ذكر ما انعقد عليه الرأي في هذه المنزلة ثم نقض
كان مولانا السلطان قد عقد الرأي والمشور مع أمرائه في أن يرجع ويكون القتال بمرج الزنبقيّة ظاهر دمشق، وأنّ في ذلك مصالح، منها: القرب من دمشق وقلعتها لاحتمال عدم النصر - والعياذ بالله - ولا نكر، لأنّه قد جاء عن النبيّ ﷺ «لا تتمنّوا لقاء العدوّ فإنّهم ينصرون كما تنصرون» (^١). واختلفت آراء الأمراء، فمنهم من أمّن على ذلك، ومنهم من قال: الرأي أن يقسّم الجيش قسمين، يتقدّم قسم، ويتأخّر قسم، فإذا خذل الأول أردفه الثاني، فقال - وهو الأمير علاء الدين طيبرس الوزيريّ -: ليس هذا برأي لأنّا إذا أخذنا حزمة نشّاب وسللناها سهما / ٤٢ ب / سهما وكسرناه تكسّر الجميع. وإذا أخذنا الجملة وأردنا كسرها لم تنكسر، ولا نلتقي الكلّ إلاّ بالكلّ، هذا، والرأي على الرجوع مستمّر.
وما أكمل مولانا السلطان كلامه مع قريبي الصدر فتح الدين بن عبد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء الشريف بأن يكتب إلى النائب بدمشق بما وقع عليه الرأي، وأن يخرج دهليزا (^٢) وسوقيّة إلى مرج الزنبقيّة، حتى فرغت الكتاب كما أملاه مولانا السلطان. وعندما التفت الصدر فتح الدين إليّ بأن أكتب ناولته الكتاب مفروغا، وعندما ناولته وقدّمه لمولانا السلطان ليشمله خطّه الشريف عجب من سرعته، وأثنى على (علوّ) (^٣) همّته، ولا أقول همّتي تضاؤلاّ عن علوّ رتبته. وسلّم الكتاب بعد ختمه للبريد. وأكّد مولانا السلطان على البريد في سرعة سيره، وانفصل بعد تقبيل الأرض. فأشار إلى الصدر فتح الدين بن عبد / ٤٣ أ / الظاهر بأن أعوّق البريديّ، فامتنع عليّ، فرسّمت عليه بعض مماليكنا.
وأمر مولانا السلطان بتقويض الدّهليز. وركب مولانا السلطان بهذه النّيّة، ولم يزل إلى أن وصل إلى مفرق الطرق ما بين حمص ودمشق، فاجتمع
_________
(^١) أخرجوه في حديث طويل، وفيه: «لا تتمنّوا لقاء العدوّ وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا». البخاري في الجهاد ٤ ج ٩ باب كان النبيّ ﷺ إذا لم يقاتل أول النهار أخّر القتال حتى تزول الشمس. و٤/ ٢٤ باب لا تتمنّوا لقاء العدوّ، وفي التمنّي ٨/ ١٣٠ باب كراهية لقاء العدوّ، ومسلم في الجهاد والسير (١٧٤١) و(١٧٤٢)، وأبو داود في الجهاد (٢٦٣١) باب في كراهية تمنّي لقاء العدوّ، وأحمد في المسند ٢/ ٤٠٠ و٥٢٣.
(^٢) الدهليز: لفظ فارسي بمعنى: معبر ما بين الباب والدار. ودخل إلى العربية بالمعنى نفسه ولا زال شائعا حتى الآن في البلاد الشامية.
(^٣) عن الهامش.
1 / 67