وكان يشاهد انعكاس أنوار تلك المشاعل المتألقة في غير نظام فوق جدار ذلك المزار، فترى عليه صورة ضخمة للسيد الراحل ترتفع عالية حتى تختفي رأسه وسط الظلمة التي لم تصل إليها أنوار تلك المشاعل المتضائلة. ويبدو على صورته كأنها تحثهم على تأدية واجباتهم نحوه بالدقة والعناية عملا بما هو مدون بالعقود العشرة المنقوشة فوق جدار المزار نفسه. وكان «حبزافي» يبدو في الصورة مرتديا لباسا بهيجا ومتوكئا في رقة على عصاه التي بيده، وطالما كان المسنون من تلك الطائفة يرونه قائما على هذا الوضع وهو يفصل في القضايا التي كانت تعرض عليه حينما كان يساق المذنبون إلى داخل باب ديوانه بين صفين من ضباطه المتزلفين، أو كما كان يشاهد في حالة أخرى وهو يراقب سير تقدم العمل في إحدى ترع الري الهامة حتى يفتتح بها حقل زراعة جديد. فكان هؤلاء الحراس يسجدون خضوعا أمام صورته تلك المهيبة، يسوقهم إلى ذلك الدافع الطبيعي الذي ليس لهم فيه اختيار، كما كان يسجد أمامه الكتاب وأصحاب الحرف والفلاحون الذين نشاهد صورهم تملأ الجدران التي أمامه، وقد لونت بالألوان الجميلة البارزة فوق الجدران، وتلك الصور تمثل الصناعات وأسباب الترفيه التي كانت تضمها تلك الضياع العظيمة التي كان يملكها «حبزافي» وقتذاك، وهي تؤلف دنيا مصغرة يرى فيها ذلك الشريف الراحل، عندما يدخل إلى مزار قبره، أنه لا يزال يغدو ويروح بين مناظر حياة الريف ومسراتها التي كان هو السيد المرموق فيها، فقد كان يخيل إليه أن جدران مقبرته قد رجعت واتسعت حتى صارت تشمل حقول الزراعة والأسواق، ومصانع السفن وأحواضها، ومستنقعات صيد الطيور، وردهات الحفلات، وقد عمر النحات والرسام الجدران بتلك المناظر، حتى صارت في الواقع كأن الحياة تدب فيها.
عند ذلك توضع المشاعل الموقدة حول القرابين التي تملأ سطح مائدة القربان العظيمة المصنوعة من الحجر في المزار، وخلف تلك المائدة تمثال «حبزافي» جالس في كوة منحوتة في أصل الجدار، وبعد ذلك تنسحب جماعة الحراس الصغيرة على مهل، ملقين عدة نظرات سريعة على الباب الوهمي المقام في جدار المزار الخلفي، وكانوا يعتقدون أن «حبزافي» يمكنه في أي وقت شاء أن يبرز منه تاركا عالم الظلام المستتر خلف ذلك الباب الوهمي ليدخل إلى عالم الأحياء، ويحتفل مع الأحياء من أصدقائه بعيد رأس السنة المذكور.
وأما اليوم التالي، وهو اليوم الأول من السنة الجديدة، فيعد أعظم أيام الأعياد في التقويم السنوي، وكان القوم يتبادلون فيه الهدايا فرحين، كما يتوافد أهل الضياع أيضا يحملون الهدايا إلى سيد ضيعتهم، وقد انهمكت سلالة «حبزافي» في ملذاتها وجرت فيها إلى آخر شوطها ، ولكن شروطه التي أبرمت بانتباه وحذر، وهي التي كانت ولا تزال مدونة في سجلات المدينة، تضمن له الاهتمام بأمره وعدم إهماله. وفي الوقت الذي كان فيه الفلاحون ومستأجرو الإقطاعية يشاهدون مزدحمين عند الباب العظيم لبيت ذلك الشريف، حاملين هداياهم لسيدهم الحي، غير مفكرين في سيدهم الراحل، كان حراس الجبانة العشرة بقيادة رئيسهم يجتازون أطراف المدينة مرة أخرى سائرين نحو إحدى خزائن الضيعة لتسلم ما كان من حقهم أن يتزودوا به منها، ثم لا يلبثون أن يعودوا أدراجهم حاملين 550 فطيرة مستديرة و55 رغيفا من الخبز الأبيض و11 إناء مملوءة بالجعة، ثم يرجعون من حيث جاءوا مقتحمين طريقهم في تمهل وسط مرح الزحام حتى يبلغوا مدخل الجبانة عند سفح الجبل، فيجدون هناك زحاما عظيما أيضا، وكل واحد من أولئك المزدحمين محمل بمثل ما حملوا به؛ إذ كان الطيبون من أهل «أسيوط» يحملون عطاياهم من الأطعمة والشراب، بين جلبة عظيمة من الأفراح القائمة وسط تلك المناظر الخلابة التي لا عداد لها من صور تلك الحياة الشرقية، كما يشاهد مثل ذلك إلى اليوم بالجبانات الإسلامية في مصر في أيام عيد الفطر (وباقي الأعياد الإسلامية)، ويقصدون إلى الجبل حيث يدخلون بما يحملون إلى أبواب المزارات العديدة التي كانت منتشرة في وجه الجبل على مثال عيون أقراص النحل في خليتها، حتى تتمكن موتاهم من مشاطرتهم تلك الأعياد المرحة.
والواقع أن ذلك العيد يعد أقدم مثال من «عيد كل الأرواح»،
4
وكان حراس الجبانة يسرعون إلى قبر «حبزافي» بما معهم من المؤن فيسلمونها على الفور إلى كاهنه الجنازي ثم يعودون أدراجهم، حتى يحافظوا على النظام بين جمهور أفراد الشعب المرح الذين كانوا يتسلقون الجبل من كل مكان.
وكلما بليت جدة النهار قامت المعدات اللازمة للاحتفالات المسائية على ساق وقدم، من إشعال الأنوار وتمجيد المرحومين الذين ماتوا. وكان حراس الجبانة، مع كثرة تعبهم من تأدية واجباتهم الشاقة طوال اليوم بالجبانة المزدحمة، ينحدرون للمرة الثانية من فوق الجبل إلى معبد الإله «وبوات» بالمدينة حيث يكون جميع كهنة المعبد عن بكرة أبيهم في انتظارهم، فيقوم «الكاهن الأعظم» رئيسهم بتسليم حراس الجبانة عشرة المشاعل اللازمة لإنارة مقبرة «حبزافي»، فكانت تضاء في الحال بالمشاعل التي يحملها الكهنة، ثم يتحرك بعد ذلك الموكب المؤلف من الحراس والكهنة معا، فيسير على مهل مجتازا ساحة المعبد، ثم يخترق السور المقدس سائرا نحو الركن الشمالي للمعبد، كما ينص على ذلك لنا العقد الذي أبرمه «حبزافي» مع الكهنة، وهم يرتلون تفخيم
5 «حبزافي» (جعله روحا). وكان كل كاهن يحمل معه رغيفا كبيرا مخروطي الشكل من الخبز الأبيض كالذي سبق أن وضعوا مثله أمام تمثال «حبزافي» في معبد «أنوبيس» منذ خمسة أيام مضت، وكان الكهنة عندما يصلون إلى الركن الشمالي من المعبد يعودون ثانية إلى القيام بواجباتهم في وسط المحراب المزدحم بدهماء الشعب، وكانوا بطبيعة الحال يسلمون رغفانهم إلى حراس الجبانة؛ لأن هذه الرغفان كانت كنص العقد خاصة بتمثال «حبزافي» الذي في «قبره».
أما موكب الحراس الصغير المؤلف من عشرة أشخاص فكان يخترق شوارع المدينة المتألقة بالأنوار، والحراس يقتحمون طريقهم بمشقة عظيمة وسط زحام الشعب، وفي النهاية يبلغون الباب العظيم لمعبد «أنوبيس» حيث تكون الأنوار قد بلغت غايتها من البهجة والرواء، ولا ينسى في ذلك تمثال «حبزافي». وحينما يظهر الموكب خارج المدينة ثانية نراهم لا يزالون يشقون طريقهم بصعوبة بسبب دهماء الناس الذين يسيرون في نفس طريقهم، وكانت واجهة الجبل المظلمة التي تشرف عليهم يتخللها هنا وهناك معالم من النور تسير وئيدة مصعدة فوق الجبل، وكانت تلك الأنوار صادرة من مشاعل أهل المدينة الذين صعدوا مبكرين ووصلوا إلى الجبانة لوضع تلك الأنوار بها أمام تماثيل أمواتهم وقبورهم. وأما الحراس فإنهم يصعدون إلى مقبرة «حبزافي» كما فعلوا في الليلة المنصرمة، ويسلمون المشاعل والخبز الأبيض لكاهن «حبزافي» الذي ينتظرهم. وهكذا يشترك ذلك الشريف المتوفى مع أولاده ورعاياه الأحياء في الاحتفال بأعياد رأس السنة.
وفوق تلك الأعياد وغيرها من الأعياد الكبرى التي كان يتمتع بها المتوفى على الوجه المذكور، فإنه لم ينس في أي عيد من الأعياد الموسمية الصغيرة التي كان يحتفل بها في أول كل شهر وفي منتصف الشهر أو في أي يوم من «الأيام المحتفل بها».
ناپیژندل شوی مخ