المتداخل الذي لا ترى فيه السماء إلا من الشُّرَف. ولج البيت الواحد تجد الغرفة ذات الفرش العربي: الأسرَّة والمتَّكآت والوسائد والبسط والنمارق، إلى جانب الغرفة الأوروبية ذات المقاعد والمناضد ... واعرض أهل الدار تجد بين الأب وابنه قرنًا كاملًا في اللباس والتفكير والعادات. وفتِّش عن الأب المساء تَلْقَهُ في المسجد أو قهوة الحي، ثم انظر الابن تجده في أحدث مرقص أو أكبر ناد للقمار أو للتمثيل أو للمحاضرات. وانظر إلى الأم المحتجبة المصلِّية الصائمة، وابنتها السافرة التي لا تعرف من أين القبلة، ولا تدري ما هو الصيام. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ولكنه تعدَّاه إلى الثقافة والعلم وسائر الأمور التي تتَّصل بحياة الأمة اتِّصالًا ماسًّا، فجعل منها هذا الازدواج وهذا التناقض. اجتمع باثنين من المثقفين بالثقافة الإسلامية والثقافة الغربية، تَرَ الثاني ينكر المكتبة العربية جملة، ويجحدها مرة واحدة، وينبزها بالكتب الصفراء والثقافة الرجعية الجامدة، لا يدري أن المكتبة العربية أجلّ تراث علمي عرفه البشر وأعظمه، وأنها رغم ما أصابها من نكبات: منها نكبة هولاكو حين ألقى الكتب في دجلة حتى اسودَّ ماؤه -فيما نقلوا- من حبرها، ونكبة الاسبان حين أحرقوا الكتب وفيها حصاد أدمغة البشر قرونًا طويلة، ولبثوا ليالي يستضيئون بنورها إلى الصباح؛ ورغم ما أضاعه الجهل والإهمال لا تزال مخطوطاتها تغذِّي المطبعات في الشرق والغرب من مئة وخمسين سنة إلى الآن دَأبًا بلا انقطاع، ولا يزال فيها ما يغذيها خمسين سنة أخرى في كل ناحية من نواحي التفكير وفي كل فرع من فروع العلم.
وتجد الأول ينكر العلم الحديث كله ويجحده بجملته ويعيش اليوم بعقل جدِّه الذي كان قبل ثلاثمئة سنة، فلا علم عنده إلا علم العربية والدين والمنطق، ولا أدب إلا الأدب العربي، ولا كتب إلا هذه الحواشي والشروح التي لم تصلح أبدًا حتى تصلح اليوم، والتي لا يتصوَّر العقل طريقة في التأليف أشدَّ عُقمًا منها، إذ تذهب ثلاثة أرباع جهود المدرِّس والتلميذ في فهم عباراتها وحلِّ رموزها والربع الباقي في فهم مادة العلم التي لا يخرج منها التلميذ على الغالب بطائل.
فرجالنا المثقفون وعلماؤنا بين رجلين: رجل درس الثقافة الإسلامية،
1 / 71