وأصيب النديم بالسل بعد ذلك بقليل، واشتدت عليه العلة؛ فمات في الرابع من شهر جمادى الأولى سنة 1314ه، العاشر من أكتوبر سنة 1896، ودفن بتركيا, وهو في الرابعة والخمسين من عمره.
آثاره وأثره:
ولعلك قد أدركت من هذه السيرة أن النديم قد جرب كثيرا من شئون الحياة، وعرف حلوها ومرها، وخالط الفقراء والأغنياء، وعاشر أصنافا شتى من مختلف الأجناس, وعرك الدهر حتى استحصدت مرته، وقويت شكيمته، وإني أدعه يسرد تجربته بنفسه؛ فستعيننا في تعرف أدبه، قال: "أخذت عن العلماء، جالست الأدباء، وخالطت الأمراء، وداخلت الحكام، وعاشرت أعيان البلاد، وامتزجت برجال الصناعة والفلاحة والمهن الصغيرة, وأدركت ما هم فيه من جهالة، وممن يتألمون، وماذا يرجون، وخالطت كثيرا من متفرنجة الشرقيين, وألممت بما انطبع في صدروهم من أشعة الغربيين، وصاحبت جمعا من أفاضل الشرقيين المتعلمين في الغرب ممن ثبتت أقدامهم في وظيفتهم، وعرفت كثيرا من الغربيين , ورأيت أفكارهم عالية أو سافلة فيما يختص بالشرقيين والغاية المقصودة لهم، واخلتطت بأكابر التجار، وسبرت ما هم عليه من السير في المعاملة أو السياسة، وامتزجت بلفيف من الأجناس المتباينة جنسا ووطنا ودينا، واشتغلت بقراءة كتب الأديان على اختلافها، والحكمة والتاريخ والأدب، وتعلقت بقراءة الجرائد مدة، واستخدمت في الحكومة المصرية زمنا، واتجرت برهة، وفلحت حينا, وخدمت الأفكار بالتدريس وقتا, وبالخطابة والجرائد آونة، واتخذت هذه المتاعب وسائل لهذا القصد الذي وصلت إليه بعناء, وكساني نحول الشيخوخة في زمن بضاضة الصبا, وتوجني بتاج الهرم الأبيض بدل صبغة الشباب السوداء، فصورتي تريك هيئة أبناء السبعين، وحقيقتي لم تشهد من الأعوام إلا تسعة وثلاثين".
مخ ۳۲۱