2
ستتجلى القصيدة في أوقات أخرى، كضوء هادئ، مريح للعين، ترى بفضله مشهدا بسيطا وقد تفتح أمامك. قد يصف الشاعر مشهدا عاديا - أو بدا عاديا لعيوننا حين مرت عليه في تجوالها اليومي - ليحوله إلى لوحة فنية. لكن هذه البساطة لا تعني أيضا التخلي عن الإدهاش، والبحث عن الجديد.
السؤال هنا ليس سؤال اختيار من متعدد، لست مجبرا على الانتصار للوضوح على حساب الغموض، ولا العكس. لست مجبرا على صياغة رؤية جمالية تتحيز فيها لأحد الطرفين؛ بل تحتاج في المقابل إلى التعامل مع كل نص بجدية وصبر: إن بدا غامضا فقد تزيل إعادة القراءة غموضه، وإن بدا واضحا فقد تكشف إعادة القراءة جوانب أخرى فيه، أو أسئلة متنكرة في زي الوضوح الذي قد يكون خادعا.
3
قرأت في المقابل لمن توقع أن يأتي الوقت الذي تتمكن فيه مواقع بيع الكتب ك «أمازون» مثلا من كتابة كتب كاملة بشكل آلي، بناء على ما تجمعه من إحصاءات؛ فمن خلال موقعها، ومن خلال أجهزة «كندل» الخاصة بها، تعرف «أمازون» ما يقرؤه الناس، وتعرف أيضا المقاطع التي يظللونها أثناء القراءة، ومتى يتوقفون عن القراءة. ووفقا لهذا التخوف، قد يأتي اليوم الذي تتمكن فيه هذه الشركات من تحويل جبل البيانات الذي تملكه إلى كتب فعلية تكتب بشكل آلي للتوافق مع ما يرغب الناس في قراءته؛ كي تساعد على تنمية أرباحها . قد تبدو فكرة كتابة كتب كاملة من قبل حاسب عملاق الآن غريبة أو مستبعدة، لكن على أي حال، هناك من الكتاب من يقومون بهذه المهمة بالفعل: من يخلطون خلطات «غير سرية» لكتابة رواية، أو كتاب يضمن تحقيق مبيعات عالية.
4
هناك من يقلب القنوات، ويقرأ أعمدة الرأي، فقط ليستمع ويقرأ ما يريده من آراء. يريد أن يستمع إلى رأيه الخاص مصوغا بأشكال مختلفة؛ يبحث عما يطمئنه إلى كونه على صواب، لا ما يعرفه بالحقائق المختلفة للعالم. هناك من السياسيين والمذيعين وكتاب أعمدة الرأي، من يقولون بالضبط ما يظنون أن الناس يريدون سماعه، فقط لكي تتزايد شعبيتهم. أظن أن أمرا مماثلا يحدث في الشعر؛ البعض يكتب ما يظن أن الناس يريدون سماعه، يكتب ما يعبر عن الجموع، بدلا من جهد اللعب والتجريب؛ بحثا عما يعبر عن نظرته الفريدة باعتباره شاعرا.
5
يبدو أحيانا أننا في حاجة لإعادة التأكيد على البدهيات: نكتب الشعر لقراء الشعر. من تمر عليه شهور أو سنوات دون أن يهتم بقراءة ديوان جديد أو قديم من الشعر، فليس هو القارئ المثالي الذي يكتب له النص في العادة، وليس هو بالتالي معيار التقييم في وضوح النص أو غموضه، ولا في جودته أو عدم جودته. لا أستبعدهم بالضرورة كقراء، لكن ليس من المفيد ولا المنطقي أن نكتب أشعارنا لتناسب أناسا لا يظهرون في الأساس سوى اهتمام ضئيل بالشعر.
قراءة الشعر ترفع لياقتنا الذهنية، وتطور ذائقتنا، وتعلمنا الجديد بشكل مستمر. قراءة القصيدة - سواء بدت واضحة أو غامضة - لا يمكن أن تتم بتعجل: التعامل مع القصيدة يكون بالتوقف عند كل سطر، وإعادة القراءة عدة مرات للاستمتاع بها وتذوقها. أما أن نتناولها بتعجل كما نتناول الوجبات السريعة في الطريق، فيكون في أوقات كثيرة بلا جدوى. يقول البعض إن من القراء من يمتنع عن قراءة الشعر بسبب تعالي الشعراء على القراء، ومغالاتهم في كتابة النصوص الصعبة الملغزة، لكني أذكر دائما أن المكتبات مليئة بدرر من دواوين الشعراء القدماء والمحدثين ذوي الاتجاهات والأساليب المختلفة، وأن من يريد أن يقرأ أي لون يريده من الشعر فسيجده بسهولة، ومن لا يقرأ فهو ببساطة غير مهتم، وغير محب للشعر بما يكفي.
ناپیژندل شوی مخ