والعجب أن محمد باشا محمود، مع هذا التجني كله على خلق الله، رجل شديد الأدب، لطيف المحاضرة، إذا أذن الله وكشف لك عن ليلة القدر فأصبته في داره يجلس مجلسا للناس! ولعل ذلك يفسر ما أقنعني به رجلان فاضلان من أن محمد باشا محمود لا كبر فيه ولا برم
6
بالناس، إنما هو المرض الملح المتدارك يجتازه عن كثير مما يرجو من مصانعة الناس وتفقدهم والتجمل لهم. وإني لأقبل هذا التعليل «تحت الحساب»، وأسأل الله أن يمن على معالي الوزير بالعافية كلها لينعم هو بها، وينعم بها الناس، وينعم الوطن.
مختار «التمثال»
بيضة كبيرة ينتهي سنها بلحية دقيقة مرسلة على شكل مثلث متساوي الساقين. فإذا حسر الطربوش أو القبعة عن رأس «البيضة»، رأيت غديرا في صفاء المرآة وهدوئها، يقوم على حفافيه نبت غزير، وتلك أيضا رأس مختار المثال. وهو كذلك من الرجال الذين تعرفهم بصلعتهم إذا ولوا. وهو أبيض اللون، له تانك الحدقتان المتحيرتان في عيون أكثر نوابغ العالم. أما أنفه فبائن الطول والانتفاخ في غير كبر ولا تيه، يتدلى على فم لولا غلظ في شفتيه ما بان ولا انكشف. ثم هو بعد هذه «الزحمة» منتظم الجسم، متسق الجوارح، والحمد لله!
ومختار ضخم الصوت، فإذا ارتفع صوته تسلخت بعض شعبه، وإذا تحدث، سواء بالعربية أو الفرنسية، سمعت لفظ مجاور متحذلق في «تطجينة» عامل من سكان الخارطة بجوار سيدي أبو السعود!
والعجب أنه مع هذا كله رجل
Moderne
مطبوع في تفكيره، وذوقه، وأناقته أيضا على آخر طراز، وهو ثائر عنيف الصولة على كل قديم، متعصب شديد الهوى إلى كل جديد. لا يعبأ في طلب هذا لنفسه ولقومه بعادة ولا بتقليد، ولا بما هو أشد من العادة والتقليد. وهو إذ نضا عنه الطربوش واتخذ القبعة، لم يكن مفتاتا على عيشه الذي يكاد يكون أوروبيا خالصا، ومن العجب أيضا أنك تراه مع ذلك يستريح إلى الحياة «البلدية» كلما تهيأت له، فيأكل بكل كفه، ويعلق أسنانه فلا يتعبها بمضغ ولا قضم. فإذا اتصل الحديث في المجلس بألوان المنادرات والمفاكهات، سمعت من مختار المطرب والمعجب من كل نادرة طريفة، «ونكتة» رائعة، حتى ليخيل لك أن سنه تكنز ستين سنة، قضى نهارها في «التربيعة»، وليلها في غشيان الأعراس «الوطنية»، وحضور مجالس «الشعراء» على حواشي القهوات «البلدية» واستماع ما يتطارح به جماعات المتظرفين من فنون النكات!
وهو صافي النفس، عظيم الشجاعة، وافر الذكاء، لا يعنيه شيء في الدنيا قدر عنايته بفنه الجليل.
ناپیژندل شوی مخ