: صحة الألفاظ، وصحة المعاني.
ومدار التصحيح على صحة الألفاظ، فأما المعاني فإنما يجب نظر المصحح إليها من جهة دلالتها على حال الألفاظ؛ فإننا قد نجد في الكتب مواضع يختلُّ فيها المعنى اختلالًا ظاهرًا، نعلم منه أنه وقع اختلال في الألفاظ. كأن يقع هذه العبارة: "فقد روى النبي ﵌ أنه قال: الدين النصيحة"، فنرى أن الصواب: "فقد رُوي عن ... الدين النصيحة"؛ أو نحو ذلك. وكأن يكون المعنى الحاصل من العبارة خلاف ما يدل عليه السياق، إلى غير ذلك. فأما ما عدا ذلك، فالنظر فيه والتعليق عليه ليس من التصحيح، وإنما هو من الشرح. فإن التزم المصحح الشرحَ فذاك، وإلا فإنما ينبغي له التعليق الشرحي في المواضع المهمة. وقد جريتُ في تعليقي على "التاريخ الكبير" للبخاري على ما يُعرف بمطالعته رأيي في هذا.
وأما تصحيح الألفاظ، ففيه (^١) اعتبارات:
الأول: أن تكون النسخة المنقولة أو المطبوعة مطابقة للنسخة الأصل المنقول منها، أو المطبوع عنها.
الثاني: أن تكون مطابقة لما كان عليه أصل المؤلف.
_________
(^١) "فإن التزم ... ففيه" مضروب عليها بالقلم الرصاص، ولكن لا يستقيم السياق دونها.
23 / 48
الثالث: أن تكون على الهيئة الصحيحة في نفس الأمر.
وهذه الاعتبارات كثيرًا ما تتعارض لكثرة ما يقع في النسخ القلمية من الأغلاط، ولما يقع للمؤلف نفسه من الخطأ.
وغالب المصححين ينزِّل أحدهم نفسه منزلة النعامة، فتجد في الكتاب الذي يصححه أحدهم كثيرًا من الأغلاط، فإذا قيل له، قال: هكذا كان في الأصل. وتجد فيه مواضع كثيرة قد خالف فيها الأصل، فإذا قيل له، قال: رأيتُها غلطًا، فأصلحتُه.
ويقول بعض الناس: المقصود من طبع الكتب العلمية هو تدارك النسخة أو النسخ الباقية من الكتاب قبل أن تتلف، فيكفي في التصحيح تطبيق المطبوع على النسخة القلمية. فإن تعددت النسخ جُعلت واحدةٌ منها أصلًا، ونُبِّه في الحواشي على مخالفات النسخة أو النسخ الأخرى.
وكأنَّ أكثر أهل المطابع يذهبون إلى هذا الرأي لموافقته هواهم في تقليل النفقات، لأنهم يرون أنه يصلح أن يقوم بهذا العمل رجلان فأكثر، يحسنان القراءة فحسب، ويقومان بتطبيق الأوراق التي يطبع عنها على النسخة الأصل ثم بتطبيق المطبوع عليها في مدة يسيرة، ويقنعان بأجرة زهيدة.
وقد يتراءى للناظر أن هذا العمل ليس فيه مفسدة، وإنما فيه إهمال مصلحة التنبيه على خطأ النسخة الأصل، وخطأ المؤلف. ويؤيد هذا الرأي بأنه إذا حصلت نسخة من ذلك المطبوع بيد رجل كان كأنه حصل له تلك
23 / 49
النسخة القلمية، أو النسختان، فأكثر.
والحقُّ أنَّ في هذا العمل فسادًا كبيرًا من وجوه:
[٢/ب] الوجه الأول: أن غالب النسخ القلمية لا يمكن تطبيق المطبوع عليها تمامًا.
أولًا: لأن كثيرًا منها يهمل فيه النقط، فتشتبه الباء والتاء والثاء والنون والياء، وكذا الفاء والقاف، فتقع صورة الحرف في النسخة الأصل مهملة، ولا يمكن أن تطبع كذلك، بل لابد من النقط.
فإن قلتم: أما هذا فيُصحَّح، رجعتم إلى ما فررتم منه. فإذا كان لابد من التصحيح، فليكن تصحيحًا كاملًا.
وإن قلتم: تنقط جزافًا، فهذه هي الخيانة، مع مخالفة ما حاولتموه من التطبيق.
فإن قلتم: تنقط جزافًا، وينبه في الحاشية أنها كانت غير منقوطة.
قلنا: يكثر هذا جدًّا، وتتضاعف عليكم النفقة.
ثانيًا: لأن النسخة القلمية إذا أهمل فيها النقط كانت صورة الجيم والحاء والخاء، وصورة الدال والذال، وصورة الراء والزاي، وصورة السين والشين، وصورة الصاد والضاد، وصورة الطاء والظاء، وصورة العين والغين= واحدة.
فإذا وقع في الأصل هذا الاسم "حمرة" فيمكن أن يكون: حمرة، أو حمزة، أو جمرة، إلى غير ذلك.
23 / 50
والعالم لو وقع له الأصل القلمي، ورأى هذا الاسم، وعلم أن من شأن تلك النسخة إهمال النقط= يرى أن الاسم محتمل لجميع الوجوه، فيبحث عن الصحيح. وإذا وقع له في المطبوع "حمرة" توهم أنه الصواب، لأن من عادة المطبوع النقط، ومن عادة الطابعين التصحيح.
فإن قلتم: ينبِّه الطابع في مقدمة الكتاب أو خاتمته على أنه لم يتجشم التصحيح، وإنما اكتفى بتطبيق النسخة.
قلنا: هذا يضع من قيمة الكتاب، ورغب أهلُ العلم عنه.
ثالثًا: لأن كثيرًا من النسخ القلمية تشتبه فيها النقطة بالنقطتين، ولا يمكن إثباته في المطبوع كذلك. وكذلك تشتبه نقط الشين بعلامة إهمال السين. وكذلك تشتبه فيها بعض الحروف ببعض، فتشتبه العين في أول الكلمة بالميم، وتشتبه العين والغين في الوسط بالفاء والقاف، وتشتبه الواو بالراء والزاي والنون إلى غير ذلك.
وتشتبه نحو سعد بسعيد، وحمزة بضمرة، وسفين بشقيق، وغير ذلك مما يطول ذكره.
ولا يمكن إثبات ذلك في المطبوع كما في النسخة القلمية، ويعود ما قلناه في الوجه الأول.
وكثيرًا ما يرى القارئ والناظر في النسخة القلمية أن الكلمة كذا، ثم يعلم من أمر خارج أن الصواب بدلها كلمة أخرى، فإذا راجع تلك النسخة وجد الكلمة فيها صالحة لأن تقرأ على الصواب، بل ربما يرى أن الظاهر من
23 / 51
شكلها هو الموافق للصواب. ولا أحصي كم مرة جرى لنا مثل هذا، حتى إننا نتعجب بعد التبيُّن كيف قرأناها أولًا على خلاف الصواب!
الوجه الثاني: أنَّ من الأغلاط التي تقع في النسخ القلمية ما لا يكاد يخفى على أحد
مثال ذلك: أن تقع هذه الكلمة في أول الخطبة "الحمد لله" بنقطة فوق الحاء، أو تحتها، أو فوق الدال، أو تكون بدل الدال راء، أو يسقط منها الميم، أو تزاد ميم أخرى، أو تقدَّم الميم على الحاء.
فإن قلتم: يطبعها كما في الأصل، فلا يخفى ما فيه من الشناعة التي تُزهِّد الناسَ في الكتاب.
وإن قلتم: أما مثل هذا فينبغي إصلاحه.
قيل لكم: فقد تركتم التطبيق. ومع ذلك فإن كان المصحح قليل المعرفة، فلا بد أن يخبط خبط عشواء (^١)، كما قدَّمنا في الكلام على العمل
_________
(^١) كتب المؤلف بعده كلامًا، ثم ضرب عليه، وننقله هنا للفائدة: "فقد رأينا من المشهورين بالعلم من إذا رأى اسم "عيَّاش" في موضع هو فيه صحيح أصلحها: "عباس". وهكذا في كلمة "السيباني" أو "السيناني" يصلحها: "الشيباني". وهكذا في اسم "حمار" أو "حِمّان" أو نحوهما يصلحه: "حمَّاد"؛ وغير ذلك. وإذا كان لك إلمام بكتب الحديث ورجاله علمتَ كثرة هذا الضرب.
وقد رأينا منه ما لا يُحصى، حتى إنَّ بعض الأعيان الذي [في الأصل: "الذين"] كان موكولًا إليه أن يتعقبنا في النظر في تجارب الطبع، ليصلح ما لعلَّه خفي علينا أنه غلطٌ، وجد مرةً كلمة "المَرُّوذي" في موضع هي فيه صحيحة، فأصلحها: "المَرْوزي". وكذلك "السَّيباني" أصلحها: "الشَّيباني". وكذلك في نسب "محمد بن شعيب بن شابور" أصلحها: "سابور". وكذلك "مروان الأصفر" أصلحها: "مروان الأصغر". وكذلك كلمة "بأَخَرة" من قولهم: "تغيَّر بأَخَرةٍ" أصلحها: "بآخِره"، في أشياء أخرى.
وقد وقعت أشياء من ذلك لمشاهير العصر. ووقع لي نفسي أشياء من ذلك، تنبَّهتُ لها فيما بعد. ولا أشكُّ أنها بقيت أشياء لم أتنبَّه لها بعدُ. ولعلِّي أذكر فيما يأتي أمثلة ذلك عند الإفاضة في أسباب الوقوع في الغلط.
وأعظم سبب في ذلك هو الاعتماد على الظن. وإذا كان الاعتماد على الظن كثيرًا ما يوقع أهل المعرفة في الغلط، فما بالك بمن ليس منهم! على أننا وجدنا بالخبرة والممارسة أنَّ قليل العلم أكثر اعتمادًا على ظنِّه من العالم رغمًا عمَّا يقتضيه المعقول من أن الغالب صوابُ ظنِّ العالم وخطأ ظنِّ من ليس بعالم".
23 / 52
الثالث (^١). فيضيف إلى أغلاط النسخة أغلاطًا أخرى.
فإن في الأسماء: أحمد وأجمد وأحمر، وأحيَد وأجيَد، وأَبان وأُثان، وأنَس وأتَش، وبدر ونُدَّر، وبِشر وبُسْر ويُسْر ونَسْر ونَشْر، وبشير ويسير ونسير، وتوبة وبُوبة وبُونة وبُوَيه ونُوبة ونُونة.
[٣/أ] الوجه الثالث: أن كثيرًا من الأغلاط تحصل بسبب التساهل والتهاون وعدم المبالاة، وهذه صفة لازمة غالبًا لقليل العلم، فلا يفي بالتطبيق فيما هو ممكن فيه.
الوجه الرابع: أن غالب الذين يطبعون الكتب يراعون الربح، أو على الأقل عدم الخسارة، أو خفَّتها؛ فإذا طُبع الكتاب مرة امتنع الناس من طبعه مرة أخرى، قبل أن تنفد النسخ الأولى، خوفًا من الخسارة ممن طبعه بلا
_________
(^١) لم يتقدم ذكر "عمل ثالث"، ولعله يقصد ما سبق من قوله عن غالب المصححين في أول الباب.
23 / 53
تصحيح. فقد جنى على ذلك الكتاب وعلى العلم وأهله، إذ لعله لو لم يطبعه لقُيِّض (^١) له من يطبعه طبعًا مصحَّحًا يصح الاعتماد عليه.
هذه أربعة أوجه تُوضِّح فساد الرأي المذكور، وتُبيِّن أن الاقتصار في التصحيح على تطبيق المطبوع على النسخة غير ممكن، وأنه لا يقتصر فساده على أن يبقى في المطبوع ما كان في النسخة القلمية من الأغلاط، بل لابد أن تضاف إلى ذلك أضعاف مضاعفة.
وإذا عرف العالِم في كتاب مطبوع أنه إنما صُحِّح هذا الضربَ من التصحيح لم يمكنه الوثوق بما فيه، لاحتمال تصرُّف المصحح الجاهل، أو غفلته، أو غير ذلك. هذا، مع احتياجه إذا أراد تصحيح بعض الأسماء أو الكلمات إلى مجهود يبذله في مراجعة المظان.
فإذا فُرِض أنه طُبع من الكتاب ألف نسخة، فقد تقع خمسون منها إلى علماء محتاطين، فيحتاج كل منهم إلى مجهود مستقل، لعله لا يتيسر له لفقدِه الكتب التي يحتاج إلى مراجعتها. ولو أن أرباب المطبعة قاموا بذلك لأغنى مجهود واحد عن خمسين مجهودًا.
فأما بقية النسخ، فإنها تقع إلى من يعتمد عليها، وفي ذلك من الفساد ما فيه.
وكثير من الكتب المطبوعة بمصر وغيرها لا يظهر فيها كثرة الخطأ، ويعِزُّ وجود التنبيه في الحواشي، فيظهر من ذلك أن مصححيها يرون أن الواجب إنما هو مراعاة الصحة في نفس الأمر.
_________
(^١) رسمها في الأصل بالظاء.
23 / 54
وقد يؤيَّد هذا الرأي بأنه إن وقع في النسخة الأصل أوفي إحدى النسخ خطأ، فالغالبُ أنه من النساخ، لبعدِ أن يكون من المؤلف، وأيُّ ضرورة إلى بيان خطأ النساخ؟ وعلى فرض أنه من المؤلف، فهو خطأ على كل حال، والمقصود إنما هو الصواب. وإذا ظفر المطالع بالصواب، فأيُّ حاجة به إلى أن يعرف أنه وقع للمؤلف هناك خطأ؟
وهذا الرأي دون ما قبله في الفساد، بشرط أن يكون المصححون من أهل العلم والمعرفة والاحتياط والتثبت.
على أنه قد يقال: لو كانوا كذلك لكثر تنبيههم في الحواشي على ما وقع في النسخة الأصل أو إحدى النسخ، لأن النسخ القلمية لا تخلو عن إهمال النقط والاشتباه والخطأ والاختلاف، وكثير من ذلك يتردد فيه نظر العالم المتثبت.
ومن المحال عادةً أن يحصل القطع بالصواب في جميع الكتاب، كيف، ولا يخلو كتاب من الكتب المذكورة من عدة مواضع طبعت على ما هو غلط في نفس الأمر، وعند المؤلف؟
فالرأي السديد: أن يراعى في التصحيح الوجوه الثلاثة: ما في النسخة، وما عند المؤلف، وما في نفس الأمر، على ما يأتي إيضاحه.
23 / 55
[٤/أ] (^١) باب
المراد بالمراعاة: أحد أمرين:
- إما الإثبات في أصل المطبوع.
- وإما التنبيه في الحاشية.
فإذا اتفق ما في النسخ، وما عند المؤلف، وما في نفس الأمر؛ فواضح. وإلا أثبت في أصل المطبوع ما هو الأحق، ونُبِّه على الباقي في الحاشية. اللهم إلا أن يكون ما وقع في النسخة الأصل أو إحدى النسخ من الخطأ الذي لا يخفى على أحد ــ كما مر في "الحمد لله" ــ فلا حاجة للتنبيه عليه.
هذا، والأولى أن يثبت في أصل المطبوع ما عُرف عن المؤلف، وإن خالف ما في النسخة أو النسخ وما في نفس الأمر؛ فإن الكتاب حكاية لكلام المؤلف، فالواجب أن يحكى كما صدر عنه.
فإن قيل: إنه وإن عرف ما عند المؤلف، وكان مخالفًا لما في النسخة الأصل، فمن الجائز في بعض المواضع أن يكون له قول آخر موافق (^٢) لما في النسخة، أو أن يكون سها في ذلك الموضع.
قلت: هذا الاحتمال فيه بعد، ويكفي في مراعاته التنبيه في الحاشية على ما وقع في النسخة.
ولذلك إذا كان في الكتاب حكاية عن رجل آخر، فالعبرة بما عند ذلك
_________
(^١) الصفحة (٣/ب) مضروب عليها.
(^٢) يحتمل "موافقًا".
23 / 56
الرجل، ويكون له حكم المؤلف.
فإن اختلف ما عند المؤلف أثبت في أصل المطبوع من قوليه أو أقواله ما يوافق النسخة أو إحدى النسخ، لأن الظاهر أن الأصل موافق لأصل المؤلف، ولم يقم دليل على خطائه. ولهذا إذا كان الأصل الذي يطبع عنه بخط المؤلف، فالواجب مراعاته على كل حال، اللهم إلا في الخطأ الذي لا يخفى على أحد، ويقطع بأنه زلَّة قلم، كما تقدم في "الحمد لله".
فإن اختلف نسختان (^١) ــ مثلًاـ وكل منهما موافق لقول المؤلف، أثبت في أصل المطبوع منهما ما يوافق ما في نفس الأمر. فإن اختلف ما في نفس الأمر، فالمرجَّح. فإن لم يكن ترجيح رُجِّح بكثرة النسخ، فإن استوت فبجودتها، وإن استوت تخيَّر المصحح.
فإذا لم يُعلم ما عند المؤلف عُدَّ موافقًا لما في نفس الأمر، لأن الغالب في حقه معرفة الصواب في نفس الأمر؛ حتى إذا كان ما في نفس الأمر مختلفًا فيه، ولا ترجيح، عُدَّ ما عند المؤلف كذلك.
فإذا لم يُعلم ما في نفس الأمر عُدَّ موافقًا لما عند المؤلف لما ذُكِر.
فإذا لم يعلم ما في نفس الأمر، ولا ما عند المؤلف، أثبت في المطبوع كما في النسخة؛ فإن الظاهر صحته، ولم يقم دليل على خطائه. فإن اختلفت النسخ رُجِّح بالكثرة، فإن استوى العدد فبالجودة، فإن استوت تخيَّر المصحح.
فإذا لم يعلم ما في النسخة الأصل لاشتباه أو خرم، أو نحوه، ولم يعلم
_________
(^١) كتب أولًا: "أصلان"، ثم استبدل بها "نسختان"، ونسي تأنيث الفعل قبلها.
23 / 57
ما عند المؤلف، ولا ما في نفس الأمر= تُرك بياض.
[٥/ب] فصل (^١)
واعلم أن الاختلاف قد يقع بين موضعين من النسخة، أو بين نسخة ذلك الكتاب ونسخة كتاب آخر للمؤلف، أو لغيره. وهذا على أوجه:
الأول: أن يتبين للمصحح أن كلا الوجهين صواب في نفس الأمر وعند المؤلف فيما يظهر، فلا حاجة للتنبيه على الخلاف؛ إلا أن يخشى أن يظن من يطالع الكتاب ويطلع على الخلاف أن أحد الوجهين خطأ، فيحسن أن ينبِّه على الخلاف وعلى أن كلا الوجهين صواب، ويشير إلى الحجة في ذلك.
الثاني: أن يتبين له أن ما وقع في ذلك الموضع من النسخة صواب في نفس الأمر وعند المؤلف، وما وقع في الموضع الآخر أو الكتاب الآخر للمؤلف، أو لغيره خطأ= فهذا أيضًا لا حاجة للتنبيه [عليه] إلا أن يخشى أن يتوهم كثير من المطالعين أن ما وقع في ذلك الموضع هو الخطأ.
الثالث: أن يكون ما وقع في ذلك الموضع خطأ في نفس الأمر وعند المؤلف، فعليه في هذا إثبات الصواب، والتنبيه على ما وقع في النسخة في ذلك الموضع، ويذكر الحجة على صواب ما أثبته في نفس الأمر وعند المؤلف= فيحتاج هنا إلى ذكر ما وقع في الموضع الآخر أو في الكتاب الآخر، ولا يلزمه استيعاب المظانِّ كلِّها بل يكفيه ما يرى أن الحجة تقوم به.
الرابع: أن يشتبه عليه الأمر، فيشكَّ أي الوجهين الصواب، ولايهتدي
_________
(^١) كتب قبل الكلام الآتي من (٤/أ): "بعد ثلاث صفحات"، فلعله أراد تقديم هذا الفصل عليه.
23 / 58
إلى بيانه، ففي هذا ينبغي له التنبيه على الخلاف.
فأما حيث (^١) يكون الصواب عند المؤلف مخالفًا للصواب في نفس الأمر، فلا بد من البيان على كل حال. والله الموفق.
[رجع إلى ٤/أ] هذا، واعلم أن بين أهل العلم خلافًا في إصلاح الغلط، وقد بسط القول فيه في مصطلح الحديث، وقد ذكرت هنا حاصل ما يترجح في ذلك.
وبيانه: أن من مال إلى المنع حجتُه أنه خلاف مقتضى الأمانة، وأن الناظر قد يخطئ، فيظن ما ليس بغلط غلطًا. وقد يترتب على ذلك أن يقع هو في الغلط. وقد يكون ما في الأصل غلطًا، ولكن يخطئ المصلح، فيصلحه بغلط آخر.
والجواب عن ذلك: أن الإذن في الإصلاح إنما هو لمن كان أهلًا، ويلزمه مع ذلك أن يبين ما كان في الأصل، إلا فيما كان مقطوعًا به البتة، كما مرَّ في "الحمد لله". وينبغي للمصحح مع ذلك أن يذكر حجته، فلم يبق محذور. ولله الحمد.
[٤/ب] فصل
أما معرفة ما في النسخة القلمية أو النسخ، فبالمشاهدة. وينبغي أن يكون المصحح ذا خبرة بالنسخ القلمية، وممارسة لقراءتها، وأن يعاود النظر، ويقيس المحتمل بالمتيقن. ويكون كذلك عارفًا باصطلاح الخط، وبما يقع في النسخ القلمية القديمة من مخالفة الاصطلاح المشهور.
_________
(^١) تكررت في الأصل.
23 / 59
وينبغي أن تكون النسخة أو النسخ القلمية حاضرة عند المصحح ليراجعها فيما يشك فيه وقت التصحيح، لاحتمال أن يكون الناسخ أو المقابل لم يحقق النظر.
وقد وقع لنا مرارًا أن نعتمد على المقابلة، ثم يقع لنا عند التصحيح في موضع أنه غلط، ونظنه وقع في النسخة القلمية كذلك، فنذهب نفتِّش في المظان فنتعب، ثم يبدو لنا أن نراجع النسخة القلمية، فإذا هو فيها على ما وقع لنا أنه صواب.
وأما معرفة ما عند المؤلف، فيعرف بأحد أمور:
منها: وجوده في بعض كتبه المرتبة على الحروف.
منها: ضبطه إياه بالعبارة.
ومنها: وجوده بخطه المجوَّد.
ومنها: أن ينقله عنه بعض أهل العلم موضحًا، إلى غير ذلك.
وأما معرفة ما في نفس الأمر، فبنقل العلماء المحققين.
واعلم أن نص العالم الواحد يدل على ما في نفس الأمر، ولكن لا ينبغي في هذا والذي قبله الاكتفاء بعالم واحد، أو بكتاب واحد، أو بموضع واحد؛ فإن العالم قد يخطئ، وقد يسهو، وقد يتغير اجتهاده، وقد تكون عبارته تحرفت؛ فقد وجدنا من هذا كثيرًا، وقد نبَّهتُ على طائفة من ذلك في التعاليق على "التاريخ الكبير" للبخاري. وسيأتي لهذا مزيد إن شاء الله تعالى.
23 / 60
باب في أنواع الغلط، وأسباب وقوعه
الغلط: إما بزيادة، أو بنقصان، وإما بتقديم وتأخير، وإما بتغيير.
فأما الزيادة: فقد تكون من الناسخ أو المملي إذا كان رجل يُملي وآخر يكتب، إما عمدًا بقصد البيان ــ في زعمه ــ كأن يكون في الأصل حديث من طريق جابر عن النبي ﵌، فيزيد بعد جابر: "بن عبد الله". وفي نفس الأمر أنه جابر بن سمرة صحابي آخر، أو جابر بن يزيد الجعفي من أصاغر التابعين.
أو بقصد الأدب كأن يزيد بعد جابر: "﵁". وكما يحكى عن بعضهم أنه وقع في كتاب عنده كلام عن "البتِّي" والمراد به: عثمان البتِّي أحد الفقهاء، فتصحفت عليه، فصارت "النبي"، فصحَّفها كذلك، وزاد: " ﷺ " (^١).
أو بقصد إصلاح غلط ــ في زعمه ــ كأن يقع في الأصل حديث من طريق مالك عن نافع عن النبي ﵌، فيعلم أن نافعًا تابعي، وأن عامة روايته عن ابن عمر، فيظن أنه سقط من الأصل "عن ابن عمر"، فيزيدها ولا يبيِّن؛ أو لغير ذلك.
وإما سهوًا، كأن يكون قد عرف في المثال الأخير أن نافعًا يروي عن ابن عمر، فجرى قلمه بقوله: "عن ابن عمر" بدون روية.
وإما غلطًا. وأكثر ما يكون برجوعه إلى نظير الكلمة التي كتبها أو شبيهتها، فينشأ من ذلك التكرار. وكثيرًا ما يتنبه الناسخ بعد كتابة كلمة أو
_________
(^١) انظر: التنبيه على حدوث التصحيف (٩٢) وشرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف (٩٠). ومدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي للطناحي (ص ٢٩٤).
23 / 61
أكثر لخطائه (^١)، فيرجع إلى الصواب، وينسى أن يضرب على ما زاده.
وقد ينشأ التكرار بتحوُّل العلامة كأن يُملي أو يكتب إلى موضع، ويضع عليه علامة، فتتحول العلامة إلى ما قبل، فيرجع إلى موضعها. ويكثر تحوُّلُها من موضع من سطر إلى ما يحاذي ذلك الموضع من السطر الذي قبله.
وقد يكون بإعادة المملي ما قد أملاه سابقًا وكتبه الناسخ، ظنًّا أن الناسخ لم يكتبه في المرة الأولى.
وقد يكرر المملي الكلمة أو الجملة توضيحًا للناسخ، فيظن الناسخ أنها مكررة في الأصل.
وقد يتكلم المملي عند الإملاء بكلام يخاطب به صاحبه أو نحو ذلك، ويظن أن الكاتب متنبه لذلك، فيتوهم الكاتب أنه من جملة الإملاء.
وقد وقع لنا شيء من ذلك، كان بعضنا يملي، فمرَّ باسم رجل للكاتب به علاقة، فذكر المملي اسمه، ثم قال: "صاحبك"، فكتبها الكاتب!
بل ربما سها الكاتب، فأدرج كلمة أو جملة تكلَّم بها بعض الحاضرين. وربما سها، فأدرج كلمة أو جملة كانت شاغلة لذهنه.
وكثيرًا ما يكون الغلط بإدراج ما في الحاشية في المتن، على توهم أنه لَحَق. أي أنه سقط على الناسخ الأول من الأصل، فأُلحق في الهامش أو بين السطور، والواقع أنه من تحشية بعض الناظرين على أنه نسخة، أو تفسير، أو
_________
(^١) في الأصل: "كخطائه".
23 / 62
غير ذلك.
[٥/أ] وأما النقصان، فقد يكون من المملي ومن الناسخ، إمَّا عمدًا لتوهُّم تكرار، كأن يقع في سنده: "عن خالد عن خالد"، فيظن أن الثانية تكرار، فيحذفها. والواقع أنه لا تكرار، وخالد الثاني غير الأول، بل هو شيخه.
وإما سهوًا، كأن يكون في الأصل: "أبو هريرة عن الفضل بن عباس عن النبي ﵌ "، فيريد أن يكتبها، فيجري قلمه بإسقاط "عن الفضل بن عباس" جريًا على الغالب.
وإما غلطًا. وعامة ما تقدم في أسباب الغلط بالزيادة يجيء نظيره في الغلط بالنقصان، فتدبر!
وأما التقديم والتأخير، فقد يكون من المملي ومن الناسخ، إما عمدًا كأن يقع في الأصل: "حديث الجساسة الذي رواه النبي ﵌ عن تميم الداري" فيرى أن هذا غلط، فيقلبه.
وكأن يقع في الكتاب: "العجاج بن رؤبة"، فيرى أن الصواب "رؤبة بن العجاج".
وإما سهوًا، كأن يريد أن يكتب "العجاج بن رؤبة" كما في الأصل، فيجري قلمه: "رؤبة بن العجاج".
وإما غلطًا، كأن ينتقل النظر، أو تتحول العلامة إلى موضع متأخر، ثم يتنبَّه لذلك، فلا يضرب عليه، ولكن يكتب ما فات، ويُعلِم عليه علامة التقديم والتأخير. وقد يغفل عن كتابة العلامة، أو لا تكون واضحة.
وكأن يكون في متن الأصل سقطٌ قد أُلحق بين السطور أو بالهامش،
23 / 63
فيظنه الناظر من موضع متأخر، فيؤخِّره.
وقد يقع التقديم والتأخير بورقة كاملة، بأن تكون انقطعت من الأصل، فجُعلت في غير موضعها؛ إلى غير ذلك.
وأما التغيير، فالمراد به إبدال الشيء بغيره. ويشمل التغيير بزيادة بعض الحروف أو نقصانها، وبتقديمها أو تأخيرها، كما يأتي.
فمن أسبابه: تماثل حروف الكلمتين، وأنهما إنما تفترقان بالشكل مثل "مُسْلِم" بسكون السين وكسر اللام و"مسلَّم" بفتح السين وتشديد اللام مفتوحة، و"مَعْمَر" بفتح فسكون ففتح و"مُعَمَّر" بضم ففتح فتشديد بفتح. وهذا إنما يترتب عليه الغلط في الصورة عند الشكل، فإذا لم يشكل لم يظهر الغلط، وإنما يظهر باللفظ.
ولكن المصحح إذا غلط في شيء من ذلك كثيرًا ما يبني عليه غلطًا آخر له صورة، كأن يقع في كتاب: "عن يحيى بن معين أنه كان يسأل: مجالد ما حاله، فيقول: صالح. فيظن المصحح كلمة "يسأل" بفتح الياء مبنيًّا للفاعل، فيرى أن الصواب: "مجالدًا"، وأن هذا من الغلط الواضح الذي لا حاجة إلى التنبيه عليه، فيثبته في المطبوع كذلك. وربما زاد، فشكل "يَسأل" على ما ظنه، فيقع في غلط معنوي شنيع.
ويقع نحو هذا في الأسماء في نحو مَعْمَر ومُعَمَّر، فإنه قد يظن الرجلَ آخرَ، ويحكم على هذا بما حكم به على ذاك.
ومنها: تشابه حروف الكلمتين بأن لا يفرِّق بينها إلا النقط، مثل أحمد وأجمد، وهو كثير جدًّا. ويشتد البلاء به لقلَّة النقط في النسخ القلمية، وزيادة
23 / 64
النقط في بعضها، ولوَضْعه بعيدًا عن محلِّه في الخطوط المعلَّقة.
ومنها: التقارب في صورة الحرف مثل: أحمد وأحمر وهذا كثير جدًّا في النسخ القلمية، ولا سيما إذا كان الخط رديئًا، أو معلقًا. فقد رأينا أنه كثيرًا ما يبدل "حفص" بـ"جعفر"، وعكسه، بل و"جعفر" بـ"عمر"، وعكسه.
وقد يكون اشتباه الحرف بسبب الاتصال، فإن بعض الحروف المفصولة قد يتصل بما بعدها للتقارب، أو لتعليق الخط، فتقرأ "أنت" "لنت" و"أراه" "الاه" وغير ذلك.
وقد يتأكد هذا بحذف بعض الأحرف، فيشتبه "سفيان" إذا كُتب بدون ألف بـ"شقيق".
ومنها: تقارب مخارج الحروف. فإن من الناس من لا يفرِّق في نطقه بين الهمزة والعين، ولا بين التاء والطاء، ولا بين الثاء والسين، ولا بين الحاء والهاء، ولا بين الدال والضاد، ولا بين الذال والزاي، ولا بين السين والصاد، إلى غير ذلك. وهذا يقع بأن يملي رجل، ويكتب آخر، ولا يكاد يتبيَّن بالمقابلة.
وقريب منه فصلُ ما حقُّه الوصل، وعكسه، مثل "منوال" و"من وال".
[٥/ب] ومنها: الزيادة والنقص. وأكثر ما يقع هذا في الحروف التي تكون صورتها نبرة فقط. وكثيرًا ما يقع عبد الله وعبيد الله: أحدهما بدل الآخر. وهكذا حسن وحسين، وسعد وسعيد، وحصن وحصين، وعتبة وعتيبة، ويحيى ونجي، وعبسة وعنبة.
23 / 65