بعد على الخامسة والأربعين، ولكنك حين تقلب الذهن فيه ينسرح منه إلى مدى عريض. وحسبك أن ترى أرنبة أنفه وهو يشدها إذ يتحدث إليك أو ترفعها له الطبيعة، لتدرك أنه رجل لا يريد إلا أن يكون عظيما، أو على الصحيح، أنه لم يخلق إلا لعظيم. وكذلك كان محمد محمود من يوم أخرجه أبوه للتعليم في مدارس الحكومة، فكان في السنة الأولى أول لداته جميعا، فلما تحول إلى الثانية كان فوق أن يكون أول تلاميذها، فوثب به الناظر إلى السنة الرابعة طفرة. وجاء عاهل وزارة المعارف «دنلوب» ليطالع مدرسة أسيوط ويتشرف على سير التعليم فيها، فلما انتهى إلى تلاميذ السنة الرابعة رأى غلاما دقيقا لا تتصل سنه بأهل تلك السنة، فبعثه من مجلسه، وجعل يسأله، وجعل محمد يحسن الجواب في غير تتعتع ولا ورع، حتى راع دنلوب شأنه، فسأل عنه فنفض له جملة خبره، ففظع بدنلوب أن ينقل تلميذ من السنة الثانية إلى السنة الرابعة طفرة، فعجل العقاب لذلك الناظر المسكين! ولا أدري أكانت فعلة دنلوب حرصا على النظام، أم حرصا على ألا تفسح مدارس الحكومة طريق النبوغ لأهل النبوغ؟!
ويمضي محمد محمود في سبيله إلى المدارس الثانوية بعد إذ يحرز الشهادة الابتدائية، ولا يكون شأنه في الأولى إلا كشأنه في الثانية مجليا أبدا، حتى إذا ختم علومها وأحرز «البكالوريا» متقدما، مضى إلى إنجلترا وانتظم بها طالبا في جامعة «أكسفورد»، وكان له في جامعة أبناء الأعيان من الإنجليز ما كان له هنا: إكباب على الدرس، وطاعة في عزة نفس، ونبل يمليه الحسب، وكرامة يزكيها ما يفضي له أبوه من مال ونشب. وكذلك عاش محمد محمود مثلا أعلى للكرامة المصرية في أعظم جامعات إنجلترا بين أبناء أعظم أعيان الإنجليز. وتأبى عليه «أرنبة أنفه» كذلك إلا أن يكون بينهم مجليا في إنجلترا كما كان مجليا بين معشره في مصر، حتى أحرز أعلى الشهادات. وينقلب إلى مصر قريرة به عين شيخ جليل طالما صدق في خدمة مصر بلاؤه، وتمحض في هواها إخلاصه ووفاؤه.
وإني من قوم كأن نفوسهم
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
ودخل محمد في خدمة الحكومة مفتشا - على ما أظن - في وزارة المالية، فسكرتيرا لمستشار الداخلية، وتضيق هذه المساحة عن همته كما تضيق بمطامعه في الحياة، فيغامر في ميدان السياسة، ويغامر فيها بحزب قوي يجمع «أرباب المصالح الحقيقية» ورؤساء العشائر في البلاد، ويقوم «حزب الأمة» عوانا بين الحزب الوطني وحزب القصر في تلك الأيام. وكان الشيخ الجليل محمود باشا سليمان رئيس هذا الحزب، وكان الأستاذ الأكبر لطفي السيد على ترجمانه «الجريدة»، وتألفت إدارته من مشيخة من أهل الرأي والعلم والغنى والحسب في البلاد، وكان لمحمد محمود فيه، من وراء الستار، رأي كبير.
ويضطرب بعض الأمر على اللورد كرومر بشيوع الدعوة الوطنية واطراد قوتها واستفحالها يوما بعد يوم. فيختط له نهجا جديدا، ذلك بأن يستألف رؤساء العشائر و«أصحاب المصالح الحقيقية» ويقيم على المرافق العامة أهل الكفايات من أولادهم اصطناعا لهم من ناحية، واستصلاحا لأسباب الحكم من ناحية أخرى، فقد كاد الأمر يفسد باستخذاء
2
رجال الإدارة لصغار المفتشين الإنجليز واستنامتهم في جميع الأمر لهم، إذ تشب في الوقت نفسه حركة وطنية عنيفة تطالب بجلاء الإنجليز جملة، وتسليم مرافق البلاد لأهل الكفايات من أبناء البلاد، فأقام محمد محمود مديرا للفيوم وسرعان ما جمع بين احترام الإنجليز ورضاء المصريين، وكان «لأرنبة أنفه» فضل عظيم في مدافعة يد المفتش عن معالجة الأمور، إلى قوة عزم، وحسن إرادة، وصلابة في موطن الرأي. ولعلها كانت في ذلك العصر، أول تجربة أجدت على الطرفين جميعا.
ثم عين محافظا للقنال، فمديرا للبحيرة يستقل بالأمر حيثما كان، «ويأنف» من أن يظهر على رأيه رأي إنسان، ولو كان المفتش ولو كان المستشار، وتتحرج من هذه الحال صدور وتضطغن على محمد باشا محمود قلوب، فيتربص به المكروه، حتى كانت حادثة في البحيرة أرادوا أن يجلجلوا فيها المدير، فما استطاعوا إلا أن يستقيل أو يقال من المنصب، وهو لم يزل بعد في ميعة
3
ناپیژندل شوی مخ