إذا كان أرسطوطاليس قد أهمل ذكر أرسطبس تعيينا، واقتصر على أن يذكر من القورينيين أودكسس وحده، فإن الحكيم الأعظم سقراط قد عني به، وهذا يدل على أن أرسطبس كان قد تكون واكتمل أو كاد يكتمل قبل أن يموت سقراط، غير أن الواقع أن أرسطوطاليس إن أهمل ذكر أرسطبس فإنه لم يهمل مذهبه كما سنرى بعد.
أفرد «زينوفون
Xenophon » بابا كاملا في كتابه الذكريات
Memorabilia
خصه بمناقشة مذهب أرسطبس، كما فهمه سقراط ونقده، ذلك هو الفصل الأول من الكتاب الثاني من «الذكريات» وقد لخص حوارا وقع بين سقراط وتلميذه أرسطبس.
وملخص هذه المحاورة التي وضعت بعنوان «أرسطبس» أن سقراط قد توقع أن أرسطبس يحاول الحصول على وظيفة في الحكومة، فأراد أن يظهر له رأيه في أن الاعتدال وضبط النفس صفتان ضروريتان في الرجل السياسي ، فلما أظهر أرسطبس أنه إنما يصدف عن هذا، ولا يرغب إلا في أن يعيش عيشة هادئة لذيذة، سأله سقراط: أيهما أسعد حالا، الحاكم أم المحكوم؟ فيجيب أرسطبس بأنه لا يريد أن يكون حاكما ولا محكوما، وإنما يريد أن يمتع بالحرية، فيبادره سقراط بأن مثل الحرية التي يطلبها لا تتفق ونظام الجمعيات الإنسانية، غير أن أرسطبس يبقى مستمسكا برأيه، ويقول بأنه سوف لا يظل في مملكة واحدة، بل سيعيش متنقلا من مكان إلى مكان، فيظهر له سقراط ما في هذه المعيشة من مخاطر، وما يحف بها من معاطب. ولكن أرسطبس يرمي بالحمق أولئك الذين يختارون حياة الكد والعمل في مناصب الحكومة، ويفضل عليهم أولئك الذين يختارون الحياة الهادئة البعيدة عن النصب، فيكون من أمر سقراط أن يظهر له الفرق بين الذين يكدون مختارين، وبين الذين يكدون مجبرين، وأنه ما من خير أخلاقي إلا وله مقدمات من النصب والكد الطويل. ومن أجل أن يمثل لفكرته روى أسطورة «فروذقوس
» السفسطائي التي سماها «حيرة هيرقل».
أما الأسطورة التي وضعها «فروذقوس» فمحصلها أن هيرقل لما كان شابا في أول أطوار الفتوة وعلى باب الرجولة؛ أي في ذلك الطور الذي يشعر فيه المرء بأنه عما قريب سيصبح سيدا حرا، أخذه ما يأخذ الشباب من تفكير في أمر الحياة، وفي أي من طريقيها يسير: أطريق الفضيلة، أم طريق الرذيلة، فانتبذ بنفسه مكانا موحشا بعيدا عن جلبة الناس، وقد أخذه هم التفكير في اختيار أي من طريقي الحياة، وفيما هو جالس تراءى له شبحا امرأتين ممشوقتي القامة مضتا تتقدمان نحوه، وكانت إحداهما جذابة الملامح، مملوءة وقارا وجمالا، وقد حبتها الطبيعة بحسن الصورة وبهاء الطلعة المقرونة برصانة الحكمة، وكانت تتشح ثوبا أبيض فضفاضا، أما الأخرى فكانت ربلة ناعمة، ولكنها زورت ملامحها بالتبرج، لتظهر أكثر جمالا وبهاء، مما هي في الحقيقة، وأخذت تتصنع من الإشارات والحركات ما يزيد قامتها اعتدالا، وكانت تنظر بعينين مفتوحتين، لا خفر فيهما ولا استحياء، وقد اتشحت ثوبا تظهر منه تقاطيع جسمها الجميل، وقد أخذت تنظر من وقت إلى آخر في صورتها، ثم تتطلع لترى هل يراها من الناس أحد، وهل يعجب بجمالها معجب بها بل كانت كثيرا ما تتلفت وراءها، لترى هل يرتسم في ظلها شيء من محاسنها، وفيما هما تتقدمان نحو هيرقل وهو في حيرة، تستبق الثانية الأولى إليه، وتأخذ في الحديث لتغريه على أن يتبعها دون الأخرى، وبعد أن تشرح له ما سوف يلقى فيها من لذة واستمتاع، يسألها هيرقل عمن تكون، فتجيبه: «إن الذين يصحبونني يسمونني السعادة، ولكن الذين يمقتونني يدعونني الرذيلة.» وهنا تتقدم إليه الأخرى (الفضيلة) وتقول له: «إنني أريد أيضا أن أحدثك بحديثي.» وتشرح له من واجبات الحياة الفضلى، وما في الفضيلة من مشاق، بيد أنها تظهر له أيضا ما فيها من جمال.
وفي هذه المحاورة التي يشرح فيها فروذقوس آراءه في الفضيلة والرذيلة، تنتصر الفضيلة - بالرغم من خشونتها - على الرذيلة - بالرغم من نعومتها - غير أن هيرقل يظل في تأمله، ولكن بعد أن تفتح له الأسطورة سبيلي الدنيا، وكذلك يترك سقراط أرسطبس حرا في أن يختار أيهما يفضل في الحياة.
أرسطبس وأفلاطون
ناپیژندل شوی مخ