أما المثالي فأمر مختلف؛ ذلك لأن أية نظرية فيزيائية في الشخصية تثيره بما فيه الكفاية، أما تطبيق هذا الرأي على الفلسفة فهو في نظره أمر لا يحتمل. والواقع أن قليلا من النظريات هو الذي يستثير المثالي إلى النضال بقدر ما تستثيره هذه النظرية. ومن المعروف أن صاحب المذهب الطبيعي يتهم المثالي أحيانا بأنه ينظر إلى كل الآراء باستثناء آرائه هو، على أنها ليست باطلة فحسب، بل شريرة. وهذه مبالغة دون شك. ولكنها تقترب من الحقيقة في حالة النظرية الراهنة المتعلقة بالمصادر التي يستمد منها المزاج الفلسفي. ذلك لأنه لو أمكن إثبات هذه النظرية تجريبيا، لتعرض معها بناء الميتافيزيقا المثالية بأسره لخطر ماحق. فلو ثبت أن أشخاصا لديهم اتزان غددي معين يميلون إلى الانجذاب نحو قطب رئيسي معين من قطبي التفكير دون الآخر. فماذا يصبح مصير المصادرة الأساسية القائلة بأولوية «الذهن» أو «الفكر» في الكون؟ وإذا كان ما نفكر فيه يتحدد على أساس ما نأكله أو على أساس طريقة عمل الغدة النخامية، فمن الواضح عندئذ أن الأولوية «للمادة» أو العالم الفيزيائي. ومهما تكن المثالية منطقية أو عميقة المغزى أو ملهمة، فإن تحقيق نظرية المزاج هذه يترك الفلسفة المثالية معلقة في الهواء بلا دعامة دون أن يبرر وجودها شيء إلا نوع من الجاذبية الجمالية.
وهكذا نكون قد أتممنا دورة كاملة: فما نؤمن به عن الله والخلود يبدو متوقفا على ما يمكننا أن نؤمن به عن طبيعة العالم بوجه عام - وهذا بدوره يبدو متوقفا على ما يمكننا أن نؤمن به بشأن مصادر الإيمان ذاته أو العوامل المتحكمة فيه.
ولا بد أن يؤدي الدور الواضح في هذه النتيجة إلى القول بأنها ليست مرضية على الوجه الأكمل. ولكن من الصعب أن نصل إلى أي استنتاج آخر يمكن أن يكون ممكنا في إطار معرفتنا الراهنة. فنحن آخر الأمر، نؤمن بما نستطيع أن نؤمن به، غير أن هذا بدوره يتوقف على عوامل تبلغ من الكثرة ومن التباين من فرد إلى فرد حدا يجعل لكل ذهن إمكانات الإيمان خاصة به وحده.
الفصل الثامن عشر
النزعة الإنسانية والوجودية
توجد فلسفتان، من بين الفلسفات الشائعة في أيامنا هذه، تحتلان مركزا خاصا، وتقف كل منها على الحد الفاصل بين المذاهب الفلسفية بمعناها الفني وبين «فلسفة الحياة» الشعبية، وكل منهما وجدت من الكتاب و«المثقفين» اهتماما يفوق ما وجدته من الفلاسفة المحترفين. ولكل من الفلسفتين نظريات ميتافيزيقية مجردة، وذلك على الأقل بصورة ضمنية، ولكن كلا منهما لا تكاد تعرف إلا على أساس أحكامها الأخلاقية وآرائها العينية في الموقف الإنساني فحسب. وتبدو كلتا الفلسفتين حديثة إلى حد يلفت الأنظار بحق (رغم أن لكل منهما جذورها التي تمتد إلى قرن وربما أكثر من قرن فيما مضى). ذلك لأن كلا منهما تعبر عن أحوال واتجاهات لا يمكن أن تسمى إلا «معاصرة».
ويكاد يكون من المؤكد أن كل طالب قد سمع عن هاتين الفلسفتين. فإذا كانت أية مصطلحات فلسفية قد ترامت إلى سمعه قبل أن يبدأ دراسته المنظمة لهذا الميدان، فالأرجح أن «الإنسانية» و«الوجودية» من أول المصطلحات التي اكتسبها. ومن الجائز أن الشعبية التي نالتها هاتان المدرستان ترجع إلى إعجاب الكتاب، ولا سيما كتاب القصة والمسرح، بهما، أكثر مما ترجع إلى أية أهمية خاصة لهما في المجال العقلي. ولكن، بغض النظر عما إذا كان التاريخ سيحكم على هاتين الفلسفتين بأنهما عميقتان، أم سيكتفي بتأكيد أنهما فلسفتان روجتهما الدعاية الذكية فحسب، فإن تأثيرهما خلال الثلث الأوسط من القرن العشرين سيظل قويا إلى حد بعيد. ولن يكون من الممكن تحديد العلاقة بين الإنسانية والوجودية بدقة إلا بعد بحث كل منهما على حدة. وسوف نبدأ بأقدمهما، وهي النزعة الإنسانية.
النزعة الإنسانية في عصر النهضة : كان للفظ «النزعة الإنسانية
Humanism » تاريخ طويل، تغيرت خلاله معانيه كثيرا، شأنه شأن معظم الألفاظ التي تظل تستخدم طويلا. ولقد برزت بوجه خاص أهمية ثلاثة من هذه المعاني: أقدمها معنى أدبي ثقافي، نشأ في ظل حركة النقد الأدبي والدراسة الثقافية للأدب، التي ارتبطت بعصر النهضة الأوربية. وهنا كان معنى اللفظ هو الأفكار والكتابات التي ظهرت في القرن السادس عشر على الأخص، والتي كان موضوعها الأول هو الإنسان؛ أي اهتمامات الإنسان وأوجه نشاطه في هذا العالم، ولا سيما أوجه نشاطه العقلية والجمالية. ولقد كان الإنسان المثالي، في نظر هؤلاء الكتاب الأوائل، هو الفرد المكتمل التكوين، الذي تحققت كل قدرته إلى أقصى حد. أي إن فلسفة تحقيق الذات كانت هي السائدة حينئذ.
ولقد كان قدر كبير من طريقة الحياة والتفكير في عصر النهضة، كما هو معروف، رد فعل واعيا على المثل العليا الزاهدة في العصور الوسطى. فلم يعد إنسان عصر النهضة على استعداد للتضحية بقدر كبير من إنسانيته في سبيل ثواب العالم الآخر، وأصبح الرهبان والراهبات (الذين كان يفترض من قبل أنهم يقومون بتضحيات كبيرة في هذا الصدد)، موضوعا للسخرية والازدراء بين كثير من كتاب ذلك العصر ومفكريه. ولقد أدت عودة ظهور الاهتمام بكثير من مواد الحضارة الكلاسيكية، واكتشافها من جديد، إلى شعور رجال القرنين الخامس عشر والسادس عشر شعورا قويا بما يمكن أن تكون عليه الإنسانية في أحسن أحوالها. وكان العقل في عصر النهضة ينظر إلى الحياة اليونانية والرومانية على أنها النتاج المثالي لتطور النزعة الإنسانية، ويشعر باليأس من إمكان بلوغ هذه القمم مرة أخرى. غير أن إدراك رجال عصر النهضة لتعلق الإنسان الكلاسيكي الشديد بهذا العالم الحاضر، وعزوفه عن العالم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، شجعهم على محاولة السعي إلى تحقيق القدرات البشرية على نحو أكمل مما كان يحدث في العصور الوسطى.
ناپیژندل شوی مخ