وقد وفد على القطر المصري وفود من كل الطوائف المسيحية، غربية وشرقية، ومن أرمن وأروام وسوريين وفرنساويين وأرثوذكس، وغير ذلك، من علماء وتجار وصناع وعمال وهمل متشردين، فلقي الكل في مصر صدرا رحبا، وكان منهم الموظفون في كل مصلحة، حتى تولى نوبا باشا الأرمني رياسة # النظار في مصر، وكان قائم مقام خديوي، ورئيسا للاحتفال بموكب المحمل الشريف، فهل يوجد في أمة غير الأمة المصرية المسالمة مثل هذا التساهل الذي يرأس فيه احتفالا دينيا رجل غير مسلم.
وكان من علمائهم الأساتذة والمعلمون ونظار المدارس والمفتشون، فهل الأمة التي تربي أبناءها على أيدي أساتذة من غير دينها تعد متعصبة، وكان التجار على ما يحبون من الرحب والسعة وحسن القبول، فضربوا في البلاد بمتاجرهم من غث وسمين، وجيد ورديء, وخالص ومغشوش، حتى صارت مصر من أوسع أسواق متاجر أوربة ومعالمها التي وجدت إقبالا من الأمة هائلا.
وهؤلاء بعض الأجانب يقيمون الأكواخ الصغيرة الحقيرة لبيع الخمور الرديئة في كل قرية من قرى القطر مهما سحقت وقل عددها، أو يربون الخنازير ويثرون شيئا فشيئا, حتى يكون الصعلوك منهم في بضع سنوات صاحب القرية ومزارعها ومداين أهليها وسيدهم، فهل هؤلاء هم المتعصبون الذين يخشى من شرهم في وادي النيل على الأوربيين؟ كيف يكون عند المصريين تعصب ديني وهؤلاء بينهم تتسع معاملاتهم معهم، وكثيرا ما تنتهي هذه المعاملات بمصادرات المدينين في أملاكهم، ولا يخطر على بال مسلم خاطر سوء من ناحيتهم، لعلمه أن دينه ينهاه عن ذلك، حيث لا تكفي القوانين النظامية في زجر النفوس المتعصبة؛ لأن للاعتداء ضروبا شتى وطرقا خفية أكثر منها ظاهرة، وهذه تعديات الأهالي على بعضهم تعد بالألوف، في حين أن تعدياتهم على غيرهم لا تكاد تذكر في جانب تعديات الأجانب على بعضهم في هذه البلاد.
فكيف تعمى أعين الناظرين عن هذه الشمس المشرقة العامة بأسعتها على أرجاء القطر, ويقوم مفترون يزعمون أن في المصريين تعصبا ثائرا يكاد يفتك بالأوربيين لمجرد كونهم مسيحيين، أيها المدعون راقبوا الله في أمة رزئت بالإهمال في شئونها، حتى انحلت عرا الجامعة بين أفرادها، وذهبت منها ريح العصبية في كل شيء, حرام عليكم مع هذا الانحلال أن تتهموها بالتعصب في أشد حالاته".
مخ ۲۵۷