مقدمة
مرايا
ماذا لو؟
الحوار وشبه الحوار
وجهات النظر: بين النسبوية والحقيقة الوحيدة
نظريات المؤامرة وتفسير العالم
طرق
إعادة تشكيل العالم
تعليمات مقترحة لغارق في متاهة
أسئلة الفأر في المتاهة
السير في الزمن
حدث في المستقبل
آنست نارا
نرسيس وغولدموند لهرمان هسة
رواية المزحة لميلان كونديرا
أن تملك أو أن تكون: الإنسان بين الجوهر والمظهر
شطح المدينة
تحسين القبيح وتقبيح الحسن
أحلام أينشتاين
حكاية للكائن الزمني
هواء افتراضي
صحارى إلكترونية
عن المدونات
عروض الكتب بين المدونين والنقاد
كتب قديمة للبيع
وصف الغيوم
الكتابة: موهبة الاحتيال على الصمت
وصف الغيوم: العالم كمرآة - الذات كعالم
زجاج نصف معتم
النوافذ
المفارقة
الأحلام نصوص أدبية
طرق الكتابة الجانبية
أن ترى ما لا ترى
كلام عن الكلام
مقدمة
مرايا
ماذا لو؟
الحوار وشبه الحوار
وجهات النظر: بين النسبوية والحقيقة الوحيدة
نظريات المؤامرة وتفسير العالم
طرق
إعادة تشكيل العالم
تعليمات مقترحة لغارق في متاهة
أسئلة الفأر في المتاهة
السير في الزمن
حدث في المستقبل
آنست نارا
نرسيس وغولدموند لهرمان هسة
رواية المزحة لميلان كونديرا
أن تملك أو أن تكون: الإنسان بين الجوهر والمظهر
شطح المدينة
تحسين القبيح وتقبيح الحسن
أحلام أينشتاين
حكاية للكائن الزمني
هواء افتراضي
صحارى إلكترونية
عن المدونات
عروض الكتب بين المدونين والنقاد
كتب قديمة للبيع
وصف الغيوم
الكتابة: موهبة الاحتيال على الصمت
وصف الغيوم: العالم كمرآة - الذات كعالم
زجاج نصف معتم
النوافذ
المفارقة
الأحلام نصوص أدبية
طرق الكتابة الجانبية
أن ترى ما لا ترى
كلام عن الكلام
الفأر في المتاهة
الفأر في المتاهة
تأليف
أحمد ع. الحضري
مقدمة
كأنك تقف أمام لوحة كبيرة بعرض جدار أو بناية، تنظر إليها فترى قطعا وشذرات، دون أن تتمكن من رؤيتها بالكامل، تبدأ من جزء ما، وتحاول الانتقال إلى أجزائها الأخرى. تعرف أنها أجزاء من كل واحد، لكنك لم تفهم الترابط بين الأجزاء بعد ولم تلتقطه عيناك، لكنك تحسه؛ تكرر النظر إلى اللوحة، قد تعيد زيارتها عدة مرات قبل أن تستطيع أن تقول عنها بضع كلمات تعبر عما تحسه. كأنك أمام هذه الجدارية، تتراجع خطوة، ثم ثانية، فثالثة، حتى يلامس ظهرك جدارا ما، بينما عيناك منشغلتان بمحاولة النظر للصورة مكتملة.
لم أستطع في هذا الكتاب أن أتحدث عن الكتابة دون أن أتحدث عن العالم، وعن نفسي، وعن أسئلتي التي تؤرقني، وشكوكي التي تملؤني. لم أستطع في المقابل الحديث عن العالم دون التطرق إلى الكتابة، كأنهما وجهان لعملة واحدة. كثير من مقالات الكتاب واضح فيها هذه الرؤية، وهذا التحيز الذي يتناول الموضوع الواحد من عدة زوايا، كأنك تضعه في المركز وتنشر حوله عددا من كاميرات التصوير التي تتناول كل منها زاوية بعينها، أملا في أن تكون معا رؤية أشمل. نفس الأمر يمكن قوله عن هذا الكتاب ككل؛ فقد افترقت مقالاته بين أربعة أقسام متنوعة الموضوعات بدرجة ما، لكنها أيضا - من وجهة نظري - مقاطع من نفس الصورة: زوايا نظر مختلفة تحاول الاقتراب من ثنائية الكتابة والعالم.
تحدثت في مقال «وصف الغيوم: العالم كمرآة - الذات كعالم»، كيف ننظر للعالم أحيانا لنرى أنفسنا أو شذرات منها فيه، أشرت في نفس المقال إلى إحدى الرؤى التي تتحدث عن دور الفن والأدب، وتتعرض هذه الرؤية إلى دور الفن والأدب في زيادة فهمنا للعالم، وزيادة مرونتنا في التعامل معه من خلال التعريف بالأنماط الجديدة في العالم.
في حديثي عن العالم، انشغلت بتقديم صورة سائلة للعالم، العالم الذي يتغير بشكل دائم، العالم المربك الذي يثير داخلنا الأسئلة والحيرة والشك. تحدثت عن الطرق المختلفة أو المتعارضة للنظر إليه، وتحيزت لنظرة تقبل وجود الآراء المختلفة معا، نظرة ترفض الجمود والتعصب. لكن الأهم أن تناولي لها غير منفصل عن الاهتمام بالكتابة، فقد تلاحظ في اختيار موضوعات القسم الأول هذا التحيز، ففيه مقالات عن: وجهات النظر، وعن الحوار، وعن الزمن.
فكرت في أقسام هذا الكتاب كأنها محطات لنفس الرحلة، تبدأ من «مرايا» التي تضم مقالات عن النظر إلى الذات والعالم، ومرورا بالقسم الذي عنونته ب «آنست نارا» والذي أتحدث فيه عن نماذج قابلتها من كتابات وإبداعات انشغلت بنفس الهم ، حتى إن مقالات هذا القسم هي بشكل ما امتداد طبيعي لمقالات القسم الأول - ثم هواء افتراضي - الذي يضم بضعة مقالات تتحدث عن الكتابة والنشر في العالم الافتراضي، لنصل في النهاية إلى مقالات «وصف الغيوم» التي تتحدث عن قضايا متعلقة بعملية الكتابة بشكل أساسي.
هناك فارق بين ما نظن أننا نراه في العالم، وما نراه فعلا، فارق بين ما نظن أننا نعتقده وما نعتقده بالفعل، فارق بين ما نعيه عن أنفسنا وعن العالم، وبين ما نعرفه بشكل ما دون أن نعيه، تظهر هذه الانقسامات في أفعالنا ونظراتنا وأحلامنا وتعاملاتنا مع الآخرين. في مقال «أن ترى ما لا ترى» تحدثت من وحي حالة طبية نادرة قرأت عنها، يستطيع فيها المريض الاستجابة لمعلومات بصرية لا يدرك بشكل واع أنه يراها، هذه الحالة واقعية تستحق التأمل والتعلم منها، لكنها تصلح كذلك كاستعارة معبرة وكاشفة لحالة الكتابة، واستعارة العمى موجودة في مقالات أخرى من الكتاب، للتعبير عن زوايا أخرى من نفس الفكرة.
في مقال «كلام عن الكلام»، الموجود في القسم الأخير من الكتاب، أقول: «لو وضعت أي شيء في مركز اهتمامك فستبدأ في رؤيته في العديد من الأشياء الأخرى: صلات، تشابهات، تضادات، أعم، أضيق ... لو أنك شغوف بالعمارة فستشاهد البنايات والشوارع والنباتات والحيوانات والبشر والطبيعة والكون كمعمار، وستكون قادرا على التعلم منها والاستفادة منها كمصدر للإلهام.» وأظن أنني هنا في هذا الكتاب أضع الكتابة في مركز اهتمامي، أنظر إليها حتى عندما أكون في سياق الحديث عن موضوعات منفصلة ظاهريا.
مرايا
ماذا لو؟
يحكي «ديدرو» في «رسالة حول العميان» عن حداد أعاد له الطبيب نظره الذي حرم منه طوال عمره. كان قد تعود طوال خمسة وعشرين عاما أن يتحرك ويتعامل مع العالم فقط بواسطة حواس السمع واللمس والشم والتذوق؛ فلما عاد له نظره صار لفرط ارتباكه يغلق عينيه حتى يتمكن من التعامل مع العالم الذي تعوده، أو بالأحرى لكي يتجنب التعامل مع ارتباكات الحاسة الجديدة التي لا يعرف كيف يتعامل بها بعد. يذكر «ديدرو» كيف اضطر الطبيب إلى إجباره في أوقات على فتح عينيه حتى يتمكن من التدرب على الرؤية؛ «فكان «دافيل» يقول له وهو يوسعه ضربا: هلا نظرت أيها الفظ!»
يصف «ديدرو» في الرسالة نفسها - في سياق حديثه عن أعمى آخر - طبيعة الارتباك الذي قد يقع فيه مثل هذا الشخص. يصف كيف لم يميز لفترة طويلة بين الحجوم ولا بين الأبعاد ولا بين الأوضاع ولا حتى الأشكال. ارتبك بين الأقرب والأبعد، والأصغر والأكبر، يسأل كيف أن يدا توضع أمام عينيه قد تحجب عنه الغرفة؛ فيحتار: هل يدي أكبر من الغرفة؟! وهو يعلم أن هذا غير صحيح، لكنه لم يفهم بعد كيف خدعه نظره بهذه الطريقة. كان يرى لوحة مرسومة أمامه؛ فتريه إياها عيناه مجسمة، لكنه حين يمسها بيديه يجدها مجرد سطح سوي ليس فيه أي بروز. يقول «ديدرو»: «فسأل حينئذ عن المخادع؛ إن كان حاسة اللمس أم حاسة البصر!»
من ضمن الأمور المثيرة للاهتمام والفضول عند التفكير في مسألة العمى، ما نتعلمه عن أنفسنا عندما ننظر إلى حال من فقد بصره. نصاب بالدهشة في أوقات كثيرة من حدة ودقة استغلاله لحواسه الأخرى بشكل قد نظن تلقائيا أنه غير ممكن. لكن جانبا آخر مثيرا للاهتمام يلح علينا في هذا السياق، هو الطريقة التي يتمثل بها شخص ولد أعمى العالم. يقول «ديدرو»: «يتكلم صاحبنا عن المرآة في كل آن، وأنت تظن أنه لا يدري ماذا تعني كلمة مرآة؛ إلا أنه لن يضع مرآة على نحو معاكس للنور أبدا.» يسأله أحدهم: «وما العيون في رأيك؟» فيجيبه بأنها «العضو الذي يؤثر عليه الهواء تأثير عصاي على يدي.» قياسا على هذه الإجابة البديعة تخيل كيف سيصف أعمى مرهف الحس تفاصيل العالم المعتادة بالنسبة لك بشكل مختلف تماما عن المتوقع، لك أن تتصور كم من الشعر سيظهر بشكل تلقائي في إجاباته تلك. اسأله عن: الدائرة، أو المثلث، أو الخط المستقيم، أو الشمس، أو القمر، أو السماء، أو الأرض، أو الطريق، أو الجمال، أو القبح؛ اسأله عن أي شيء يخطر على بالك ، وسيجيب. كي يسير في هذه الحياة ويتواصل ويتكلم، لا بد أن يضع في عقله تعريفات لهذه الأشياء، لكن تعريفاته تتناسب مع خبراته ومع الطريقة التي يعيش بها في العالم. عالم الأعمى ليس عالما خاليا من المعاني، حتى لو وجد مجتمع كامل من العميان، سيوجد ويتطور في مساره الخاص، وسيكون مليئا بالمعاني العميقة، والتصورات التي تستحق الالتفات لها، والتعلم منها.
لكن في المقابل: هذا الفارق الذي تصنعه حاسة الإبصار في تمثلنا للعالم مثير للاهتمام، خاصة حين نتخيل تصورنا للعالم حال غيابها بالكامل، ربما يجعلنا هذا نفكر في احتمال أن تكون هناك حاسة أو حواس أخرى يفتقدها الجنس البشري ولا يدري عنها شيئا، تجعل تمثله للعالم ناقصا، وواهيا بالضرورة، إذا قورن بمخلوق خيالي آخر يمتلك مثل هذه الحواس الإضافية.
كان لأفلاطون تصور مهم في هذا السياق، كان يرى أننا في هذا العالم نشبه من يجلسون منذ ولادتهم في كهف وظهورهم متجهة إلى مدخله، كلما مر أحد أو شيء أمام مدخل الكهف رأوا ظله على الحائط. كل تصورهم عن العالم ينبع من هذه التجربة المحدودة؛ هذه الظلال هي العالم بالنسبة لهم. في هذا المثال الذي تخيله أفلاطون يقرر أحد هؤلاء في وقت ما أن يقوم من مكانه ليخرج من الكهف، تؤلمه عيناه في البداية من كمية الضوء التي لم يعتدها، يصاب بعمى مؤقت، يفكر في العودة إلى الكهف في الحال، لكنه لسبب ما يقرر البقاء في العالم الجديد بعض الوقت، يظل حائرا لأيام، بعدها لعله سيبدأ في تفهم الحقائق الجديدة التي يقابلها، لعله سيدرك أن ما كان يعتبره من قبل هو كل العالم، لم يكن سوى ظلال لحقيقة أوسع وأعمق وأكثر تنوعا، وحين يقرر فيما بعد العودة مرة أخرى للكهف قد تكون كل تصوراته القديمة عن العالم قد اختلفت بالكامل. ما الذي سيحدث إن حاول أن يخبر رفاقه في الكهف عما رأى؟
هذا المقال ليس كتيبا إرشاديا، لا يريد أن يقدم نظرة ما للحقيقة أو للعالم، بل هو في المقابل يتحيز للسؤال، يتحيز ل «ماذا لو؟» التصورات المختلفة للعالم موجودة دائما، وهي لا تحتاج إلى أن تكون دائما متحاربة؛ هناك تصورات أنضج من تصورات، لكن هناك دائما حقيقة ما في كل تصور للعالم. لا تحتاج إلى تبني فكرة ما لتستفيد منها أو لتستمتع بها، يكفيك أن تتبنى السؤال لبعض الوقت، وأن تتعلم ما الذي ستستفيده من كل منظور. اللعب مع العالم، ومساءلته، مفيد ومسل في أوقات كثيرة. أن نتعلم تصورات الآخرين له، والكيفية التي يتعاملون بها مع تفاصيله، وأن نتساءل عن سبب رؤيتهم للعالم بهذه الطريقة، هو أمر ملهم لأفكار وتصورات إبداعية وفكرية مختلفة. لا تحتاج أن تشهر أسلحتك في وجه كل منظور مختلف للعالم، لمجرد أنك تختلف معه؛ لأنه حتى لو كان خاطئا يمكنك أن تتعلم منه. كما أن طرح الأسئلة يقينا من الجمود؛ فأحيانا تكون عيوننا مفتوحة على اتساعها لكنها لا ترى ما هو باد أمامها، ربما لأنها لا تتوقعه، أو لعله التعود الذي يخفي عنا التفاصيل أحيانا.
الحوار وشبه الحوار
1
في حلقة ما من برنامج «حواري» يجلس الضيفان أحدهما في مواجهة الآخر، وبينهما مقدم البرنامج، بعد دقائق من بداية الحلقة يعلو صوتاهما، ويبدأ الاحتداد. يمكننا أن ندرك دون صعوبة من المشهد الذي نراه ومن طريقة الحوار التي نسمعها أن الطرفين هنا لا يخاطب أحدهما الآخر، هما في الحقيقة يخاطبان جمهور المشاهدين في خطب قصيرة عصبية متبادلة يقاطع فيها كل منهما خصمه. في هذا السياق ستعد أي بادرة من أحدهما للاقتناع بمنطق الطرف المضاد - أو مجرد الميل نحوه - ضعفا وانهزاما غير مقبول. كل من الضيفين جاء وهو متأكد كل التأكد أنه على حق وأن الطرف الآخر لا شك مخطئ، أو على الأقل هما يظهران ذلك. قد لا يعترفان بهذا، وربما قد لا يدركانه حتى، لكن كلا من الطرفين قرر مسبقا في هذه الحالة أنه لا يحتاج للتمعن في أي شيء يقوله الآخر، إلا بالقدر الذي يمكنه من إثبات خطئه، وإحراجه إن استطاع أمام جمهور المتفرجين.
2
كان سقراط يقول: «أنا أعرف أنني لا أعرف أي شيء.» لكنه كان يحب الجدل، ويحب اختبار الرجال بالحوار، وكان يحاور رجالا فخورين بأنفسهم، واثقين من علمهم. وربما كان هذا اليقين المبالغ فيه يغيظه قليلا؛ لأنه عندما كان يخوض حواراته مع أمثال هؤلاء الرجال، كان يبدأ الحديث دائما بأسئلة بريئة في الظاهر، ثم ينقل الحوار من نقطة إلى نقطة؛ حتى يربك محاوريه إلى الدرجة التي تمكنهم من رؤية أنهم حقا لا يعرفون ما يعتقدون أنهم يعرفونه.
أفلاطون تلميذه خلد هذه الطريقة، من خلال كتاباته التي جاءت في معظمها على شكل محاورات بطلها سقراط. ومن خلال هذا الشكل، نجح في مناقشة عدد من الموضوعات المهمة. مكن هذا الشكل أفلاطون من عرض عدد من وجهات النظر المختلفة وهي تتجادل حول موضوع ما، وبفضل هذه المحاورات أصبح أفلاطون واحدا من أهم الفلاسفة على مر التاريخ. ولم يتوقف استخدام شكل المحاورة في الفلسفة بعد أفلاطون، بل استخدم من قبل عدد من الفلاسفة في العصور الوسطى والحديثة.
3
في القصة أو الرواية، يستخدم الحوار لأغراض متنوعة؛ منها نقل الحالة النفسية، أو تطوير الحدث، أو التعريف بالشخصيات وبدوافعها. الحوار الذي يمتعني كقارئ يكون في الغالب حوارا ثريا بين شخصيتين مرسومتين بشكل واقعي وحي، ينتقل الحديث بينهما جيئة وذهابا بشكل حيوي وفعال ومتطور. أستمتع بالحوارات التي أشعر في ثناياها بجدل حقيقي بين حالتين مختلفتين، حوارات تجدها في أعمال دوستويفسكي مثلا. وفي المقابل، نقرأ أحيانا حوارات باهتة كأنها مكتوبة بين شخصية وظل شخصية، يقتصر دور هذا الظل فيها على مجرد تسليم الحوار للطرف الآخر.
تخيل رواية تعتمد بالكامل على هذا الشكل الباهت من الحوار، ستكون ضعيفة في الغالب؛ لأن جزءا أساسيا من طبيعة الرواية ومتعتها يتمثل في حالة التنوع والتمايز والجدل بين الأصوات المختلفة. ميزة من مزايا الرواية الأساسية هي قدرتها على احتواء هذا الخليط المتنوع من الأصوات: اللهجات، الخلفيات الاجتماعية، القناعات، الانتماءات السياسية، المستويات الثقافية، المهن ...
4
تتوقف قليلا بعد قراءتك لفقرة من كتاب ما، لتسترجع ما قرأته، تتأكد من فهمك وإلمامك بما قيل، قد تتساءل عن مدى اتفاقك أو اختلافك مع ما هو مكتوب، قد تناقش رؤية المؤلف، وتستعرض آراء بديلة لتقارن بينها وبين الفكرة المعروضة، قد تتفق فقط مع بعض ما يقال، وتختلف مع البعض الآخر، قد تسجل هذه الأفكار التي راودتك لتعود لها بعد ذلك كي تختبرها. هذه الدقائق التي تتوقف فيها بين الفقرة والفقرة لتحاور نفسك، وتحاور الكتاب الذي تقرؤه، ليست ترفا، إنها أهم ما في عملية القراءة، هي ما يمكنك من فهم ما تقرؤه، ومن وضعه في سياق أوسع من قراءاتك المختلفة في الموضوع نفسه أو موضوعات مختلفة. دون هذه الدقائق تتحول القراءة إلى عملية تلق سلبي، تحفظ فيه ما هو مكتوب ثم تعيد إرساله مرة أخرى دون فهم أو مراجعة، أو حتى إعادة صياغة. تماما كالصورة التقليدية التي تنتجها بعض أنظمتنا التعليمية لطالب يذرع الغرفة لمرات مرددا عبارات مكتوبة في كتاب أمامه، بغرض حفظها.
5
أي حوار، سواء أكان حوارا في الشارع أم في العمل أم في برنامج رأي أم حوارا أدبيا، هو حالة من التفاعل بين أطراف مختلفة، يؤثر كل منها في الآخر. الحوار الصحي يظهر أفضل وأرقى ما فينا، لكن إن بدأ المتحاورون - كلهم أو بعضهم - الحوار وهم محصنون بالخوف، أو الجمود ضد التأثر بالآراء الأخرى، محصنون باليقين ضد أي إمكانية للشك في صحة مواقفهم، يتحول حينئذ الحوار إلى مسخ.
الحوار ليس مجرد كلمات يتبادلها طرفان أو أكثر، إنه حالة تطرح فيها أفكار وخلفيات مختلفة نفسها، لتتفاعل معا. المجتمع الذي يرفض الحوار بمفهومه الأوسع هو مجتمع يتحيز للثبات؛ لأن الحوار الحقيقي حركة مستمرة. لا يمكن التخلي عن هذا التنوع من الآراء لصالح رؤية واحدة أيا كانت. حتى وأنت جالس في الغرفة منفردا، تفكر أو تتأمل أو تقرأ، تحتاج هذا التنوع، هذا الجدل في داخلك، تحتاج إلى هذه الأسئلة، إلى تمثل الآراء المختلفة والتحاور معها؛ كي تكون هذه العزلة مبدعة.
وجهات النظر: بين النسبوية والحقيقة الوحيدة
1
ربما تكون قد شاهدت فيلم راشمون
Rashomon-1950
للمخرج الياباني كوروساوا، والذي يعرض أربع رؤى متباينة لحدث واحد، هو مقتل الساموراي «كانازاوا تاكيهيكو». تعرض كل شخصية زاوية من الحدث تعبر عن نظرتها للحقيقة، ومع توالي الرؤى تفاجأ - كمشاهد - بمقدار التناقض بينها، ومقدار التشويه الذي حدث في كل زاوية نظر.
هذه الانتقائية نمارسها في حياتنا بشكل مستمر: ونحن في بيوتنا، ونحن نسير في الشارع، ونحن نتعامل مع الآخرين. قد نعرف شخصا ما لفترة طويلة، لكننا نحتار ونتبلبل مثلا إن سألنا أحدهم عن تفصيلة ما تخصه. والوعي بهذه الفكرة من النقاط المهمة في تقنية كثير من الأعمال الفنية والأدبية، ومنها القصة والرواية على سبيل المثال. على الروائي في كل جزء من روايته أن يختار زاوية النظر التي سينقل بها الحدث الذي يريد نقله، هل سيستخدم الراوي العليم أم الراوي المشارك؟ ومن أي زاوية سينقل المشهد الذي يريد وصفه؟ الوعي الحديث يدرك أن الراوي لا ينقل الحقيقة بالضرورة كما حدثت، لكنه ينقلها كما رآها أو كما يريدنا أن نسمعها.
2
يشير راي كيرزويل في كتابه «عصر الآلات الروحية» إلى ما يسمى بحوسبة تدمير المعلومات. وفيها يحاول المهندسون والمبرمجون محاكاة عملية يقوم بها العقل البشري بشكل تلقائي، وتعتمد - باختصار - على محاولة مساعدة الحاسب على اختيار المعلومات ذات الأهمية وتدمير غيرها من المعلومات؛ لأن «هناك الكثير من المعلومات الفجة في العالم التي لا تستحق أن نستمر في حفظها كلها.»
أمر طبيعي تماما، لا يمكنك أن تتعامل مع كم المعلومات التي تقابلها خلال اليوم باعتبار أنها على نفس القدر من الأهمية، لا بد أن يصنفها عقلك؛ يحتفظ بالضروري منها، ويتخلى عن غير الضروري. لكن كيف يصنفها؟ كيف يحدد العقل أي المعلومات هو المهم وأيها غير مهم؟ هل هو أمر فطري يشترك فيه الناس جميعا؟ أم أن هذا التصنيف ذاته هو عملية تعتمد على نموذج معرفي مكتسب غير محايد تتم فلترة الواقع من خلاله؟ نميل اليوم إلى إعطاء أهمية كبيرة لدور النموذج المعرفي الذي يتبناه الإنسان في تحديد رؤيته للعالم، دون أن يعني هذا بالضرورة عدم وجود بعض القوانين أو القواعد الفطرية كذلك.
3
في كتابه «بنية الثورات العلمية» يشير توماس كون إلى مفهوم البرادايم أو النموذج المعرفي. ومن خلاله يقدم فلسفة مختلفة للتطور العلمي، فبدلا من الصورة التقليدية التي كانت ترى أن العلم يتطور بشكل خطي ومستمر، أوضح كون أن فكرة الحقيقة العلمية في لحظة بعينها، لا يمكن تأسيسها على معايير موضوعية فقط؛ لأنها تتأثر أيضا بالمجتمع العلمي الذي يتم تداولها فيه. يتعرض كون في هذا السياق إلى فكرة «النموذج المعرفي»، وهو يرى أن نموذجا معرفيا ما يسيطر في كل مرحلة، يساعد على رؤية الواقع وتفسيره، ويستمر هذا النموذج قائما ما دام قادرا على تفسير الواقع بشكل مرض. لكن مع تغير الزمن، تبدأ في الظهور مجموعة من الظواهر التي لا يمكن تفسيرها من خلال النموذج القائم، وتكون هذه هي بداية انحلاله، وبروز نموذج جديد أكثر تطورا وأكثر دقة وشمولا. من الأمثلة البارزة التي يوردها هنا رؤية الكون عند بطليموس الذي كان يرى أن الأرض هي مركز الكون، ثم عند كوبرنيكوس الذي رأى أن الشمس هي مركز الكون، ثم نيوتن ثم أينشتاين.
لكن لا يعني هذا أن المعرفة العلمية هي مجرد وجهات نظر لا تتميز على غيرها، فهناك دائما مواصفات للنموذج المعرفي الناجح، تتمثل في قدرته على تقديم تفسير للعالم يمكن اختباره، ويستطيع القيام بتنبؤات دقيقة. المقصود هنا هو توضيح كيف أنه حتى في إطار المعرفة العلمية - التي تشدد على الدقة وعلى الضبط - لا يمكن لنموذج بعينه أن يدعي الصحة المطلقة، أو أن يفترض حصانة دائمة؟ هناك دائما مساحة للنقاش ووجهات النظر والخلافات. هناك مساحة لنظرية جديدة كي تبرز، تختلف عن بعض جوانب الفهم السابق عليها وربما تناقضها. والتاريخ العلمي مليء بذكر العلماء الذين لم يتفهموا أو رفضوا نظريات جديدة أفضل لأنها تخالف الفهم الذي اعتادوه للعالم، دون أن يوقف هذا الرفض الجديد من البروز. في العلم تبقى النظرية ناجحة فقط ما دامت صامدة وقادرة على تبرير وجودها باعتبارها الأكثر قدرة على التفسير والتنبؤ.
4
التأكيد على الاختلافات والتفاوتات في النظر للعالم لا يعني أن الرؤى كلها متساوية في القيمة، أو أن أيا منا يستطيع أن يدافع عن أفكاره فقط بعبارات محفوظة من نوعية «هذا رأيي»، أو أن يكتفي مثلا بأن يتذرع بأنه يدافع عن هوية متخيلة أيا كانت. المقصود على العكس هو التأكيد على قيمة الحوار، وقيمة التساؤل، وأهمية مراجعة الذات، وتفهم التنوعات، وقبول الآخر، والتسامح مع المختلفين؛ لأن الحقيقة قد تكون مع الآخر، أو قد يمتلك كلانا أجزاء منها، دون أن يحيط بها.
لكن المفارقة أنه يحدث أن يستخدم البعض فكرة النسبية الثقافية، أو تنوع وجهات النظر نفسها في الدفاع عن تعصبات منغلقة لا تتقبل الآخرين. وهي المفارقة التي يشير لها «توماس هيلاند إريكسن» في كتابه الذي صدرت ترجمته العربية منذ عامين تقريبا تحت عنوان: «مفترق طرق الثقافات: مقالات عن الكريولية». وفي هذا الكتاب يقول إريكسن: «من المضحكات المبكيات أن نظريات «النسبية الثقافية» في علم الأنثروبولوجي، التي وضعت أساسا لمناهضة «الشوفينية» والعصبية «القومية»؛ كان لها تأثير مضاد، ومعاكس تماما للهدف الذي وضعت من أجله.»
5
توسيع الرؤية عن طريق الاطلاع على زوايا مختلفة ووجهات نظر متنوعة هو أمر مدهش دائما، وهو لا يتعارض مع قدرتك على اختيار زاوية مفضلة، أو قناعة خاصة بك، لكنه بالتأكيد يتعارض مع قمع الآخر، وإسكات الأصوات المخالفة؛ لأن عالم اليوم بتقنياته التي تتطور بشكل غير مسبوق - من وسائل إعلام مرئية ومسموعة، ومقروءة، وشبكات إنترنت - هو عالم ضد المنع، عالم يستحيل فيه محو الأفكار المخالفة. عصرنا - شئنا أم أبينا - متعدد الأصوات، والتنوع جزء من جوهره، لا مجرد عرض من أعراضه التي يمكن السيطرة عليها أو التخلي عنها.
المقصود هنا
Relativism ، وجرى العرف بترجمتها هكذا؛ تفريقا لها عن كلمة
relativity . وقد أجازها مجمع اللغة العربية في مصر.
نظريات المؤامرة وتفسير العالم
1
أب يعلم ابنه الصغير، فيشير إلى حيوان ما يعبر الطريق: «هذا قط.» ينظر الطفل باهتمام، ويردد خلفه. في يوم تال يرى الطفل حيوانا يمشي في الشارع؛ فيشير فرحا: «قط!» يصحح له أبوه: «لا، هذا كلب.» يحاول برفق أن يوضح له الفوارق.
في اللحظة التي يشير فيها الطفل إلى كلب يمشي في الشارع باعتباره قطا، نعرف أنه لا يعرف ما هو الكلب، والأهم في هذا السياق أن ندرك أنه لا يعرف كذلك ما هو القط، رغم أنه قد يكون قد تعرف قبلها بلحظات على قط ما يمشي في الشارع؛ لأن كلمة أو مفهوم «قط» تكتسب معناها - وفقا لما تعلمناه من العالم اللغوي «سوسير» - من خلال اختلافاتها مع الكلمات/العلامات الأخرى؛ فمثلا، لا يمكنك أن تعرف ما هو اللون الأخضر إلا في سياق معرفتك للون الأزرق واللون الأصفر وبقية الألوان؛ لأن المعرفة التي تتيح لك أن تميز الأخضر عن بقية الألوان تتطلب بالضرورة أن تكون قادرا على فهم الاختلافات بين هذه الألوان المختلفة.
في سياق مقارب يقال عن التعريف المثالي إنه تعريف جامع مانع. جامع: أي إنه يضم كل مفردات الشيء الذي يعرفه؛ بمعنى أن يكون الطفل في المثال الأول - بعد أن يتعلم هذا التعريف - قادرا على التعرف على أي قط يسير في الشارع. ومانع: أي إنه يمنع ما سوى هذه المفردات من أن يدخل تحت هذا التعريف؛ أي إنه يحمي الطفل من أن يخطئ، فيشير إلى كلب أو حصان باعتباره قطا.
2
يعدو الراعي الصغير داخل القرية مفزوعا، يصرخ بأعلى صوته: «الذئب! احذروا الذئب!» فور سماع أهالي القرية للصراخ يخرج رجالهم مسرعين، وفي أيديهم العصي والفئوس، وحين يخرجون إلى أطراف القرية حيث قطيع الأغنام لا يجدون ذئبا، فقط قطيع من الأغنام يرعى بسلام. ينظرون إلى الصبي بغضب ويذهبون. نعرف القصة، حين يتكرر نفس هذا الأمر مرة تلو المرة، يتوقف أهالي القرية عن الاستجابة للنداء، حتى يأتي الذئب فعلا ويلتهم الغنم.
دعونا فقط نعدل القصة قليلا لأغراض هذا المقال. لنفترض أن الراعي الصغير لم يكن يكذب، أو لم يتعمد الكذب، لنفترض أنه فقط شغوف بالذئاب، أو أنه يخشاها أكثر مما يخشى أي شيء، الخوف يشوشه بطريقة تجعله يرى الذئب فعلا في كثير من الأشياء من حوله، مرة يرى شاة شاردة أو ظل شجرة فيظنه ذئبا، أو يستمع إلى صوت بعيد فيتأكد أنه عواء، أو يرى كلبا غريبا من بعيد فيظنه ذئبا. هذا الفتى إذن لا يكذب، هو فقط يريد أن يحمي نفسه والبلدة من الذئاب، لكنه لم يفعل!
3
أفكر دائما أن شخصا مصابا بالبارانويا أو مهووسا بنظرية المؤامرة على سبيل المثال، سيكون قادرا في أوقات ما على رؤية مؤامرات حقيقية فعلا قد لا نراها، لكن هذه المعرفة لا تجعله محقا، لا تجعله حكيما، لا تعطيه الحق في أن يتلبس دور زرقاء اليمامة التي تجاهلت القبيلة تحذيراتها؛ لأنه باختصار ليس حكيما، إنه تماما كالطفل في المثال الأول، أو كالراعي في المثال الثاني.
حين نفسر كل شيء في الحياة بتفسير وحيد: غزاة من الفضاء، أو المؤامرات الخارجية، أو المؤامرات الداخلية؛ فنحن في الحقيقة نصيب أنفسنا وربما الآخرين بعمى من نوع خاص؛ لأن الأمر كما يقولون: «ما يصلح تفسيرا لكل شيء لا يصلح تفسيرا لأي شيء.» حين نفسر كل شيء بتفسير وحيد جاهز نضيع على أنفسنا فرصة التوقف لبرهة، وتأمل المشكلة، والوقوف على أسبابها الحقيقية بشكل دقيق، ومحاولة البحث عن حلول واقعية لها.
4
لنظرية المؤامرة جاذبية خاصة بالنسبة لنا هذه الأيام. ربما تتصاعد هذه الجاذبية كرد فعل على انسحاق الفرد في عالم الحداثة: عالم الشركات الكبرى والدعاية الكثيفة والإعلام الموجه، عالم البنايات العملاقة والشركات عابرة الحدود. لعلها طريقة نعوض بها إحساسنا بالضآلة في أوطاننا أو في العالم. في كثير من الأحيان يكون ما نراه من مؤامرات ومخاوف معبرا عن داخلنا نحن، أكثر مما يعبر عن العالم خارجنا.
في أوقات ما قد تكون هناك مؤامرات بالفعل، الفكرة التي أقصدها هنا ليست إنكار وجود مؤامرات، ما أقصده أن شخصا يرى فقط المؤامرة في كل حدث أو موقف هو شخص تشوهت نظرته للعالم؛ كما في قصة الذئب. أن تكون محقا مرة من كل عشر مرات لن يحميك ولن يحمي القطيع من الخطر الذي تخافه.
5
مشكلتي الأكبر مع نظرية المؤامرة كطريقة لرؤية العالم لا تتعلق بكونها صحيحة أو غير صحيحة، مشكلتي معها في الغالب أنها خطاب - حتى في الحالات التي يكون فيها على صواب - يركز غالبا على عنصر وحيد من عناصر المشكلة؛ وهو أفعال الآخر ضدك (فردا، أو جماعة، أو دولة)، مع تجاهل عواقب أفعالك الخاصة (ما تفعله أو ما لا تفعله). تتحول النظرية في أوقات كثيرة إلى خطاب تبريري، بدلا من أن تكون أداة للفعل. لكن فكر: لو أنك ترى العالم فقط كساحة معركة، كم سيكون سخيفا أن يبرر قائد ما خسارته للمعركة بحجة أن الجيش المعادي كان يقتل جنوده؟!
طرق
1
لنتخيل طريقا ما ينقسم مثلا إلى ثلاثة طرق فرعية، ينقسم كل طريق فرعي بدوره بعد مسافة إلى ثلاثة طرق أخرى، وهكذا باستمرار. يتفرق الناس إذن مع الوقت في الطرق التي كانت طريقا واحدا؛ سيأخذ فريق من الأشخاص دائما الطريق الأول دون تفكير، وسيأخذ فريق آخر الطريق الثالث دون كثير من التمهل، بينما سيأخذ فريق الطريق الثاني. لو أن أحدهم تمكن من النظر إلى شبكة الطرق هذه من أعلى فقد تبدو كشجرة كبيرة كثيفة الفروع؛ حين يتحرك الناس في طرقها، ستبدو لوهلة كأنها تتحرك أيضا. وقد يحس من ينظر وقتها أنها، كأي شجرة، بها الكثير من الفروع والأوراق، بعضها حي وبعضها ميت، لكنها ستواصل النمو حتى النهاية: نهايتها.
2
سواء أدركنا هذا أو لم ندرك؛ كلنا يمتلك تصورا ما للحياة. قد يكون هذا التصور ناضجا وقد يكون غير ناضج، قد يتبدل بتبدل مواقعنا، وقد يظل ساكنا أو شبه ساكن، قد يكون واضحا أو مشوشا. لكننا نسير على هديه على أي حال كأنه مصباح متخيل، أو ربما خريطة، لكنها خريطة ليست صحيحة بالضرورة، لا ترشدنا دائما إلى المكان الذي نحتاج للوصول إليه. قد لا نعلم أصلا إلى أين نريد أن نذهب، لكننا نواصل الحركة؛ ربما يكون الحفاظ على حركتنا أهم من الوجهة التي تأخذنا إليها. نسير مع هذا خائفين من أن نضل، خائفين من أن يسبقنا الآخرون، أو أن نؤدي أسوأ من أداء الآخرين، وقد يتعاظم هذا الخوف عند البعض للدرجة التي يمنعهم فيها من الحركة تماما. هذا الخوف قد يكون أحد أسباب عدائيتنا تجاه المختلفين في بعض الأحيان؛ فمجرد معرفتنا بوجودهم قد يكون مقلقا لنا، ومهددا لرضانا باختياراتنا. يقول هرمان هسة في رواية دميان (من ترجمة عبده الريس): «عندما تكره شخصا ما فأنت تكره شيئا فيه هو جزء من نفسك؛ إن ما ليس جزءا من أنفسنا لا يزعجنا.»
3
عند كل مفترق طرق، غالبا ما سيهاجم أصحاب كل طريق من اختاروا الطريقين الآخرين. أتخيل أحدهم يقول: «لقد قدتنا خلال الدرب الأول في المرة الماضية وكنت مخطئا.» أو: «أنت تقودهم إلى الطريق الثالث الذي سيهلككم جميعا.» أو: «أنت دائما تريد الأمان، دائما تختار المواءمات؛ ولهذا اخترت الطريق الثاني.» سترى أناسا يسيرون دائما مع الفريق الذي يتخيلون أنهم ينتمون إليه بشكل أكبر، دون أن يفكروا كثيرا في الطرق نفسها وطبيعتها، سيقول أحدهم: «كثير ممن أعرفهم سيسيرون من هذا الطريق، لا بد أنهم على صواب.»
4
رغم فوائده، يؤثر انتماؤنا إلى جماعة على حكمنا على الأمور أحيانا، بحيث إن تقديرنا لبعض الأمور يختلف حال وجودنا منفردين، عن تقديرنا للأمور نفسها ونحن في جماعة ما. والمقصود هنا ليس مجرد الوجود وسط حشد ما من البشر بالمصادفة مثلا، لكن المقصود هو ما وصفه «غوستاف لوبون» بالجماعات المنظمة أو الجماعات النفسية، والتي يرى أنها تتكون حين يكتسب لفيف من الناس صفات جديدة مختلفة عن صفات كل فرد من هذا اللفيف؛ فتتلاشى الشخصية الواعية، وتتجه أفكار كل واحد منهم نحو جهة واحدة، وتتكون روح مشتركة.
يقول غوستاف لوبون في كتاب «روح الجماعات» (وأعتمد هنا على ترجمة عادل زعيتر):
وهكذا ترى محلفين يصدرون أحكاما يعيبها كل واحد منهم على انفراد، وهكذا ترى مجالس برلمانية تسن قوانين وتتخذ تدابير يرفضها كل عضو من أعضائها على حدة، وهكذا كان حال رجال مجلس العهد من أبناء الطبقة الوسطى ذوي العادات السلمية، فلما اجتمع أولئك الرجال وتألفت منهم جماعة لم يترددوا، بتأثير بعض الزعماء، في إرسال أوضح الناس براءة إلى المقصلة.
ويقول أيضا في الكتاب نفسه:
تلك هي حال الفرد في الجماعة تقريبا، وفي الجماعة يعود الفرد غير شاعر بأفعاله، وعند ذلك الفرد، كما عند المنوم، فيما تزول بعض الملكات تشتد ملكات أخرى اشتدادا عظيما، فيندفع الفرد، بفعل التلقين، في إنجاز بعض الأعمال صائلا صولة لا يقدر على مقاومتها، وتكون الصولة أشد اندفاعا في الجماعات مما في المنوم؛ وذلك لأن التلقين إذا كان واحدا لدى جميع الأفراد في الجماعات يزيد بالتفاعل، وأفراد الجماعة الذين لديهم من قوة الذات ما يقاومون به التلقين قليلون إلى الغاية، ويجرهم السيل، وإنما الذي يستطيعون محاولته هو تحويل المجرى بتلقين مختلف، فهم إذا ما صدرت عنهم كلمة طيبة أو أثاروا خيالا ملائما أمكنهم في بعض الأحيان أن يصرفوا الجماعات عن اقتراف أفظع الأفعال.
5
سيفكر أفراد هذه القلة التي تحدث عنها «لوبون» كل مرة في الاختيارات نفسها بجدية، سيقلبون الاحتمالات في رءوسهم، سيتساءلون عن جودة كل اختيار وميزاته وعيوبه، محاولين أن يتعلموا من اختياراتهم السابقة، ومن آراء الآخرين وتجاربهم. قد يفكر أحدهم مثلا: «هل يشبهني هذا الطريق أم لا؟» ذاتهم حاضرة، حيرتهم الحقيقية تشي بهم، يرون أكثر من غيرهم أحيانا، أقل منهم أحيانا، يتبلبلون في أوقات كثيرة في اختيارات تبدو واضحة، هم يعلمون أن التعميمات والرؤى القبلية قد تكون حجابا على العقل، يقولون: «أحيانا يكون هناك طريق واحد صحيح، وأحيانا يكون هناك أكثر من طريق صحيح، وأحيانا أخرى تكون كل الاختيارات وهمية، وفكرة الاختيار نفسها فخ.»
كأننا نحتاج من يذكرنا: نحن أحرار، والحرية تعني - من ضمن ما تعني - الاستقلال المادي والفكري، تعني أنه من حقك أن تسير في الحياة بأي شكل تختاره، دون أن يعتبر بعض أفراد المجتمع ما تفعله في حياتك الشخصية أمرا يملكون أن يعاقبوك عليه. أحيانا نتقمص المجتمع نحن أنفسنا؛ فنحاول أن نتبع النموذج الذي وضعه، ونعاقب أنفسنا لأننا لم نتبعه، رغم أنه حقيقة لا يناسبنا ولا يقنعنا ولا نريده. ربما، كي لا نبقى وحيدين.
إعادة تشكيل العالم
1
ما زال جزء مني يعتقد أن هذا مستحيل، عقلي لا يستوعب الأمر بالكامل رغم أني قرأت عن الجانب النظري فيه لمرات؛ ربما لأني غير متخصص، وربما يكون الأمر فعلا غير معتاد. الآن وأنا أكتب على برنامج الكتابة في حاسبي الشخصي ما أكتبه الآن، أتمنى لو أستطيع أن أفهم كيف فكر آلان تيورنج
Alan Turing
في آلاته التي ستتطور لتصبح الكمبيوتر الذي نتعامل معه بهذه العادية كجزء طبيعي ومعتاد ومتوقع من حيواتنا. كيف فكر في تصميمها؟ وما الذي جعله يعتقد أنها ممكنة للدرجة التي حمسته بما يكفي لكي يتم ما أتم؟ يمكن للكثيرين الآن أن يقوموا بتجميع جهاز حاسب شخصي بسهولة، لكن هذا لا يعني أنهم يفهمون حقا كيف يعمل، لا يعني بالتأكيد أنهم لو عادوا بمعجزة ما بالزمن فسيكونون قادرين على تكرار ما بدأه آلان تيورنج. جزء مني يحس أن ما فعله هو مستحيل تماما وغير منطقي، لكني أراه الآن وأستخدمه، وهذا يشعرني بالضآلة، ويجعل جزءا مني دائما يشك فيما أعتقده؛ ما أظن أنه ممكن وما أظن أنه غير منطقي.
كنت أشاهد فيلم
The Imitation Game
الذي يروي جزءا من حياة آلان تيورنج، وأفكر من أي طينة تتكون العبقرية. لماذا لا نستطيع أن نفعل ما يفعله هؤلاء الأفذاذ؟ هل هي الوراثة؟ هل هو العمل الشاق؟ هل هي المعرفة؟ هل هو الشغف؟ هل يمكن أن تقرر أن تكون عبقريا؟ أشك في ذلك. لكن يمكنك أن تعمل بأقصى ما تستطيع، وقد تتمكن حينها من أن تحقق أشياء عظيمة.
في التاريخ نقرأ عن هؤلاء الرجال الذين يوسعون العالم بطرق لا يمكننا أن نتخيلها؛ يثورون على ما يعتقد عامة الناس من أمثالي أنه طبيعي، وممكن، وعادي، وغير قابل للتغيير. أحيانا يختفي هؤلاء الرجال بيننا، لا نعرفهم إن قابلناهم في الطريق، ربما لا نعتقد أنهم يستحقون أن ننظر لهم نظرة ثانية؛ إن سمعناهم فقد نصفهم بالغباء، أو بنقص في العقل، دون أن نعلم أن النقص والغباء في عقولنا نحن، وكما يقول الفيلم: «أحيانا الأشخاص الذين لا نتوقع منهم أي شيء هم من يقومون بالعمل الذي لا يمكن لأحد أن يتخيل إمكانه.»
2
يقول والتر إيزاكسون عن أينشتاين (في كتابه: «أينشتاين: حياته وعالمه»/ترجمة: هاشم أحمد محمد):
جاء نجاحه من تشكيكه في المنطق السائد، وتحديه للسلطة، ووقوفه مذهولا أمام ألغاز رآها الآخرون أمورا عادية مألوفة لدرجة الابتذال، وأدى به هذا إلى اعتناق أخلاقيات وميول سياسية قائمة على احترام العقول الحرة، والأرواح الحرة، والأشخاص الأحرار؛ فقد كان يبغض الطغيان، ولم يكن يرى في التسامح فضيلة مستحبة فحسب، بل شرطا ضروريا للمجتمع المبدع، وقال: «من المهم أن نشجع الفردية؛ لأن الفرد وحده قادر على أن يبتكر الأفكار الجديدة.»
هذه النظرة جعلت أينشتاين متمردا يقدس تناغم الطبيعة؛ شخصا لديه المزيج الصحيح من الخيال والحكمة لتغيير مفهومنا للكون. وهذه الصفات لها أهميتها في هذا القرن الذي تسوده العولمة، والذي يعتمد نجاحنا فيه على قدراتنا الإبداعية، كما كان لها أهميتها في مطلع القرن العشرين عندما ساعد أينشتاين في مولد العصر الحديث.
علماء فيزياء أفذاذ لم يتمكنوا من استيعاب أو تقبل الأفكار الثورية لأينشتاين، ولسخرية القدر لم يتمكن أينشتاين نفسه - فيما بعد - من تقبل الأفكار الثورية التي قدمتها نظرية الكم التي كان أحد روادها الذين مهدوا لها الطريق، يقول هو عن ذلك: «جعلني القدر سلطة ليعاقبني على احتقاري للسلطة.»
يقول جايمس غليك عن هذه الظاهرة (في كتابه: «نظرية الفوضى: علم اللامتوقع»):
من الممكن امتصاص الأفكار السطحية؛ فيما تثير الأفكار التي تتطلب من الناس إعادة تنظيم صورة الكون في مخيلاتهم، عداوات مرة.
3
ما الذي يجعل هذه الثورات ممكنة؟ أظن أن الإجابة لا تكمن فقط في وجود الشخص الذي يملك المقدرة والشغف؛ فلا بد بالإضافة إلى ذلك أن يكون في استطاعته أن يسأل السؤال الصحيح في الوقت الصحيح، أن يجد لغزه الخاص، تلك الأحجية التي يعلم أن السعي وراء حلها يستحق أن يخصص له وقته، وأن يراهن عليه. الفكرة في العقول التي تنظر إلى عادي الناس ومألوفهم لترى غير المنطقي أو غير المكتمل؛ العقول التي تتحدى رؤيتنا المعتادة للعالم بثورتها وتمردها. لا أعلم كيف يتمكنون من الحفاظ على شغفهم هذا متقدا، دون ملل أو يأس، دون أن تتسرب إليهم تلك الواقعية البلهاء التي تجعلهم يلتصقون بأرض الناس العاديين من أمثالنا من جديد، وتجبرهم على التوقف عن التحليق.
تعليمات مقترحة لغارق في متاهة
1
لنتخيل أول جدار يبنيه إنسان. بجواره شخص ما يشعر بالراحة أو بالفخر. ربما كان يبحث عن الأمان، أو عن الدفء. لعل الأمر استمر كذلك فترة طويلة قبل أن يكتشف البشر وظيفة أخرى للجدران، أو - على الأقل - فهما آخر لوظيفة قديمة هي الأمان. وقتها لم يعد الخائف هو من يختبئ داخل الجدران بالضرورة، فقد صرنا أحيانا نضع مصدر الخوف داخل الجدران، الآن لم يكن الجدار مجرد بيت، بل صار سجنا أحيانا. في الحقيقة تحول الأمر بمرور الوقت إلى أن صار كل جدار يمارس بشكل ما الوظيفتين معا، بنسب مختلفة.
2
تشبيهك بالسجين ليس تشبيها محكما كما تعتقد. على الأقل ليس حسب الفهم الشائع. أنت مقيد داخل الحوائط أوافقك على هذا، لكنك تدرك مثلي أن ما يمنعك من الخروج ليس فقط الناس والحجارة، بل شيئا ما داخلك. يمكنك أن تستبدل خوفك بهوس ما بتحطيم الحوائط دون أن تصير حرا ودون أن تخرج للنور.
3
مشكلة الحوائط هي وظيفتها المزدوجة: الأمن/السجن. كل حائط هو ذو وجهين بالضرورة، وغالبا يغريك الحائط بأحد وجهيه ويهددك بالآخر كي تبقى داخله، وأنت قد تبقى في داخله، أو قد تنشغل بتحطيمه، دون أن تسأل نفسك السؤال الأهم: ماذا أريد؟
لماذا هذا السؤال؟ لأنك مهما كنت بارعا في تحطيم الحوائط، لا يمكنك تحطيمها جميعا، أنت حتى لا تريد أن تحطمها جميعا، لا يمكنك أن تتخلى عن كل مصادر الأمن في العالم، لمجرد إرضاء هوس ما. إن تمكنت من معرفة ما تريد، فقد تبدأ بشكل ما في التحرر أو السعي نحو عالم يشبهك.
ملحوظة: قد يغضب البعض من فكرة بناء الحوائط وفقا لهواك، لكن إن كنت متأكدا مما تريد فلا تعبأ بهم.
4
الجدار ليس شرا بالضرورة، مجرد وجوده ليس مشكلة، المشكلة إن كان يقف بينك وبين ما تريده أنت، وإن كنت تعلم أن ما وراء هذا الجدار هو حقا ما تريده، وكنت ترى أن ما وراءه يستحق الجهد، والمعاناة، ومكابدة الخوف، فستبدأ بتحطيمه.
أسئلة الفأر في المتاهة
1
فأر يوضع في المتاهة للمرة الأولى، يتحسس طريقه بتشكك، يشمشم هنا وهناك، في الجو رائحة قطعة من الجبن أو الشوكولاتة يريد أن يصل لها، في المتاهة أبواب، عليه أن يتعرف كيف يفتحها ليصل إلى هدفه. مع الوقت يصبح الفأر متآلفا مع المتاهة، في المرات التالية يسير إلى هدفه بسرعة أكبر، يفتح الأبواب بالطريقة التي تعلمها في المرات السابقة ليصل. في هذه المتاهة يتحول السلوك الذي تعلمه الفأر مع الوقت إلى روتين؛ سلوك مألوف تعززه المكافأة التي تنتظره في النهاية. من كثرة ما قرأنا عن هذه التجربة لسنا في حاجة إلى التكلم عنها كثيرا.
غرض التجربة هو معرفة كيف يعمل العقل؛ في البداية يبذل الفأر مجهودا عقليا كبيرا لاستكشاف المتاهة، ثم مع الوقت يتحول سلوكه إلى سلوك روتيني يبذل فيه قدرا محدودا من الطاقة الذهنية. شاهد العلماء في هذه التجربة سلوك الفأر وهو يتغير وفقا للبيئة ويتحول إلى روتين من خلال عملية من ثلاث مراحل تتكرر بشكل تلقائي: محفز، عادة، مكافأة. دورة تلقائية يخلقها العقل بشكل تلقائي.
2
الفأر هنا حبيس المتاهة، ويتم التحكم فيه بواسطة غرائزه نفسها. أي فأر جائع بما يكفي سيتبع رائحة الطعام. الفارق بين هذا الفأر وفأر خارج المتاهة أن الفأر خارج المتاهة متاحة له خيارات أكبر، وفرص أكبر، وربما مخاطر أكبر كذلك. الفأر في الخارج لا يعرف الحوائط بالطريقة التي يعرفها فأر المتاهة، يعرف طبيعة غير مروضة. نظريا - على الأقل - الفأر في الخارج أكثر حرية، ويتحكم في تصرفاته بشكل أكبر. الفأر داخل المتاهة على النقيض، يختار بين بدائل محددة توضع أمامه، لكنه في النهاية خيار زائف؛ لأننا نعلم مسبقا أنه - باعتباره فأرا تم تجويعه - سيختار الطريق الوحيد الذي يوصله للطعام.
3
ما نعلمه عن العالم اليوم أكثر بكثير مما كان يعلمه أسلافنا عنه. تقدم العلم وتطورت وسائل الاتصالات التي سهلت الوصول إلى المعلومات، وهو ما يفترض أن يؤدي تلقائيا إلى زيادة وعينا، وزيادة رشادة اختياراتنا، وهذا صحيح جزئيا في بعض المجالات، لكن «جون ديوي» يشير في كتابه «الحرية والثقافة» إلى أنه نتيجة لتقدم الصناعة وانتشار التخصص، صار العامل لا يعلم أكثر من شذرة صغيرة عما يصنعه، ويؤدي وجود عدد كبير من المعلومات المتناثرة إلى حدوث أثر تشويشي أحيانا؛ ونتيجة لذلك صار الإنسان المعاصر يعرف أقل فأقل عن الأمور الأكثر ارتباطا بحياته. وفي سياق مختلف يشير «جون كنث جالبريث» في كتابه «اقتصاد الاحتيال البريء» إلى دور الدعاية التي تمارسها الشركات الكبيرة في التأثير على سلوك المستهلك، والتشويش عليه، وإقناعه في كثير من الأحيان بشراء واستهلاك ما لا يحتاجه.
4
يولد الإنسان منا في مجتمع ما، يعلمه هذا المجتمع الكثير عن نفسه وعن الحياة والكون، يعلمه الكثير عن كيفية التصرف. في كثير من الأحيان تكون مخالفة المجتمع أو مراجعة أفكاره التي يتبناها أمرا محفوفا بالمخاطر. المثال الأشهر في هذا السياق هو «جاليليو» حين دافع عن كون الأرض كوكبا يدور حول الشمس، متابعا في ذلك رؤية «كوبرنيكوس» للكون، ومخالفا رؤية معاصريه الذين كانوا يؤمنون بثبات ومركزية الأرض، وهو الاعتقاد الذي أدى إلى محاكمته، ووضعه تحت الإقامة الجبرية في منزله، وإجباره على التراجع عن أفكاره.
5
افترض أن هذا الفأر أدرك بالضبط حقيقة وضعه، بوصفه فأرا يسير في الطرق الضيقة لمتاهة صناعية يتم التحكم بها وبه من الخارج، هل على الفأر أن يقرر بالضرورة أنه يريد الخروج من المتاهة؟ هو لا يعرف شكل الحياة خارج المتاهة، ربما حتى غير قادر على تصورها؛ قد تكون أسوأ من الحياة التي يعيشها، هو يحصل على الغذاء في متاهته، يحس بالألفة معها بشكل ما؛ لأنه لم يعرف غيرها، هل عليه أن يخرج من هذه المتاهة؟
6
المتاهة ليست بالضرورة خارجنا، أحيانا تكون أجزاء منها في داخلنا، تتحكم في تصرفاتنا وأفكارنا، ربما كعمى اختياري للألوان، يختار فيه عقلنا ألا يرى سوى ألوان بعينها، ويتجاهل ألوانا أخرى؛ فقط لأنها لا تناسب ما تعلمه. كل منا يمتلك سقفا يعلو على هذه الحقائق الصغيرة المتناثرة التي تحيط بنا، سقفا من القناعات يخيط واقعنا ليجعله متماسكا في عيوننا، سقفا يحمينا ويحجب عنا السماء الحقيقية؛ السماء غير المروضة.
7
افترض أن الفأر أدرك فعلا من خلال حدس ما طبيعة وضعه بالضبط، وقرر أنه يريد الخروج؛ كيف له أن يخرج من هذه المتاهة؟ بالنسبة لفأر عاش حياته بالكامل داخل متاهة، الحوائط ليست حوائط، الحوائط هي العالم، وما دام لا يراها كحوائط، قد لا يكون قادرا على القفز من فوقها أو تجاوزها إلى ما بعدها. ما الذي يفترض بفأر ولد في المتاهة أن يفعله إذن؟ ربما يحتاج بشكل مبدئي أن يرى الحوائط كحوائط.
8
افترض أن الفأر خرج من متاهته ليجد متاهة أخرى أكبر في انتظاره، هل يمكن فعلا الخروج من كل المتاهات؟ هل نرغب في الخروج من كل المتاهات؟
9
لا أقول هنا إن الحرية الفردية غير موجودة، أو إن الفرد مسير على الدوام، لكني أقول إننا قد لا نكون دائما أحرارا في اتخاذ قراراتنا التي نظن أننا نتخذها، قد تحكمنا حوائط غير مرئية، ووسائل تحكم لا نشعر بها. أحيانا يفيد ذلك في تسهيل سيرنا في الحياة، وأحيانا ما يكون مضرا للغاية، لكن ما دام لا يعي الفأر أنه في متاهة، قد يعيش فيها طوال حياته دون أن يدرك أنه عمليا لا يأخذ أي قرارات حقيقية. قد ينشأ الفرد منا، ويتزوج، ويربي الأولاد، ويموت، دون أن يأخذ أي موقف حقيقي، أو قرار مصيري، يكتشف أنه - كما يقول «إليوت» في مسرحيته «لم شمل العائلة» - من الأشخاص الذين «لم يحدث لهم أي شيء، على الأكثر تأثر مستمر بأحداث خارجية.» ربما فقط لأنه خائف، أو لأنه لا يستطيع أن يرى الحوائط، أو لأنه اختار ألا يراها.
السير في الزمن
1
رجل عجوز أو شاب صغير، يبدأ حكايته: «كان يا ما كان»، ثم ينتقل بالأحداث على حريته؛ يبطئ حينا عند مشهد ما ويسهب في وصفه، ويسارع في مشاهد أخرى فيجعلها متتابعة تخطف الأنفاس، قد ينتقل من الزمن الحاضر إلى الماضي: «وكان قبلها قد حدث أنه ...» أو يقفز إلى المستقبل دون تمهيد: «ثم/بعد عشر سنوات/في النهاية ...» أو ربما يخلط بين الأزمان بشكل غير منتظم: ماض حاضر ماض ماض ... وهو في هذا كله كحكاء بارع يراعي التشويق، يعرف أن الحدث (الحدوتة) لا يكفي، وأن الطريقة التي يقول بها قصته قد تكون أهم من القصة. لكن المسألة ليست فقط في التشويق، الفكرة هي أن شكل الزمن الخطي الذي نعرفه لا يعبر دائما عن أفكار الإنسان ومشاعره بشكل كاف، الإنسان يكون في لحظته الحاضرة مرتبطا بلحظات بعينها في ماض قريب أو بعيد، يستعيدها حنينا، أو ندما، أو تأملا، يستعيدها لصلتها بحاضره، أو لأنها أبعد ما تكون عن حاضره. الإنسان يتطلع أيضا للمستقبل، يتشبث به كمهرب، أو يخاف منه كخطر، أو يتساءل بخصوصه بحيرة. لحظة أو فكرة ولدت منذ عشرين عاما أو أكثر، قد تساعد على فهم اللحظة الراهنة لهذا الإنسان، بشكل أكبر من أحداث أسبوعه أو عامه السابق أو ربما عدة أعوام ممتدة. قد يحس الإنسان الدقائق القليلة ساعات حين ينتظر أو يتألم، وتمر الساعات كثوان أوقات السعادة، إحساسه بالزمن يختلف عن مروره الواقعي، ولا يهم وقتها ما تقوله له ساعة الحائط.
2
في مشهد من فيلم آلة الزمن
The Time Machine 2002 ، يوغل البطل في السفر عبر الزمن أسرع فأسرع. في البداية يكون التغير هو تبدل واجهات المتاجر، ثم المتاجر نفسها ثم الشارع بأكمله. حين يسافر بشكل أسرع في مشهد تال تتسارع التغيرات، فنرى زوال مدن، انفصال أراض عن بعضها؛ تتغير الجغرافيا، مع تغير شكل الأرض كما نعرفه. المشاهد تتتابع في إيقاع متسارع لتعطي لمحة من إدراك مختلف للزمن. عادة حين نتأمل في امتداد الكون، نفكر في امتداده المكاني، في اتساعه اللامتناهي، في السنوات الضوئية، تخطر في رءوسنا صور الكواكب والشموس والمجرات، لكن جمال هذه اللقطة المميزة - من فيلم متوسط المستوى - هو أنها تنبهنا من خلال حاسة البصر أن اتساعا مماثلا وربما أكبر يمتد على محور الزمن أيضا. في هذه اللحظة ثبت المخرج كاميرا خيالية في نفس المكان لمدة آلاف السنوات، ثم عرض علينا المشهد بعد زيادة سرعته آلاف المرات؛ يشبه الأمر - لكن على نطاق أوسع - تصوير نمو النباتات من أجل عرضه في لقطة قصيرة، يبرز فيها البرعم من التربة، ثم ينمو، وينشق عن الزهور، ثم الثمار، ثم يذبل ويموت في ثوان معدودة، في لقطة واحدة، نرى من خلالها ما لا تراه أعيننا المجردة عادة، نرى حركة النبات في الزمن، ونحن لا نراه بهذه الطريقة ببساطة لأن الإنسان يعيش بإيقاع مختلف عن إيقاع هذه النبتة.
3
في كتابه المعنون «تنينات عدن: تأملات عن تطور ذكاء الإنسان»، يورد كارل ساجان فقرة إيضاحية لإيقاع الأحداث على مدار عمر الكون يقول فيها (وفقا لترجمة: سمير حنا صادق): «أفضل الطرق في رأيي للتعبير عن هذا التاريخ الكوني هي ضغط 15 بليون سنة - التي هي عمر الكون - في سنة واحدة. وهكذا يصبح كل بليون عام من تاريخ الكون معادلا لحوالي 24 يوما من سنتنا الكونية، وستصبح كل ثانية من هذه السنة الكونية معادلة لدوران الأرض 475 مرة حول الشمس (أي 475 سنة).» ويوضح كيف يبعث فينا الوعي بهذا الإيقاع الزمني الشامل شعورا بكثير من التواضع؛ «فالأرض لم تتكون إلا شهر سبتمبر، والديناصورات تظهر في ليلة عيد الميلاد، وتظهر الزهور في 28 سبتمبر. أما ظهور الرجال والنساء فقد حدث في ليلة رأس السنة، ويحتل ما سجل من أحداث في التاريخ الثواني العشر الأخيرة. ورغم ضخامة ما شغلنا من وقت في تاريخ الكون، فمن الواضح أن ما سيحدث على الأرض خلال السنة الكونية المقبلة سوف يعتمد على حكمة العلم وعلى الحساسية الإنسانية للجنس البشري.»
4
تعلم بشكل معتاد وأنت تشاهد السماء في ليلة صافية، أنك تشاهد نجوما ماتت منذ آلاف أو ملايين السنوات؛ وبالتالي فمفهوم التزامن - أي حصول حدثين في نفس الوقت - أحيانا ما يكون أمرا نسبيا: هذه النجمة موجودة الآن معي لكنها ماتت منذ قرون. نؤمن الآن بأمور كانت تبدو مستحيلة؛ الزمن (الزمن الفيزيائي) لا يمر علينا بنفس الطريقة، إذا صعد أحدهم إلى صاروخ يسير بسرعة الضوء فإن الزمن سيمر عليه وفقا لنظرية النسبية بشكل أبطأ من توءم له بقي على الأرض.
5
هذه الكلمة (الزمن) التي تبدو بسيطة، تحمل داخلها معاني متباينة تماما تختلف مع السياق، ولكن الزمن في كل السياقات عنصر من أهم العناصر التي نحس بها بأنفسنا ككائنات حية تفكر. في حكايتنا كجنس بشري، وفي حكاياتنا كأفراد، نسير في الزمن واعين به أو غير واعين، لكنه يظل العنصر الأهم في أي قصة. ربما اعتاد أجدادنا أن ينظروا إلى الزمن ببساطة كخط ينتقل من الأمس إلى اليوم، ثم إلى الغد، في تواصل لا يتوقف، لكن الزمن كأي شيء يظهر بشكل مختلف كلما دققنا فيه أكثر؛ فتزداد حيرتنا حين ننظر لأنفسنا في مرآته.
حدث في المستقبل
1
لو أننا نستطيع أن نمثل حياة إنسان ما بخط مستقيم يبدأ من لحظة ولادته وينتهي بلحظة موته، فإن فكرة السفر عبر الزمن كما نراها في بعض روايات وأفلام الخيال العلمي ستعقد هذا الخط قليلا، فإذا عاد الشخص مثلا بالزمن ليقابل نفسه في لحظة بعينها، حينها يمكن أن نفترض أن شكل الخيط سيتعقد قليلا، بحيث يستدير ليلتقي بنفسه في عقدة متخيلة، قد يعود بعدها الخيط لطريقه المعتاد ليصل إلى لحظة الوفاة.
في قصص أخرى تتشابك الأحداث بدرجة أكبر بحيث يزداد تعقيد الشكل المتخيل لخيط حياة البطل، لكن في فيلم
سيتعقد هذا الخط لدرجة تحس معها أنك تنظر إلى قطعة من الخيط التفت حول نفسها، بحيث لا تستطيع أن ترى نهايتها من بدايتها؛ أو بكلمات أخرى: تعقدت بحيث أصبح من الممكن أن تعتبر أي نقطة في الخيط هي نقطة بداية تستطيع السير منها كقارئ أو مشاهد إلى بقية أجزاء الخيط.
2
سيتناول هذا المقطع (رقم 2) بالحكي أحداث فيلم
. قد يفسد هذا على البعض مشاهدتهم للفيلم، يمكن تجاوزه مؤقتا لحين مشاهدة الفيلم إن رغبت في ذلك.
الفيلم في الأساس مأخوذ عن قصة قصيرة لروبرت أ. هينلين
Robert A. Heinlein
بعنوان
All You Zombies ؛ وهي كما تبدو من خلال الفيلم المأخوذ عنها قصة عجائبية الطابع، تثير الدهشة، ويبرز على مدار أحداثها عدد من المفارقات.
بطلة الفيلم ولدت بأعضاء أنثوية وذكورية مكتملة، وهي لا تعلم هذا منذ البداية، تعيش كأنثى عادية بأفكارها ومشاكلها، حتى تجيء اللحظة التي تتعرض فيها نتيجة لولادة متعثرة إلى إزالة الرحم، ويقوم الطبيب الذي يكتشف الأمر أثناء الولادة بتحويلها إلى ذكر. غريب، أليس كذلك؟ ليس هذا كل شيء؛ البطلة تغرم برجل في مرحلة ما من عمرها، تكون بينهما علاقة متفردة، ثم يختفي. تكتشف فيما بعد أن هذا البطل هو ذاتها المستقبلية، والطفلة/الطفل الذي ولد منها سيتم إعادته بالزمن إلى لحظة ولادتها ليكون/تكون هي نفسها. الفيلم إذن يفترض أسرة كاملة من أب وأم وطفلة، كلهم نفس الشخص. البطل في الفيلم يطارد مجرما عبر الزمن سيكتشف أنه هو نفسه. باختصار؛ تقريبا كل الشخصيات المهمة في هذا الفيلم هي تجليات لنفس الشخص في مراحل حياته المختلفة، ونتيجة لفكرة السفر عبر الزمن، نكون قادرين مثلا على مشاهدة البطل وهو يطلق النار على نفسه، لا على سبيل الانتحار، بل على سبيل القتل، يصوب المسدس في غضب، بينما نسخته الأخرى تحاول إقناعه بألا يفعل، ثم يطلق الرصاص على نسخته العجوز.
3
مع تكرار كتابة قصص وروايات وسيناريوهات أفلام تتناول فكرة السفر عبر الزمن، أصبحت فكرة مألوفة للكثير منا، لم تعد تثير دهشتنا بنفس الدرجة، ولم تعد صعبة الفهم أو التصور بالنسبة لنا؛ وهو ما يجعلنا ككتاب وقراء ومشاهدين ننتبه إلى جوانب أخرى من القصص التي تحتوي ضمن أحداثها على سفر عبر الزمن. فكرة السفر عبر الزمن هي أحيانا مجرد خلفية أو حيلة لمناقشة أسئلة وقضايا وجودية، يمكننا أن نتواصل معها ونحس بالألفة معها رغم أنها تحدث في سياق خيالي؛ لأن البطل الذي يعود بالزمن، والأسئلة التي تتمخض عن هذه العودة حول إمكانية تغيير الماضي أم لا، هي أسئلة قديمة مرتبطة بفكرة القدر، والمصير، والاختيار، والحتمية.
للتوضيح يمكن تخيل أن يكتب أحدهم معالجة عصرية لقصة «أوديب» مثلا، فيستبدل السفر عبر الزمن بالنبوءة التي بدأت بها المسرحية اليونانية؛ كأن تبدأ بمسافر من المستقبل يجيء محملا بالمعرفة المشئومة، يجيء لمنع حدوث الواقعة، ثم يمكن للمعالجة الحديثة أن تكمل أحداث المسرحية الأصلية دون تغيير كبير. ستظل الأسئلة التي تطرحها المسرحية واحدة، وسيظل إحساسنا بالتعاطف مع البطل الذي يحارب بلا جدوى مصيره المحتوم. وفي إطار سعي أبطال المسرحية لتفادي النبوءة التي بدأت بها الحكاية، يلعبون في الحقيقة أدوارهم في تحقيق هذه النبوءة.
أيضا قصة «أهل الكهف»، سواء في معالجتها القرآنية أو في معالجة توفيق الحكيم المسرحية لها، تتضمن السفر عبر الزمن. ففي بعض القصص الحديثة، نشاهد البطل الذي يتم تجميده لمدة عقود أو قرون ليستيقظ بعد ذلك في زمن آخر لا يألفه (يحضر في ذهني الآن فيلم
Demolition Man 1993
على سبيل المثال). وفي معالجته لقصة أهل الكهف، يستغل الحكيم القصة القرآنية ليصوغ تساؤلاته عن الزمن، والقدر، والحب، والموت. يقول الحكيم على لسان «مشلينا» في ختام المسرحية:
إنا لسنا حلما. لا، بل الزمن هو الحلم! أما نحن فحقيقة. هو الظل الزائل ونحن الباقون، بل هو حلمنا. نحن نحلم الزمن، هو وليد خيالنا وقريحتنا ولا وجود له بدوننا. إن عقلنا المادي المحدود منظم جسمنا المادي المحدود، آلة المقاييس والأبعاد المحدودة، هو الذي اخترع مقياس الزمن. أولم نعش ثلاثمائة عام في ليلة واحدة فحطمنا بذلك هذا المقياس؟ نعم، لقد استطعنا أن نمحو الزمن، تغلبنا عليه (لحظة) لكن - وا أسفاه! بريسكا - ماذا يحول بيني وبينها الآن؟ الزمن؟ نعم محوناه، ولكن ها هو يمحونا؛ الزمن ينتقم. إنه يطردنا الآن كأشباح مخيفة، ويعلن أنه لا يعرفنا، ويحكم علينا بالنفي بعيدا عن مملكته. ربي! هذه المبارزة الهائلة بيننا وبين الزمن أتراها انتهت بالنصر له؟ (بعد لحظة منهوكا) آه ... لقد تعبت ... تعبت من الكلام ومن التفكير ... ومن الحياة، بل من ... الحلم ... هذه ليست الحياة ... بل هي حلم مشوش مضطرب.
4
أحداث هذا الفيلم أبعد ما تكون عن الواقع، وعن أي تخيل لما هو ممكن الحدوث، والغرائبية فيه ليست مقصورة على فكرة السفر عبر الزمن، بل تحس أن هذا السفر هنا هو مجرد حيلة ليتمكن من تقديم استعاراته وصوره الخاصة. ومع ذلك نحس كمشاهدين بالتوحد مع البطل. مع نهاية الفيلم، نحس كما في الأساطير الإغريقية بعجز البطل، وبعبثية مسعاه. وربما أيضا تدفعنا التجليات المتنوعة لذات البطل(ة) في المراحل المختلفة، للتفكير في التغير الكبير الذي يطرأ على ذواتنا مع مرور الزمن. حضور النسخ المختلفة وصراعها، جعلني أفكر في الزوايا المختلفة التي يمكن رؤية ومعايشة نفس الموقف من خلالها، بحيث يكون ما يرفضه البطل من زاوية ما، وفي زمن بعينه، ويشعر بالغضب إزاءه، هو نفسه ما يحس بحتميته، ويقع تحت وطأته في سياق مختلف قليلا أو كثيرا، وهو ما يذكرني بكتاب لم أقرأه بعد لبول ريكور عنوانه: «الذات عينها كآخر».
آنست نارا
نرسيس وغولدموند لهرمان هسة
دائما يكتب هسة رحلة حياة، يكون فيها ما يشبه رحلته الخاصة، دائما يهتم بالأحداث التي تجري داخل عقول أبطاله أكثر مما يهتم بما يجري خارجها، يصف كرسام أو كنحات. هو مغرم بالفنون، كل الفنون: الكتابة، الموسيقى، الرسم، النحت. مغرم بالحياة. فلسفته الخاصة تظهر دائما في كل قصصه، ورواياته التي يقول البعض عنها محقا إنها قد تكون مجرد محاولات عديدة لكتابة نفس القصة، لكن هذا لا يقلل من متعتها ولا من تنوعها في نظري، دائما أحب صحبة أبطاله. سمى روايته هذه نرسيس وغولدموند - وهما بطلا الرواية الرئيسيان - وتكلم في أغلبها عن غولدموند وهو طبيعي فهو البطل الذي مر بكل الأحداث، اختار نرسيس الذكي العقلاني البارع في التجريد وإعمال الفكر حياة التقشف التي تناسب مواهبه، ودل صديقه الذي فكر في البداية أن يتبعه في دربه إلى طريقه الخاص، في الاتجاه المضاد. ومن خلال حركة غولدموند، وتشرده، الحائر والحر، رأى العالم - ربما كما رآه هرمان هسة - مليئا بالغباء والخوف، والغضب، والمرض. لكنه لا يخلو كذلك من الجمال، والمتعة.
في هذه الرواية كان هناك التناقض الذي يظهر دائما في كتابات هسة، والمتأثر بالطاوية، والبوذية وفلسفات شرقية أخرى: الحركة من النقيض للنقيض هي الأصل، هذه الثنائية التي تقسم العالم إلى ذكر وأنثى، خير وشر، ين ويانج ... يخرج هسة من هذه الفلسفة سحره الخاص. في الرواية كما ذكرنا هناك نرسيس صاحب الميول العقلية، والذي يسير في طريق الرهبنة، وهناك غولدموند بطبيعته الحسية الفنية، الذي يتعامل بعد أن يتعرف على طريقه الخاص، مع الحياة بحواسه المختلفة، يرى ويتذوق ويحس ويحب، ويتخيل، ويتجول من قرية لقرية، طوال حياته، مستمتعا بالحرية، والخبرات المختلفة. يتعلم بعد مصادفة مشاهدته لتمثال أبهره فن النحت. وتكون الأجزاء التي تصف فيها الرواية مشاهداته في الطبيعة، أو تفكيره في أعماله الفنية قبل وأثناء وبعد عملها ممتعة بوصفها الجذاب وعمقها في التعبير عن الأفكار والمشاعر والصور. أيضا الأجزاء التي تصف علاقاته المختلفة مع النساء هي أجزاء ممتعة وكاشفة أيضا. وبالتأكيد فإن الحوارات التي قامت بين الشخصيتين نرسيس وغولدموند معبرة، وثرية، والتقابل بينهما طول الرواية حتى في الأجزاء التي لا يلتقيان فيها، سر من أسرار متعة العمل.
يمكنك أن تتساءل بخصوص الرواية أسئلة عدة، منها: هل الأشخاص فيها من لحم ودم، أم أنهم مجرد رموز أو إحالات لمعان ما؟ هل قصد وجود شخصيتين منفصلتين فعلا أم أنهما فقط يشيران إلى جزأين من أجزاء كل إنسان؟ في كلا الحالين لا بد أن نراعي أن هرمان هسة يضع الكثير من الإحالات في كتابته؛ في هذه الرواية مثلا، حتى أسماء الشخصيات لها دلالات ما. لكن شرح التأويلات وبسطها ليس التعامل الأفضل مع هذه الرواية في رأيي؛ لأن المعنى والتأويل هنا ليس بأهمية حالة التأمل ذاتها التي يضعك فيها النص. ولو دخلت إلى النص بالشكل السليم، فستجد حتى في الفقرات العابرة ما يدعو للتأمل، ويحتمل النظر والتأويل. الرواية في المجمل ممتعة، ككل ما قرأت لهسة من روايات، لكنها ليست عبقرية مقارنة بروايات أخرى له. وتظل تحفته الأهم هي «لعبة الكرات الزجاجية»، لكن من يقرأ أيا من رواياته سيستمتع (لم أحب قصصه القصيرة كثيرا).
مقتطف
لقد رسمت رسومات كثيرة وأضعتها كلها، ولكن يمكنني أن أخبرك عن سبب رغبتي في تعلم حرفتك. لقد راقبت العديد من الوجوه والأشكال وبعد ذلك رحت أفكر فيها. بعض هذه الأشكال كانت لا تني تغير علي، لكنها لم تمنحني السكينة. لاحظت دائما كيف أنه في كل صورة ثمة شكل معين، يتكرر، كيف أن جبينا يبدو منطبقا على ركبة، ووركا مع كتف، وكيف أن جوهر ذلك كله ينطبق وكيان الإنسان ومزاجه، الذي وحده يمكن أن يكون له مثل هذه الركبة، أو الكتف، أو الجبين. وهذا أيضا لاحظت وجوده، وكنت قد شاهدته ذات ليلة وأنا أساعد امرأة تلد طفلها، ومفاده أن أشد الآلام وأمتع اللمسات يعبر عنهما تقريبا بطريقة واحدة.
رواية المزحة لميلان كونديرا
رواية: المزحة.
تأليف: ميلان كونديرا.
ترجمة: أنطون حمصي.
في لحظة ما خلال مناورات المراهق لودفيك من أجل التأثير في ماركيتا الفتاة التي تثير إعجابه، يشعر بالغيظ منها فيرسل لها ردا غرضه إثارة غضبها، والسخرية منها؛ فيقول: «التفاؤل هو أفيون الجنس البشري! الروح المعافاة تفوح بنتن الغباء. عاش تروتسكي! لودفيك.» العبارات التي كتبها دون حتى أن يؤمن بها تقلب حياته رأسا على عقب حين يعرف بها زملاؤه في الحزب وفي اتحاد الطلاب، واعتبرت أنها عدائية للشيوعية. وفي سياق مزايدات، وخطاب عام إقصائي مشوش سيطر على العصر في التشيك في ذلك الوقت، تتعقد الأمور. يحاول لودفيك الدفاع بأن هذه العبارات مجرد مزحة كتبها بسرعة دون أن يفكر، لكن زملاءه لا يصدقونه ولا يتعاطفون مع التبرير، بل ويقول أحدهم له: «من المحتمل أنك لم تكن لتكتب هذا لو فكرت أكثر من ذلك. بهذه الطريقة كتبت دون قناع. بهذه الطريقة نعرف على الأقل من أنت. نعرف أن لك وجوها: واحدا للحزب وثانيا للآخرين.»
هذه الحادثة التي يسترجعها لودفيك الرجل ذو السبعة والثلاثين عاما، صارت بالنسبة له نقطة تحول أساسية في نظرته للدولة، والنظام. وصارت أيضا اللحظة التي ارتفعت فيها أيادي مائة من زملائه وأصدقائه للتصويت ضده، إما مزايدة أو خوفا، لحظة مرجعية لنظرة متشائمة، شاكة في الأشخاص، والعالم.
لكن هل الرواية عن لودفيك؟ لا أظن أن هذا القول سليم رغم أهمية لودفيك في أحداث الرواية. فمن جهة أولى تستخدم الرواية رواة متنوعين، ومن خلال العيون المختلفة ، يتم النظر إلى أحداث الحاضر والماضي من زوايا متنوعة. ومن جهة ثانية فعنوان الرواية (المزحة) رغم أنه يشير بشكل واضح للحادثة المذكورة آنفا، إلا أن الرواية توضح مع الوقت أن هذه المزحة التي لم يتم قبولها أو فهمها، هي مجرد مزحة من سلسلة من المزحات أو المهازل التي تتكشف لعيون الأبطال، في نظام يتفسخ، تحت تأثير زيفه. الرواية ليست عن شخص أيا كان، الرواية عن عصر.
كونديرا معماري بارع، فإذا كنت في حديثي عن رواية نرسيس وغولدموند لهرمان هسة قد أشرت لعناصر مثل: رحلة الأبطال للبحث عن الذات، والاهتمام بما في داخل عقول الأبطال أكثر من الاهتمام بالأحداث الخارجية، فإن الصفة الأنسب لعوالم كونديرا هي صفة البناء الكبير؛ يقسم كونديرا الرواية إلى سبعة أجزاء ويقسم الأجزاء إلى فصول، وأثناء الانتقال من فصل لآخر يحول وجهات النظر، ويضع كل قطعة في مكانها المناسب ليخلق فسيفساء كبيرة تنكشف بنيتها مع تقدم الرواية. الأحداث في الرواية كثيرة ومتشابكة والسرد ينطلق من الحاضر للماضي ذهابا وعودة، ويتسارع ويتباطأ ببراعة موسيقي موهوب.
كما قلت، هناك حدث مركزي لكنه ليس الحدث الوحيد، فحول هذه النقطة التي تقدم كنقطة مركزية منذ البداية، كانت هناك نقاط أخرى أصغر أو لعلها بدت أصغر في البداية من حيث وقفنا كقراء، لكن هذه النقاط معا شكلت زخرفة متشابكة متكاملة يمكنك أن تتحدث عن كل نقطة منها كمركز: طرد لودفيك من الحزب، مضاجعته لهيلين، حكايته مع لوسي، حكاية كوستا، حكاية جاروسلاف، المكان نفسه بطل، والتاريخ كذلك. طوال الرواية أنت منجذب كقارئ للسرد الممتع، وهو ما يدفعك للتساؤل - إن كنت كاتبا أو قارئا واعيا - أسئلة تتركز حول بنية الرواية، تحاول في عقلك عمل هندسة عكسية لهذه البنية، بغرض استنتاج الطريقة التي فكر فيها الكاتب في بناء هذه الرواية، تحاول الانتقال من مقعد المتفرج السلبي، لمقعد المتعلم. ولعل ما كتبته هنا هو محاولة لفهم بنية الرواية من أجل التعلم.
في البداية كان لكل شخصية جزء منفصل تتحدث فيه بصوتها، وتلقي من زاويتها نظرة على الأحداث، لكن الجزء السابع (الأخير) ضم أصواتا متعددة تتغير من فصل لفصل: هي فصول قصيرة، سريعة، تتعاقب وجهات النظر فيها بسرعة كبيرة لتصنع سيمفونية متداخلة الآلات لتناسب جو المهرجان الذي كان يجري فيه الحدث.
عنصر آخر مهم في رأيي لفهم الرواية، هو السخرية، والسخرية فيها ليست مزحات يلقيها الراوي، وليست نقلا كاريكاتوريا لأفكار الأشخاص وتصرفاتهم؛ فأفكار الأشخاص ومبرراتهم يتم نقلها بطريقة مقنعة، وعميقة، ومتماسكة. لكن الكاتب في المقابل واع لكيفية خداع البشر لذواتهم، ولأن أبطاله هنا وفي كثير من رواياته مثقفون تكون كذباتهم أكثر مكرا ومبنية ببراعة أكبر. يبنون عوالم كاملة أحيانا، ينجحون من خلالها في خداع أنفسهم، بحيث يظهر لهم تعاليهم أنهم أحرار من الخدع. الأشخاص يحادثون أنفسهم وآخرين بشكل متماسك، لكن الروائي ينجح مع تعاقب الأحداث في إدخالك كقارئ إلى الأبعاد المختلفة للعالم الذي ينقله، وفي جعلك كقارئ واع تشاهد من الخارج تهافت ما يقوله الأبطال لأنفسهم في أوقات كثيرة. دون أن يحتاج إلى التعليق أو التشويه الكاريكاتوري، فقط ينجح في إعطائك مصباحا ترى من خلاله كيف أن الأمور تدعو للسخرية.
الكاتب لديه تلك القدرة على تحريك الأرض تحت أقدامك كقارئ، يغزل لك في البداية خيط تعاطف مع البطل ورؤيته حتى تتماهى معها وتصدقها خصوصا أنها مغزولة بعمق، وفي عقل بطل مدرك لأبعاد مختلفة لوضعه، لكن ما إن تتعاطف مع هذه الرؤية لتراها هي المسار الخاص بالرواية والراوي، حتى تكتشف التحول في هذه الرؤية واكتشاف وهمها، بشكل درامي. المهرجان نفسه الذي يتم إجراؤه سنويا له دراميته الخاصة، يتم تصويره بعيون لودفيك المراهق باعتباره متألقا وحميميا وصادقا، ثم تتغير النظرة بتغير رؤية الأشخاص، وينحل هو نفسه أكثر ليتم وصفه في النهاية بشكل يبرز طبيعته كمجموعة من الطقوس الفارغة من معنى ومن تناسق. إنها الأيديولوجيا الإقصائية التي تجعلنا من ناحية نرى الافتعال صدقا، وهي من ناحية أخرى التي تهدم الكثير أثناء تقدمها في الزمن لتبقى في النهاية مجرد مجموعة من الأشكال الباردة.
يقول جاروسلاف قرب نهاية الرواية:
كنا نتصور نحن الآخرين أننا سنصنع عالما جديدا تماما، وأن الناس سيعودون للعيش في التقاليد القديمة، وأن الكوكبة نفسها ستنبع من أعماق حياتهم. كنا نريد تشجيع هذا الانبثاق، كنا نموت تعبا لتنظم أعياد شعبية. لكن لا يمكن تنظيم النبع، فإما أن يندفع أو لا يكون نبعا. أنت ترى أيها الجد أين نحن: أغنياتنا الصغيرة، كوكباتنا وكل شيء مجرد بقايا عصر: القطرات الأخيرة، قطرات صغيرة، الأخيرة تماما.
أن تملك أو أن تكون: الإنسان بين الجوهر والمظهر
1
كتاب «إريك فروم» الذي ترجمه «سعد زهران» إلى العربية بعنوان «الإنسان بين الجوهر والمظهر» - سلسلة عالم المعرفة (1989) - ليس هو الكتاب الوحيد ولا الأول الذي يحاول الدخول لإشكاليات الحضارة الصناعية الحديثة، ربما حتى ليس الأفضل أو الأعمق؛ لكنه مع ذلك كتاب مضيء، يمكنك أن تلمح النور في بعض أفكاره، وفي كثير من مقاطعه.
كما نلاحظ من العنوان الأجنبي للكتاب
to have or to be «أن تملك أو أن تكون»؛ تقوم فكرة الكتاب على التفريق بين نمطين من أنماط الشخصية: نمط التملك، ونمط الكينونة أو الوجود. وهو يبين كيف كان هذا التفريق أو هذا الاختيار بين النمطين قضية أساسية في تعاليم أساتذة الحياة العظام، مشيرا في هذا السياق إلى بوذا، والمسيح، وإيكهارت.
ومن أجل توضيح الفارق بين النمطين، يشير في البداية إلى قصيدتين تناولتا ظاهريا موضوعا واحدا؛ إحداهما للشاعر الإنجليزي «تنسون» (القرن التاسع عشر)، والأخرى للشاعر الياباني «باشو» (القرن السابع عشر). يقول تنسون:
يا زهرة في الجدار المتصدع
إني أنتزعك من بين الشقوق
وأقبض عليك، هنا في يدي بجذورك وكيانك كله
أيتها الزهرة الصغيرة، آه لو أستطيع أن أفهم
ماذا تكونين! جذورك وكيانك جملة وتفصيلا
إذن لعرفت الله والإنسان.
بينما يقول باشو:
وإذ أنظر وأمعن النظر
أرى النازونا مزدهرة
في سياج النباتات.
وهو يشير هنا إلى نمطين واضحين متمايزين في التعامل مع الطبيعة؛ يلجأ الأول لانتزاع الوردة وقطفها، أو بالأحرى امتلاكها لكي يتأملها، بينما يلجأ الثاني إلى تأمل الزهرة في مكانها؛ ليمارس هذه الصلة معها بوصفها كائنا حيا. وكما بدأ الكاتب من الشعر أشار بعد ذلك مباشرة إلى ظاهرة لغوية تتمثل في انتشار الأسماء في اللغات الغربية في أطوارها الأخيرة على حساب الأفعال، وهو ما يراه معبرا عن التغييرات التي مرت بها هذه المجتمعات نحو الاتجاه التملكي؛ فالأسماء هي «الرموز المناسبة للأشياء».
2
مع تزايد الإحساس بالحرية نتيجة نهاية الإقطاع، وتزايد الاعتقاد بإمكان تحقيق الرفاهية الشاملة، قوي التوجه التملكي عند كافة الطبقات، ورغم أن هذه الرفاهية وتلك الحرية لم تصب إلا الطبقات العليا والمتوسطة؛ فإن الطريقة التي جرى بها عرض الأمر وفهمه صورت أن وصولهما للجميع هو مسألة وقت فحسب.
لكن تطور الأمور أثبت أن التوجه الاستهلاكي لم يؤد إلى السعادة، وأن حلم السيطرة على الطبيعة أدى إلى تحول الإنسان نفسه إلى مجرد ترس في الآلة البيروقراطية، بالإضافة إلى ما أدى إليه هذا التطور نفسه من إضرار بالطبيعة؛ في حين أن الوفرة والحرية ظلتا مقتصرتين على البعض (دولا وأفرادا) دون البعض الآخر. ويرجع الكتاب إخفاق هذه الوعود إلى مقدمتين نفسيتين أساسيتين؛ أولاهما: الاعتقاد أن تحقيق اللذة والسعي وراءها هو الهدف الوحيد من الحياة، أما الثانية: فتتمثل في تصور إمكانية أن يؤدي السعي إلى المصلحة الشخصية بشكل أناني إلى السعادة والانسجام. ويوضح كيف أعلى عدد من فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر من المصلحة الفردية، وكيف كانت الغاية الأسمى من وجهة نظر بعضهم هي تحقيق كل رغبات الإنسان، مشيرا في هذا السياق إلى أن مفهوم اللذة - بهذا المعنى - لم يتم إعلاؤه قبل العصر الحديث في أي فترة كمعيار أخلاقي لدى الفلاسفة الكبار، والاستثناء الوحيد في هذا السياق هو «أريستوبوس»، أما «أبيقور» فقد كان يعتبر اللذة هي الهدف الأسمى، لكنه كان يرى أن الإفراط فيها يؤدي إلى الألم والإحباط، وهو ما يستدعي الترشيد والسيطرة على الشهوات. ورغم أن الطبقات الأكثر غنى مارست هذه الحياة في فترات معينة، إلا أنها لم تكن أبدا نظرية للحياة الطيبة في نظر المعلمين الكبار.
3
يحاول الكتاب إضفاء المزيد من الوضوح والتفصيل على الأسلوبين من خلال المقارنة بين كيفية تعامل كل من الأسلوبين مع عدد من الأنشطة التي نعايشها بشكل مستمر؛ فيتناول التعليم، والتذكر، والتخاطب، والقراءة، وممارسة السلطة، والمعرفة، والإيمان، والحب؛ فنجده يوضح مثلا كيف ينصت الطلاب إلى المحاضرات في التوجه التملكي ويفهمونها ويكتبونها؛ وذلك بغرض واحد: حفظ المعرفة ودخول الامتحان، وهي معرفة قد يكونون قد فهموها، لكنها لم تصبح جزءا من نظامهم التفكيري ولم توسع أفقهم، على عكس توجه الكينونة الذي لا يكتفي بمجرد الحصول على المعلومة، لكنه يتأثر بها ويتفاعل معها. وفي السلطة يوضح كيف يؤثر الاتجاه التملكي استخدام القوة كسند لسلطته بصرف النظر عن صلاحيته وقدراته، بينما يقدم اتجاه الكينونة المثال على الدرجة التي يمكن أن يتقدم لها الكائن البشري، ويقوم بسلطاته من خلال التفهم والحب والإنصات.
وفي مختلف هذه المناشط اليومية يوضح كيف يتجه النمط التملكي إلى التأكيد على جوانب الاستهلاك، والثبات، والأنانية، والجشع، والغيرة، والضغينة، والخوف، والحرب. بينما يؤثر نمط الكينونة الحب، والتفاعل، والإيثار، والنمو، والتفهم. وبينما يجعل التوجه التملكي مركز رغباته خارجه؛ أي فيما يملك أو يستهلك، يجعل توجه الكينونة مركزه هو ذاته، ساعيا إلى تنميتها من خلال تعلم الجديد، وفهم الذات، والتفاعل المنفتح على الآخرين. وهو في هذا الكتاب يبين كيف أن أحد هذين التوجهين يؤدي بنا إلى كارثة مؤكدة إن استمر، بينما يعد الاتجاه الآخر هو طوق النجاة.
4
السمة الأساسية لنمط التملك: كلما زادت ممتلكات الفرد، زادت مكانته وارتفع تقديره من الآخرين. لا يقتصر هذا النمط على الأغنياء، بل يمتد حتى أفقر الفقراء؛ ما دامت تسيطر على هؤلاء الرغبة في التملك، وتغلب عليهم متعة الاقتناء وزيادة الممتلكات. في هذا النمط لا يتوقف التملك على ملكية الأموال والأشياء، بل يمتد إلى تملك الأشخاص؛ «ففي المجتمعات الأبوية يمكن لأتعس الرجال في أفقر الطبقات أن يكون ذا ملكية، وذلك في علاقته بزوجته وأطفاله وحيواناته؛ حيث يمكن أن يشعر بأنه السيد بلا منازع. وهكذا، في المجتمع الأبوي وبالنسبة للرجل - على الأقل - يكون إنجاب الأطفال هو الوسيلة الوحيدة لامتلاك كائنات بشرية دون الحاجة إلى العمل والكدح اللازمين لامتلاك الأشياء، ودون الحاجة إلا لأقل القليل من رأس المال»؛ وفي هذه الحالة تكون عملية إنتاج الأطفال هي عملية استغلال فظ للنساء، إذا أخذنا في الاعتبار أن العبء الأكبر في الحمل والولادة يقع على كاهلها. والدائرة في هذا السياق تمتد: الرجل يسيطر على المرأة، المرأة على الأطفال، الذين ينمون بدورهم ليكرروا الدورة نفسها.
السمة الأساسية لنمط الكينونة هي النشاط، وليس المقصود بالنشاط هنا مجرد الانشغال الخارجي، بل الأهم هو النشاط الداخلي الذي يتجلى في العطاء، والنمو الداخلي، والتعبير عن المواهب، والاستخدام المثمر للطاقة الداخلية؛ فقد يدرس الطالب في كليته، أو يذهب الموظف إلى عمله مدفوعين بقوى خارجهما: ضغط الأسرة أو المجتمع، أو اتباع ما هو معتاد، تماما كما قد يؤدي السجين أو العبد العديد من المهام بهمة، لكن هذا لا يجعلهم فاعلين أو نشطين بالمعنى المطلوب.
5
تطورت الشخصية التملكية - وفقا للكتاب - من نمط الاكتناز الذي يحافظ على الأشياء القديمة ويستخدمها إلى أقصى حدود الاستخدام، إلى نمط الاستهلاك الذي يشتري الأشياء ليتخلص منها بعد ذلك بوتيرة سريعة، ليشتري بعد ذلك أشياء أحدث منها. قد يبدو التخلص السريع من الأشياء في نمط الاستهلاك ضد النمط التملكي، لكن هذا التضاد سطحي؛ ولفهم هذا التناقض يبرز الكتاب عددا من النقاط، لعل أهمها في هذا السياق: التأكيد على انتفاء الطابع الشخصي في علاقة المالك بما يمتلك، وتوضيح أن الأشياء في هذه الحالة هي رموز للمكانة الاجتماعية، غرضها الأبرز هو الحفاظ على هذه المكانة وتعزيزها؛ فشراء سيارة أحدث موديل كل عام أو عامين مثلا، هو جزء من هذه الدورة التي تهدف لمضاعفة نشوة الاقتناء لدى المستهلك.
يقول إريك فروم:
وفي نمط التملك لا توجد علاقة حية بيني وبين ما أملك؛ فأنا وما أملك أصبحنا جميعا أشياء، وأنا أملكها لأن لدي القوة التي تمكنني من جعلها ملكي. ولكن ثمة علاقة عكسية أيضا؛ فهي أيضا تملكني لأن إحساسي بهويتي - أي إحساسي بصحتي العقلية - يتوقف على ملكيتي لها (ولأكبر عدد ممكن من الأشياء). إن نمط الملكية لا يقوم على صيرورة حية ومثمرة بين الذات والموضوع، وإنما هي علاقة تجعل من الذات والموضوع أشياء والعلاقة بينهما علاقة موات، وليست علاقة حياة.
6
تبنى السلطة في المجتمع التملكي من خلال استغلال الأشخاص الواقعين تحت وطأتها، وهذا الاستغلال يكون في أحيان كثيرة مخالفا لرغبات الأفراد وتوجهاتهم؛ لذلك يكون من أهداف مثل هذه السلطة السيطرة على هذه الرغبات وترويضها وكبحها. يقول فروم:
والذي يجري الحد منه وكبحه، هو التعبير الحر العفوي لإرادة الأطفال والناشئين والمراهقين ثم البالغين والكبار، وكذا ظمؤهم للمعرفة، وبحثهم عن الحقيقة، ورغبتهم في المودة والحب، ويرغم الشخص أثناء نموه على التخلي عن معظم رغباته واهتماماته المستقلة الأصيلة وعن إرادته الشخصية؛ ليتبنى إرادة غير إرادته، ورغبات ومشاعر غير رغباته ومشاعره، تفرضها كلها الأنماط الاجتماعية للفكر والشعور، وعلى المجتمع، وعلى الأسرة باعتبارها الوكيل النفسي الاجتماعي للمجتمع أن تحل المعضلة الصعبة: كيف يمكن تحطيم إرادة الشخص دون تمكينه من الوعي بذلك؟ والحق أنها قادرة بالفعل - من خلال عملية معقدة من التلقين والثواب وبث الأيديولوجية المناسبة - على النهوض بهذه المهمة على نحو لا بأس به، إلى الحد الذي يجعل أغلبية الناس يعتقدون أنهم يسيرون حياتهم وفق إرادتهم دون أن يكونوا على وعي بأن إرادتهم ذاتها مصنوعة ومكيفة.
7
هناك تفاعل دائم بين الدائرة النفسية للفرد وبين البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع؛ ونتيجة لذلك يتكون ما يسميه الكتاب ب «الشخصية الاجتماعية». البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع تشكل «الشخصية الاجتماعية لأفراده»؛ بحيث تجعلهم راغبين في فعل ما ينبغي عليهم أن يفعلوه، وفي المقابل تؤثر الشخصية الاجتماعية في بنية المجتمع، بحيث تساعد على استقراره أو تتحول على العكس إلى قوة تفجير أو تغيير.
أحد الأدوار المهمة للشخصية الاجتماعية يتمثل في إشباع الاحتياجات الدينية للكائن الإنساني. وحين يتحدث فروم هنا عن الدين فهو يوسع مدلول الكلمة لتشمل أي إطار توجيه يوفر للفرد موضوعا يكرس من أجله حياته؛ وبالتالي عندما يتحدث فروم هنا عن «الدين»، فإن مفهومه لا يتضمن بالضرورة مفهوما معينا للرب، ولا يقتصر على ما نضعه عادة تحت مفهوم الدين. وإعادة التعريف هنا ليست هدفا في حد ذاتها بقدر ما هي تمهيد للفكرة الأساسية.
هناك حالات لا يوجد فيها تجاوب بين النظام الديني الرسمي أو المعلن من ناحية، والشخصية الاجتماعية السائدة من ناحية أخرى؛ بمعنى وجود تعارض بين الطريقة التي يصف الشخص (أو المجتمع) بها نفسه، وبين الممارسة الاجتماعية السائدة في الحياة، في هذه الحالات نكون في حاجة للتنقيب تحت هذا الدين الرسمي، عن البناء الديني الحقيقي. وبالتالي فقد يعتبر البعض نفسه «متدينا» بالمعنى الضيق للكلمة، بينما هو في حقيقة الأمر «لا ديني» مثلا؛ لأن النموذج الحقيقي الذي يفسر سلوكه ومبادئه وحركته في الحياة ليس هو الدين المسيحي أو الإسلامي.
8
في نهاية العرض أقول: أحيانا ما ننظر لمثل هذه النوعية من الكتابات بطريقة تمنعنا من الاستفادة الكاملة منها؛ كلما وجدنا كتابا أجنبيا يهاجم الغرب أو ينتقد جوانب معينة في مساره، استخدمناه لتبرير أوضاعنا، وكأننا المقابل الآخر للغرب وعيوبه. نهاجم الغرب بكلماته دون أن ندرك أننا ربما نملك نفس هذه العيوب التي نعيبها عليه وأكثر، ونفتقر في المقابل إلى الكثير مما يميزه. من ناحية أخرى نحتاج لكي نستفيد من تجربة الغرب، إلى الاطلاع على الكتابات التي نقد بها ذاته، نحتاج إلى معرفة العيوب والعثرات مع الميزات ونقاط القوة. وهذا الكتاب واحد من كتب كثيرة، تعالج الموضوع من وجهات نظر متنوعة ومتعارضة، لا أقول بعرضي له إن كل ما يقوله صحيح؛ لكنه يعرض نقاطا مثيرة للاهتمام، وبه طريقة مختلفة للنظر للأمور وصياغتها، وأظن أن مطالعته مطالعة متأملة ستثري وتفيد من يقرؤه.
الكتاب: الإنسان بين الجوهر والمظهر: نمتلك أو نكون.
تأليف: إريك فروم.
ترجمة: سعد زهران.
مراجعة وتقديم: لطفي فطيم.
سلسلة عالم المعرفة.
الكويت، 1989.
شطح المدينة
رواية: شطح المدينة.
الروائي: جمال الغيطاني.
اعتمدت على طبعة الهيئة العامة للكتاب للأعمال الكاملة، ج6 (1996).
وللرواية طبعات أحدث صادرة عن دار الشروق المصرية.
1
في فصولها الأولى تبدأ الرواية كرصد لرحلة عادية بعين مسافر يزور مدينة لأول مرة لحضور مؤتمر؛ فتصف بعين السائح المدينة ومبانيها، وتعطي نبذا عن تاريخها، وعمارتها، وتتتبع الجامعة بتقاليدها ، وطقوسها ، وأزيائها، وأساتذتها. وهو وصف بارع ممتع يهتم بتفاصيل الصورة، فيصف حتى الغرف والنقوش؛ مما يخلق مشهدا بصريا جاذبا على طول الرواية، يتخلله وصف للتاريخ الحي لهذه الأماكن: حقائق، خرافات، أشخاص، تواريخ، أسئلة ...
لكن المدينة التي تبدأ عادية قابلة للتصديق تبدأ في اتخاذ طابع أسطوري مع تتابع الأحداث والوصف؛ فشوارعها تضيق وتتسع، ومبانيها تتغير ملامحها بين زيارة وأخرى، وأشخاصها يظهرون ويختفون بشكل غير معتاد، وكأن المدينة بكل ما فيها ليست سوى انعكاس لواقع داخلي، مليء بالذكريات المختلطة، والمشاعر المضطربة، والهوية الممزقة بين أجزائها ومكوناتها. «يمضي متمهلا، مسرورا لفرصة المشي المتاحة الآن، في موطنه لا يمكنه ذلك، الانشغال دائم، والإرهاق واقع، أحيانا يمضي اليوم بدون خلوة إلى ذاته، وإذ يستعيد أيامه المتتالية لا يلمح حدثا بارزا، أو أمرا ذا خلاصة، فيضيق بالرتابة، وذهاب الأويقات سدى، يتسع الطريق ... فيستعيد ساحة فندق قديم اعتاد أن يمضي إليه طفلا بصحبة والده، ليلتقيا بالقادمين من البلدة النائية، وبعض الرواد الذين ارتبطت بهم الوشائج وأصول الصحبة، لماذا تذكر هذه اللحظات النائية الآن؟ ماذا استثارها؟ وما الذي استدعاها؟ يعجب لقانون الذكرى، لماذا تفد لحظة دون أخرى؟ ترد عليه شوارع من مدن عديدة نزلها، إنه يمضي متمهلا، مستكشفا مدينة جديدة، ربما لن يبلغها مرة أخرى، ولكنه يطلع في الوقت عينه على مدينة أخرى تمتد داخله، من شظايا أماكن أقام بها مددا متفاوتة، مدينة تواتيه، تفاجئه في أي لحظة فتطلعه على شيء من مكنونها، ثم سرعان ما تحجب، الأماكن الحقيقية تلك التي يقدر على استعادتها، أو تسترجعه هي، حتى وإن نأى عنها وابتعد، ما يمر به الآن، يراه من موقع لحظة آتية، قد يبلغها، فما الذي سيبقى؟ وماذا سيمثل؟»
منذ السطور الأولى للرواية يتم الإشارة إلى صراع ثقافي سياسي بين مكوني المدينة الأساسيين: الجامعة والبلدية، سبب الصراع ينبع من إشكالية قديمة تتمثل في سؤال الأسبقية، أيهما أسبق: المدينة أم الجامعة؟ هل نشأت المدينة أولا ثم تلتها الجامعة، أم أن الجامعة كانت هي السابقة ثم تلى بناؤها ونتج عنه عمار المناطق المجاورة؟ يمكن أن نرى الجامعة كمعادل للعقل أو ربما الروح، بينما قد نرى المدينة معادلا للجسد أو المادة، وفي هذه الحالة يمكن تأويل الجدل الذي يدور في أروقة الرواية عن أسبقية الجامعة أو المدينة، بشكل فلسفي يمكن اعتباره أحد جوانب سؤال الهوية الذي تطرحه الرواية منذ أول صفحة، وإلى آخر سطر.
أيضا مباني المدينة التي تحتفظ بواجهاتها القديمة، وتحارب البلدية والجامعة من أجل الحفاظ عليها، هي عصرية بالكامل من الداخل. «لا يمت الداخل إلى الخارج، بعد الليلة الأولى في صباح أول أيامه أدرك استمرارية وذيوع التناقض، الواجهة عتيقة، وداخل المبنى حديث جدا، تعرض الواجهة ثلاثة طوابق، بينما يتكون البناء من ستة، الحفاظ على الطابع المتوارث تنظمه قوانين صارمة واضحة، لا تحتمل التفسيرات الخاطئة، أو التأويلات سيئة القصد، أو الحزق المتعمد، المضمون جلي جدا، احتفظ بالمظهر القديم، أو اتبعه وافعل في الداخل ما شئت.»
وهو ما يمكن قراءته بالانقسام بين الطقوس والمظاهر الاجتماعية الخارجية، الثابتة التي لا تتغير كثيرا، والداخل الإنساني الذي يتغير بسرعة شديدة.
2
الرواية هنا تصور حالة من الانحلال، تبدأ بالجسم الذي أصابه المرض، وغادره الشباب، وانتهاء بالعقل الذي تتتابع فيه الذكريات وتتشابك، كالبحر المضطرب. وإذا ارتحل الإنسان عن ذاته القديمة وعن جسده القديم، فما الذي يمكن أن يعرفه؟ ما الذي يتبقى منه؟ أوراق الهوية.
وبطل الرواية منذ البداية لديه تخوف من فقدان جواز سفره، فيحافظ عليه بشكل مبالغ فيه، لكنه مع ذلك يفقده، ليكتمل الضياع بكل صورة:
ما يجب مراعاته أنه جاء ضيفا على الجامعة، إذن هناك مسئولية أخلاقية وقانونية عنه حتى مغادرته المدينة، حتى سفره من العاصمة، لقد تكبد مشاق الرحلة رغم تضعضع صمته و...
يقاطعه بحدة: الجامعة مسئولة عمن؟
يقول باختصار: عني. - أنت من؟
يردد بتأن اسمه الثلاثي، مسبوقا بلقبه العلمي، متبوعا بالمركز الذي يحتله.
يخبط الرجل على المائدة بقبضة يده، تدنو ملامحه تماما من موظف البلدية، بل إن الرائحة المنبعثة بالحجرة تعيد إليه فراغ المكان الآخر. - أثبت لنا ذلك. - ماذا أثبت؟ - أنك من دعوناه ...
يتطلع مباغتا مفاجا ... يؤكد الجامعي: نعم ... أثبت لنا أنك أنت أنت.
الرواية مع ذلك ليست فقط شبكة العلامات والرموز التي يمكن أن يؤولها كل قارئ بشكل مختلف، الرواية هي حالة حميمية من تداعي الأحداث والصور، التي تتدفق بسلاسة ومتعة، تشبه رواية الغيطاني الأسبق «التجليات» من هذه الزاوية فقط، لكنها تختلف عنها في البنية التي اتخذت الذات فيها شكلا ملموسا صلبا مركبا من شتات صور ومدن بقيت في الذاكرة، ربما بنفس الشكل الذي يقوم به الحلم بتجميع ودمج أحداث وأشخاص متباعدين في حدث واحد، وكما يقوم أيضا بتفريق الذات على عدة أجسام تمثل جوانب متفرقة من الإنسان.
تحسين القبيح وتقبيح الحسن
1
لأبي منصور الثعالبي كتاب طريف في موضوعه، سماه «تحسين القبيح وتقبيح الحسن»؛ في هذا الكتاب يجمع الثعالبي بعض ما نسب إلى البلغاء في تحسين ما تم التعارف على قبحه، وتقبيح ما تم التعارف على حسنه. يقول هو عن موضوع هذا الكتاب في مقدمته: «وما أراني سبقت إلى مثله في طرائف المؤلفات وبدائع المصنفات.» ويبرر اهتمامه بالتأليف في هذا الموضوع بقوله: «إذ هما غايتا البراعة، والقدرة على جزل الكلام في سر البلاغة، وسحر الصناعة.»
يقول فيه عن الكذب مثلا: «قال ابن التوءم: الكذب في مواطنه كالصدق في مواضعه، ولكن الشأن فيمن يحسنه، ويعرف مداخله ومخارجه، ولا يجهل تزاويقه ومضايقه، ولا ينساه بل يحفظه. ومعلوم أن من أجل الأمور في الدنيا الحرب والصلح، ولا بد فيهما من الكذب؛ أما الحرب فهي خدعة، كما قال عليه الصلاة والسلام، وأما إصلاح ذات البين فالكذب فيه محمود؛ لما فيه من الصلاح، وقد رخص فيه السلف. ولا خلاف في أن الشعر ديوان العرب ولسان الزمان، وأحسنه أكذبه، وكذلك الكتابة لا تحسن إلا بشيء منه، وقد جاء في المثل: «أظرف من كذوب.» وقال الأعشى:
فصدقتها وكذبتها
والمرء ينفعه كذابه»
في هذا المقطع المقتبس، يتم الدفاع عن الكذب بشكل شديد الذكاء، وذلك عن طريق التأكيد على ضرورة عدم تجاهل السياق؛ يقول: «الكذب في مواطنه كالصدق في مواضعه، ولكن الشأن فيمن يحسنه، ويعرف مداخله ومخارجه.» ويحيلنا بالتالي إلى سياقات يكون فيها الكذب مطلوبا.
الفكرة هنا هي أن كثيرا من الأمور التي يشيع الحديث عن جانبها السلبي فقط، لها جوانب إيجابية تجعلها ضرورية للغاية؛ كالقلق الذي يدفع صاحبه للفعل، والشك الذي يدفع صاحبه للبحث، وعدم الثقة بالنفس الذي يدفع صاحبه إلى العمل على تطوير الذات. دائما نتحدث عن التفاؤل لكننا نحتاج اليأس أحيانا كمحطة، كي نتوقف عن السير في طريق ما، ونبدأ لاحقا في السير في طريق آخر قد يكون أفضل. «فلتحي الوقاحة، إنها ملاكي الساحر في هذا العالم.» ينقل والتر إيزاكسون هذه المقولة عن أينشتاين في سياق تعبيره عن اختلافه وتمرده وعدم قبوله بالسائد، وينقل الثعالبي عن آخر قوله: «الوقاحة كالقداحة، لولاها لما استعر لهب، ولا اشتعل حطب.»
2
ولعل وصف الثعالبي لتحسين القبيح وتقبيح الحسن هنا بأنهما سر البلاغة وسحر الصناعة، هو امتداد للمقولة الشهيرة المشار إليها في الاقتباس، التي تقول بأن أحسن الشعر أكذبه؛ ولم أستطع قط أن أفهم هذه العبارة بحرفيتها، وبالتالي لم أختلف معها كما اختلف معها الكثيرون، على اعتبار أن الكذب هنا هو نقيض للصدق الفني، أو للتعبير الصادق عن المشاعر، لكني فهمتها على أنها طريقتهم في التفريق بين الكلام التقريري الجاف الذي يحاول التعبير عن الحقائق المادية كما هي، وبين الكلام الشعري الذي يستعمل الصور والمبالغات، ويبرز المفارقة؛ من أجل التعبير عن مناطق الذات الإنسانية المثيرة للجدل.
وفي هذا الكتاب أرى أن المقولات الأجمل فيه لم تكن مجرد لعب بالكلام، لم تكن دفاعا جميلا عن الخطأ بقدر ما كانت إبرازا للمفارقة الكامنة في ثنايا خطابنا وحديثنا؛ المفارقة التي تتكون أحيانا حين نسقط مقولات مسبقة على واقع لا يناسبها بالضرورة، وبالتالي تنشأ جماليات مقولات هذا الكتاب في كثير من مقتطفاته؛ نتيجة لتحدي أو فضح الحس العام الذي يميل للتعميم والتبسيط.
3
في صغري كان مفهومي عن الحقيقة مرتبطا بالصياغات الجذابة التي تبدو متماسكة؛ كانت البلاغة وجمالياتها مؤشرا على ما هو حقيقي وصائب، لكن بعد ذلك أدركت أن هناك عدة طرق لصياغة نفس الحدث، وأن الأشخاص الذين يتناقضون معي في المواقف والرؤى قادرون كذلك على التعبير عن مواقفهم وتحيزاتهم بشكل متماسك وجذاب؛ ستجد مثلا أن شخصا قد يبرر موقفه باعتباره «ثباتا على المبدأ»، بينما يصف آخر نفس الموقف باعتباره «تحجرا وجمودا». سيصف أحدهم نظرة ما للعالم باعتبارها متفائلة، بينما سيصفها آخرون بأنها خيالية وغير واقعية. واللعبة هنا في أوقات كثيرة لا تكون لعبة بلاغية صرفا، بقدر ما تكون مرتبطة بانتقائية ما في النظرة، كأن تتمثل جزءا من الحقيقة، وتبدأ في التعبير عنه على اعتبار أنه الحقيقة الكاملة، أو أن تنقل حقيقة متماسكة من منطقتها إلى منطقة أخرى (زمان أو مكان أو موضوع مختلف) لا تناسبها.
أحس أننا نحتفظ أحيانا في أذهاننا بصورة مروضة للعالم؛ حيث العالم متوقع، ذو قواعد واضحة، لكن القواعد المسبقة التي تكون مفهومة وواضحة ولا لبس فيها على المستوى النظري، قد تغدو غامضة، ومربكة، ومثار نزاع في المواقف العملية. تفهمك لذلك يعني أنك تحتاج التفكير/التساؤل في خطواتك المختلفة، في قراراتك ومقولاتك؛ لا يكفي اتباع تقاليد ما، دون مراجعة، بل من الضروري أن تتحول الحياة نفسها إلى حالة من الإبداع الفني، يصبح فيها القرار، ودوافعه، والتغير الذي يمثله، وكيفية اتخاذه ضربة من ضربات فرشاة حياتك في هذه الدنيا.
أحلام أينشتاين
رواية: أحلام أينشتاين
Einstein’s Dreams .
تأليف: آلان لايتمان
Alan Lightman .
ترجمة: علي القاسمي.
الكتاب هدية مع عدد مجلة إبداع رقم 18 (ربيع 2011). «أحلام أينشتاين» رواية كتبها عالم وأديب عن الزمان معتمدا فيها على أينشتاين وأحلامه كلبنات أساسية في بنية النص الروائي؛ الرواية عبارة عن بضعة مقاطع متخيلة من حياة أينشتاين اليومية تعمل كفواصل بين الأجزاء الأساسية للرواية، والتي تتمثل في ما يتم تقديمه داخل النص على أنه أحلام لأينشتاين حلمها في الفترة السابقة على توصله لنظريته المبتكرة، ومن خلال هذه الأحلام يقدم الكتاب تبصراته حول الزمان.
هل كان آلان لايتمان في هذا الكتاب أقرب لعالم أم لأديب؟ بالتأكيد كانهما معا لكن على عكس بعض الآراء التي قرأتها عن الكتاب - ومنها مقدمة المترجم - لا أرى الكتاب علمي الطابع، أرى أن الخيال الأدبي هو الغالب على الكتاب؛ لا يتوقعن أحد مثلا أن يجد تبسيطا أدبيا لنظرية النسبية أو لمفهوم الزمان عند أينشتاين؛ فالرواية لا تهدف لذلك، لكن يمكن أيضا أن نعترف أن هذا التعامل الثري مع مفهوم غامض ومبهم كالزمان هو إثراء لخيال العلماء والأدباء معا، خطر على بالي في هذا الإطار أن حديث أينشتاين عن الزمكان، واعتباره نسيجا واحدا، واستخدام استعارة النسيج هذه بشكل كبير لتوضيح مفهومه لا يخلو هو أيضا من الأدبية.
يمكن اعتبار فصول الرواية أسئلة من نوعية «ماذا لو؟» ماذا لو كان الزمان دائريا؟ ماذا لو كان الزمان مكونا من ثلاثة أبعاد كالمكان؟ ماذا لو توقف الزمان؟ ماذا لو علم الناس مسبقا تاريخ نهاية العالم؟ كيف سيكون شكل عالم لا زمان فيه؟ ماذا لو أن البشر اكتشفوا أن الزمان يتباطأ كلما ارتفعوا عن الأرض؟ ماذا لو ...؟ أسئلة عدة وخيال خصب، يستخدم فيه الكاتب الوصف المشهدي ببراعة تضفي بعدا إنسانيا وفنيا عاليا على التأملات ذات الطابع العلمي الفلسفي.
النص بأجزائه مفتوح كذلك للتأويلات المتنوعة، فهو محمل بحمولة ذات طابع وجودي إنساني وفلسفي، ولهذا فهو وجبة ثرية بالتأكيد. يبقى أن نذكر أن هذه الرواية الصغيرة في حجمها كتبت سنة 1993م، وحققت مبيعات ضخمة وترجمت إلى أكثر من 30 لغة.
عن المؤلف
آلان لايتمان مؤلف هذا الكتاب، هو روائي وشاعر وفيزيائي، نشر خمس روايات، ومجموعة شعرية واحدة، وكتبا علمية متنوعة.
لايتمان ولد في عام 1948، وهو ابن ريتشارد لايتمان مالك صالة عرض سينمائية، وجين جاريتسون
Jeanne Garretson
التي كانت مدرسة للرقص، وهو حاصل على الدكتوراه في الفيزياء النظرية عام 1974، وحاصل على عدد من الجوائز الأدبية.
في عام 2004 ساهم في إيجاد تعاون بين معهد ماسشوسيتس
MIT
ومسرح ريلواي في بوسطون
Underground Railway Theater of Boston ، وهو تعاون يهدف لنشر العلم والثقافة العلمية من خلال المسرح؛ وقد أنشأ بالتعاون مع الكاتب والمخرج المسرحي كيت سنودجراس
Kate Snodgrass ، ومركز كينيدي للفنون الأدائية في واشنطون
Kennedy Center for the
جائزة خاصة تقدم للمسرحيات التي تتخذ موضوعات علمية.
حكاية للكائن الزمني
رواية: حكاية للكائن الزمني
A Tale For The Time Being .
تأليف: روث أوزيكي
Ruth Ozeki .
ما هو الزمن؟ الإجابة ليست سهلة. لكن الزمن في الحس العام يتلخص في: ماض وحاضر ومستقبل؛ تتابع واضح خطي ثابت مستقر. الزمن الروائي في المقابل لا يتقيد بهذا التتابع فللروائي أن يرتب الأحداث كما يرى، قد يذكر المستقبل أولا ثم الماضي ثم الحاضر. وهناك زمن آخر يرتبط بالكتابة وهو زمن القراءة، القارئ في غرفته أو في مكتبه يجلس ليقرأ الرواية، ويستشعر الزمن بطريقة مختلفة. في البوذية لا يفهمون الزمن كخط يفهمونه كدائرة، وبالتالي فمفاهيم المستقبل والماضي ليست بالضرورة متنافرة لهذه الدرجة. أما العلم الحديث متمثلا في النسبية والكوانتم فقد ابتعد أيضا عن مفهوم الزمن في الحس العام. لماذا أذكر كل هذه المفاهيم في إطار الحديث عن رواية؟ لأنها جميعا موجودة في هذه الرواية. هل هي رواية عن الزمن؟ ربما.
اسم الرواية: «حكاية للكائن الزمني»، «ما هو الكائن الزمني؟ إنه شخص يعيش في الزمن، هذا يشملك، ويشملني، ويشمل كل واحد منا يكون أو كان أو سوف يكون.» هكذا تشرح ناو في الصفحات الأولى لمذكراتها. ومنذ السطور الأولى نتعرف على ناو كفتاة يابانية عاشت في أمريكا كل طفولتها قبل أن تعود إلى اليابان بعد فقدان أبيها لعمله في وادي السيلكون، تمتلك حس فكاهة يظهر في كتابتها، منطلقة في الحديث، و... تنوي على الانتحار.
مذكرات ناو الفتاة اليابانية وجدتها روث على الشاطئ داخل صندوق مع مجموعة من المتعلقات الأخرى: «خطابات، وساعة، ومذكرات أخرى صغيرة». روث التي تعيش في جزيرة من الجزر الكندية وهي نصف يابانية تبدأ في قراءة مذكرات ناو ومع الوقت يزداد تفاعلها معها. تقرر ألا تقرأها دفعة واحدة. تحاول أن تعايش في قراءتها الحدث، أن تحس بالزمن بطريقة مقاربة لما أحست به ناو وهي تعيشه. ربما أرادت أن تكون أقرب لها، وأن تفهمها أكثر. روث متزوجة، وتعيش مع زوجها ذي الخلفية العلمية في جزيرة ... نتيجة لظروف مالية. الجزيرة هادئة مجتمعها صغير.
واضح أن ناو تكتب مذكراتها، وتقرأها روث بعد عدة سنوات. روث المنشغلة على الفتاة، والقلقة من فكرة انتحارها، تحاول البحث على الإنترنت لمعرفة مصيرها. المواد والمعلومات التي تجدها على الإنترنت مسار آخر للرواية. لن يحدث لقاء بين ناو وروث طول الرواية، لكن العلاقة بينهما قوية بشكل ما. ناو في مذكراتها تخاطب روث بشكل مباشر، وتسأل أسئلة أثناء الكتابة عن هذا القارئ المفترض وعن مكانه وجنسه وسنه. روث تنغمس في المذكرات بشدة، وتحاول بشكل غير منطقي إنقاذ الفتاة. الرواية في أغلب أجزائها تنقسم إلى فصول لناو، تليها فصول لروث. وأنت - أثناء القراءة - تقرأ في البداية مذكرات ناو، ثم تقرأ حكاية روث مع هذه المذكرات.
هذه المذكرات كانت ناو قد اشترتها، من أحد المتاجر، الذي يصنع مذكرات أنيقة عن طريق وضع ورق فارغ داخل أغلفة كتب قديمة، بعد نزع صفحات الكتاب الأصلي. اختارت ناو التي تعاني من اضطهاد زميلاتها لها، غلافا فرنسيا أحمر، لم تفهم معنى المكتوب عليه، لكنها اختارته لأن الكلمات الفرنسية ستبعد المتطفلات من زميلاتها. سيتضح فيما بعد أنه غلاف طبعة من طبعات رواية البحث عن الزمن المفقود. تسأل ناو بعد أن تعرف: «كيف يمكنك أن تبحث عن الزمن المفقود على أي حال؟»
روث بطلة الرواية كاتبة، وهي في الجزيرة التي تعيش فيها تعاني من سكتة كتابية، فهي غير قادرة على الكتابة منذ فترة، وفي يوم ما وهي تمشي على الشاطئ تجد هذا الصندوق الذي يحتوي على المذكرات. بعد فترة من القراءة وعند لحظة تمهد بشكل واضح لموت ناو، تقابل روث تجربة غريبة؛ الصفحات التي كانت هناك في اليوم السابق، لم تعد هناك. تتحير روث في تفسير ذلك، هل هي بشكل ما سكتة قرائية، معادلة للسكتة الكتابية كما تعرفها؟ في لحظة ما يغدو تداخل روث مع المذكرات التي تقرأها وثيقا إلى الدرجة التي تظن فيها أنها تدخلت لتغير الأحداث. هل العلاقة هنا هي علاقة الكاتب/القارئ المعتادة؟ هل ما أحدثته روث من أثر في مصير ناو هنا يقف عند حدود التأويل؛ وبالتالي يعبر الحدث الذي شاهدناه - ولم أحكه بالكامل - عن فعل القراءة بشكل رمزي؟ هل هي رواية عن الكتابة/القراءة؟ ربما.
أم أن الرواية في هذا الموقف تسائل مفاهيم الزمان والواقع بشكل أعمق، حتى وإن اختلف مع الحس العام؟ تشير الرواية في هذا المقطع وتشرح بقليل من التفصيل بعض أفكار ميكانيكا الكم، وتمزجها مع أفكار البوذية. في هذه اللحظة يتداخل واقع روث، مع أحلامها، مع المذكرات والرسائل التي تقرؤها.
توجد في الرواية حكاية فرعية نوعا لا أملك ألا أتكلم عنها، زوج روث بطلة الرواية يملك قطا، ونتيجة لخلفيته العلمية سماه شرودنجر. في الرواية حين تقرأ الاسم ستبتسم حتما إن كنت قد قرأت عن معضلة قط شرودنجر الشهير. الاسم صعب عمليا كي ينادوا به القط، فصار له اسم آخر بيست، أو بيستو. بيست في لحظة ما يخرج من المنزل ولا يرجع، الخوف هنا أن تكون الذئاب قد أكلته. هل القط حي؟ هل هو ميت؟ هذا أكثر ما يقلق موريل زوج روث. بالتوازي مع معضلة شرودنجر الكمية، فبيستو أيضا هو حي وميت في نفس الوقت، حتى يتأكدوا. علاقة روث مع ناو يمكن النظر لها بنفس الطريقة. بشكل ما تتساءل روث طوال الوقت: هل انتحرت ناو؟ وإن كانت لم تنتحر، فهل نجت من تسونامي الذي جرى في نفس المكان الذي كانت تعيش فيه؟ يمكنك أن تعتبر أن ناو هي ميتة وحية في نفس الوقت.
الحكايات في الرواية كثيرة، فناو تحكي عن والدها هاروكي، ومحاولات انتحاره، وعن جدتها جيكو الكاهنة البوذية، ذات الأربعة والمائة عام، وعن عمها هاروكي الأول الذي كان قائدا لطائرة انتحارية، من الطائرات التي هاجمت أمريكا. ولروث حكاياتها أيضا: أصولها اليابانية، زوجها، أمها، الكتابة، القط شرودنجر. والرواية مليئة بالتفاصيل الممتعة، التي لا أظن أني أفسدتها بالحديث عن بعضها.
السرد أيضا ذكي يتنقل بين راويين: ناو، وروث. وهناك رسائل وحوارات، ورسائل موبايل قصيرة تتخلل السرد وتخلق به إيقاعا محببا. في الجزء الخاص بناو مثلا، ترسل رسالة ما لجدتها، و«سأخبركم بردها حين يصل»، وفي المكان المناسب من السرد يجيء الرد الذي قد يكون دعابة أو حكمة أو نصيحة وهو يخلق حالة ممتعة. السرد ممتع، يتخلله حس ساخر مرح، سواء في كتابة ناو أو في الفقرات التي ترويها روث. أعجبني أيضا طريقة استخدام الرواية للأحلام ببراعة، بحيث تكون مرتبطة بأحداث وأحاديث وأفكار ما قبل النوم التي تم حكيها، ومعبرة عن روث ومشاعرها ورغباتها، ولكن ارتباط الأحلام مع الواقع كعادة الأحلام ارتباط غير شفاف، يفتح للقارئ فرصة للتأمل. يمكنك أن تقرأ الرواية على أنها عن الزمن، أو عن ثنائية الكتابة/القراءة، أو عن الموت والانتحار، أو عن علاقة الشرق والغرب، أو عن كل هؤلاء معا. أحيانا ما يضفر الكاتب الحكايات لكي يكون بناء ما، لوحة كبيرة متخيلة، نهاية ما يرنو إليها. أحيانا قد تقرأ رواية ما وتصل بشكل واضح إلى ما تتكلم عنه هذه الرواية، وتصل بسهولة لمركزها. وأحيانا قد تسأل الكاتب بحيرة: ما الذي تريده؟ فتجيء عدة إجابات في ذهنك، كلها ممكنة، بل وكلها صحيحة. لست مضطرا إذا إلى الاختيار. ربما كلها مقصودة بشكل ما. ربما اختارت الكاتبة بشكل متعمد أن تكتب رواية دون مركز وحيد، لتناسب الموضوعات غير التقليدية للرواية، وربما ليس مهما ما أرادته حقا. ما دمت - وأنت تقرأ - قد تفاعلت مع النص بفهم، فمن حقك أن تساهم بوضع بصمتك الخاصة عليه.
ترجمة هذه الرواية ستكون صعبة للغاية، بنية اللغة في الرواية نفسها معتمدة على مزج الإنجليزية بكثير من المصطلحات اليابانية التي يتم شرحها في الهوامش. المسألة هنا جزء من بنية اللغة، أن يقابل من يقرأ باللغة الإنجليزية عبارة غير مفهومة ويجد بجوارها الإحالة فيرجع لها ليعرف ما المعنى. جزء من لعبة اللغة في الرواية. نقل المعاني سيكون بسيطا نوعا لكن نقل الحالة هو الصعب؛ لأن الهوامش هنا لم تتم إضافتها من قبل شارح أو ناشر، بل هي جزء من بنية العمل كما اختارته المؤلفة.
الفكرة أن اللغة الإنجليزية ربما تكون أكثر مرونة لتقبل ألفاظ من خارجها، والأمريكان ربما متفاعلون بحكم الهجرات والانفتاح على الثقافة اليابانية، بحيث أن دخول ألفاظ بهذه الطريقة هو ممتع للقارئ.
التنسيق ، والشكل الطباعي أيضا يتم استغلالهما بشكل جيد، لكنهما يصعبان أيضا عملية الترجمة. كيف ستترجم خربشات ناو وروث، التي تعبر فيها صورة الكلمات المكتوبة مع مضمون هذه الكلمات عن المقصود، كاشفة مشاعرهما. حتى لو ترجمت هذه الرواية، فأنصحك بقراءتها بلغتها الأصلية إن تمكنت من ذلك.
ترسم ناو في مذكراتها مثلا:
مثال آخر: كلمة
now
كما خربشتها ناو في مذكراتها ليست مجرد زينة أو لعب، هي جزء من السرد لا يستقيم دونه:
وتعبر روث عن مشاعرها في أحد المقاطع فتبدو هكذا:
عن روث أوزيكي
Ruth Ozeki
روائية أمريكية كندية مولودة في 12 مارس 1956، مخرجة أفلام، ومعلمة/كاهنة زن، صنعت عددا من الأفلام المستقلة قبل التوجه لكتابة الأدب. ولدت روث وتربت في ولاية كونيتيكت
Connecticut
لأب أمريكي وأم يابانية، درست الإنجليزية والدراسات الآسيوية في كلية سميث
Smith College . ارتحلت في آسيا عدة مرات. نالت منحة وزارة التعليم اليابانية لعمل دراسات عليا في الأدب الياباني الكلاسيكي في جامعة نارا. خلال وجودها في اليابان درست تنسيق الزهور، ودراما الناجوكو
Noh, or Nogaku drama (وهي عروض درامية موسيقية يابانية يرجع تاريخها إلى القرن الرابع عشر تؤدى بممثلين يرتدون أقنعة)، ودرست أيضا صناعة الأقنعة. ودرست في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة كيوتو سانجيو
Kyoto Sangyo University .
بعد عودتها من اليابان عملت في مجال الإخراج، أخرجت مجموعة من الأفلام المستقلة، وفاز فيلمها
Body of Correspondence-1994
بجائزة في مهرجان سان فرانسيسكو
New Visions Award at the San Francisco Film Festival . والفيلم به عناصر من السيرة الذاتية لروث أوزيكي أثناء رحلتها لليابان لجلب بقايا جدتها من اليابان. ووصلت روايتها التي أعرضها هنا للقائمة القصيرة للبوكر عام 2013.
هواء افتراضي
صحارى إلكترونية
1
في أوقات كثيرة نتعامل مع الإنترنت باعتباره عالما موازيا؛ كتبت كثير من المقالات والدراسات التي استخدمت هذه الاستعارة. ماذا لو مددنا خط هذه الاستعارة قليلا؟ لنتخيل أن أحدنا أراد أن يرسم خريطة لهذا العالم الموازي. ماذا لو حاولنا أن نرسم خريطة للإنترنت العربية؟
لماذا أتحدث عن خريطة للإنترنت العربية؟ لأنني تخيلت أن من يتمثل الصورة الكلية للمحتوى العربي سيجد فيها حالة من عدم التوازن: مناطق مزدحمة بالمواقع، في مقابلها صحارى ممتدة لا يسكنها إلا القليل ؛ وبالتالي يعتمد المتخصصون العرب في كثير من الموضوعات على الإنترنت الأجنبية. ما يرد إلى الذهن في هذا السياق للوهلة الأولى أن هذا ربما انعكاس منطقي لحالة ثقافتنا العربية، وربما هذا صحيح بدرجة ما، لكنه لا يصلح هنا كسبب وحيد، لماذا؟ لأنك إذا دخلت أي مكتبة عامة كبيرة؛ فستجد كتبا عربية في كل الموضوعات: كتبا لكتاب عرب، كتبا مترجمة، كتبا لمؤلف واحد، كتبا لها أكثر من مؤلف. قد نلاحظ عدم توازن من نوع مختلف حتى في المكتبات العامة، لكن هذا موضوع مختلف.
2
كثير من المواقع المستقرة في الإنترنت العربية يقوم عليها أفراد لا مجموعات عمل. هناك مواقع تقوم عليها فرق عمل كبيرة ومنظمة، مثل موقع «هنداوي» الذي ينشر هذه المقالة، وهناك تجارب شابة تسير بخطى واثقة مثل موقع «ساسة بوست» على سبيل المثال، لكن الإنترنت العربية في أغلبها تقوم على جهود فردية. المواقع التي تقف وراءها مؤسسات ستتركز في الغالب في مجالات بعينها: مناطق ساخنة تجذب انتباه الكثيرين؛ كالمواقع الإخبارية، والمواقع الإسلامية، لكن حتى داخل هذه المناطق المأهولة نسبيا بالمواقع، سيجد المتخصص المتابع مناطق قصور ونقص.
قواعد النحو العربية - على سبيل المثال - من الموضوعات التي أجد ما أريده منها على الإنترنت بسهولة. أحتار في قاعدة ما، فأجد ما أبحث عنه غالبا، لكن المشكلة تظهر أيضا حين تنتبه إلى غياب جهد منظم مهم في هذا المجال. كثير من النتائج التي تظهر تكون من ساحات حوار، أو مداخلات على مواقع التواصل الاجتماعي. تكون مطالبا وأنت تبحث أن تحدد موثوقية هذا الكلام، ومدى صحته؛ تفتح أكثر من صفحة وتقارن بين محتوياتها؛ لأن من يقولون هذا الكلام مجهولون لك في الغالب، حتى لو كان أحدهم عالما في موضوعه، والموقع الذي يضم هذا الكلام غير متخصص، والكلام الذي تقرؤه لم يراجعه أحد، أو لا تعلم إن كان قد راجعه أحد؛ لأنك لا تستطيع أن تتعرف على المسئولين عن الموقع، وسياستهم.
3
لو تحدثنا عن المواقع كأفراد حقيقيين، ربما سنكون أيضا في حاجة إلى صفحات نعي، مواقع كانت موجودة ومهمة لكنها اختفت دون أثر، ودون أن يظهر بديل: «انتقل إلى رحمة الله تعالى موقع كذا، وندعو للإخوة متابعي الفقيد بالصبر والسلوان.» فكرة موت موقع على الإنترنت طبيعية، لكن غير الطبيعي أن يختفي موقع مهم ثم لا يظهر له بديل، فيترك مكانه فارغا. أيضا أظن أننا سنحتاج صفحة للبحث عن المفقودين (404). لي مدة مثلا لم أدخل على موقع «مجمع اللغة العربية بالقاهرة»، الموقع لم يخل من المشاكل، لكنه كان مفيدا لمن يريد الاطلاع على قرارات المجمع، أو من يريد البحث عن رأي المجمع في مسألة بعينها. أبحث عنه الآن، فيجيب الموقع:
Server not found . في هذه الحالة أنا لا أعلم هل هذا الاختفاء مؤقت، أم دائم. أظن أنه سيستمر لفترة طويلة؛ لأن مثل هذه المواقع في الغالب يتم إنشاؤها عن طريق التعاقد لمرة واحدة مع شركة أو فرد يتولى عملية تصميم الموقع وجعله متاحا، ثم يترك الموقع دون متابعة أو دعم تقني: «على من يتعرف إلى أي معلومات الاتصال برقم ...»
4
اكتب «نجيب محفوظ» في أي محرك بحث وانظر إلى النتيجة، هل هذه النتيجة طبيعية؟ من ضمن النتائج التي ستظهر سيلفت نظرك: «الموقع الرسمي للأديب العالمي نجيب محفوظ»، وهو موقع مستضاف من قبل دار نشر الشروق، التي اشترت حقوق نشر كل كتب نجيب محفوظ في صفقة شهيرة، والمعلومات التي يتضمنها هي معلومات أساسية مختصرة، مقسمة على عدة وصلات، بعضها الآن لا يعمل. بعض الملفات التي تمت كتابتها على عجل في بعض الصحف الأسبوعية تتفوق في المادة على هذا «الموقع».
سؤال لأي عربي: هل هناك موقع جيد باللغة العربية يتحدث عن تاريخ بلدك؟ تاريخ المنطقة العربية؟ الفلسفة؟ جرب موضوعات مختلفة وقيم النتائج.
5
يراودني تخوف في الفترة الماضية أحس أنه لو حدث سيكون أمرا كابوسيا بالنسبة للإنترنت العربية: ماذا لو نشرت شركة مثل «جوجل» رسالة إلى مستخدميها مضمونها أنها لن تدعم خدمة المدونات
Blogger
بعد الآن، وأنها في تاريخ كذا ستقوم بإغلاق هذه الخدمة نهائيا. السيناريو وارد؛ لأن جوجل قامت بإغلاق خدمات كانت مهمة للبعض من قبل. تخيل شكل الإنترنت العربية لو لم تعد هناك
blogspot . تذكر هنا كل المرات التي بحثت فيها عن موضوع ولم تجد نتائج مهمة إلا في بعض المدونات. لاحظ وأنت تتخيل هذا السيناريو أن هناك مجموعات من المواقع الصغيرة التي لا تحتوي على
blogspot
كجزء من عنوانها، هي أيضا معتمدة على نفس هذه المنصة، لكنها اشترت لنفسها عنوانا
URL
خاصا بها. تخيل لو تم غلق موقع «ويكيبيديا» لأي سبب؛ هل ستقوم أي مؤسسة عربية بمحاولة إنتاج موقع مثيل؟
عن المدونات
هل تعلمون ما العظيم في أمر الإنترنت؟ أنها تستطيع لدرجة ما أن تتعالى على بنى العالم الواقعي الصلبة. مثلا، في العالم الواقعي؛ في عالم الأدب، هناك علاقات، ومؤسسات، ومنتفعون، وأصدقاء، وشلل، هناك قوى تعطي أحيانا أفضليات غير مستحقة، أو تسبب ظلما غير مستحق. الإنترنت ليست منعزلة، الإنترنت متصلة بكل هذا ومتأثرة به أيضا، لكنها أيضا تحتوي على آليات تجاوزه والاستدارة حوله.
هل تريد كأديب أن تلتزم بقواعد لا تعلمها، وأن تستمر في التشارك في طقوس خفية لمجتمع ما كي يتم قبولك فردا معتبرا فيه، بحيث تستفيد من شبكة التغطية الخاصة بهذا المجتمع؟ المجاملات، والمجاملات المضادة، الكلام المنمق، الصداقات المصطنعة. ليس الأمر دائما على هذه الحالة، هناك استثناءات، لكن قد أكون محقا إن قلت إن الوضع الغالب - في العالم الواقعي - يشير إلى مناخ سيئ.
فكرة المدونة هي أنها باختصار موقع شخصي، موقع يسهل أن تقيمه دون خبره تقنية كبيرة، ستكون فور إنشائها قد أنشأت وسيلة نشرك الخاصة، مع مساعدة من محركات البحث، وبيئة الإنترنت الواعدة، كل ما يتبقى عليك أن يكون لديك فعلا ما تريد أن تقوله، وأن تتحلى بالصبر. هذه الفكرة البسيطة في رأيي التي يمكننا فيها الحديث عن المدونة كوسيط جديد، لا نعرف بالضبط أثره على الكتابة حتى الآن، تم التشويش عليها بحديث فخم ومزين عن التلقائية، والفضفضة، وكتابة المذكرات.
في مرحلة ما انتشر صخب تنظيري حول المدونات، احتوى الكثير من الكلام الفارغ، الذي كان مناسبا وقتها لعمل بعض التحقيقات الصحفية، حول المدونات ، وكيف أنها قدمت نوعا جديدا من الأدب، عن الفضفضة، عن التلقائية. وهو ما لم أقتنع به أبدا. اقتنعت في المقابل أن هذا الحديث ضار للغاية؛ لأنه يركز على الظاهرة من وجهة نظر خاطئة. الفضفضة والتلقائية كانت دائما موجودة، الفكرة هي أن يكون النشر متاحا بسهولة، وأن يتم السماح لعدد كبير من الأفراد بالانغماس في عملية الكتابة. دخول هؤلاء الأفراد صحي، فكأي مهنة؛ يمكنك رسم خريطة المنتسبين للكتابة على شكل هرم له قاعدة وقمة، وهو هرم لا يمكن أن يكون قائما دون كل حجر فيه، حتى لو بدا غير مهم. الخطأ الذي قصدته، هو أن النقد والصحافة والنشر وقتها قاموا بدور سلبي، بالتركيز على جوانب تصلح لصناعة موضة ما، لخلق فقاعة تصلح للحديث عنها في الندوات. الفكرة الأهم - من وجهة نظري - هي الوسيط، وظروفه المختلفة، التي تخلق مناخا أكبر من الحرية، وصعوبة أكبر في الانتقاء، مواد الإنترنت كثيرة للغاية، هناك الآلاف من المدونات والمواقع، لكن المستفيد إن امتلك حدا أدنى من قدرات البحث فسيكون قادرا على الوصول إلى المادة التي تناسبه.
لدي انطباع أن أغلب النقاد لدينا فعليا هم أبناء الواقعي، وغرباء عن الافتراضي، حتى من ألفوا دراسات عن المسألة، أسهموا في الحديث عنها كموضة أدبية؛ تبحث «الميديا» عن عناوين ساخنة تصلح لجذب الانتباه بشكل مؤقت، قبل إحالة الظاهرة كلها للتقاعد لاحقا. كل فترة يتم الاهتمام بظاهرة ما اهتماما زائفا، (هو اهتمام زائف لأنه لا ينظر حقيقة في موضوع البحث، بل يسقط عليه انطباعات مسبقة دون دراسة حقيقية)، يساهم هذا الاهتمام في زيادة كثافة الحديث عن الموضوع، لكنه يساهم في نفس الوقت في قتله؛ لأن النقد - إن كنت محقا - يمارس في هذه الحالة عملية تشويش على الحواس، عملية تخلق حالة من عدم الرؤية، وتحجب زوايا النظر الأهم.
بعد ذلك استمعنا أو رددنا بأنفسنا فكرة انتهاء عصر التدوين بنفس الحماسة. هل انتهى عصر التدوين؟ هل انتفت الحاجة لوسيط نشر سهل وواسع الانتشار؟ أليس مغريا أن تمتلك ككاتب وسيطك الخاص للنشر، الذي ينجح في بعض الأحيان في التفوق على بعض الجرائد بكل إمكاناتها؟ هل نحن حقا في غنى عن أي مواقع باستثناء الفيس بوك وتويتر؟ فكر على الأقل أنه في حالة المدونات يمكن لشخص يبحث بالصدفة على الإنترنت أن يصل لك، ويتابعك إن أعجبته المادة التي تقدمها، دون أن يكون قد عرفك أو عرف أي شخص تعرفه.
شخصيا أتابع عددا من المدونات المستمرة، والتي تقدم مواد غاية في الأهمية، أضعها في العمود الأيمن لمدونتي، بحيث يظهر الجديد في الأعلى. مدونات عن السينما، عن السياسة، أدبية، ترجمات ... حتى إنني أتابع بعض المدونات في موضوعات غريبة، لكنها مسلية. الشاهد أني قادر كقارئ على تجميع جريدتي/مجلتي الخاصة من مجموعة المدونات التي أختارها دون التقيد بلغة أو مكان.
واقع الإنترنت في العالم العربي بشكل عام، وبالتبعية واقع المدونات ما زال يفتقر إلى العديد من المواد في موضوعات مهمة. في الحقيقة أغلب الموضوعات المهمة ما زالت تفتقر إلى مراكز ثقل حقيقية. إن كنت تشك في هذا فأخبرني عن أهم المواقع التاريخية، أو الاقتصادية، أو الفلسفية أو حتى الأدبية على الإنترنت العربية. هذا الفقر نفسه يخلق فرصا كبيرة غير مستغلة، ومساحة خصبة يمكن العمل فيها.
عروض الكتب بين المدونين والنقاد
قرأنا عن فضيحة تفجرت في سوق النشر بإنجلترا بطلها أحد الكتاب الأكثر مبيعا وهو ر. ج. إلوري
R. J. Ellory ، وهو الفائز بعدة جوائز منها جائزة باري
Barry Award
لأفضل عمل أدبي بريطاني في مجال الجريمة سنة 2009، عن رواية «فعل عنف بسيط»
A Simple Act of Violence ، كما فازت نفس الرواية في العام التالي بجائزة أفضل رواية جريمة، والتي تقدمها
Theakston’s Old Peculier ؛ تفجرت الفضيحة نتيجة اكتشاف قيامه بعمل عروض بأسماء مزيفة على موقع الأمازون، العروض تمتدح أعماله وتذم أعمال أدباء آخرين منافسين. بطبيعة الحال أثار اكتشاف هذا الفعل غضب عدد من الكتاب المتضررين، واقترحوا ودعوا إلى تأكيد مصداقية العروض على موقع أمازون من خلال التأكد من هوية من يكتب العرض.
وبطبيعة الحال لم يلق هذا الاقتراح قبول الجميع؛ فعلى عكس الآراء التي أشارت إلى ضرورة ذلك ظهرت أصوات ترفض أن يتم إلغاء خاصية عمل عروض مجهلة من الاسم في موقع الأمازون، يدافع
Joe Konrath
عن ذلك قائلا إن كون العرض زائفا لا يعني بالضرورة أنه خال من القيمة، ونحن إن منعنا ذلك نمنع حقا أصيلا للعارض بأن يبقى مجهولا، كما أننا لا يجب أن نفترض أن القراء سلبيون ويقبلون كل ما يقرءون عن الكتب. يقول: «ليس البشر بقدر الغباء الذي يريدنا صائدو الساحرات أن نعتقده. نحن لا نصدق بشكل آلي كل ما نقرؤه على الإنترنت. نستطيع أن نقرر بأنفسنا ما الذي يستحق.» وكرد فعل على هذه الدعوة قام بنفسه بعمل مجموعة من العروض المزيفة بأسلوب يميل للفكاهة.
بطبيعة الحال هذه الحادثة ليست مهمة في ذاتها، لكنها تعكس بالتأكيد الاهتمام المتزايد الذي صار الأدباء يولونه تجاه العروض المكتوبة على الإنترنت سواء في مواقع بيع الكتب، أو مواقع العروض، أو في المدونات. تزايدت أهميتها في الواقع مع الوقت إلى الدرجة التي جعلت بيتر ستوزارد
رئيس لجنة تحكيم جائزة بوكر مان لهذا العام (2012)، يحذر من أن التدوين أصبح يغرق النقد الجاد للكتب، وهو أمر يراه في غير صالح الأدب.
ورغم أن بيتر ستوزارد (محرر الملحق الأدبي لجريدة التايمز) هو نفسه مدون، وسبق أن مدح مواقع متخصصة في عروض الكتب مثل
The Complete Review ، لكنه لا يخفي قلقه من أن العروض المكتوبة في فضاء الإنترنت قد يكون لها أثرها المضر على مستقبل الكتابة. ورغم أنه لا ينكر وجود بعض الآراء عالية القيمة في بعض المدونات، لكنه يرى في نفس الوقت أن هناك أيضا عددا أكبر من الآراء الأقل في القيمة؛ فأغلب هذه العروض في رأيه هي عروض متطايرة سريعة الزوال. ينبه ستوزارد: لو أننا أعلينا الآراء غير المبررة فوق النقد فسوف يتضرر الأدب. يقول: «لا بد أن يقف أحدهم مدافعا عن دور النقد الأدبي وإلا فسيغرق، وسيؤدي إلى اضمحلال مستوى الأدب.» «فالنقد الأدبي ينبه إلى الجديد، إلى الكتابات التي لا تشبه ما سبقها.» وهو ينتقد محرري الصحف لاقتطاع صفحات الكتب، ولزيادة نشر العروض من هذا النوع المتطاير.
وعبر بيتر ستوزارد بوضوح عن كون انتشار مثل هذه الآراء التي تغيب المعايير النقدية عنها يمثل خطرا حقيقيا على العروض الاحترافية؛ مشيرا إلى انتشار اعتقاد عام في بريطانيا وأمريكا أن النقد التقليدي الواثق الذي يرتكز على الحجة ليخبر الناس إن كان الكتاب جيدا أم لا؛ هو في مرحلة انحدار. وقال إنه من الجيد وجود هذا العدد من المدونات والمواقع المخصصة للكتب، لكن أن تكون ناقدا يعني أنه من الضروري لك أن تختلف عن هؤلاء الذين ينشرون ذوقهم الشخصي؛ فليست كل الآراء متساوية في القيمة.
وبينما يتفق سام جورديسون
Sam Jordison (مدون وكاتب في جريدة الجارديان) مع ستوزارد بخصوص الحاجة لنقد مبرر وواف، إلا أنه يعتقد أن ذلك متوافر فعلا في مدونات، فهناك عدد من المدونين الذين يقدمون عروضا مميزة، وهو يشير في هذا السياق إلى عدد من المدونين الذين يرى أن مدوناتهم هي من أفضل الأماكن التي قد تتعرف فيها على الجديد في عالم الكتب، ويبين أن ترشيحات القراء قد تصنع فارقا ضخما، حتى لو لم تضم إلا تعليقات لأناس يقولون فقط: «أعجبني هذا» فقد ينشأ نتيجة لمثل هذه الآراء تراكم مفيد. كما أن الكتب كثيرة للغاية ومن المهم أن تكون هناك بدائل تعفيك من اقتناء الكتاب لمعرفة مستواه.
ويقول سايمون سافيدج
Simon Savidge (صاحب مدونة:
Savidge Reads ) سيكون هناك دائما تكبر ما حيال المدونين، كل المدونات التي أتابعها تكتب دون مقابل من قبل أناس شغوفين بالكتب، عدد منهم يقرأ بالفعل بعض كتب اللائحة القصيرة لجائزة مان بوكر ويزكون الكتب التي تثير اهتمامهم للقراء. أعتقد أن أي شخص يقرأ بكثافة يستطيع - فقط من خلال القراءة - نقد أي شيء يقرؤه؛ فالقراءة، ورد الفعل حيالها، هي خبرة شخصية معتمدة على خبرة حياتية. المثير للاهتمام أنك لن تجد المدونين يهجون صفحات العروض المطبوعة (بشكل مماثل لنقد بيتر ستوزارد لعروض المدونات والمواقع الإلكترونية)، ستجدهم - على العكس - يقرءونها بين الكتاب والكتاب، جنبا إلى جنب مع قراءة المدونات الأخرى؛ (وذلك) لأننا جميعا متحدون في حب الأدب بكافة أشكاله وأجناسه.
بطبيعة الحال كان النقاش محفزا لآخرين للمشاركة فيه، فكتب روبرت ماكروم
Robert McCrum
يوم 1 أكتوبر 2012 مقالا أثنى في بدايته على إدارة بيتر ستوزارد للجنة التحكيم بمان بوكر، مشيرا إلى أن القائمة القصيرة هذا العام من أفضل القوائم القصيرة مقارنة بالأعوام السابقة، كما أن الانضباط هذا العام في جوانب أخرى واضح. لكنه يختلف أيضا مع بعض ما طرحه بخصوص العروض.
يقول ماكروم:
بدلا من أن أشجب هذا الطرح ببساطة، أرى أنه من الواجب أن نأخذه بجدية. أشار ستوزارد إلى أن عرض المواطن الصحفي
citizen journalist
لا يرقى إلى مستوى النقد الاحترافي. لنتأمل عرضا مثاليا مطبوعا في أي من الصحف المعروفة: الأوبزرفر، التايمز، الملحق الأدبي للتايمز، أو في نيويورك رفيو أوف بوكس
the Observer, the Times, the TLS or the New York Review of Books ، مثل هذا العرض سيتراوح في العادة بين 500 إلى 1500 كلمة، وسيمر قبل النشر بعمليات تحرير مطولة ومجهدة، وبشكل أكيد ستكون مذيلة بتوقيع، وفي العادة تكون مدفوعة الأجر. وبالمقارنة بالمادة الخام المنشورة في أي مدونة معتادة فقد تمت مراجعة و«تقطير» هذه العروض بشكل مفرط.
ويضيف:
ولا يضمن كل هذا أن العرض لن يكون بدائيا، أو هداما، أو هجوميا، أو مجاملا، لكنها ستكون محل احترام، وستبرز بشكل مفرط اللغة المتخصصة للنقد الأدبي.
ثم يوضح أن أي عارض جيد ينشر في المطبوعات المتعارف عليها يقف على أكتاف عظماء النقد السابقين له، وهذا النقد سيكون أولا احترافيا، ثانيا: لن ينشر دون توقيع، ثالثا: سيوضع في سياق النقد الأدبي. و«لا شك أن تركز مثل هذه السلطة في يد قلة (من النقاد) في الماضي كان له أثره السيئ على بيئة النشر.»
وهو يؤكد في النهاية إلى أنه رغم اتفاقه على وجود بعض وجهات النظر المهملة في فضاء التدوين، إلا أنه يوجد بالمقابل (في حالات أخرى) مكان للانضباط الذاتي، والمعايير الراقية الموضوعة بوعي.
كتب قديمة للبيع
1
تراها لدى بائع يفترش أحد الأرصفة، أو في أحد المحلات الصغيرة أو الكبيرة؛ فتتوقف، تقلب في عناوينها، باهتمام أو بلامبالاة فضولية. يلفت أحدها انتباهك فتسحبه وتبدأ في تصفح محتوياته. قد يكون قد نشر منذ سنوات أو عقود. تقرر في النهاية شراءه فتتوجه للبائع لتسأل عن ثمنه. قد تساومه في السعر الذي يطرحه عليك أو لا. تأخذ الكتاب ثم ترحل.
في منزلك قد تجد وأنت تقلب صفحات الكتاب: خطوطا أو علامات أو تعليقات تحت كلمات بعينها، قد تلمح توقيع المالك الأصلي في أول صفحاته، قد تجد صفحات مثنية إهمالا أو قصدا، أو تكتشف أوراقا، أو وردة مجففة بين صفحاته.
2
تنحاز الصفحات الثقافية، والدوريات التي تتابع الكتب، للكتب المنشورة حديثا. وهو منطقي باعتبار أهمية متابعة جديد الناشرين، لكن في المقابل فإن الكتب الأحدث في الصدور ليست بالضرورة هي الكتب الأحدث أو الأفضل في المحتوى. وفي عالمنا العربي خصوصا، قد تكون هناك كتب كثيرة قديمة تحتاج إلى من ينفض عنها التراب، ويعيد تقديمها للقراء، سواء بالكتابة عنها أم بإعادة نشرها.
في عام 1920، صدر كتاب لرايموند ويفر
Raymond Weaver
يتناول حياة وأعمال هرمان ميلفل. يقال إن هذا الكتاب كان السبب في إحياء الاهتمام بالكاتب الذي لم ينل في حياته الاهتمام الكافي الذي يستحقه. في بداية حياته لاقى هرمان ميلفل بعض النجاح، إلا أن هذا النجاح لم يستمر كثيرا، حتى إن رائعته موبي ديك
Moby-Dick ، التي توقع كاتبها حين نشرها لأول مرة عام 1851 أن تكون تتويجا للنجاحات النسبية التي لاقتها أعماله السابقة، لم تنل نجاحا يذكر أثناء حياته. لم تحقق الرواية نجاحا كبيرا على مستوى المبيعات، ولم يستقبلها أغلب النقاد وقتها استقبالا حسنا. بعد كتاب رايموند ويفر ظهرت مجموعة من الدراسات الأخرى، عن الكاتب وعن رواياته، لفتت له الأنظار من جديد.
بعض الكتب التي تنجح في الحصول عليها من باعة الكتب القديمة لا توجد منها طبعات حديثة، نفدت ولم يهتم أحد بإعادة طبعها، دون أن يعني ذلك أنها غير مهمة أو غير قيمة؛ لكن هذا هو حال الأشياء، كما يحدث مع البشر. قد تحيرك الطريقة التي توزعت بها حظوظ الكتب المختلفة من الاهتمام. قد يكون الكتاب القديم الذي تلتقطه بالصدفة دون سابق معرفه به أو بكاتبه إحدى الصدف السعيدة للغاية، التي تعرفك بكاتب مبهر، أو بكتاب سيصير عزيزا على قلبك.
3
تكتشف أن بعض الكتب التي ترجع إلى عقدين أو أكثر لم يقرأها أحد، ارتحلت عن مالكها إلى مكتبتك، أو ربما تنقلت بين أكثر من مالك قبل أن تصل إليك، لكن صفحاتها التي ما زال بعضها ملتصقا ببعض منذ لحظة طباعتها تكشف أنها لا تزال بكرا. تفكر: كم من كتاب تملكه أنت، سترحل عن الدنيا قبل أن تتمكن من قراءته؟ تفكر أيضا: إن البعض يخلص لاقتناء الكتب أكثر من إخلاصه لقراءتها.
4
في السنوات الأخيرة ظهرت إلى الوجود أشكال جديدة من الكتب، وهي الكتب الإلكترونية، ومعها ظهرت إشكالية جديدة تتصل بالكتب المستعملة الإلكترونية ومفهومها وكيفية التعامل معها. من الواضح أنه في حالة الكتاب المستعمل الورقي، هناك فارق متوقع بين النسخة التي تشتريها من الناشر مباشرة، والنسخة المشتراة من باعة الكتب المستعملة. يتمثل الفارق في أن عامل الزمن يؤثر على الكتب وتماسكها؛ وبالتالي يمكن القول إن سوق الكتب المستعملة في حالة الكتب الورقية هذه لا تشكل نفس الخطر الذي تمثله الكتب المستعملة الإلكترونية التي لا تختلف عن النسخة الأصلية التي يبيعها الناشر مباشرة. أيضا الطبيعة المادية للكتاب الورقي تجعل فكرة ملكية من يشتريه أكثر وضوحا من حالة الكتاب الإلكتروني، الذي صار الناشرون الآن يؤكدون على أن ما يحدث هو حق استخدام، لا شراء بالمعنى التقليدي، بمعنى أنك تستطيع اقتناءه وقراءته، لكنك لا تستطيع إعارته، أو بيعه، أو التبرع به.
عند مناقشة قضية إعادة بيع المواد الإلكترونية يتم الإشارة عادة إلى تجربة موقع
ReDigi ؛ الموقع الذي قامت فكرته على بيع الأغاني المستعملة بعد الاستماع إليها. القضية وصلت إلى ساحات المحاكم بعد شكوى شركة
Capitol Records ، التي حكم فيها القاضي في إحدى المحاكم الأمريكية بأن الأمر في هذه الحالة يخرق حقوق الملكية؛ لأنه حتى في حالة مسح الكتاب من الحاسب الأصلي فور بيعه، فإن ما يتم هنا هو عملية نسخ للكتاب. ورغم ذلك فالفكرة لا تزال مثيرة للجدل؛ نظرا لطبيعتها الخاصة، ولذلك فهناك محاكم أوروبية كانت لها أحكام مختلفة بعض الشيء في قضايا مشابهة؛ منها حكم محكمة في أمستردام برفض شكوى أحد الناشرين ضد موقع لبيع الكتب المستعملة 2014 مملوك لتوم كابينت
Tom Kabinet . واعتبرت المحكمة أن بيع الكتب المستعملة أمر مسموح به. لكن نفس الموقع تم إغلاقه في بداية هذا العام لحين التأكد من أن الكتب الموجودة عليه تم الحصول عليها بشكل قانوني، خصوصا بعد أن تم التأكد من أن بعض المواد الموجودة عليه غير قانونية، وبعضها ليس متاحا للبيع بشكل إلكتروني من الأساس. لكن هل عملية التأكد من قانونية كل الكتب الموجودة على موقع يعتمد على الكتب التي يقوم مستخدمون من كافة الأرجاء برفعها للموقع ممكنة أصلا؟
وصف الغيوم
الكتابة: موهبة الاحتيال على الصمت
1
أعرف أصدقاء لا أشك في امتلاكهم موهبة الكتابة والقدرة على الإبداع فيها، لكنهم لا يكتبون ولا يعدون أنفسهم كتابا. وأعرف من بدأ خطوات قليلة في رحلة الكتابة، ثم توقف بعدها دون أسباب واضحة. وأعرف من تقل حماسته للبدء مع مرور الوقت؛ لأنه يرى أنه تأخر. ولأني أعرفهم، أفكر أن أسباب عدم إنجازهم في هذا المجال لا تتعلق بنقص في الموهبة على الإطلاق، لكن الأسباب تكمن في مناطق أخرى؛ ربما تتعلق بعادات الكتابة لديهم، أو أفكارهم عنها. وحين أفكر فيهم أتأكد أن الموهبة أو القدرة على الكتابة وحدها ليست كافية للإنجاز فيها؛ الأمر يتطلب أيضا طريقة تفكير خاصة، وعادات عملية تسهل الإنجاز، وتحمس الكاتب.
2
في بداية الكتابة نستكشف ذواتنا، نحاول تطوير بضعة سطور إلى نص (قصة، قصيدة ...) فتواجهنا عقبات ما: البحث عن كلمة مناسبة دون جدوى، عدم الرضا، عدم القدرة على بلورة أفكارنا ... إلخ. لكن من لا تواجهه عقبات في الكتابة - خصوصا في بدايات الكتابة - غالبا ما يكتب بعد ذلك كتابة رديئة. هذه العقبات قد تصيب البعض باليأس أو عدم الرغبة في المواصلة، لكن هذه العقبات تحديدا هي التي تصقل موهبتنا، وتصنع أسلوبنا. حين نحاول نقل أفكارنا إلى قصص نفكر: كيف نحولها إلى نص؟ كيف نخلق إيقاعا قصصيا في هذه الحدوتة الأولية؟ ما الذي ستقوله وما الذي ستغفله؟ وما الذي ستلمح إليه من بعيد، وما الذي ستذكره صراحة؟ ما هي زوايا النظر التي ستستخدمها في رسم نصك؟ وبالمثل في النصوص الشعرية، نختار الشكل الأنسب، ونعدل في الجمل والكلمات والفقرات عدة مرات إلى أن نصل إلى شكل ما يرضينا.
بداية طريق الكتابة الاحترافية يبدأ غالبا من الوعي بالتقنية، والتركيز عليها، ومحاولة امتلاكها والتجريب فيها. لا يعد هذا انحيازا إلى الشكل بقدر ما يكون بمنزلة قوة معادلة تدفعك ككاتب في الاتجاه المضاد لما اعتدته من الانحياز الساحق للمضمون على حساب الشكل. أساسا، التفريق بين الشكل والمضمون كقسمين يمكن دائما التفريق بينهما، غير دقيق، لكنه يظل أحيانا مفيدا للتوضيح.
3
أحيانا يكون العائق الأكبر أمام استمرار الكتابة هو الرضا السريع؛ قد تكون قادرا على الاستمرار في كتابة صفحات عديدة لكنك ترضى بما أنجزته بعد صفحة أو أقل، تسرع في إنهائه كنص، وتبحث عن إعجاب الآخرين كجائزة سريعة. وهكذا لا تفقد فقط بقية ما كان يمكن أن تكتبه في هذه الليلة، بل تفقد كذلك - في الغالب - الأيام التالية التي تظل فيها راضيا عما كتبت في انتظار ردود أفعال الآخرين.
4
الاستمرار في الكتابة يحتاج لتجديد طريقتك في التعامل معها، يحتاج لألعاب جديدة؛ لتحديث مفهومك للكتابة، لإيجاد دافع ما للاستمرار. أتحدث هنا ببساطة عن جعل الكتابة ممتعة لك؛ كي لا تتحول إلى مجرد واجب ثقيل، أو لمحة إلهام طارئة تزورك من فترة لأخرى. منذ فترة مثلا كنت أحمل بعض الخطوط من الإنترنت، وهنا خطرت لي فكرة: لن أجرب هذه الخطوط بكلام بلا معنى، بدأت أحملها خطا خطا، وبعد تركيب كل خط أجربه بكتابة فقرة دون تفكير مسبق، فقرة بسيطة دون تكلف، وكانت النتيجة ثرية للغاية، ونتج عنها عدد من النصوص الجيدة. في أوقات سابقة كتبت من وحي: لوحات، صور فوتوغرافية، أفلام. أستفيد أيضا من الأحلام كمواد خام تحمل داخلها طاقة وجنونا قد لا تدركه ذواتنا الواعية في أوقات كثيرة.
اكتب، المهم ليس المنتج النهائي، المهم هو أن تكتب أفكارك أولا بأول، وأن تتعود على هذا. كثيرا ما مرت بداخلي أفكار ما، رأيتها مهمة ولم أسجلها، ثم لم أتمكن من ذلك بعدها. أحيانا تكون الأفكار والجمل سريعة التطاير؛ لهذا انتبه، فالأفكار السريعة التي تقابلها حين تقرأ كتابا، أو تفاجئك دون سبب وأنت تمشي، هي أفكار تعبر عنك، أفكار تغيرك، قد تكون سببا في تغيير طريقتك في التعامل مع أمور وأشياء بسيطة، وقد يؤدي هذا إلى سلسلة من التفاعلات الجيدة والمشوقة؛ لهذا هي مهمة، لأنها جزء من نموك كإنسان وككاتب، ولأنك قد لا تمر بنفس الحالة أو الفكرة مرة أخرى بنفس الشكل، سجلها.
5
في أي عمر تزدهر الموهبة؟ الإجابة ليست موحدة على هذا السؤال. «بيتهوفن» مثلا ظهرت بواكير موهبته قبل أن يكمل سنواته العشر. «رامبو» الشاعر الكبير الذي أثر في الشعر من بعده بشكل مدهش، بدأ رحلته في الكتابة وأنهاها قبل أن يكمل العشرين. «الماركيز دو ساد» في المقابل كتب روايته الأولى حين كان في عامه الحادي والخمسين. «ساراماجو» كتب رواية وحيدة في مقتبل حياته، ثم توقف قرابة العشرين عاما ليعود بعدها بديوان شعري، لكن روائع رواياته التي كانت سببا في حصوله على جائزة نوبل للأدب كتبت بعد الخمسين.
باختصار: كما توجد أمثلة معروفة لمواهب تزدهر بشكل مبكر بدرجة قد تصيبنا بالإحباط أحيانا، هناك نماذج أخرى في الفن، والأدب، والمجالات الإبداعية المختلفة تنضج وتتفتح متأخرا لتقدم أفضل إنتاجها في منتصف العمر، أو حتى في خريفه.
وصف الغيوم: العالم كمرآة - الذات كعالم
1
يقدم «دافنشي» في كتابه «نظرية التصوير» نصائح مهمة وثاقبة للفنانين، يستلهمها من خبرته العملية الطويلة، ومن موهبته الكبيرة. استوقفتني منها نصيحة وصفها بأنها «نصيحة ذات نفع كبير للفنان؛ إذ تساعد على تفتيح ملكاته، وإطلاعه على عديد من الابتكارات، رغم أنها تبدو قليلة القيمة، بل ومثيرة للسخرية.» ونصيحته كما ترجمها «عادل السيوي» ضمن كتاب دافنشي المسمى ب «نظرية التصوير» هي أن «تتأمل - أيها المصور - الجدران الملطخة، والأحجار المختلطة، فإذا كنت تبحث عن تصور لموقع ما، يمكنك أن ترى فيها صورا وأشكالا لبلدان متنوعة، تزينها الجبال، وتجري فيها الأنهار، وسترى الأحجار، والأشجار، والسهول الواسعة، والتلال على اختلاف أشكالها، كما يمكنك أيضا أن ترى معارك مختلفة، وأفعالا سريعة تقوم بها مخلوقات غريبة الأشكال، وستشاهد العديد من الوجوه والملابس وأشياء أخرى كثيرة لا يمكن حصرها هنا. ويمكنك أن تختصر هذه الأشكال في بناء متكامل، وأشكال قيمة. ومن يتعامل مع تلك الجدران والأحجار، يشبه من ينصت إلى أصوات الأجراس، فيسمع في دقاتها كل اسم أو حرف أو كلمة يمكن أن يتخيلها.»
والنصيحة تشبه نصائح مماثلة قدمها السرياليون الذين أتوا بعد دافنشي بسنوات طويلة للفنانين والشعراء. حاول السرياليون - مستفيدين من «فرويد» ومتأثرين بمنهجيته - أن يعيدوا الاعتبار للاوعي الإنسان، الذي تم إقصاؤه من وجهة نظرهم لصالح الوعي. وكان هدفهم الذي أعلنوه هو محاولة تجاوز التناقضات بين الوعي واللاوعي، وبين الذات والعالم، ومن خلال هذا التجاوز كانوا يطمحون إلى الوصول إلى طريقة مختلفة وأكثر عمقا للنظر إلى الذات وإلى العالم. وقبل السرياليين بقرون أدرك «ليوناردو»، الذي كان كثير من نصائحه يؤكد على الجهد والعمل والنظر والتفكير، أهمية استعمال جوانب متنوعة من الذات في سبيل تطوير الفنان لنفسه، فجاءت هذه النصيحة في المقابل لتؤكد على العفوية، على النظر الهادئ إلى جدار ملطخ، وانتظار الأشكال حتى تظهر إلى الوجود.
2
مجموعة من الأرقام المرتبة أمامك بعدها مساحة فارغة، تنظر إلى الأرقام لفترة ثم تكون في أوقات كثيرة قادرا على معرفة الرقم الذي تحتاج لوضعه في المساحة الخالية. قابلتنا مثل هذه الألغاز كثيرا؛ صغارا وكبارا. أحيانا تكون هناك أشكال، أو حروف، أو كلمات، بدلا من الأرقام، لكن الفكرة واحدة. أنت قادر على التعرف على الأنماط الكامنة في العالم من حولك.
حين تتعرف على العلاقات التي تربط مجموعة من الأحداث، أو الأصوات، أو الأشكال، أو الحركات، وحين تتعرف على انتظام ما كامن فيما قد يظهر في البداية عشوائيا، تفعل ذلك من خلال التعرف على الأنماط
. النمط يتعرف على الانتظام في العالم، يتعرف على العلاقات بين الأشياء. في اللحظة التي تتعرف فيها على نمط ما، تتحول مجموعات من النقاط المتباعدة، أو الأحداث المتفرقة لتكون أمرا أكبر.
عقولنا مدربة للتعرف على الأنماط في العالم، لدرجة أنها تراها أحيانا حين لا تكون موجودة، بالضبط كما قال «ليوناردو دافنشي»: انظر إلى حائط ملطخ لفترة كافية وسترى فيه عالما، ومخلوقات، وأشياء، وحركات. بينما أنت جالس أمام هذا الحائط المتسخ، أو بينما تنظر إلى النجوم، أو وأنت تشاهد لهب شمعة يتراقص أمامك في الظلام، تتراءى لك رؤى ومشاهد، تعبر عما في داخلك أكثر مما تعبر عما تشاهده.
3
البشر كائنات ذكية، نهمة للمعرفة؛ ولذلك يعد التعرف على الأنماط أمرا شديد الأهمية في تعاملنا مع العالم. وكلما كنا أقدر على التعرف على الأنماط في أشكال ومستويات مختلفة، كنا أقدر على التنبؤ والتحكم. وفي مقال رائع عنوانه «فن الأدب وعلم الأدب» نشر في مارس 2008 في مجلة
The American Scholar ، يجادل «براين بويد
Brian Boyd » أن الفن والأدب أشكال من اللعب المعرفي مع النمط. وهذا اللعب - ككل أشكال اللعب الأخرى - له وظيفة مهمة؛ فاللعب بشكل عام يساعد على تطوير المهارة وصقلها.
وكأن المقال يقول إن الفنون والآداب - من خلال هذ اللعب المنظم مع العالم - تساعدنا على التعرف على العالم بشكل متجدد، وعلى فهمه بشكل أفضل، وعلى توسيع مداركنا، وتساعدنا على التعرف على أنماط جديدة من المعرفة، وتقبلها. وهو يعتبر هذا تفسيرا لانتشار الفنون والآداب في الجنس البشري بالكامل، مهما اختلف المكان، والزمان، والثقافة، والعرق.
4
يقول «محمود درويش» في قصيدته «وصف الغيوم»:
أمشي على جبل وأنظر من عل
نحو الغيوم، وقد تدلت من مدار اللازورد
خفيفة وشفيفة
كالقطن تحلجه الرياح
كفكرة بيضاء عن معنى الوجود
لعل آلهة تنقح قصة التكوين «لا شكل نهائي لهذا الكون ...
لا تاريخ للأشكال ...»
أنظر من عل، وأرى انبثاق الشكل
من عبثية اللاشكل
ريش الطير ينبت في قرون الأيل البيضاء
وجه الكائن البشري يطلع من
جناح الطائر المائي ...
ترسمنا الغيوم على وتيرتها
وتختلط الوجوه مع الرؤى
لم يكتمل شيء ولا أحد، فبعد هنيهة
ستصير صورتك الجديدة صورة النمر
الجريح بصولجان الريح ...
ما الذي يقوله درويش في هذه القصيدة؟ هل هي مجرد لعب مع الصور البصرية للغيوم ؟ أو لعل صور القصيدة هي مجرد معادلات موضوعية لمشاعر ما لم يفصح عنها بشكل مباشر. أو لعله يشير إلى بعض تأملاته عن العالم - باعتباره متغيرا ومتقلبا على الدوام - من خلال ما يبدو كوصف بسيط للغيوم. هل يتحدث درويش هنا عن السحب؟ أم عن العالم؟ أم عن ذاته؟ أم عن كل هذه الأشياء؟ ربما يكون الحديث عن أمر مختلف تماما. القصيدة هنا تحتمل التأويلات، وكما قد يشاهد الشاعر العالم فيرى ذاته، قد يطالع القارئ القصيدة فيرى نفسه، فيختار التأويل أو التأويلات التي تتواصل معه بشكل أكبر.
إنها قصيدة تحمل حس اللعب الذي تحدثنا عنه، قصيدة لا تقول خطبا، ولا تلخص مقالا، لكنها تحمل فكرة. لا تصرخ لكنها تعبر عن مشاعر، والأهم أنها تحمل حس اللعب، تحمل الدهشة والجدة، كحال القصائد الجيدة دائما. القصيدة أيضا تعبر عن الحالة التي وصفها دافنشي؛ النظر إلى غيوم درويش هنا يشبه النظر إلى حائط دافنشي، نشاهد في الحالتين «انبثاق الشكل ... من عبثية اللاشكل»:
رسامون مجهولون ما زالوا أمامك
يلعبون، ويرسمون المطلق الأبدي
أبيض، كالغيوم على جدار الكون ...
والشعراء يبنون المنازل بالغيوم
ويذهبون ...
زجاج نصف معتم
1
تتحدث مع صديق لك، فتحس أن ما تريد قوله يقف تقريبا في متناول أصابعك، تكاد أن تمسه، لكنك لا تستطيع، تتلجلج لوهلة، كأن الكلمات تقف على طرف لسانك، لكنها لا تريد أن تخرج، فتبدأ من جديد: «كأن ...»
كأعمى يحاول أن يعرف العين، أو المرآة، أو المصباح، ستحاول أن تتحدث عن هذا الذي لا تستطيع الإمساك به بشكل كامل، من خلال استخدام مفردات وصور لأشياء تعرفها، وتألفها. سيغدو المعنى أحيانا عصفورا عنيدا، يهرب منك كلما حاولت إمساكه، قد تراه بشكل غائم، وقد لا تراه على الإطلاق. تتحول إلى صياد من نوع خاص، يحاول أن يمسك العصفور، فإن لم يستطع فسيحاول أن يتمثل صورته، فإن لم يستطع فقد يرضى حتى بالإمساك بظله ولو لوهلة. ستغدو كمن ينظر إلى العالم من وراء زجاج معتم، أو نصف معتم، ويجتهد مع ذلك في محاولة معرفة ووصف ما يراه . ستغدو كمن ينظر إلى ذاته في مرآة متسخة، حتى تتعب عيناه.
الشعر أحيانا كالحلم؛ مليء بالسحر، لكنه لا يخلو من الغموض، وكالحلم الذي تعلمنا ألا نشيح بأنظارنا عنه حين لا نفهمه بالكامل، سنعيد قراءة القصيدة مرة ومرة، حتى نتواصل معها، دون أن نتأكد من معناها بالكامل أحيانا. ينظر أحدهم إلى النص، فيصرف نظره عنه سريعا؛ قد يقول البعض كما قيل لأبي تمام: «لم لا تقول ما يفهم؟!» سيراهن آخر على أن الشاعر نفسه لا يعرف معنى ما كتبه؛ يتحيز هنا للسهل، والواضح، والبسيط، مع أن الحياة ليست واضحة دائما، وأحيانا أنت لا تفهم ما في داخلك بشكل كامل.
2
ستتجلى القصيدة في أوقات أخرى، كضوء هادئ، مريح للعين، ترى بفضله مشهدا بسيطا وقد تفتح أمامك. قد يصف الشاعر مشهدا عاديا - أو بدا عاديا لعيوننا حين مرت عليه في تجوالها اليومي - ليحوله إلى لوحة فنية. لكن هذه البساطة لا تعني أيضا التخلي عن الإدهاش، والبحث عن الجديد.
السؤال هنا ليس سؤال اختيار من متعدد، لست مجبرا على الانتصار للوضوح على حساب الغموض، ولا العكس. لست مجبرا على صياغة رؤية جمالية تتحيز فيها لأحد الطرفين؛ بل تحتاج في المقابل إلى التعامل مع كل نص بجدية وصبر: إن بدا غامضا فقد تزيل إعادة القراءة غموضه، وإن بدا واضحا فقد تكشف إعادة القراءة جوانب أخرى فيه، أو أسئلة متنكرة في زي الوضوح الذي قد يكون خادعا.
3
قرأت في المقابل لمن توقع أن يأتي الوقت الذي تتمكن فيه مواقع بيع الكتب ك «أمازون» مثلا من كتابة كتب كاملة بشكل آلي، بناء على ما تجمعه من إحصاءات؛ فمن خلال موقعها، ومن خلال أجهزة «كندل» الخاصة بها، تعرف «أمازون» ما يقرؤه الناس، وتعرف أيضا المقاطع التي يظللونها أثناء القراءة، ومتى يتوقفون عن القراءة. ووفقا لهذا التخوف، قد يأتي اليوم الذي تتمكن فيه هذه الشركات من تحويل جبل البيانات الذي تملكه إلى كتب فعلية تكتب بشكل آلي للتوافق مع ما يرغب الناس في قراءته؛ كي تساعد على تنمية أرباحها . قد تبدو فكرة كتابة كتب كاملة من قبل حاسب عملاق الآن غريبة أو مستبعدة، لكن على أي حال، هناك من الكتاب من يقومون بهذه المهمة بالفعل: من يخلطون خلطات «غير سرية» لكتابة رواية، أو كتاب يضمن تحقيق مبيعات عالية.
4
هناك من يقلب القنوات، ويقرأ أعمدة الرأي، فقط ليستمع ويقرأ ما يريده من آراء. يريد أن يستمع إلى رأيه الخاص مصوغا بأشكال مختلفة؛ يبحث عما يطمئنه إلى كونه على صواب، لا ما يعرفه بالحقائق المختلفة للعالم. هناك من السياسيين والمذيعين وكتاب أعمدة الرأي، من يقولون بالضبط ما يظنون أن الناس يريدون سماعه، فقط لكي تتزايد شعبيتهم. أظن أن أمرا مماثلا يحدث في الشعر؛ البعض يكتب ما يظن أن الناس يريدون سماعه، يكتب ما يعبر عن الجموع، بدلا من جهد اللعب والتجريب؛ بحثا عما يعبر عن نظرته الفريدة باعتباره شاعرا.
5
يبدو أحيانا أننا في حاجة لإعادة التأكيد على البدهيات: نكتب الشعر لقراء الشعر. من تمر عليه شهور أو سنوات دون أن يهتم بقراءة ديوان جديد أو قديم من الشعر، فليس هو القارئ المثالي الذي يكتب له النص في العادة، وليس هو بالتالي معيار التقييم في وضوح النص أو غموضه، ولا في جودته أو عدم جودته. لا أستبعدهم بالضرورة كقراء، لكن ليس من المفيد ولا المنطقي أن نكتب أشعارنا لتناسب أناسا لا يظهرون في الأساس سوى اهتمام ضئيل بالشعر.
قراءة الشعر ترفع لياقتنا الذهنية، وتطور ذائقتنا، وتعلمنا الجديد بشكل مستمر. قراءة القصيدة - سواء بدت واضحة أو غامضة - لا يمكن أن تتم بتعجل: التعامل مع القصيدة يكون بالتوقف عند كل سطر، وإعادة القراءة عدة مرات للاستمتاع بها وتذوقها. أما أن نتناولها بتعجل كما نتناول الوجبات السريعة في الطريق، فيكون في أوقات كثيرة بلا جدوى. يقول البعض إن من القراء من يمتنع عن قراءة الشعر بسبب تعالي الشعراء على القراء، ومغالاتهم في كتابة النصوص الصعبة الملغزة، لكني أذكر دائما أن المكتبات مليئة بدرر من دواوين الشعراء القدماء والمحدثين ذوي الاتجاهات والأساليب المختلفة، وأن من يريد أن يقرأ أي لون يريده من الشعر فسيجده بسهولة، ومن لا يقرأ فهو ببساطة غير مهتم، وغير محب للشعر بما يكفي.
النوافذ
1
قد تفتح على نهر، أو صحراء، أو حديقة واسعة، أو بنايات شاهقة، أو حارة ضيقة، أو حتى على منور مختنق يدخل النور منه بالكاد. قد نطل عليها بدلا من أن نطل منها، إن كانت مزخرفة بالنقوش والرسومات كما في الأديرة أو القصور القديمة. مستطيلة، أو مربعة، أو دائرية ... ربما توجد منها أشكال لم أرها ولا أعرفها؛ لعل بعضها مثلا على شكل مثلث، أو متوازي أضلاع، أو أي أشكال أخرى غريبة. قد تغلق بمصراعين خشبيين، وقد تكون مصنوعة من الزجاج المعتم، أو الشفاف، أو الملون، قد تغطيها الستائر، أو قد تخلو من كل ذلك لتعود كأسلافها مجرد فتحة في جدار. قد نفتحها للضوء، ثم نغلقها في وجه الغبار والريح. نغلقها، نفتحها، نغلقها، نفتحها، نقفز منها لنسقط، أو لنطير إن كنا داخل قصة من القصص الخيالية، قد يتسلق إليها «روميو» في إحدى المسرحيات ليكلم حبيبته «جولييت»؛ تمهيدا لموتهما الشاعري المرتقب.
النافذة هي فرجة مفتوحة بين عالمين: الداخل، والخارج. هي في العادة وسيط للرؤية لا للتنقل، لا تصمم النافذة لنخرج من ... أو لندخل إلى ... بل لنشاهد ونتأمل. يقال: «العين نافذة الروح.» والمعنى هنا استعاري، نتخيل فيه حائطا ما يحول بيننا وبين رؤية أرواح الآخرين، وفي هذا الحائط نافذتان صغيرتان، يمكننا أحيانا أن نتلصص من خلالهما على لمحات من مخبوء الروح.
2
في إيطاليا في عصر النهضة كان هناك فنان إيطالي اسمه «ليون باتيستا ألبرتي
Leon Battista Alberti (1404-1472) ». كان ألبرتي ككثير من فناني عصر النهضة متعدد المواهب: رساما، ومعماريا، وعالم رياضيات، وشاعرا، وموسيقارا ... لكن الإسهام الذي يهمنا الآن هو تطويره لطريقة مختلفة للنظر للوحة؛ ربما كان في هذا متأثرا بخبراته كمعماري، وربما سعى لتطوير أفكار قليلين سبقوه في هذه المنطقة. لكن المهم أن ألبرتي نظر إلى اللوحة باعتبارها نافذة. والاستعارة هنا ليست مجرد زخرفة جمالية، يصوغها أحدهم فقط ليتذوقها أو ليعجب بوقعها في أذنيه ؛ الاستعارة هنا في الواقع تؤسس لرؤية مختلفة لفن الرسم ستظل مؤثرة لفترة طويلة، وستؤسس لمفهوم سيظل مهما للغاية حتى عصرنا هذا، هو مفهوم «المنظور
perspective ». النظر للوحة كنافذة يستدعي مشاهدا ومشهدا، والهدف الذي وضعه ألبرتي لنفسه هو أن يوزع عناصر اللوحة بدقة بحيث تكون قادرة على تمثيل المشهد الذي كان سيراه مشاهد يقف في نقطة ما خلف نافذة ما ليرى المنظر المرسوم؛ بمعنى أن يوزع الأجسام والأشكال على اللوحة ويغير أحجامها وألوانها لتعكس الطريقة التي كان سيراها هذا المشاهد في وقفته المفترضة خلف نافذة حقيقية، لا كما تظهر بالضرورة في الواقع؛ ومن ثم تتقارب الخطوط المتوازية مثلا كلما ابتعدت عن المشاهد حتى تتلاقى في خلفية اللوحة. كتب ألبرتي رسالة مهمة وضع فيها قواعد وأفكارا يعبر فيها عن رؤيته الخاصة بفن الرسم، قام آخرون بتطويرها فيما بعد. وحتى الآن يمكنك أن تتحدث عن نافذة ألبرتي كنقطة مهمة في تاريخ الفن.
3
في عام 1985 وقت إطلاق أول نسخة على الإطلاق من نظام التشغيل الشهير «ويندوز
Windows » (نوافذ)، لم يكن وقتها نظام تشغيل مستقلا متكاملا، ولم تكن الشركة تنوي تسميته بهذا الاسم الذي نعرفه جميعا به، بل كانت تنوي تسميته «مدير الواجهة
Interface Manager »؛ وهو اسم جاف أظن أن النظام ما كان لينجح به. مدير التسويق في الشركة وقتها - واسمه «رولاند هانسون
Rowland Hanson » - أقنع المسئولين بأن إطلاق تسمية «النوافذ» عليه ستكون أكثر قبولا من المستهلكين. أظن أن هانسون في هذه اللحظة التقط بهذه التسمية الاستعارية جزءا جوهريا من طبيعة نظام التشغيل الوليد، وربما يكون بهذه التسمية قد ساهم في تكوين الرؤية المستقبلية للنظام، على الأقل في جانب من جوانبه؛ تدخل على النظام فتجد سطح المكتب
Desktop ، وطرقا مختصرة
Shortcuts ، وأيقونات
Icons ... وكلها تسميات استعارية، لكن مع انتشار الكلمات في البيئة الجديدة، اختفت طبيعتها الاستعارية مع الوقت، فتجدنا نستخدمها الآن بشكل يومي معتاد دون أن نلتفت للجانب الاستعاري فيها.
4
هل هو مقال عن النوافذ؟ ربما في جزء منه هو كذلك. أحببت الحديث عن جوانب مختلفة لشيء واحد معتاد نراه كل يوم، انتقلت من معان حقيقية إلى معان استعارية؛ لأبين كيف كانت الاستعارات في هذا الحديث المحدود عن شيء واحد مرتبطة بالطريقة التي نفكر بها، ومؤثرة في إنتاج أفكار أو تطويرها. الاستعارة ليست مجرد زخرفة كلامية، لكنها وسيلة لفهم العالم والتعامل معه وتغييره أحيانا. الاستعارات موجودة في كل أشكال الخطاب، حتى في الخطابات التي تحاول بقدر الإمكان التزام الصياغة المحايدة الدقيقة. الاستعارة موجودة في كل اللغات، في كل الثقافات، في كل السياقات، وهي تتدرج من استعارات تقليدية معتادة لا نكاد نحس باستعاريتها ونحن ننطقها، إلى استعارات مبتكرة نحتاج للوقوف أمامها لوهلة كي نفهمها. الاستعارات تشكل وتؤثر في نظرتنا للعالم؛ وهي جزء أصيل ومهم يجب الالتفات له لفهم آلية نمو اللغة وتطورها. ما هي الاستعارة؟ الاستعارة هي ببساطة الحديث عن شيء - أو التفكير فيه - بمفردات شيء آخر.
1
فكروا في الأمر قليلا، ستجدون أننا نستطيع أن نتحدث عن الاستعارات نفسها باعتبارها نوافذ سحرية تصل بين مجالات أو مفاهيم مختلفة؛ كي يلقي أحدها الضوء على الآخر.
المفارقة
1
في إحدى قصائد الهايكو اليابانية يقول الشاعر: «كانت العصافير تطير من فزاعة إلى أخرى.» والاقتباس الوارد هنا هو القصيدة كلها لا مقطع منها؛ فقصائد الهايكو معروفة بتكثيفها الشديد. لكن القصيدة هنا رغم قصرها تحمل مفارقة تلفت الانتباه، وتدفع إلى الابتسام. ففي صورة بصرية - تبدو عادية - تم التقاطها ببراعة، يلمح الشاعر التناقض الظاهر بين دور الفزاعة المفترض، وحالها الفعلي في هذه اللحظة. وبالتقاطه للحظة في تكثيف، وشاعرية، وصياغة محكمة يبرز التناقض المحبب.
تقول قصيدة هايكو أخرى: «بائع المراوح ... يحمل حملا من الهواء ... يا للحرارة!» في هذا النص القصير للغاية أكثر من مفارقة؛ تظهر المفارقة الأولى في تعبيره «حملا من الهواء.» الهواء كما نعلم خفيف للغاية، حتى إننا نستخدم الكلمة للتعبير عن الخفة المتناهية، لكن القصيدة هنا من خلال الصياغة البارعة تجعل البائع يرزح تحت حمل من الهواء. تكمن المفارقة الثانية في أن من يحمل حمل الهواء ويبيعه للآخرين لكي يقاوموا به حرارة الجو، هو أكثر من يقع فريسة لهذه الحرارة، خصوصا مع حمله الثقيل الذي يتجول به: «يا للحرارة!» الصياغة الثاقبة تنقل لنا نظرة الشاعر للمشهد، وهي نظرة تدفعنا إلى الابتسام؛ استمتاعا بالصورة اللافتة والتكثيف الخارق. تنقل القصيدة كل هذا في أقل من عشر كلمات! هذه هي قوة المفارقة؛ فالمفارقة قادرة على أن تكون موجزة، ومشحونة، وكاشفة، وجاذبة للانتباه، ودافعة للتفكير أيضا في نفس الوقت.
2
في الفقرة الأولى من تمهيد كتاب: «تاريخ موجز للمفارقة: الفلسفة ومتاهات العقل
A Brief History of the Paradox: Philosophy and the Labyrinths of the Mind » للمؤلف «روي سورينسن
Roy Sorensen » يقول المؤلف:
يصف الرياضيون الأعداد الأولية باعتبارها ذرات الأعداد؛ لأن كل الأعداد يمكن تحليلها باعتبارها حواصل لهذه الأوليات. أنا أنظر إلى المفارقات باعتبارها ذرات الفلسفة؛ لأنها تؤلف نقاط الانطلاق الأساسية لأي تأمل منضبط.
يفسر رأيه هذا بأن:
الفلسفة تنعقد بأسئلتها أكثر مما تنعقد بإجاباتها. والأسئلة الفلسفية الأساسية تأتي من المفارقات التي تبرز لنا في نطاق مخططنا المفاهيمي المعتاد.
توضح المقدمة نفسها بعد ذلك أن المفارقات أسئلة توقفنا بين عدة إجابات جيدة. يتساءل للتوضيح: «حين تنقسم أميبا إلى اثنتين، هل تتوقف عن الوجود؟» ويوضح كيف أن لهذا السؤال أكثر من إجابة واحدة، ويؤكد أن فرض إجابة من هذه الإجابات سيكون متعسفا؛ فمن جهة هي تتوقف عن الوجود بشكلها الأصلي، لكن من جهة أخرى هناك حيوانات يمكن أن تنجو من فقدان أجزاء منها، وإذا اعتبرناها ما زالت موجودة؛ فهل يصح أن نشير إليها باعتبارها فقط أحد الفردين الناتجين عن عملية الانقسام؟ وهل يصح أن نشير إليها باعتبارها كليهما؛ مخالفين في هذا الفكرة التي تنظر للكائن الحي باعتباره كلا موحدا؟
يقول الكتاب بعد ذلك:
قد يبدو الحس المشترك
Common sense
كأنه كل سرمدي خال من التشققات، لكنه في الحقيقة يشبه سطح الأرض؛ بازل مكون من صفائح ضخمة تتصادم وتحتك ببطء بعضها ببعض. استقرار اليابسة ناتج عن قوى وقوى مضادة كبيرة. التوازن ليس مثاليا؛ هناك دائما توتر كامن، وبين الحين والآخر، يحدث انزلاق. المفارقات تشير إلى خطوط الصدوع في عالم الحس المشترك الخاص بنا.
ثم يتساءل:
هل يمكن أن نعد المفارقات أعراضا لزلات في المنطق البشري؟ هل هي إشارات إلى حقائق لا يمكن التعبير عنها؟
3
ما هي المفارقة
؟
إذا راجعنا قاموس
Merriam-Webster
فسنجد أنه يعرفها بأنها: «تعبير يبدو أنه يقول شيئين متعارضين، لكنه قد يكون صحيحا مع ذلك.» أحيانا تنتج المفارقة عن صياغة ملتبسة بشكل متعمد أو عرضي، وأحيانا تكون المفارقة معبرة عن جدل حقيقي لا يمكن حله بسهولة ككثير من المفارقات الفلسفية المشهورة.
المفارقة في الأدب أداة من الأدوات المهمة للغاية، وهي كثيرا ما تكون قادرة - كما أشرنا في بداية المقال - على الإمساك بالتناقضات الكامنة في لحظات أو رؤى بعينها. قد تسكن المفارقة الشعرية في صلب المشهد أو الحدث الموصوف، وقد تنبع من ذات الشاعر بشكل أكبر، لكنها في الحالين قد تعبر عن رؤية مختلفة للعالم أو للذات.
المفارقة حاضرة كذلك في الأحاديث اليومية، ربما تأثرا بالأدب، وربما لأن أي لغة لا تخلو منها؛ فحين نتحدث مثلا عن الغائب الحاضر، نعني شخصا غاب عنا بجسده، لكنه حاضر معنا مع ذلك بأفعاله أو مآثره. وهناك من سار بهذه المفارقة خطوة أبعد متحدثا عن «غياب الحضور وحضور الغياب.»
نحن الآن ندرك أن المفارقة حاضرة كذلك في العلم الحديث، وقد قدمت نظرية النسبية وفيزياء الكم عددا من المفارقات التي تبدو مدهشة وغير منطقية من وجهة نظر الحس المشترك، لكنها صارت مجرد بدهيات من وجهة نظر الفيزياء اليوم. يقول «رودولف بيرلز
Rudolf Peierls » أحد أبرز علماء الفريق الذي صنع أول قنبلة ذرية: «لقد تعلم الفيزيائيون دائما الكثير من المفارقة.»
ملاحظات (1)
أنقل قصائد الهايكو الواردة في المقال عن كتاب: «كلاسيكيات الهايكو» الصادر عام 2006 في جزأين عن المجلس الأعلى للثقافة، وهو من ترجمة وتقديم: بدر الديب. (2)
استخدم «فخري صالح» في ترجمته لكتاب «موت الناقد» لرونان ماكدونالد، الصادر مؤخرا، تعبير «المفارقة الضدية» كترجمة لكلمة
تمييزا لها عن المفارقة الساخرة
Irony . (3) «غياب الحضور وحضور الغياب» هو عنوان ديوان شعر عامي للشاعر المصري الراحل «عمر نجم».
الأحلام نصوص أدبية
1
في رواية «مائة عام من العزلة» للروائي العالمي «جابرييل جارثيا ماركيز» حكاية صغيرة عن فتاة شديدة الجمال عاشت في «ماكوندو » وأحبها كثير من الرجال. تصف الرواية مشهدا جميلا تصعد فيه «ريميديوس» إلى السماء بينما كانت تقوم بطي الملاءات. يحكي ماركيز كيف أن هذا المشهد كان مستوحى من حدث حقيقي جرى في قريته، قررت في سياقه إحدى النساء - بعد هروب حفيدتها مع أحد شباب القرية - أن تغطي على ما حدث بالفعل، بحكاية عن صعود الفتاة إلى السماء. يقول أيضا إن تفصيلة صعودها إلى السماء حين كانت تطوي الملاءات تحديدا أتته حين رأى في أحد الأيام امرأة تجمع الملاءات أثناء هبوب رياح عنيفة. في هذا المشهد اختار ماركيز أن يحكي فقط ما قالته الجدة، متجاهلا الحدث الواقعي الأصلي، أضاف بعض عناصر من مشاهد مختلفة لتكتمل الصورة التي تناسب سياق الرواية. ومن خلال عملية الاختيار والتكثيف التي قام بها أثناء خلقه للمشهد، نجح في صياغة مشهد مبهر، يروي فيه حكاية غير منطقية بمعايير الحس اليومي العادي، لكنها في سياق الرواية حين يتم توظيفها بشكل سليم، تكون شديدة الإيحاء والجمال.
العلاقة بين المشهد الروائي والحدث الواقعي الأصلي، علاقة غريبة من وجهة نظر ما، المشهدان يتشابهان ويختلفان في الوقت نفسه، المشهد الروائي هنا مستمد من الواقع، لكن جرى عليه شكل من أشكال التحريف، استخلص الروائي جوهرا ما من المشهد الواقعي، وسرده بشكل مكثف بعد بعض الحذف والإضافة. في الأحلام يحدث أمر شبيه؛ ففي الحلم أيضا بعض عناصر مستمدة من الحياة الواقعية، لكن الطريقة التي يتم بها توظيف هذه العناصر تكون مختلفة أشد الاختلاف؛ فقد ندمج في الحلم بين شخصين مختلفين؛ لرابط قد نراه دون أن نعيه بينهما، وقد يفتت الشخص في المقابل إلى أشخاص مختلفين، كأن تكون أنت المشاهد وما تشاهده في الوقت نفسه.
2
أثناء الصحو نركز بشكل واع على ما نعده مهما: الأحداث الكبرى في يومنا تشغل تفكيرنا، قد تؤرقنا وتؤخر النوم عنا، لكن أثناء النوم يعاد ترتيب الأمور، قد تظهر هذه الأحداث أو لا تظهر. فإن ظهرت ظهرت محرفة، ممتزجة مع غيرها، بشكل عجائبي، وقد تغيب تماما بشكل قد يثير الدهشة، لتظهر مكانها أحداث وتفاصيل يراها المستيقظ تافهة أو غير ذات قيمة. للحلم نظرة مختلفة لما هو مهم أو غير مهم.
بشكل ما، الأمر نفسه يحدث في الكتابة؛ قد تغدو الأحداث الكبرى التي تجري في الحياة مجرد خلفية، أو قد يتم تجاهلها للتركيز على تفاصيل صغيرة يخفيها صخب وضجيج الأحداث الكبرى. المنطق الذي يستدعي به الحلم/الكتابة هنا أحداث أو تفاصيل الواقع قد يبدو أحيانا مشوشا أو غامضا للوهلة الأولى، لكن الكتابة العظيمة - كما الأحلام - تعلمنا أن النظرة المتأنية والتأمل الهادئ ستتم مكافأتهما بالكثير من المتعة والفهم.
3
في الصحو نكون قادرين على التفكير المجرد، في النوم نفقد هذه القدرة مع فقدان الذات الواعية. أثناء الحلم نحول الأفكار المجردة إلى صور متتابعة بصرية أو سمعية؛ التشابه بين صورتين أو حالين مثلا قد يتم نقله عن طريق تواليهما. في الكتابة أيضا إن سيطرت عليك فكرة مجردة بشكل كبير، ولم تتمكن من تحويلها إلى عناصر وعلاقات تناسب الشكل الفني الذي تكتب فيه، فأنت ببساطة تكتب مقالا. في الكتابة الأدبية لا بد أن تلتفت إلى قوانين وحساسيات الشكل الذي تكتبه، وقد يكون من المناسب أن تتراجع الأفكار المجردة، التي قد تكون أحيانا هي الحافز الأصلي للكتابة، إلى الخلف قليلا.
المنطق المختلف للحلم يكون قادرا - من خلال ما يتميز به من تكثيف شديد - على التعبير عن علاقات ومعان قد تغيب عنا أثناء اليقظة، ربما لأن تركيزنا يكون منصبا على زاوية نظر واحدة بعينها، أو ربما لأننا نكون أقدر أثناء النوم على استدعاء ذكريات قد لا نكون على وعي بها أثناء اليقظة والاستفادة منها. لعل من المفيد هنا للتوضيح ذكر القصة المشهورة لاكتشاف حلقة البنزين، يذكر «أوغست كيكولي
August Kekulé » أنه بعد حيرة طويلة امتدت لأعوام أثناء محاولته فهم الكيفية التي تترابط بها ذرات الكربون معا، اكتشف الشكل الحلقي لجزيء البنزين نتيجة لحلم راوده، رأى فيه ثعبانا يأكل ذيله، استلهم منه حل اللغز الذي أرقه لفترات طويلة. أما استفادة الشعراء والفنانين من الأحلام، واستغلالهم للرؤى التي تراودهم فيها كمصدر إلهام فهو أمر شائع ، لا أظنه يحتاج إلى أمثلة لتوضيحه.
4
هناك دائما ما يمكن أن يتعلمه الكتاب من الأحلام، هناك تشابهات وتوازيات من المفيد التأمل فيها وملاحظتها بين الكتابة والحلم. أثناء الكتابة، وخصوصا أثناء كتابة الشعر، من المفيد أحيانا أن تؤجل التحكم العقلي فيما تكتب قليلا، ترخي الزمام للأفكار حتى تندفع دون رقابة، ثم تتأملها في تتابعها، ووقتها قد تكون قادرا على تنظيم ما بدا عشوائيا للوهلة الأولى في كتابة وصور متماسكة ومبتكرة. أتحدث عن تأجيل تحكم العقل لا إلغائه؛ لأني أرى أن الكتابة لا تشبه الحلم تماما، ربما تشبه أكثر ذلك الرجل الذي استيقظ من نومه للتو ليحكي حلمه الذي راوده، موضحا ومتأملا فيه بعين المتيقظ.
5
في النهاية قد لا تكون هناك حاجة للإشارة إلى دور اكتشاف «فرويد» للاوعي، وأهمية وثورية كتابه عن تفسير الأحلام؛ فهذا الدور أشهر من أن يغفل. ومن المعروف الأثر الكبير لأفكاره على مجالات مختلفة، منها الكتابة، التي كان أبرزها ظهور المدرسة السوريالية التي كانت أفكار فرويد أحد روافدها المهمة. أعلت السوريالية من شأن اللاوعي والتفتت إلى الحلم كمنبع شديد الثراء ووسيلة للوصول إلى تبصرات وإيحاءات جديدة ومتفردة.
طرق الكتابة الجانبية
1
باختصار كنت أسير في شوارع وسط البلد كعادتي، كانت فكرة ما تعبث في رأسي فانفتحت طريقا مشيت به بعض خطوات إلى أن فرضت فكرة أخرى نفسها على عقلي، دعتها إحدى كلمات الدرب الأول للحضور، انفتحت هذه الكلمة إذن كوصلة تشعبية على طريق جانبي.
في تلك اللحظة عادة ما نرتبك ونقف بين الطريق الجديد المغري بالعبور فيه، والطريق الأول الذي لم نكمله بعد. الاختيار مربك لأن الأفكار في تلك اللحظة طيارة لم تثبتها الكتابة، ولا الألفة، وعادة ما يصبح هذا التشتت حينها هو الأساس وننسى الطريقين معا، ونترك معزولين متضايقين مرتبكين دون أن ندرك تماما أحيانا سر هذا التشتت.
2
في هذه المرة لم يحدث هذا كالمعتاد حدث تغيير طفيف على التركيبة؛ فبدلا من الغرق في التشتت انفتح أمامي هذا التشتت نفسه كدرب ثالث فدخلت فيه ناسيا إلى حين كلا الطريقين، ربما ساعدني على ذلك أنني كنت أفكر أساسا في قراءة النصوص فانفتحت حالة التشتت هذه كفكرة ثرية تساعدني على صياغة بعض الأفكار التي لم أكن قد صغتها بطريقة ترضيني.
3
تخيل نفس هذه الحالة تحدث لك أثناء كتابة نص من النصوص الأدبية، يحدث أحيانا أن يتم شطب هذه الجملة تماما، أو تأجيلها إلى نص آخر متوخين في هذه الحالة طريق الاتساق العقلي، ومتتبعين الدرب المرسوم والمعبد مسبقا بعناية وعقلانية. لكن هذا ليس الطريق الأفضل دائما، بعض الكتاب يعامل هذه الحالة بأسلوب مختلف ينم عن فهم معين للعقل وتشابكه، وبدلا من استبعاد الجملة بشكل آلي يتم التفكير في الرابط أو السر الذي جاء بهذه الجملة وسط هذا السياق تحديدا - ذلك السياق الذي رأى تفكيره للوهلة الأولى أنه ليس وطنا لها بشكل من الأشكال. هنا قد تتسع من خلال هذا التفكير رؤيته للفكرة الأصلية، وقد ينتج عن هذا ثراء للعمل قد لا يدركه كاتبه نفسه بشكل كامل.
4
حالة التشتت التي لا نرى في الغالب سوى جانبها السلبي دون أن نرى ما فيها من ثراء، قد تحدث عند نقلها على الورق اتساعا في رؤية النص، وقد تنقل أمام القارئ فضاء من القراءات المختلفة، التي تنفتح أمامه عند الدخول إلى هذا النص الذي يوحي له بالنظام والفوضى معا، النظام ينتج من إحساس بجمالية ما في المكتوب والفهم لبعض المفاتيح والأفكار، والفوضى تنتج من عدم قدرته على الإلمام بكل ما في النص من القراءة الأولى، وأحيانا ولا من العاشرة، لكنه لسبب ما قد يظل متمسكا بهذا النص المغلق والمفتوح في الوقت نفسه كنص أثير محبب.
5
في القرن الماضي أدرك الإنسان سقوط رؤية ما تمجد العقل الواعي، وتراه كطريق وحيد للمعرفة، يلغي ما دونه كخرافات أو أشكال أقل من المعرفة، قبل ذلك كان الأدب يتمسك في أوقات كثيرة برؤية تعلي من النظر إلى العمل الأدبي كنص مغلق به رسالة محددة ينقلها الكاتب إلى قراءه، هذه الرؤية تنظر إلى الكاتب بالنسبة لنصه كإله كلي المعرفة ، يعرف ما يقصده عمله بشكل واضح ومكتمل.
سقوط هذه الرؤية لدى الكتاب والقراء معا أدى إلى كتابة نصوص بها من التشابك والتدفق ما يجعل كاتبها نفسه في بعض الأحيان يستكشف ما كتبه بدهشة قارئ، يتعرف على النص وعلى ذاته المكتوبة بعين جديدة، قد يعيد قراءته مرات عدة بأشكال مختلفة، إن كان النص ثريا بما يكفي. وقد يكتشف لاحقا في قراءة أحد القراء الآخرين تأملات قد تكون أثرى وأكثر تنوعا.
6
هذا النص الذي يحمل في سياقه التشتت والنظام معا، الذي يبحث دائما عن قارئ يعيد تنظيمه بأسلوبه، هو نص ثري بالنسبة للبعض ممن يحبون اللعب مع النصوص، لكن ما الذي يفرق هذا النص عن نص آخر لا يحمل سوى الفوضى الخالصة أو البعثرة الصرفة؟ أظن أن وضع فواصل ثابتة يتم من خلالها بشكل آلي التعرف على الفارق غير ممكن، وإنما يظل ترسيم الحدود دائما هو عملية تتم داخل عقل القارئ نفسه.
أن ترى ما لا ترى
1 «هل من الممكن أن ترى شيئا دون أن تعلم أنك تراه؟» هذا السؤال ليس لي، إنه الجملة الأولى التي بدأ بها محرر مجلة العلوم الأمريكية مقالا بعنوان «نظر الأعمى: أن ترى دون أن تعلم»
Blindsight: Seeing without knowing it . يتساءل المقال: «لكن ماذا عن أن ترى شيئا وأنت تظن أنك أعمى بالكامل؟ ماذا عن التفافك حول عقبات لا تراها ولا تتوقعها حتى؟» بصراحة بالنسبة لحالة علمية فهي محملة بعمق أدبي ما، محملة حتى بالرموز والدلالات واحتمالات التأويل. المقال قديم، نشر عام 2010، ويتحدث عن رجل فقد القدرة على استخدام منطقة في عقله تسمى «اللحاء البصري الأولي»
primary visual cortex
مسئولة عن معالجة الصور التي تأتي من العينين نتيجة لجلطات. بعد هذه الجلطات اختفى البصر بالكامل، لم يكن قادرا حتى على رؤية الأشياء الكبيرة التي تتحرك مباشرة أمام عينيه السليمتين. لكن العلماء انتبهوا إلى أنه قد يكون لديه ما يسمى ب «نظر الأعمى»، وهي حالة نادرة يكون فيها المريض قادرا على الاستجابة لمعلومات بصرية لا يملك معرفة واعية بأنه يراها. أخذوه إلى طرقة وطلبوا منه أن يمشي فيها دون عصاته، كان معارضا في البداية لكنهم أقنعوه في النهاية أن يحاول. كانوا قد وضعوا مجموعة كبيرة من العقبات في طريقه دون أن يخبروه، وكان مدهشا أنه كان قادرا على تفاديها كلها، دون أن يدرك أنه يفعل ذلك، وحين أخبروه بما فعله، لم يصدق، أخبرهم أنه كان يسير في خط مستقيم!
2
بصراحة هناك تجارب علمية حديثة أخرى قرأتها في كتب ومقالات متنوعة توضح الفكرة من زوايا مختلفة، لكن شرحها هنا سيطول وقد يشوش على ما أردت قوله في الأساس. لكن على كل حال الكلام عن اللاوعي ليس جديدا، كل ما تفعله هذه التجارب أن تلقي ضوءا مختلفا، وتوضح زوايا غير متوقعة للنظر إلى المسألة.
3 «أن ترى ما لا ترى» الجملة شعرية في المقام الأول، لكنها فيما يخص التجربة التي ذكرتها مجرد ذكر واقع: حقيقة. الشعر مغرم أحيانا بهذه المفارقات، وربما أيضا الحكماء القدماء، الصينيون مثلا، والمتصوفة. أحيانا تكون مثل هذه المفارقات خاوية من المضمون، قد تغدو على ألسنة البعض مجرد لغو فارغ، مجرد «فذلكة»، وأحيانا قد يكون استخدام هذه الصياغات موفقا، وجميلا. قد يرى البعض في مثل هذه المفارقات تعبيرا عن التردد، أو عن الانقسام الذي يعيشه الإنسان، وقد يرى في المقابل أنها بلا معنى. لكن من يتأمل أكثر سيجد أنها جزء من تكوين الإنسان اليوم، وجزء من تكوينه في كل العصور.
4
بعد اكتشاف مفهوم اللاوعي من قبل فرويد، أكدت السريالية على دور اللاوعي، ونبهت إلى أهميته، ومارست ألعابها الشعرية والأدبية لاكتشاف كنوزه؛ منها مثلا الكتابة التلقائية، أحب أن أعرف الكتابة التلقائية بشكل مختصر بعبارة واحدة: «أغمض وعيك ثم ابدأ الكتابة.» محاولة الاسترسال في الكتابة على الورقة البيضاء دون التفكير في معنى ما تكتبه. السريالية أيضا ركزت على دور الأحلام، باعتبارها مصادر مهمة للكتابة، باعتبارها أعمالا فنية من تأليف لاوعي الإنسان. باختصار حاولت السريالية أن توازن النظرة العقلانية المفرطة بالتنبيه إلى جزء مهمل من العقل هو اللاوعي.
5
لكن المسألة ليست مرتبطة بالسريالية ولم تبدأ معها، طوال الوقت كانت الكتابة مرتبطة عند الكثيرين بالوحي، والحدس، والإلهام. الكتابة كثيرا ما تفاجئ كاتبها، حين ينظر في نصه ولا يعرف من أي جزء منه جاءت. الكتابة هنا ليست مجرد تعبير عن الذات، وليست مجرد بيان يتم إلقاؤه، أو حتى إثبات موهبة يقدمه الكاتب. الكتابة هنا هي نوع مختلف من المعرفة، نوع من المعرفة قادر - كهذا الرجل الأعمى الذي لا يعرف أنه يرى - على أن يقودنا دون أن ندري، وأن يساعدنا على السير في الحياة دون أن نعلم ذلك، حتى ونحن نؤكد أننا فقط نكتب/نقرأ، وأنه ليس في الأمر الكثير من الأسرار. لسبب ما أتذكر الآن أرشميدس الذي أرهقه التفكير في معضلته، فوجد حلها وهو مسترخ في حوض الاستحمام. فجأة، يخرج عاريا، يقفز فرحا: «يوريكا، يوريكا.»
كلام عن الكلام
لو وضعت أي شيء في مركز اهتمامك فستبدأ في رؤيته في العديد من الأشياء الأخرى: صلات، تشابهات، تضادات، أعم، أضيق ... لو أنك شغوف بالعمارة فستشاهد البنايات والشوارع والنباتات والحيوانات والبشر والطبيعة والكون كمعمار، وستكون قادرا على التعلم منها والاستفادة منها كمصدر للإلهام. حالة الشغف هذه قد تكون من أهم ما يفصل بين المبدع في مجال ما والصانع الجيد. في الشعر الأمر مشابه، هناك كتاب يضعون الشعر في مركز اهتماماتهم، وهناك كتاب يضعونه على الهامش، التفريق بين الفريقين لا يتم عن طريق الكم.
لكن الأمور ليست بهذه البساطة، جزء مهم من التركيبة، هو مقدار فهمك لما أنت شغوف به، في حال المعمار، قد تكون فرصة المتخصص في الإحاطة بالحدود والمفاهيم الأساسية أبسط، حيث إن العمارة صارت علما بالإضافة إلى كونها فنا؛ مما يجعل الخلط فيما يخص هذه الأسس صعبا، لمن كرسوا حياتهم لها بشكل احترافي. في حال الشعر الأمور قد تبدو مرتبكة إن قورنت بالعمارة. أتخيل مثلا أحد الشعراء مهتما جدا بالشعر وشغوفا بتعريف نفسه كشاعر، ويفكر في الشعر كل الوقت، لكنه يرى الشعر فقط على أنه الوزن، فيلتقط دائما الفتات والموسيقى، وألعاب النغم، لكن قد لا تكون له نظرة شاعر.
ما هو الشعر؟ هذا أمر يطول الكلام فيه، ولكن الشاعر الحقيقي يرى الشعر في كل شيء، في كل التفاصيل الموجودة في الحياة.
دائما ما نصف الشاعر المميز بأنه صاحب رؤية مختلفة، ونتحدث عن الشعر على أنه رؤية للعالم، والأمر هنا ليس مجرد صيغ بلاغية. الفكرة باختصار أن الإنسان يعيش في عصر يتغير بشدة: الاختراعات وأساليب الحياة، والأفكار، والعلاقات الاجتماعية، ووسائل التنقل والاتصال، معرفتنا بالعالم تتغير كل يوم، والإنسان قد يظل مغيبا عن بعض ما يجري فيه، لكنه جزء من هذا العالم، يتأثر به ويؤثر فيه بمقدار ما. المشكلة أن الإنسان قد يستوعب هذه التغيرات عقليا، لكنه يظل متعلقا بجوانب أخرى من ذاته برؤية العالم كما كان بالأمس أو منذ سنين؛ لأن العقل والمنطق غير كافيين. الإنسان قد يكون مقتنعا على المستوى العقلي بحقوق الإنسان، أو بفيزياء الكوانتم، أو ... أو ... لكنه قد يظل على مستوى ما لا يعيها، ربما كان للشعر والأدب دور هنا. فكرة صياغة العالم شعرا، العالم كما هو اليوم.
لذلك من الأمور الفارقة بين شاعر وشاعر في أوقات كثيرة؛ مدى معاصرته للعالم الذي يوجد فيه، وإدراكه له ولمشاكله وإمكاناته.
ناپیژندل شوی مخ