146

فیض خاطر

فيض الخاطر (الجزء الأول)

ژانرونه

ولكن هناك شاعرا أراد أن يخرج على هذه التقاليد، وأراد أن يقيس الشباب والفتوة بالمعنى لا بالمبنى، وبالقوة لا بالسن، فقال:

يا عز هل لك في شيخ فتى أبدا

وقد يكون شباب غير فتيان؟

فهو لا يريد أن يعترف بأقوال الإحصائيين، ولا أقوال اللغويين؛ فقد يسمى الشيخ شابا متى حاز صفات الشباب، وقد يسمى الشاب شيخا إذا حاز صفات الشيوخ، فالعبرة عنده في التسمية الصفة لا السن، وهي من غير شك نظرة جريئة ومذهب جديد ينظر فيه إلى الكيف لا إلى الكم، وإلى النتائج لا إلى المقدمات، وإلى الغاية لا إلى الوسيلة؛ فإذا عرضت عليه رجلا قد ناهز الستين أو جاوزها، قد لبس في حياته العمائم الثلاث: السوداء ثم الشمطاء ثم البيضاء، وعرضت بجانبه من يسمونه شابا، لم يلبس في حياته إلا العمامة الأولى. ثم سألت صاحب هذا المذهب: ما قولك دام فضلك في هذين: هذا أربى على الستين، وهذا في سن العشرين، فأيهما الشاب، وأيهما الشيخ؟ لم يستسخف سؤالك، ولم يعده بديهية من البديهيات، بل عده مجالا للنظر الطويل والتفكير العميق، وقال: ليس الأمر بالسن أيها السائل، فمن رأيته منهما متهدما قد نضب ماؤه، وذهب رواؤه، وذوى عوده، وخوى عموده، ورق جلده، وانخرع متنه، وحطمته اللذات، وأنهكت قوته الشهوات، حتى صار لا يحمل بعضه بعضا، فهو شيخ وإن كان ابن العشرين؛ ومن امتلأ قوة، وبلغ كمال البنية، واستوت قامته، واعتدل غصنه، وحفظت جدته، وأحكمت مرته، وتجلت رجولته، واكتمل نشاطه، فهو الشاب ولو جاوز الستين. إنما يلجأ إلى السن في تحديد الشباب والشيخوخة من قصر نظره، وضعفت قوة حكمه، وأراد أن يعالج الأمر من أسهل طرقه، وأقرب مسالكه، وذلك شأن الغر الأبله، لا الفيلسوف الحكيم. ولم كنا إذا قسنا العلم وقسنا الكفاية، وقسنا الخلق والصلاحية للأعمال لم نرجع في شيء من ذلك إلى السن، وإذا قسنا الشباب والشيخوخة رجعنا إلى السن؟ ليست السن مقياس الشباب، وإنما أحسن أحوالها أن تكون علامة الشباب، وقد تتخلف العلامة، كحكمنا على الرجل بالعلم؛ لأن لديه شهادة الليسانس في الآداب أو الليسانس في الحقوق، وقد يكون معه الليسانس أو الدكتوراه وليس بعالم، كما يكون في سن العشرين وليس بشاب. إن الشباب أو الشيخوخة معنى لا مادة، وقد علمتنا قوانين الحياة أن المادة تقاس بمادة، والمعنى يقاس بالمعنى. فنحن نقيس الحجرة المادية بالمتر المادي، ونكيل القمح المادي بكيلة مادية، ونزن التفاح المادي برطل مادي؛ ولكن من السخف بمكان أن نقيس الفضيلة أو الجمال أو القبح بمتر أو رطل أو قدح، فلم نقيس الشباب وهو معنى بالسن وهي مادة؟

بل لو تعمقنا أكثر من ذلك لوجدنا أن حسن الرواء وجمال المنظر ومرح النشاط ليست هي المقياس الصحيح للشباب، إنما الشباب مزاج، هو محصل لمجموع قوى نفسية، هو حاصل جمع لصفات خلقية، إن شئت فقل: هو الإرادة قوية تعزم العزم لا رجوع فيه، وتزمع الأمر لا محيد عنه، وترمي إلى الغرض لا سبيل إلا إليه. تعترض الصعاب فلا تأبه لها، وتخر السماء على الأرض فلا تتحول عنه. قد تعترف بأن هناك عقبه، ولكن لا تعترف بعقبة كئود، وقد تقر بصعوبة الأمر، ولكن لا تقر باستحالته، والشباب هو العاطفة القوية المتحمسة الصحيحة، ومظاهر صحتها أنها ثابتة، فليست «قشا» تشتعل سريعا وتخمد سريعا، وليست مضطربة تذهب مرة يمينا ومرة يسارا من غير غرض يحدد اتجاهها، وليست مائعة تحب فتذوب في الحب، وتغضب فتجن في الغضب إنما ألجمها بعض الإلجام العقل والمصلحة والغرض، والشباب هو الخيال الخصب الواسع الأفق المترامي الأطراف الذي يرسم الأمل، ويبعث على الطموح، ويحمل المرء على أن يتطلب لنفسه ولأمته حياة خيرا من حياتها الواقعية - هذا المزاج الذي يتجمع من إرادة قوية وعاطفة حية وخيال خصب هو الشباب، وبمقدار قوتها وتلاؤمها تكون قوة الشباب، وبمقدار نقصها تكون الشيخوخة؛ فالشباب موجب والشيخوخة سالبة، والشباب إقدام والشيخوخة إحجام، والشباب نصرة والشيخوخة هزيمة.

وإذا كان الناس قد اعتادوا أن يصطلحوا على علامات للشيب والشباب حسب تفسيرهم الباطل فإن لنا علامات أخرى على تفسيرنا الصحيح.

لقد جعلوا الرأس موضع أهم الأمارات؛ فسواد الشباب وبياض المشيب أكثر ما دار عليه القول في الشيخوخة والشباب، وهو مركز القول في ذلك عند الأدباء والشعراء، حتى ألفوا في ذلك الكتب الخاصة، من أشهرها كتاب «الشهاب في الشيب والشباب». وقد التفت مؤلف هذا الكتاب في مقدمته إلى فكرة جليلة، ولكنه لم يحسن تعليلها، قال: «إن الإغراق في وصف الشيب والإكثار في معانيه، واستيفاء القول فيه، لا يكاد يوجد في الشعر القديم، وربما ورد لهم فيه الفقرة بعد الفقرة، فكانت مما لا نظير له، وإنما أطنب في أوصافه واستخراج دفائنه والولوج إلى شعابه الشعراء المحدثون».

وعلة ذلك في نظري أن الحياة في الجاهلية وصدر الإسلام لم تكن غالية، كانت تتطلب المجد وتسترخص الموت، غير أن المجد في الجاهلية كان مجد الذكر وحسن الأحدوثة، والخوف من العار واتباع التقاليد؛ وكان في الإسلام ذلك، وعند بعضهم الاستشهاد في سبيل الدعوة وبيع النفوس لله برضاه وجنته، فليست الحياة تستحق البكاء الطويل عليها. أما في العصر العباسي فكانت أشبه بحياة الرومانيين، من أهم أغراضها اللهو واللعب، ومن أغراضها القرب إلى النساء والتحبب إليهن، وذلك يستدعي حب الحياة؛ فنذير الموت وهو الشيب بغيض إلى النفس، والنساء يكرهن الشيب فيجب أن يكره، ويعيرن به فيجب أن يبكى، ويمدحن الشباب ويحببنه فيجب أن يرثى؛ لهذا كثر القول في الشيب في العصر العباسي وما بعده ، وقل فيما قبله.

أما علامات الشباب والشيخوخة في نظريتنا فليس موضعها الرأس؛ لأن موضعها القلب؛ فاليأس شيخ لأن اليأس ضعف في الإرادة وضيق في الخيال وبرودة في العاطفة، والشيب شيب القلب لا شيب الرأس؛ فمن لم ينفعل لمواضع الانفعال، ولم يعجب من مواضع الإعجاب، ولم يستكره في مواضع الاستكراه، ولم ينازل في مواضع الكفاح، ولم يطرب للموسيقى الجميلة والمنظر الجميل، ولم يهتج للأحداث، ولم يأمن ولم يطمح، فهو شيخ أي شيخ، شاب قلبه وإن كان أسود الرأس حالكه.

إن أردت أن تعرف أشيخ أنت أم شاب، فسائل قلبك لا رأسك: هل ينبض بالحب، حب الجمال، وحب الطبيعة، وحب الفضيلة، وحب الإنسانية؟ وهل ينفعل لذلك انفعالا قويا فيهيم ويغار ويدافع ويضحي؟ هل يتصل بالعالم فيتلقى أمواجه الأثيرية من الناس، ومن الأرض، ومن البحر، ومن الجبل، ومن السماء، ثم يلقى بأشعته - كما تلقى - على كل من حوله، فينفعل ويفعل، ويتأثر ويؤثر، فهو كالقمر يتلقى من الشمس ضياء وهاجا، ويعكسه على الأرض نورا وضاء؟ هل يبادل من حوله حبا بحب، وعاطفة بعاطفة، وخيرا بخير، وأحيانا شرا بشر؟ وهل يترك العالم خيرا مما تسلمه؟ أو أنه قلب بارد كالثلج، جامد كالصخر، لا طعم له كالماء، ميت كالجماد، مغلف كالخرشوف؟

ناپیژندل شوی مخ