Consommation
بمائة جنيه لسخا بها في هشاشة ولطف أداء، على أنه طالما وعدني بأن يدعوني في داره إلى حفلة عشاء يسمعني فيها المرحومة ألمظ، وما برح يطاولني في هذا وينظرني حتى ماتت، فتحولنا بالعدة إلى المرحومة الوردانية فما برح يطاولني وينظرني حتى قضت هي الأخرى إلى رحمة الله، ثم انتقلنا إلى الشهدية، فعبد الحي حلمي، ففلان ففلانة ممن طواهم الردى وأتى الموت على آخرهم حتى وصلنا بالسلامة إلى الآنسة أم كلثوم، مد الله في عمرها، حتى يحقق أبو نافع باشا وعده لي ويحقق رجائي فيه، ولا أظنني أدعو لأحد بالبركة في الحياة وطول العمر كما دعوت للآنسة أم كلثوم بأن يحييها الله تعالى حتى يدعونا لسماعها أبو نافع باشا! كذلك تجري الأحداث في البلد فيهرع المياسير وغير المياسير إلى الاكتتاب بالأموال الجليلة والضئيلة، ولكنك لا تسمع لأبي نافع باشا خبرا، ولا ترى لهم فيهم أثرا؛ على أنك - في بعض الأحيان - تراه يسخو بالآلاف ويعد صادقا بالآلاف وهو في صمت وكراهة للإعلان.
وهو رجل غريب في احتياطه وتحرجه؛ فلا تراه قط يتهافت على شأن عام، ولقد قامت الدنيا وقعدت وانصدع البلد أحزابا وشيعا، ثم كانت الانتخابات يتقاتل الناس عليها ويتناحرون فيها، وأبو نافع باشا جاثم مجثمه لا يحدر إليها طرفا ولا يدا.
وإنك لتجلس إليه والخطب قائم فما يزال يستدرجك ويستخرجك حتى تستريح إليه بمكنون رأيك؛ إذ هو متحفظ دونك ما تتفصد نفسه من الرأي بكثير ولا قليل. فإذا أنت عالجته على أن يفضي إليك في الحدث القائم بحقيقة رأيه ودخيلة اعتقاده، راح يرجحك بفنون من القول يطليها بأفاكيهه العذاب، حتى يختم عليكما المجلس أو تأخذا في حديث غيره.
وإذا تهيأ لنا أن نلمح جانبا من هذه النفسية الغريبة وأن نصورها للقارئ كما لمحنا وكما يحتمل التعبير، فالوجه في هذا أن الرجل إنما يأخذ نفسه بالاحتياط التام في كل قول، وفي كل عمل، وإن أكثر الناس لينزلقون في الأقوال وفي الأعمال حتى إذا بان لهم وجه الأذى فيما تورطوا فيه راحوا يطلبون الخلاص ويلتمسون لهذا كل ما دخل في ذرعهم من فنون الحيل .
أما أبو نافع باشا فقد طبع نفسه بادي الرأي على ألا يتورط في قول ولا عمل «وكفى الله المؤمنين القتال.»
وأبو نافع باشا وإن كان شيخا موفيا على الهرم إلا أنه ما زال فتي الروح، فهو لا يستريح إلى القعود في الدار استراحة الشيوخ، ولا يرضى لسنه ولمنزلته أن يبتذل بالجلوس على متون القهوات، فكيف يصنع ليرضي شيخوخة سنه وشباب روحه جميعا؟
لعلك تعرف قهوة «سبلنددبار» وأنها تقع في سرة العاصمة، وأنها مجاز كل غاد ورائح، ومتراءى كل سانح وبارح، وإذا كانت لا تتسق لمجلس أبي نافع باشا فإن قضاء الله المحفوف باللطف ليشق بجوار «سبلنددبار» دكانا للخواجة «سوسيدي» الدخاخني، فلماذا لا يجلس فيها أبو نافع باشا فيكون له كل حظ الجالسين إلى القهوة وليس عليه شيء من تكاليفهم؟! نعم إن أبا نافع باشا لا يدخن ولكن هل هذا يمنعه من أن يبتغى مجلسه في دكان دخان؟ ولقد كان يجلس فيها أبو نافع باشا وبإزائه المرحوم محمد الشريعي باشا من ناحية، ويجلس السباعي بك المصري وبإزائه محمد بك حتاتة من الناحية الأخرى، فكان أربعتهم أشبه بالأربعة السباع القائمة على حفافي كبري قصر النيل. ولقد طالما اشتهيت سجاير سوسيدي فصرفني عن محله هيبتي لأولئك الأربعة من سكان الآجام.
وما كان أوسع صدر هذا الرجل وأبلغ تضحيته: فاثنان من هؤلاء لا يدخنان قط، وهما أبو نافع باشا والسباعي بك المصري، واثنان يدخنان؛ على أن أحدهما لا يؤثر إلا سجاير «جناكليس»، فإذا انتهت سجايره رجا الخواجة سوسيدي أن يبعث بغلامه ليجيء له بعلبة سجاير من محل جناكليس.
ولا تنس ما للأربعة الأقطاب من التكاليف الكثيرة والمطالب الوفيرة، هذا يشتهي السمك البربون، وهذا يطلب «الملوخية» الجديدة، وهذا يبحث عن سواق للأتوموبيل، وهذا يطلب «سمكريا» لإصلاح صنابير الدار، وهذا يطلب «فكة» ورقة بخمسين جنيها، وليس يجشم كل هذه الخدم إلا الخواجة سوسيدي المسكين!
ناپیژندل شوی مخ