في تكوين الأخلاق والميول، أي في تكوين الشخصية الأدبية .. وإذن فبنية بشَّار وحيويَّته المتدفقة، ومعدته القوية، هي التي صنعت غزل بشَّار، ولا غرابة في ذلك فإن خمسة غرامات من السكَّر في بول أشد الناس كفرًا وإلحادًا، تجعله -كما يقول أناتول فرانس- أشد الناس إيمانًا، وإذن فجمال أبي نواس، وطراوة جسمه، وبياض بشرته سبب نبوغ أبي نواس الشعري ... ولو أن بشَّارًا كان مسلولًا، ضعيف البنية، مهدود الجسم، لما مال إلى المرأة، ولما تغزَّل فيها هذا الغزل الزاخر بالميل الجنسي، ولو أن أبا نواس كان غلامًا بشعًا قبيحًا، لما حمله والبة معه، ولما علَّمه الشعر ولكان أجيرًا ذكيًا، يطوي الزمان ذكره كما طوى ذكر الملايين من أمثاله (١)!
وطالب البكالوريا يدرك مقدار ما بين الجهاز الهضمي والجملة العصبيَّة من صلة، ويعرف أن التبدُّل الفيزيائي والكيميائي في ناحية من نواحي هذا الجهاز، يلازمه اضطراب في ناحية من الشخصية أي يلازمه اضطراب نفسي، بل إن قبضًا في الأمعاء، يلزم عنه صداع في الرأس يبدّل نظر المرء إلى الدنيا، فيجعله يائسًا حزينًا إن كان شاعرًا، ومتشائمًا إن كان فيلسوفًا، أي أن الأدب والفلسفة قد يبدِّل طريقهما، ويحولهما عن وجهتهما، فنجان من زيت الخروع، أو حبَّة من البولدولاكسين ... وهذا بحث واسع جدًا. قد يجرّنا الإيغال فيه إلى شهود المعركة التي لا تنقضي بين الفلاسفة الروحيين والماديين ...
وكل ما يعنينا هنا أن هذا العامل من العوامل القويَّة في تكوين شخصيَّة الأديب، وإن لم يكن كما يرى بعض النقَّاد الذين غالوا في تقديره حتى قال أحدهم: صِفُوا لي الجملة العصبيَّة عند أديب أصف لكم أدبه.
ميول الأديب وأخلاقه - حياته:
فإذا نحن درسنا هذه العوامل وعرفنا أثرها في الأديب، انصرفنا إلى درس هذا الأديب نفسه، ودرس الأديب لا يكون باستظهار آثاره الأدبية فقط، ولا يكون بجمع أخباره وحوادثه، ولا يكون بإحصاء آراء النقاد فيه، أعني أن
_________
(١) ويا ليته طوى ذكره، وكفَّ عنا شرَّه.
1 / 50