الجنازة الآس والحناء، وبعدها حفلة (التنزيلة)، ثم (الصباحية) و(العصرية) وللنساء فيها كسوة خاصية تشترى من أجلها، فلا يصك الميت إلى القبر حتى ينفق عليه إن كان من الموسرين خمسة آلاف ليرة، ما أنفق قرش واحد منها في طاعة الله!
وإن حول كل دار من هذه الدور التي تهدر فيها الأموال لمَساكن فيها ناس مثلنا، من بني آدم، من إخواننا في الدين وفي الوطن وفي اللسان، يشتهون عشر معشارها، أو أقلّ منه، ليشتروا به طعامًا يملأ بطون أولادهم، وثيابًا تستر أجسادهم، وإن لهؤلاء الناس (لو عرف الأغنياء!) عيونًا تنظر كعيوننا، وقلوبًا تتألم كقلوبنا، ولهم بنون وبنات هم قطع أكبادهم، وهم (على هلهلة ثيابهم ووساخة أبدانهم) أحبّةٌ إليهم أعزة عليهم كعزة أولادنا علينا، وربما كانوا أزكى من أولادنا نفوسًا وأطهر، وأذكى عقولًا وأمهر، وكانوا أرضى لله وأنفع للوطن منا، ولكن الفقر عطل قرائحهم، وكفَّ أيديهم، وكبل أرجلهم. إن هؤلاء وإن لم يكن في أعراسهم طاقات الزهر، ولم يكن في جنائزهم مولوية ولا آس، ولم يعرفوا طريق المدارس والملاهي، ولم يزهوا بغالي الثياب، ولم يتمددوا على أرائك السيارات، ولم يعرفوا المشيخة التي يأكلون بها الدنيا بالدين، ولا الزعامة التي يجمعون بها المال بالوطنية، إنهم هم عماد هذا الوطن، وهم جمهرة أهله، هم يزرعون القمح ويقدمونه إلينا ثم يعيشون على الذرة والشعير، وهم يبنون لنا القصور ثم يقيمون في الأكواخ مع البقر والحمير، وهم يصنعون بأيديهم (الشكلاطة) التي لا يذوقونها، ويحيكون الثياب التي لا يلبسونها، وهم يسهرون في الطرقات ليحرسونا ونحن نيام، وهم يمشون إلى الميادين ليدافعوا عن أوطاننا ونحن آمنون، وهم قد دفعوا ثمن الاستقلال مهجهم وأرواحهم، ثم لم يتخذوا من خيراته شيئًا.
إن هؤلاء هم ركن الوطن وعماده، وهم أهله وقطانه، فحرام علينا أن ننساهم ونهملهم! حرام أن تبقى هذه الأموال ضائعة، وهذه البطون جائعة! حرام في دين الله، وفي شرعة الإنسانية، وفي قانون الشرف! فأين المصلحون؟ أين المصلحون؟ أين رجال الجمعيات؟ أين أرباب الأقلام؟
1 / 30