165

فیض خاطر

فيض الخاطر (الجزء الأول)

ژانرونه

لقد اعتاد الناس أن يفروا من عنائهم إلى المقاهي والفنادق في الهواء الطلق، وعلى شواطىء الأنهار والبحيرات والبحار، ولكنها كلها تفيد الجسم، ولا تفيد - كثيرا - الروح والنفس، هي من نوع المستشفيات البدنية لا المستشفيات الروحية والنفسية، فيها - عادة - كل مظاهر المدنية وتعقيداتها وأخيلتها وتكاليفها، فهي لا تغني غناء صحيحا في العلاج النفسي والروحي، إنما يغني هذا الغناء أنواع المعاهد والمؤسسات قد بنيت على أساس نفسي وروحي لا تعبأ بزخارف المدنية وزينة الحضارة، تريح النفس من عناء التكاليف والتقاليد، وتسمو بها فوق المواضعات والمصطلحات، فتجد النفس راحتها الطليقة، وتعود إلى طبيعتها الحرة، وتسبح في تأملاتها، وبذلك تسترد حيويتها ونشاطها. •••

في سكون الظلماء يرى الإنسان بعينه ما لا يراه في الضياء، ويسمع بأذنه ما لا يسمع في الضوضاء؛ على أنه هو لا يرى بعينه فحسب، ولا يسمع بأذنه فحسب، بل كل شيء فيه يسمع ويرى، يفهم منطق الطير، ويتذوق موسيقاه، ويدرك معاني المياه في خريرها، والرياح في هبوبها، والأشجار في حفيفها؛ فكأنه منح من الحواس أضعاف حواسه، وملك من الملكات ما لا يعد بجانب ملكاته؛ وكأن عالم الصخب والجلب يغشي عينه، ويثقل سمعه، ويبلد عقله، ويثلم ذوقه؛ فلئن كان الصوت في عالم الحس له حدود، فإذا قلت تموجاته عن حدوده أو زادت انعدم السمع، فليس في عالم الروح حدود للصوت؛ ولئن كانت العين في عالم الحس لا تدرك من الألوان إلا أقلها، وتعجز عن إدراك أكثرها، فعين الفكر لا يحدها حد ولا يعجزها لون؛ ولئن كانت عيوننا الباصرة لا تبصر إلا في ضياء، وآذاننا لا تسمع إلا من قرع هواء، فعيوننا وآذاننا الروحية تستعين بالسكون والظلماء، أكثر مما تستعين بالضوء والهواء. •••

إنى لأرثي لهؤلاء الذين يضيعون كل حياتهم في هزل، بل أرثي كذلك لهؤلاء الذين بقضون نهارهم في وظائفهم وأعمالهم، ثم ينصرفون إلى لهوهم حتى يناموا، بل أرثي أيضا لهؤلاء الذين يقضون أوقاتهم بين بحث علمي، وقراءة وتأليف وتعليم، ثم لهو قليل ونوم. وأعتقد أن هناك عنصرا في الحياة ينقصهم وهو عنصر التأمل؛ ولست أعني بالتأمل ذلك الضرب من الأسلوب المنطقي العلمي في البحث والتفكير، إنما أعني ذلك الضرب الذي عناه القرآن بمثل قوله:

قل انظروا ماذا في السماوات والأرض

هو نوع من العقل قد مزج بنوع من الشعور، وقد امتاز به الشرق عن الغرب قديما، ومن ثم كان مبعث الأديان ومصدر الإلهام.

في هذا الضرب من التأمل يجد الإنسان نفسه حيث لا يجدها في هزل ولا جد، وفيه يعرف نفسه على حين أنه يعرف غيره أكثر مما يعرف نفسه، وفيه يجلس إلى نفسه ويصادقها ويصارحها، على أن أكثر الناس يجالسون الناس ولا يجالسون أنفسهم، ويصارحون الناس ولا يصارحون أنفسهم، ويصادقون الناس وهم أعداء لأنفسهم.

وأظن أن في الاستطاعة أن يوضع برنامج متسلسل للتأمل كبرنامج القراءة والكتابة وتعلم اللغات وتعلم العلوم، يبدأ فيه بألف باء التأمل، وينتهي بائه إن كان له ياء، وتخصص له حصص يومية كحصص المواد العلمية، وإن كانت حصصه تمتاز بأنها في ميسور كل إنسان، ليست تحتاج إلى مدرسة يتردد عليها، ولا إلى معلم يؤجر، ولا أدوات وكتب يتداولها، إنما هي من قبيل تربية النفس بالنفس، وليست تحتاج إلى مران واعتياد وعرفان بكيفية السلوك.

أول دروسها أن تخلو بنفسك، ولا يكون ذلك إلا في هدوء وسكون، وخير أن يكون في ظلام، ثم تجرد في هذه الحصة من شواغل الدنيا وهمومها، واستعرض نفسك من حيث بدنك كيف تؤذيه ببعض عاداتك، وهل تدبره تدبير عاقل حكيم، أو مستبد جاهل، وما خير الوسائل لإصلاح ما تقع فيه من أغلاط؟

وتدرج من هذا التأمل في ناحية أخرى نحو علاقتك بعقلك، وعلاقتك بالناس واستعراض ما يكون منك ومنهم.

وأرق إلى خطوة ثالثة تسائل فيها نفسك: ما غايتك وما مبادئك في الحياة؟ وهل وضعت لها خططا؟ وما مقدار تقدمك إليها أو تأخرك عنها؟

ناپیژندل شوی مخ