الدرس لا يكون بواحد من هذه الأشياء، بل بها كلها، بل إنه يكون قبل هذه كلها، وبعد هذه كلها، بدرس ميوله وأخلاقه - قلت إن معرفة الميول والأخلاق قبل أخبار الرجل وآثاره الأدبية، لأنها هي الوسيلة إلى تمحيص الأخبار، وفهم الآثار الأدبية فهمًا صحيحًا، والحكم عليها حكمًا مستقيمًا، وقلت إنها بعد الأخبار والآثار، لأنها لا تستنبط إلا منها.
على أن هذه الصلة بين أخلاق الأديب وآثاره، ليست وثيقة في أدبنا كما هي في الآداب الغربية، وليس كل شعر نقرؤه في العربية يمثل أخلاق صاحبه وميوله، ولو أن ناقدًا اقتصر في بحثه على تحليل الآثار الأدبية لشاعر عربي من غير أن يدرس حياته، وآراء النقَّاد فيه، لكانت نتيجة بحثه بعيدة كل البعد عن الحقيقة، بل إنه سيعتقد أن أبا العلاء كان من الشجعان المغاوير الذين لا يبالون بشيء كما يصوِّر نفسه في قصيدته اللامية، وأن أبا نواس كان متنسِّكًا مشتغلًا بإثبات الوحدانية والاعتبار بمخلوقات الله كما يبدو في مقطوعاته الزهدية!
فلا بد إذن من العناية بآراء النقَّاد المعاصرين للأديب، وحكمهم عليه، على شرط أن يتنبَّه طالب البكالوريا إلى صلة هذا الناقد بالأديب، إلى ما بينهما من صداقة أو عداوة وأن يقدِّر قيمة الحكم بمقدار تنزُّهه عن الأغراض النفسية وبعده عن الرضا والسخط - كما يقدِّر القاضي قيمة الشهادة بمثل هذا المقياس.
ولا بد له إذن من العناية بترجمة الأديب، وتاريخ حياته ولا بد له من تمحيص الرواية والتثبُّت منها قبل الاعتماد عليها. وليست ترجمة الأديب كما يظنُّ طائفة من الأساتذة - عملًا لا أهمية له، بل هي في الغاية من الأهمية واللزوم، وسرد حياة العظيم -مهما كان نوع هذه العظمة- أبلغ في الدلالة على هذا العظيم من درس خال من الأخبار والحوادث.
وإذا أنكر بعض النقَّاد المعاصرين قيمة التراجم فإنما ينكرون الاقتصار عليها، والقناعة من البحث الأدبي بتاريخ ولادة الأديب ووفاته وسرد طائفة من أخباره. أما درس هذه الأخبار واستنباط أخلاق الشاعر منها، ومبلغ ظهور هذه الأخلاق في شعره، فلا يستطيع أن ينكره أحد، وماذا يبقى إذا محونا حياة الأديب؟ وكيف نبني البحث الأدبي إذا نحن أهملنا مواد البناء؟
1 / 51