وقال الأبناء لأبيهم: إنا مخلوقون لزمان غير زمانك فاخضع لحكم الزمان، وقد نشأنا في زمن حرية في الآراء، وحرية في الأعمال، وحرية في التصرف، لا كما نشأت في جو من الطاعة والقيد والأسر والتقاليد، فمحال أن يسع ثوبك الضيق أبداننا، وتقاليدك العتيقة البالية نفوسنا، فإن حاولت ذلك فإنما تحاول إدخال الثورة في قارورة، أو لف القصر الكبير بمنديل صغير! قال: نعم. قالوا: وأنت الذي سمح لنا بادئ ذي بدء أن نغشى دور السينما والتمثيل، وأن نسمع الأغاني البلدية، ونشاهد المراقص الأوربية، فإذا أقررت المقدمة فلا تهرب من النتيجة، وأنت الذي عودنا ألا نضع للبيت «ميزانية» فأنت تعطي «ماهيتك» لأمنا تنفق من غير حساب، فإن انتهت في نصف الشهر طلبت منك أن تقترض فاقترضت، وأن تشتري ما لا حاجة لنا به فاشتريت، وأن تقدم الكمالي على الضروري فأطعت؛ فليس لك أن تطالبنا بالاقتصاد في الجدول الصغير، والنهر الكبير ليس له ضابط. وخرق أن تحاول أن تضع ميزانية دقيقة لمصلحة، وميزانية الدولة مبعثرة! قال: نعم. قالوا: وقد أضعت سيادتك على أمنا فلم تفرض سيادتك علينا؟ ورضيت بالخضوع لها فلم تأباه علينا، وهي أم الحاضر وأنت أبو الماضي ونحن رجال المستقبل؟ قال: نعم. قالوا: وأنت نشأت في زمن خضوع تام: خضعت لأبيك في المهد صبيا، وخضعت للفقيه في المكتب وللمدرس في المدرسة، فإذا قلت برأسك هكذا، قال الأستاذ بعصاه هكذا، فنكست رأسك، وغضضت بصرك، وأسعفتك عينك بالبكاء، ولم يسعفك لسانك بالقول؛ فلما صرت «موظفا» وقفت من رئيسك موقفك من أبيك وأستاذك، تنفذ دائما وتطيع دائما؛ ولم يجر على ذهنك يوما تفكير في استقلال، ولا على لسانك نداء بحرية. أما نحن فحريتنا في بيتنا حررتنا على أساتذتنا، ونادينا بالحرية القومية فتبعتمونا في شيء من الرياء، تظهرون الطاعة لرؤسائكم، وتبطنون الرضا عن حركاتنا، وتريدون أن تجمعوا بين الحرص على ماهيتكم والحرص على وطنيتكم المكبوته. قال: نعم. قالوا: فلما قدناك وقدنا رجالنا في السياسة فلنقدكم جميعا في كل شيء. في البيت وفي المال وفي العلم وفي رسم الخطط، ولنقلب الوضع فنكون قادة وتكونوا جنودا، وإلا لم نرض عنكم جنودا ولا قادة.
وقالت البنات لأبيهن: يا أبانا الذي ليس في السماء! رقصت أمنا فرقصنا، وشربت أمنا فشربنا، وشربت سرا فلتسمح لنا بحكم تقدم الزمان أن نشرب جهرا، ورأينا في روايات السينما والتمثيل حبا فأحببنا، ورأينا عريا على الشواطئ فتعرينا، وتزوجت أمنا بإذن أبيها فلنتزوج نحن بإذننا. قال: نعم. قلن: وقد أوصتنا أمنا أن نركب الزوج، ولكننا أمام مشكلة يشغلنا حلها. فإنا نرى شبان اليوم متمردين لا يخضعون خضوعك ولا يستسلمون استسلامك، فإرادتهم قوية كإرادتنا، وهم يحبون السلطة حبنا؛ فهم أحرار ونحن حرائر، وهم مستبدون ونحن مستبدات، فكيف نتفق؟ هل يمكن أن يبقى البيت بعدة استبدادات؟ ولكن لا بأس يا أبانا! هل البيت ضرورة من ضرورات الحياة؟ أو ليس نظام الأسرة نظاما عتيقا من آثار القرون الوسطى؟ قال: نعم. قلن: على كل حال فيصح أن يجرب جيل النساء الجديد مع جيل الرجال الجديد، فإن وقع ما خشينا عشنا حرائر وعاشوا أحرارا، وطالبنا بتسهيل الطلاق وبهدم المحاكم الشرعية على رءوس أصحابها، وتعاقدنا تعاقدا مدنيا. قال الأب: وماذا تفعلن بما ترزقن من أبناء وبنات؟ قلن: لك الله يا أبانا! إنك لا تزال تفكر بعقل جدنا وجدتنا! لقد كنت أنت وأبوك وجدك تحملون أنفسكم عناء كبيرا في التفكير في الأولاد، وتضحون بأنفسكم وأموالكم في سبيلهم، وتعيشون لهم لا لكم. أما عقليتنا أهل الجيل الحاضر فأن نعيش لأنفسنا لا لغيرنا. لقد ضحك عليكم الدين والأخلاق ففهمتم أن الواجب كل شيء، وكشفنا اللعبة ففهمنا أن اللذة كل شيء، فنحن نمنع النسل، فإذا جاء قسرا فليعش كما يشاء القدر؛ ولنقدم حظنا على حظه، وسعادتنا على سعادته، ولا نفكر فيه طويلا، ولا يتدخل في شئوننا كثيرا ولا قليلا.
قال الأب: وأمر المال كيف يدبر؟ كيف تعشن أنتن وأولادكن إذا كان طلاق وكان فراق؟ قلن: هذا ظل آخر ظريف من ظلال تفكيرك، دع هذا يا أبانا والبركة أخيرا فيك. •••
أما بعد، فقد خلا الأب يوما إلى نفسه، وأجال النظر في يومه وأمسه، فبكى على أطلال سلطته المنهارة، وعزته الزائلة، ورأى أنهم خدعوه بنظرياتهم الحديثة، وتعاليمهم الجديدة - قال: لقد قالوا: إن زمان الاستبداد قد فات ومات، فلا استبداد في الحكومة، ولا استبداد في المدرسة، فيجب ألا يكون استبدادا في البيت؟ إنما هناك ديمقراطية في كل شيء، فيجب أن يكون البيت برلمانا صغيرا يسمع فيه الأب رأي ابنه ورأي ابنته ورأي زوجه، وتؤخذ الأصوات بالأغلبية في العمل وفي المال وفي كل شيء؛ وقالوا: تنازل عن سلطتك طوعا، وإلا تنازلت عنها كرها، وقالوا: إن هذا أسعد للبيت، وأبعث للراحة والطمأنينة، وقالوا: إن هذا يخفف العبء عنك، فنحن نقسم البيت إلى مناطق نفوذ: فمنطقة نفوذ للمرأة، وأخرى للرجل، وثالثة للأولاد، وكلهم يتعاونون في الرأي ويتبادلون المشورة. سمعت وأطعت فماذا رأيت؟ رأيت كل إنسان في البيت له منطقة نفوذ إلا شخصي، ولم أر البيت برلمانا، بل رأيته حماما بلا ماء، وسوقا بلا نظام، إن حصلت على مال أرادته المرأة فستانا، وأرادته البنت بيانو، وأراده الابن سيارة؛ ولا تسل عما يحدث بعد ذلك من نزاع وخصام. وإن أردنا راحة في الصيف أردت رأس البر لأستريح، وأرادت الأم والبنت الإسكندرية قريبا من ستانلي باي، وأراد الابن أوربا؛ إلى ما لا يحصى، ولا يمكن أن يستقصى؛ وأخيرا يتفقون على كل شيء إلا على رأيي. فوالله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما تزوجت، فإن كان ولا بد ففلاحة صعيدية، لم تسمع يوما بمدينة، ولم تركب يوما قطارا إلى القاهرة والأسكندرية، لها يد صناع في عمل «الأقراص» ورأس صناع في حمل «البلاص».
أيتها الزوجة! ويا أيها الأبناء والبنات! ارحموا عزيز قوم ذل!
والراديو أخيرا!
نشأت في حي وطني، لم يأخذ من المدنية الحديثة بحظ قليل ولا كثير، يعيش أهله عيشة وادعة هادئة بطيئة، لم تتغير عن معيشة القرون الوسطى إلا قليلا. ولم تنقطع الصلة بينهم وبين آبائهم وأجدادهم؛ إذا عرضت عليهم صفحة من حياة مصر قبل بضع مئات من السنين فهموها حق الفهم، وقرءوها في أنفسهم وفي معيشتهم، فكانت الصلة بيني وبين سكان القاهرة في عهد الفاطميين أو الأيوبيين أو المماليك أقرب من الصلة بين ابني وعهد إسماعيل؛ فالحياة في السنين الأخيرة غيرت سكان المدن تغييرا كبيرا، ونقلتهم نقلة مفاجئة سريعة، حتى ليحملق الطفل في عينك استغرابا إذا حدثته بحديث يتصل بالحياة الاجتماعية في عهد جده أو جدته، ويرى كأن الدنيا خلقت خلقا جديدا.
كانت حارتنا تمثل طبقات الشعب المختلفة: يسكنها البائع الجوال، يظل نهاره وشطرا من ليله متنقلا في الحارات والشوارع، ينادي على البلح في موسم البلح، والخيار في موسم الخيار. وأسرته وأقاربه يعيشون جماعات في بيت كبير عيشة بائسة تعسة، كل جماعة في حجرة.
وطائفة من الموظفين من رئيس قلم في وزارة الأوقاف، وكاتب في وزارة الأشغال يمثلون الطبقة الوسطى في حياتهم الاجتماعية والمدنية.
وبيت أرستقراطي واحد، كان ربه نائب المحكمة الشرعية العليا، وكان متقدما في السن، عظيم الجاه، وافر المال، له الخدم والحشم، يرهبه الكبير، والصغير، وله عربة فخمة، تضرب خيولها الأرض بأرجلها فتملأ القلوب هيبة؛ وكان كل سكان الحارة يسمونه «الشيخ» من غير حاجة إلى ذكر اسم، فالشيخ ركب، والشيخ جاء، وعند بيت الشيخ - وكان الشيخ نعمة على الحارة، فلا تستطيع امرأة أن ترمي ماء قذرا أمام بيتها خوفا من الشيخ، ولا يستطيع قوم أن يرفعوا أصواتهم في السباب والنزاع خوفا من الشيخ؛ ولذلك امتازت حارتنا عن مثيلاتها وعما يجاورها بالنظافة والهدوء.
ناپیژندل شوی مخ