تورط إنجلز بنفسه في مصادمات ثورية غير ناجحة في بلدة إلبرفيلد مسقط رأسه في مايو 1849، لكن لم ينضم العمال والثوار إلى مجموعة المتمردين الصغيرة بأعداد تكفي لتشكيل تهديد كبير للسلطات؛ وفي يونيو انضم إلى القوات الثورية في جنوب غرب ألمانيا في حملتهم غير الناجحة ضد حكام بروسيا، وكان يريد بهذا - كما أخبر زوجة ماركس في أحد الخطابات - أن ينقذ سمعة صحيفة أستاذه ماركس (المراسلات المختارة لماركس وإنجلز). وفي أواخر عام 1849، سافر من سويسرا إلى جنوة وأبحر منها ليلحق بماركس الذي وصل لتوه إلى منفاه في لندن.
الفصل الخامس
إنجلز الماركسي
كان إنجلز أول الماركسيين، وكان تأثيره على الماركسية كبيرا؛ فقد كتب عددا هائلا من المقالات والكتيبات والمقالات النقدية، بالإضافة إلى عدد كبير من الكتب حولها طوال الفترة الممتدة من 1849 وحتى وفاته عام 1895. وفي كثير من هذه الأعمال حاول تفسير فرضيات ووجهات نظر ماركس، التي أسهم فيها إلى حد كبير. علاوة على ذلك، فقد أصبح مراجعا ومحررا لأعمال ماركس؛ إذ كان يكتب المقدمات للطبعات الجديدة من كتبه (والكتب التي اشترك معه في تأليفها)، وكذلك إعداد مخطوطات الأعمال الخاصة بماركس للنشر بعد وفاته عام 1883.
في السنة الأولى لتواجد إنجلز في إنجلترا، كان مشغولا للغاية في الفترة التي أعقبت الأحداث الثورية التي وقعت فيما بين عامي 1848 و1849، فقد كان يتوقع على نحو معقول للغاية استمرار تلك الأحداث بعد فترة من الهدوء الواضح. وعلى نحو مميز، كان أول مشاريع ماركس في ذلك الوقت هو الاستمرار في إصدار صحيفته السياسية، التي أصبحت الآن تحمل عنوانا فرعيا يصفها بأنها صحيفة نقد اقتصادي سياسي، واعدا بتقديم «استقصاء شامل وعلمي عن الأحوال «الاقتصادية» التي تشكل أساس الحركة السياسية بأسرها»؛ وكانت مهمة إنجلز هي بوضوح المساهمة في تقديم تحليل اجتماعي وتاريخي أوسع نطاقا إلى حد ما، يتناول «توضيح فترة الثورة التي حدثت للتو، وبيان شخصية الأطراف المتصارعة، والظروف الاجتماعية المحددة لوجود وصراع تلك الأطراف» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر). وخلال فترة الاثني عشر شهرا التي أعقبت نوفمبر 1849، نشر إنجلز (لكل من القراء الإنجليز والألمان) آراءه حول الأحداث الثورية فيما بين عامي 1848 و1849، والجدل السياسي الدائر حول قانون تحديد ساعات العمل للنساء والأطفال العاملين في المصانع في إنجلترا بعشر ساعات فقط؛ كما كتب أيضا سلسلة مقالات عن «حرب الفلاحين في ألمانيا»، في سعي لتذكير الشعب الألماني بالشخصيات «الخرقاء التي اتسمت رغم ذلك بالقوة والصلابة في حرب الفلاحين الكبرى.» وألقى نظرة على أحداث عام 1525 قائلا: «يمكننا أن نرى نفس الطبقات وأطياف الطبقات التي خانت الأحداث الثورية فيما بين عامي 1848 و1849 ... وإن كان بمستوى تطور أقل» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
اعتمدت طريقة إنجلز في كتابة التاريخ على تقديم الأدلة المطلوبة من مصادره لإثبات صحة وجهة نظر ماركس، القائلة بأن وجود الطبقات في المجتمع يعتمد على مراحل تطور الإنتاج، وأن طبقة البروليتاريا الحديثة هي فقط التي لديها ما يؤهلها لبدء عهد المجتمع اللاطبقي. واستعرض إنجلز تاريخ الصناعة الألمانية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر (صناعة الأقمشة وصناعة الأدوات المعدنية والطباعة)، واختلاف ألمانيا سياسيا عن النمط السائد في كل مكان في أوروبا؛ فقال في هذا الشأن:
في حين أدى ازدهار التجارة والصناعة في إنجلترا وفرنسا إلى تشابك مصالح البلد بأكمله، ومن ثم إلى المركزية السياسية، فإن ألمانيا لم يحدث بها أي شيء مغاير سوى تجمع المصالح في المقاطعات، حول بعض المراكز المحلية؛ وهذا أدى إلى انقسام سياسي؛ ذلك الانقسام الذي سرعان ما أصبح نهائيا إلى حد كبير باستبعاد ألمانيا من التجارة العالمية. وتوافقا مع تفكك الإمبراطورية الإقطاعية تماما ، أصبحت روابط الوحدة الإمبراطورية متحللة تماما؛ فالمدن الكبرى في الإمبراطورية أصبحت ذات سيادة مستقلة تقريبا، وبدأت تلك المدن من ناحية وفرسان الإمبراطورية من ناحية أخرى يكونون تحالفات؛ إما بعضهم ضد بعض أو ضد الأمراء أو الإمبراطور (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
كان تلخيصه للوضع الألماني ترديدا لما جاء في «البيان الشيوعي»؛ إذ قال: «شكلت الطبقات العديدة في الإمبراطورية - الأمراء والنبلاء والأساقفة والأرستقراطيون وسكان الحضر والعوام والفلاحون - كتلة محيرة للغاية؛ بسبب احتياجاتهم المتنوعة والمتصارعة.» وسار إنجلز على نهج كتاب «الأيديولوجية الألمانية»؛ فأظهر أن الخلافات الدينية في حقيقتها اجتماعية وسياسية، فقال: «كانت المعارضة الثورية للإقطاعية حية طوال العصور الوسطى، وقد اتخذت أشكال التصوف أو الهرطقة الصريحة أو التمرد المسلح، على حسب ظروف العصر.» وباستخدام هذا الإطار حدد إنجلز ثلاثة معسكرات أساسية؛ أولا: معسكر الكاثوليك المحافظين، وهم «كل الأشخاص الراغبين في استمرار الظروف الراهنة؛ وهم: السلطات الإمبريالية، والأمراء الذين يدينون بالولاء للكنيسة وجزء من الأمراء العلمانيين، والنبلاء الأثرياء، والأساقفة والأرستقراطيون من سكان المدن.» ثانيا: معسكر الإصلاح اللوثري الذي جذب المعتدلين؛ وهم: «كتلة النبلاء الأقل ثراء، وسكان الحضر بل وبعض الأمراء العلمانيين الذين كان لديهم أمل في تحقيق الثراء من خلال مصادرة أملاك الكنيسة.» وثالثا: معسكر الفلاحين والعوام الذي يمثل «الطرف «الثوري» الذي شرح [توماس] منتسر مطالبه ومعتقداته بمنتهى القوة» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
كان إنجلز متعاطفا للغاية مع منتسر، لكن السرد المطول لأحداث حروب الفلاحين التي دارت في عشرينيات القرن السادس عشر، لم يكن بأي حال من الأحوال مجرد مديح لبطل يساري. لقد كان القائدان لوثر ومنتسر بحق «انعكاسا» لتوجهات الطبقة التي يمثلهما؛ فتردد لوثر كان مشابها للسياسات المترددة التي ينتهجها سكان الحضر، وكان حماس منتسر الثوري مشابها لذلك الخاص بالعوام والفلاحين الأكثر تقدما، إلا أن منتسر تجاوز مطالبهم المباشرة إلى حد بعيد، وبقيامه بهذا وجد نفسه في موقف يصعب التعامل معه؛ «إن أسوأ شيء يمكن أن يحدث لقائد حركة متطرفة هو تسلم السلطة في وقت تكون فيه الحركة ليست مستعدة بعد للسيطرة على الطبقة التي يمثلها ذلك القائد.» ولم تكن حركة منتسر ولا الظروف الاقتصادية التي وجد نفسه فيها مناسبة للتغيرات الاجتماعية التي تصورها، والتي كانت متمثلة في الملكية المشتركة والتزام الجميع بالعمل، وإلغاء كافة أشكال السلطة. إن تلك التغيرات الاجتماعية على الرغم من أنها كانت ممكنة فعليا وفي طريقها للتحقق، فإنها كانت - كما رأى إنجلز - تمثل تحولا من المجتمع الإقطاعي إلى البرجوازي؛ أي إنها تقدم نظاما تجاريا تنافسيا مناقضا تماما لأفكار منتسر. وفي ظل هذه «المعضلة التي لا حل لها»، فإن الأمور التي يمكن للقائد أن يفعلها «تتعارض مع كل أفعاله ومبادئه السابقة والمصالح المباشرة للطبقة التي يمثلها، والأمور التي «يجب» أن يفعلها لا يمكن إنجازها» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
وعلى الرغم من أوجه الشبه بين الأحداث الثورية فيما بين عامي 1848 و1849 وثورة 1525 - التي قسمت وحددت القوى الثورية التي تحارب الخصوم على أساس الانتماء إلى اليمين واليسار - فقد توقع إنجلز نجاح الحركة الثورية المعاصرة؛ لأنها لم تكن شأنا محليا، بل كانت جزءا من حدث أوروبي النطاق (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
ناپیژندل شوی مخ