مقدمة
المراجع المقتبس منها
1 - إنجلز وماركس
2 - إنجلز الصحفي
3 - إنجلز الشيوعي
4 - إنجلز الثوري
5 - إنجلز الماركسي
6 - إنجلز العالم
7 - إنجلز والماركسية
قراءات إضافية
ناپیژندل شوی مخ
مصادر الصور
مقدمة
المراجع المقتبس منها
1 - إنجلز وماركس
2 - إنجلز الصحفي
3 - إنجلز الشيوعي
4 - إنجلز الثوري
5 - إنجلز الماركسي
6 - إنجلز العالم
7 - إنجلز والماركسية
ناپیژندل شوی مخ
قراءات إضافية
مصادر الصور
إنجلز
إنجلز
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
تيريل كارفر
ترجمة
صفية مختار
مراجعة
ناپیژندل شوی مخ
مصطفى محمد فؤاد
مقدمة
على الرغم من كثرة الكتب التي تتناول ماركس والماركسية، فقليلة هي الكتب التي تتحدث عن إنجلز، وربما يوجد عدد أقل من تلك الكتب التي تتناول إنجلز بطريقة جدية بصفته واحدا من المفكرين. في هذا الكتاب، حاولت تقديم دراسة دقيقة وموجزة عن أفكار إنجلز، وإلى حد كبير أتحت له فرصة التعبير عن نفسه؛ نظرا لأن كلماته واضحة على نحو مناسب. لقد كان جل هدفي هو إثارة اهتمام القارئ بأفكار إنجلز وتأثيراتها على كل من العلوم الاجتماعية والسياسية المعاصرة.
إنني ممتن لجامعة ليفربول لمنحها إياي إجازة دراسية كي أتمكن من الشروع في تأليف هذا الكتاب، كما أنني مدين بالشكر لكل من دعموا جهودي، ومدين أيضا لطلابي في الجامعة. وأود أن أتوجه بالشكر إلى كاثرين بين وماري وودز على الاهتمام الدقيق والفائق بالنسخة الأولية المطبوعة، وأشكر أيضا لاري وايلد وهنري هاردي وكيث توماس على اقتراحاتهم المفيدة للغاية، والشكر موصول أيضا للقارئ مجهول الهوية الذي استفدت كثيرا من آرائه.
وأود إهداء هذا الكتاب إلى ديفيد ماكليلان.
تيريل كارفر
بريستول
سبتمبر 1980
المراجع المقتبس منها
استعنت بثلاث مجموعات من أعمال كارل ماركس وفريدريك إنجلز؛ لأنه وقت تأليف الكتاب كانت مجموعة «الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز» قد غطت الفترة حتى عام 1854 فحسب. وفيما يتعلق بالاقتباس من هذه المجموعات وغيرها من الأعمال التي سأرد على ذكرها في هذا القسم، فسأذكر بين قوسين المصدر متبوعا برقم المجلد، إن وجد. «الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز» (لورانس آند ويشرت، لندن، 1975). «الأعمال المختارة لماركس وإنجلز» في مجلدين (لورانس آند ويشرت/فورين لانجويدجيز ببلشينج هاوس، لندن/موسكو، الطبعة الخامسة، 1962). وقد استخدمت تلك المجموعة لأنها تضم مادة ليست موجودة في النسخة ذات المجلد الواحد الموجودة تحت الطبع حاليا. «أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية» (ديتس، برلين، 1956). في حالة عدم توافر ترجمة إنجليزية لأي من الأعمال أو عدم وجودها على الإطلاق، أقوم بترجمة فقرات بنفسي من هذه المجموعة.
ناپیژندل شوی مخ
أما الأعمال الأخرى التي اقتبست منها، فهي كالتالي: «الرد على دوهرينج» لفريدريك إنجلز (لورانس آند ويشرت، لندن، 1969). «رأس المال» لكارل ماركس، المجلد الأول، تحرير: فريدريك إنجلز، وترجمة: صامويل مور وإدوارد أفلينج (لورانس آند ويشرت/بروجرس، لندن/موسكو، 1954، أعيد طبعه في عام 1974). «جدل الطبيعة» لفريدريك إنجلز، ترجمة: كليمنس دوت (فورين لانجويدجيز ببلشينج هاوس، موسكو، 1954). «المراسلات المختارة لماركس وإنجلز» لكارل ماركس وفريدريك إنجلز، ترجمة: آي لاكسر (الطبعة الثانية، بروجرس، موسكو، 1965).
قمت في بعض الأحيان بعمل تغييرات طفيفة في الترجمات الإنجليزية الموضحة أعلاه بغرض التوضيح أو الدقة، وقمت بوضع إضافاتي في المادة المقتبسة بين قوسين معقوفين.
إن الاقتباسات من مجموعتي «الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز» و«الأعمال المختارة لماركس وإنجلز» منشورة بتصريح من دار نشر لورانس آند ويشرت.
الفصل الأول
إنجلز وماركس
كان إنجلز شريكا في أحد الإسهامات الفكرية الأكثر شهرة على مر التاريخ، وعلى الرغم من أنه وفقا لاعترافه كان الشريك الأقل نصيبا في هذا الإسهام، فلقد كان في واقع الأمر أكثر تأثيرا من الناحية السياسية مقارنة بشريكه صاحب النصيب الأكبر في هذا الإسهام، ويأتي هذا التأثير من خلال شروحه لأفكار كارل ماركس التي أدت إلى انتشارها على نحو كبير.
غير أن إنجلز كانت له أيضا أفكار خاصة به، وفي هذا الكتاب، سوف أحاول التعريف بتلك الأفكار وتقييمها. اعترف ماركس نفسه بأنه قد تأثر إلى حد كبير بأعمال إنجلز، وتوجد بطبيعة الحال الأعمال الشهيرة التي كتبها إنجلز بالاشتراك مع ماركس، وسوف أقوم بمناقشة إسهام إنجلز في تلك الأعمال، بقدر ما يمكن تحديدها.
عكف إنجلز في معظم حياته على تأليف أعماله الخاصة ونشرها باسمه، وهنا نجد المشاكل الأكثر صعوبة والأكثر أهمية فيما يتعلق بفكره؛ فإلى أي مدى كان إنجلز يدعم عمل ماركس في النواحي التي كلفه بها؟ وهل من الممكن قراءة أعمال إنجلز المستقلة كما لو كانت مكتوبة بالاشتراك مع ماركس؟ وهل ماركس وإنجلز يتحدثان دائما بصوت واحد، حتى عندما يكتب كل منهما وينشر أعماله على نحو مستقل عن الآخر؟ إجابات هذه الأسئلة مهمة؛ لأن إنجلز كان له تأثير هائل من خلال شخصه ومن خلال كتاباته عن تطور الماركسية، لا سيما في الأعمال التي انتشرت على نطاق واسع بعد وفاة ماركس. وفي كثير من الحالات، كانت تلك الأعمال مصممة لتكون شروحا لأعمال ماركس أو لأعمال اشترك ماركس وإنجلز في تأليفها، أو اعتبر أنها شروح لأعمالهما. وكثير من الاشتراكيين اعتبروا أعمال إنجلز الأخيرة أعمالا مرجعية ومحكمة، وتحول الكثيرون إلى الماركسية بالكامل بناء على هذا الأساس.
ليس من التفاهة على الإطلاق التساؤل حول ما إذا كان ماركس وإنجلز قد اتفقا أو اختلفا في أي موضوع من الموضوعات، أو حول ما إذا كانت أعمال كل منهما تناقض أعمال الآخر، أو تظهر أي اختلاف واضح. وإذا كان هناك أي اختلافات كبيرة بين الاثنين (كما أعتقد)، فعندها تصبح الماركسية ظاهرة يصعب وصفها للغاية، ويصبح لزاما أن تبوء بالفشل منذ البداية كل محاولات تقديمها كنظرة عالمية موحدة منهجية.
لم يتجاهل كتاب السير الذاتية تأليف أعمال تروي قصة حياة إنجلز؛ فقد قدموا لنا عملين مطولين، بالإضافة إلى عدد من الأعمال المختصرة؛ بيد أن ما ينقص الأعمال التي تناولت إنجلز هو معالجتها لحياته الفكرية التي لا يسيطر عليها دائما شبح ماركس.
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الثاني
إنجلز الصحفي
شهدت الحياة المهنية لإنجلز بداية مشرقة؛ ففي سن السابعة عشرة، نشر له بعض الأعمال الشعرية، وفي سن الثامنة عشرة كان صحفيا تتسم مقالاته بالنقد اللاذع؛ الأمر الذي أدى إلى نفاد طبعة كاملة من إحدى صحف مدينة هامبورج التي كان يكتب لها. وكان عمله «رسائل من فوبرتال» الذي نشر في ربيع عام 1839 هجوما مثيرا على النفاق في بلدتي إلبرفيلد وبارمن الممتدتين بمحاذاة وادي نهر فوبر، وتلك هي منطقة راينلاند التي ولد فيها فريدريك إنجلز في الثامن والعشرين من نوفمبر من عام 1820. ونظرا لأن عائلة إنجلز كانت على مدار أجيال عائلة ثرية تمتلك المصانع، فقد استخدم إنجلز الشاب اسما مستعارا، وبالرغم من ذلك، لم تكن هويته المرادفة لاسمه المستعار «أوسفالد» بسر محجوب عن أصدقائه، وبمجرد أن انكشفت تلك الهوية السرية، ظهرت الشخصية الجدية للغاية لإنجلز الذي قال: «كل ما كتبته كان مبنيا على بيانات مثبتة شهدتها بعيني أو سمعتها بأذني» (الأعمال الكاملة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
استخدم إنجلز عينيه وأذنيه استخداما ناجحا وفعالا إلى أبعد الحدود، وكان تصويره الظروف المادية والاجتماعية لذلك المجتمع الصناعي الصغير في واقع الأمر تصويرا دقيقا وحادا للغاية. وقدم تلوث نهر فوبر بفعل المصابغ وكذلك معاقرة السكان المفرطة للشراب؛ صورة من التردي البصري والثقافي لهذا المجتمع وسكانه، وتمثل هذا التردي في إحدى الكنائس الكاثوليكية «التي أعيد بناؤها على نحو سيئ على يد مهندس معماري غير متمرس على الإطلاق، بالرغم من تخطيطها الأصلي بالغ الروعة»، كما أن المتحف المجاور لتلك الكنيسة ذات الأعمدة «مصرية الطراز في الجزء السفلي منها، ودوريسية الطراز في المنتصف، وأيونية الطراز في القمة»، قد أصبح الآن ناديا للقمار بعد بيعه. وكتب إنجلز فقال: «لم يكن ثمة أي أثر للحياة الصحية المفعمة بالحيوية، التي تميز الشعب الألماني، والتي توجد تقريبا في كل مكان في ألمانيا»، وكان سبب ذلك هو المصانع (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
شكل 2-1: متحف منزل عائلة إنجلز في بارمن (فوبرتال حاليا)، ألمانيا، حيث ولد فريدريك إنجلز عام 1820.
تضافرت عوامل شتى مثل عمالة الأطفال، والغرف المكتظة التي تضيق بأهلها، والعمل الشاق، والهزال الشديد، والفقر المدقع، والإفراط في تناول الخمور، ومرض الزهري، وأمراض الجهاز التنفسي، وأبخرة الفحم، وغبار المصانع، وقلة الأكسجين، لتسفر عن المعاناة الشديدة لسكان وادي نهر فوبر. وزعم إنجلز أن العمال كانوا مقسمين إلى صنفين هما: البر والفاجر، وكان لأصحاب المصانع الأثرياء - بحسب وصفه - «ضمير خرب». وكان من بين ملاك المصانع فئة المسيحيين المتشددين الذين «كانوا يعاملون عمالهم أسوأ معاملة على الإطلاق»؛ فكانوا يقتطعون من أجورهم كي يمنعوهم من معاقرة الخمر، لكنهم هم أنفسهم كانوا يقدمون الرشاوى في انتخابات اختيار الوعاظ. لقد كان البروتستانت المنافقون مثار غضب إنجلز؛ فقال إنهم يبدون: «تعصبا شديد البربرية ... ويفتقرون إلى الروح الكاثوليكية إلى حد بعيد.» فكان الويل للواعظ «الذي يرونه مرتديا سترة طويلة ذات لون يميل إلى الزرقة، أو يرتدي صدرية مخالفة للون المقرر من قبلهم.» ورأى إنجلز أن الوعاظ المحليين أناس جهلاء، وأدان أنشطتهم التي اكتنفت كل جانب من جوانب الحياة وأفسدته، ولم تقتصر فقط على النظام التعليمي الذي كان إنجلز قد تركه منذ فترة قريبة للغاية؛ فقد سأل طالب في الصف الرابع أحد هؤلاء المدرسين - بحسب رواية إنجلز - عن جوته، فأجابه قائلا: «إنه ملحد.» وكان الصحفيون والشعراء المحليون ينالون أيضا حظهم من النقد والهجوم، وكان من بينهم رجل يدعى «فولفينج»، قال عنه إنجلز إنه: «رجل ذو عبقرية لا تخطئها عين ... فرأسه تكلله قلنسوة خضراء، وفي فمه وردة، وفي يده زر خلعه للتو من سترته الطويلة؛ إنه هوراس بارمن.» واختتم إنجلز كلامه قائلا إن المنطقة بأكملها واقعة في مستنقع الرجعية وضيق الأفق (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
وفي خطاب مفتوح موجه لأحد منتقدي مقالاته، أوضح إنجلز أنه «في كل رسائله اعترف بوجود كفاءة لكن في حالات فردية»، واستطرد قائلا: «لكنني بوجه عام لم أستطع أن أجد أي جوانب مشرقة تماما» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). ونظرا لكون «رسائل من فوبرتال» هجوما على النفاق السائد في المنطقة التي كان يعيش فيها، وعلى ظلاميتها وزيفها وذوقها الفاسد، فقد كانت تلك الرسائل نابضة بالواقعية الواضحة على نحو استثنائي، ولقد كان تقديم سرد قائم على شهادة عيانية لأوائل العصر الصناعي هو بالتأكيد أساس وجهة نظر إنجلز، وهذا ما أكسب العمل مزيدا من الإثارة والقدرة على التنبؤ بالمستقبل.
تشكلت معتقدات واهتمامات إنجلز الشاب على يد أسرته والمدارس التي تلقى العلم فيها، وكذلك من خلال مجتمعه، وكلها كيانات أظهر لها العداء الشديد في فترة المراهقة. طالما كان أسلافه رجال صناعة بارزين ومن علية القوم في بارمن وما حولها منذ أيام والد جده، تاجر الخيوط الذي يعتبر مؤسس مصانع تبييض الأقمشة وتصنيع الأشرطة والأربطة في المنطقة، وفي النصف الثاني من القرن الثامن عشر، أصبح وادي نهر فوبر واحدا من أكثر المناطق الصناعية كثافة في ألمانيا. وزاد من وطأة الرجعية القمعية التي كانت تمارسها مدرسة إنجلز ومجتمعه عليه حركة تسمى التقوية، وهي حركة بروتستانتية بيوريتانية ازدهرت في أعقاب الثورة الفرنسية، لكن لم تتمكن المسيحية الأصولية من مقاومة العقلانية المتحفظة لدى بعض أساتذة مدرسة إنجلز الثانوية، وعندما ترك إنجلز المدرسة (قبل أن يتم عامه السابع عشر بقليل)، كانت آراؤه النقدية قد بدأت في التشكل. وبعد ذلك، وبعد أن بلغ إنجلز عامه الثامن عشر، انتقل لبريمن لاكتساب الخبرة في التجارة الخاصة بالتصدير، وخلال السنة التي قضاها في العمل في تجارة والده، قرأ إنجلز بتمعن واضح بعض الأعمال العقلانية، مثل كتاب «حياة يسوع» المنشور عام 1835 للكاتب ديفيد فريدريش شتراوس، ذلك الكتاب الذي أخضع الأناجيل لفحص تاريخي دقيق. وأثناء العمل في المدينة الحرة، احتسى الخمر أيضا ودخن السجائر وغنى ولعب لعبة المبارزة بالسيف، ومارس السباحة وذهب إلى المسرح والأوبرا، وتداين، ودرس، وفعل غيرها من الأمور التي يفعلها الشباب الصغار عندما يتركون بلداتهم؛ كما كون صداقات مع ليبراليين وراديكاليين من حركة ألمانيا الشابة، التي كانت تطالب بوضع نهاية للاتجاه المحافظ ضيق الأفق الذي كان يسعى فقط للحفاظ على سلطته في كل من الدين والنقد الأدبي والسياسة.
شكل 2-2: فريدريك إنجلز في سن التاسعة عشرة.
وعلى مدار السنوات فيما بين 1839 و1842، أثبت إنجلز نفسه ناقدا سياسيا وأدبيا بما يقرب من خمسين مقالة وكتيبا، ومن بين تلك الأعمال عمل يصف المكان الذي يسافر فيه الفقراء على متن سفينة متجهة إلى أمريكا، والذي وصفه بأنه عبارة عن: «صف من المضاجع ... يتكدس فيه الرجال والنساء والأطفال جنبا إلى جنب مثل أحجار الرصف في الشارع.» وقال عن الأشخاص المسافرين في هذا المكان إنهم أناس «لا يعيرهم أحد اهتماما أو احتراما مطلقا»، وإنهم كانوا يجسدون مشهدا حزينا. لقد كان المشهد أشبه بما يكون عليه الحال عندما «تلقي عاصفة هائلة كل شيء في دوامة الفوضى» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
ناپیژندل شوی مخ
من ناحية أخرى، كان لإنجلز اهتمامات أخرى غير الصحافة المهتمة بالنواحي الاجتماعية؛ فأثناء تواجده في برلين خلال الفترة ما بين 1841 و1842 لأداء الخدمة العسكرية في لواء المدفعية، التحق بالجامعة بصفته طالبا غير مقيد. لقد اتخذ إنجلز الناقد الاجتماعي والأدبي، الذي كان يحمل الاسم المستعار «فريدريك أوسفالد»، بعد ذلك علم اللاهوت والفلسفة هدفين جديدين له، وذلك للدفاع عن «الهيجليين الشباب» الليبراليين الناقدين ضد الهجوم المدعوم رسميا الذي يشنه فريدريش فون شيلينج، أستاذ الفلسفة الذي انتقل حديثا من ميونيخ.
سل أي شخص في برلين عن الميدان الذي تدور عليه معركة السيطرة على الرأي العام الألماني فيما يخص السياسة والدين؛ أي بالأحرى من أجل السيطرة على ألمانيا نفسها، وإذا كان لديه أدنى فكرة عن سيادة العقل على العالم، فسوف يجيب بأن ساحة المعركة هي الجامعة، وبصفة خاصة قاعة المحاضرات رقم 6 [التي يحاضر فيها شيلينج] (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
كانت تأملات جورج فيلهلم فريدريش هيجل عن الوعي والوجود والتاريخ والدولة والدين والطبيعة وغيرها من الموضوعات العديدة التي لا يمكن حصرها؛ تجريدية إلى حد كبير. علاوة على ذلك، فقد كانت بعض كتاباته غامضة؛ فالاستنتاجات التي توصل إليها ربما لم تكن هي الاستنتاجات الوحيدة التي يمكن استنتاجها من تحليلاته الفلسفية - أو ربما لم تكن الاستنتاجات الأوفر حظا في إمكانية دعمها. وتعارضت فلسفته عن الدين، المتوافقة مع التأويلات الخاصة بمذهب الواحدية، مع تعليقاته المؤيدة للوثرية واعتناقه المعلن لها. وبالمثل، فإن دفاعه عن دولة بروسيا لم يكن نتيجة واضحة لتفكيره المنطقي في أمور الاقتصاد والسياسة، وكان الهيجليون في ثلاثينيات القرن التاسع عشر يتبنون وجهات نظر متباينة حول تلك الأمور، لكن من غير المفاجئ أنهم كانوا يتبنونها ضمن مجموعتين محددتين؛ فأيد اللوثريون التقليديون تعليقات هيجل المؤيدة لمملكة بروسيا، أما أصحاب الفكر الحر منتقدو الدين عامة والمسيحية خاصة، فقد كانوا يميلون لأن يكونوا ليبراليين من الناحية السياسية مطالبين بحكومة تمثيلية في ألمانيا، إلا أنهم كانوا مضطرين إلى المطالبة بذلك بتحفظ في الفترة السابقة على تحرير الرقابة على الصحافة في عام 1840؛ وكانت وجهة النظر الأخيرة هي التي يتبناها الهيجليون الشباب، الذين انتشروا في برلين وفي الجامعات الأخرى في ألمانيا في أوائل أربعينيات القرن التاسع عشر، ويبدو أن إنجلز قد قرأ لهيجل لأول مرة أثناء إقامته في بريمن.
وعلى الرغم من أن هيجل كان قد توفي قبل ذلك بعشر سنوات، فقد قال عنه إنجلز إنه: «حي أكثر من ذي قبل في تلاميذه.» وعلى الجانب الآخر، فقد نعت شيلينج بأنه: «ميت فكريا منذ ثلاثة عقود.» لقد آمن - بحسب قوله - «هيجل الطيب الساذج بحق العقل في الوجود»، والهيجليون الشباب الراديكاليون اتخذوا هذا شعارا لهم. وكان إنجلز يرى أن وجهة نظر شيلينج تتمثل في أن فلسفته كانت «مجرد ترهات لا توجد إلا في رأسه، ولا يعزى لها الفضل في أي تأثير على العالم الخارجي.» عارض إنجلز/أوسفالد ورفاقه الهيجليون الشباب وجهة النظر تلك، وكانوا واثقين في أنفسهم إلى حد كبير، فقال إنجلز: «لم ينجذب الشباب إلى وجهة نظرنا بهذه الأعداد من قبل، ولم تكن الموهبة «حليفتنا بهذا القدر الرائع مثلما يحدث الآن».» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
وسرعان ما تبع ذلك كتيب لم يوقعه إنجلز باسمه، حمل عنوان: «شيلينج والوحي: نقد لأحدث محاولة للتصدي للفلسفة الحرة»، وفي هذه المساحة الكبرى التي أتيحت لإنجلز، قدم دليلا للإنسان العادي حول حركة الهيجليين الشباب في ألمانيا، وما زال هذا الكتيب قابلا للقراءة، وما زال يعتبر رواية يعتمد عليها، ويعد إلى حد كبير الأكثر إثارة. وكتب إنجلز أن مبادئ فلسفة هيجل كانت «مستقلة وواسعة الأفق تماما»، لكن الاستنتاجات كانت «متحفظة في بعض الأحيان، بل ضيقة الأفق أيضا.» لقد كانت أفكار الفيلسوف الكبير «متأثرة بعصره من ناحية، ومتأثرة بشخصيته من ناحية أخرى»؛ عانت آراؤه السياسية وفلسفته حول الدين والقانون من تناقض داخلي تمثل في مبادئ راديكالية واستنتاجات محافظة خاطئة متعلقة بالمجتمع والمسيحية والسياسة. وعدد إنجلز أعمال الفلاسفة الجدد النقديين - أمثال أرنولد روجه، وديفيد فريدريش شتراوس، ولودفيج فيورباخ، وبرونو باور - والصحف التي نشروا فيها مقالاتهم ومدحهم. «لقد سقطت كل المبادئ الأساسية للمسيحية، بل سقط كل ما كان معروفا حتى تلك اللحظة باسم الدين، أمام نقد العقل المستمر بلا هوادة.» وبالرغم من ذلك، فقد استدعت «الدولة المسيحية الملكية» شيلينج للمشهد مرة أخرى للدفاع عن التقليد في الدين والسياسة، واعتقد إنجلز أن هذا الدفاع لم يكن ذا قيمة ووصفه بأنه: «أول محاولة لدس الإيمان بالعصبية العقائدية والتصوف العاطفي والخيالات الغنوصية في علم التفكير الحر.» وبعد نقد مطول، نصح إنجلز قراءه بأن «يبتعدوا عن مضيعة الوقت تلك»؛ لقد رأى أن هيجل قد «أسس عصرا جديدا للوعي»، وأن كتاب «جوهر المسيحية» للكاتب فيورباخ - الذي كان قد نشر لتوه - كان «تكملة ضرورية لطريقة استخدام الفلسفة التأملية باعتبارها وسيلة لفهم الدين، تلك الطريقة التي أسسها هيجل.» أوضح فيورباخ أن الإنسان في الدين يسقط صفاته الخاصة على رب خيالي، وبسبب ذلك توصل إنجلز إلى الاستنتاج القائل بأن: «كل شيء قد تغير» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
واختتمت حملة إنجلز التي شنها ضد شيلينج بكتيب آخر لم يوقع عليه باسمه، وثمة زعم قائل بأن هذا الكتيب مكتوب من قبل أحد وعاظ حركة التقوية، من أمثال الوعاظ الذين عرفهم إنجلز معرفة جيدة منذ أن كان يعيش في فوبرتال. أثنى هذا الواعظ على شيلينج لمهاجمته الفلسفة وسحبه البساط من تحت قدميها وتغلبه على حجتها القائمة على العقل، وقال إن «المحنكين» - الهيجليين الشباب، بلا شك - «انتقدوا كلمة الرب بهذا العقل الفاسد ... ليجعلوا من أنفسهم ربا مكانه.» وامتدح شيلينج لأنه انتقد «هيجل سيئ السمعة» الذي «اعتز كثيرا بالعقل لدرجة أنه أعلن بوضوح أن العقل هو الرب، عندما رأى أن العقل لا يمكن أن يوصله لرب حقيقي أعلى من الإنسان»، وقال هذا الواعظ إن شيلينج «أعاد الأيام الخوالي الجميلة التي كان فيها العقل يخضع للإيمان.» واستطرد قائلا إنه في برلين يوجد «رجال مثقفون» وفلاسفة وعلماء «وكتاب غير ملتزمين بالمنهج المسيحي يتسمون بضحالة الفكر »، ومنافقون «يتدخلون بصخب شديد في شئون الحكومة بدلا من أن يتركوا شئون الحكم للحاكم»، هؤلاء «الغاوون ... منتشرون في أنحاء ألمانيا، ويريدون أن يتسللوا إلى كل مكان» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). وتبع ذلك نشوب معركة مرضية للغاية في الصحافة.
شكل 2-3: رسم كاريكاتيري رسمه إنجلز لنفسه، في أغسطس 1840: «أرجوحتي الشبكية تضمني وأنا أدخن السيجار.»
نشرت مقالات إنجلز التالية في صحف المعارضة في كولونيا وفي ليبزيج وفي الخارج في سويسرا، وقد تحول إنجلز من كونه صحفيا ليبراليا ليصبح ليبراليا، وفي ظل عهد الملك فريدريك فيليام الرابع ملك بروسيا كان هذا الأمر كفيلا بجعله ثوريا. وكتب إنجلز فقال: «يتزايد تركيز الرأي العام في بروسيا أكثر وأكثر على مسألتين؛ ألا وهما: الحكومة التمثيلية، وحرية الصحافة على وجه الخصوص»، وهذه مطالب ليبرالية تقليدية (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). وفيما يتعلق بالمسألة الثانية، فقد اقتبس إنجلز في إحدى مقالاته المادة رقم 151 من قانون العقوبات في بروسيا، التي تمنع «النقد الفج وغير المحترم والسخرية من قوانين الأراضي والمراسيم الحكومية»، وأعلن قائلا: «أنا صادق على نحو كاف بحيث أقول إنني عاقد النية على إثارة السخط والاستياء ضد المادة رقم 151 من قانون العقوبات في بروسيا.» واقترح «الاستمرار في استخدام الأسلوب الحسن النية والمهذب الموضح هنا لإثارة أكثر من مجرد بعض السخط والاستياء ضد كل الأمور الرجعية وغير الليبرالية الموجودة في مؤسسات دولتنا» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). وفيما يتعلق بالمسألة الأولى - الحكومة التمثيلية - علق إنجلز (مستخدما علامة الحذف على نحو مؤثر) فقال: «الوضع الحالي في بروسيا قريب الشبه بالوضع في فرنسا قبل ... لكني أنأى بنفسي عن أي استنتاجات سابقة لأوانها» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
الفصل الثالث
إنجلز الشيوعي
ناپیژندل شوی مخ
كانت أولى زيارات إنجلز إلى إنجلترا عبارة عن رحلة قصيرة في صيف عام 1838، وخلد ذكرى تلك الرحلة بعد عامين (عندما بلغ إنجلز عامه العشرين) في بعض التعليقات الرومانسية إلى حد يحبس الأنفاس لكنها كانت مميزة أيضا، واصفا المناظر الطبيعية فيما بين لندن وليفربول قائلا : «إذا كانت ثمة أرض يجب أن يعبرها المرء عبر السكك الحديدية، فهذه الأرض هي إنجلترا» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). وفي رحلته التالية لإنجلترا في أواخر عام 1842، صاحب مواهب إنجلز في السرد الوقائعي العياني وعي سياسي زاد عمقه المعارك التي شهدها في برلين؛ فبعد أن رافق في الحرب أشخاصا يتسمون بالدوجماتية والظلامية والرجعية والتشدد، استخدم إنجلز العقلانية الثورية الجديدة لتناول الحياة الإنجليزية؛ وفي هذه المرة، كانت تحت إمرته إحدى صحف كولونيا الراديكالية، وشرع في العمل على الفور.
ومن لندن هاجم «الطبقات الحاكمة، سواء أكانت الطبقة الوسطى أم الطبقة الأرستقراطية، سواء أكانوا من حزب الويج أم من حزب التوري»؛ بسبب عمى بصيرتهم وتعنتهم؛ حيث كانوا دائما معارضين لنظام الاقتراع العام؛ لأنه في هذه الحالة من الممكن أن يفوقهم في عدد الأصوات في مجلس العموم أشخاص من غير ذوي الأملاك. وكانت الحركة الميثاقية، وهي حركة شعبية تسعى للإصلاح الليبرالي، قد «بدأت تتطور بهدوء بمعدلات هائلة»، وكتب إنجلز مهددا بكارثة تنتظر «حزبي الويج والتوري الإنجليزيين» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
أثناء وجود إنجلز في برلين في الفترة ما بين عامي 1841 و1842، عكس تطوره السياسي التطور الذي مر به الهيجليون الشباب؛ فبعد تخفيف الرقابة على الصحافة، تحولت آراؤهم السياسية من الدفاع عن الحالة العقلانية المتسقة على نحو أو آخر مع الرؤية الهيجلية، إلى النقد الصريح لهيجل، ورفض ليبرالية الطبقة الوسطى، ثم توجهت للدفاع عن الديمقراطية والنظام الجمهوري والإصلاح الاجتماعي الذي يصب في صالح الفقراء. واستخدم كثير من الكتاب في ذلك الوقت «الاشتراكية» و«الشيوعية» على نحو متبادل، غير أن الشيوعيين كانوا يعتبرون أكثر راديكالية من الاشتراكيين، وكان من أوائل الشيوعيين الألمان شخص يدعى موشيه هس، ناقش الشيوعية على نحو مطول مع إنجلز عندما تقابلا في كولونيا، ونقل له مذهبا متفائلا يقوم على الإلحاد والثورة الأخلاقية. وفي مقالته التالية، لم يتناول إنجلز تقريبا أي موضوع سوى إعلان أنه أصبح شيوعيا.
يجب ألا يفاجئنا أن كاتب «رسائل من فوبرتال» قد وجد الشيوعية أمرا مناسبا له، إلا أن الوضع في كولونيا كان يحتاج لمقالته التي نشرت في التاسع أو العاشر من ديسمبر 1842. ففي مجموعة التحرير التي كان إنجلز يزورها مرتين قبل السفر إلى إنجلترا، كانت تتم مناقشة نظريات عن الثورة الاجتماعية الشاملة والملكية المشتركة وتحرير الإنسان، وقد أثار إنجلز إلى حد كبير الاهتمام الموجه إلى الصناعة الحديثة وفقر الطبقة العاملة والإلحاد في سياق الثورة الاجتماعية والسياسية، وكان هذا الشكل من الشيوعية على وجه الخصوص - الذي لم يكن مذهبا واضح المعالم بأي حال من الأحوال - هو المذهب الذي اختار إنجلز تطويره. وربما لم يكن «فريدريك أوسفالد» ليتوصل إلى تلك الاستنتاجات بنفسه، ولم تكن بالتأكيد هي الطريقة الوحيدة للمضي قدما بعد تعليقات فوبرتال، إلا أن إنجلز كان مقتنعا بها، واستخدم مهاراته التحليلية والصحفية لتقديم الدعم وإضفاء الحيوية على الأفكار المجردة التي وجدها مقنعة ومثيرة للغاية.
قدمت مقالة «الأزمات الداخلية» تناولا يتسم بالخصوصية والمعقولية الهائلتين، وكانت بالفعل تمهيدا نظريا لرائعة إنجلز «حالة الطبقة العاملة في إنجلترا» التي نشرها عام 1845؛ وفي هذه المقالة تساءل إنجلز بجرأة عما إذا كان نشوب ثورة في إنجلترا أمرا ممكنا أم محتملا. وفي هذه المقالة قال إنجلز: «اطرح هذا السؤال على أي رجل إنجليزي»، وسوف يقدم لك «ألف سبب وجيه يثبت أنه لا يمكن أن يوجد أي احتمال لحدوث ثورة على الإطلاق.» على سبيل المثال ثروة إنجلترا وصناعاتها، ومؤسساتها، ودستورها المرن، وحقيقة أن أي إخلال بالنظام العام لن يؤدي إلا إلى البطالة والمجاعة. إلا أنه عند تبني الرجل الإنجليزي هذا الرأي، فإنه «ينسى الأساس بسبب مظهر السطح.» وبعد ذلك قدم إنجلز تحليلا اقتصاديا لإنجلترا الصناعية؛ فقال إنها دولة تعتمد على التجارة، ومجبرة باستمرار على زيادة الناتج الصناعي، وأوضح إنجلز أن تعريفات الحماية الجمركية قد رفعت من سعر البضائع الإنجليزية وكذلك مستوى الأجور في إنجلترا، وأن التجارة الحرة سوف تؤدي إلى تدفق البضائع المستوردة إلى حد كارثي، فضلا عن تدمير الصناعة الإنجليزية، وأشار إلى أن الأسواق الإنجليزية قد بدأت تسقط أمام الأسواق الألمانية والفرنسية؛ وهكذا انكشف فلسفيا من خلال ملاحظته المباشرة «التناقض الكامن في مفهوم الدولة الصناعية». وبين إنجلز أن أقل انخفاض في التجارة سوف يحرم جزءا كبيرا من الطبقة العاملة من قوتها؛ فحدوث أزمة تجارية واسعة النطاق سوف يترك طبقة كاملة بلا أي شيء على الإطلاق، واستطرد قائلا إن نصف الإنجليز تقريبا ينتمون لطبقة «غير ذوي الأملاك، المعدمين تماما، وهي طبقة تعيش على حد الكفاف، ويتضاعف عددها سريعا»، وأردف قائلا إن التحالف الذي تم مؤخرا بين مجموعة غير منظمة من العمال المضربين وأعضاء الحركة الميثاقية في أحداث شغب عام 1842، قام على وهم هو القيام بالثورة من خلال وسائل مشروعة. وقال إنجلز دون أن يسوق أي دليل إن «المحرومين» قد اكتسبوا شيئا مفيدا؛ ألا وهو إدراك أن «القضاء القسري على الظروف القاسية الحالية» هو وحده الذي يمكنه تحسين ظروفهم. وعلى الرغم من أن احترام القانون كان لا يزال يحجم هؤلاء العمال عن إحداث أزمة كبيرة، فإنهم لن يخفقوا في إحداثها إذا أرادوا ذلك، وسيحدث هذا عندما يصبح خوفهم من الجوع أكبر من خوفهم من القانون. إن هذه الثورة «حتمية»، لكن المصالح، وليست المبادئ الخالصة، هي ما ستجعل الثورة تتحقق. لا يمكن للمبادئ أن تتطور إلا من خلال المصالح، وستكون الثورة اجتماعية وليست سياسية خالصة (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
ومن مانشستر حيث كانت عائلة إنجلز شريكة على مدار بضع سنوات في مصنع لغزل القطن، فإنه واصل تحليله للطبقة العاملة أو طبقة البروليتاريا من خلال الملاحظة المباشرة، وعلى الرغم من أن العمال الإنجليز كانوا أفضل حالا عند توظيفهم من العمال الفرنسيين أو الألمان، فإنهم كانوا يعانون من حالة فقر شديد عند حدوث «أقل قدر من التذبذب في التجارة.» وأوضح إنجلز أن المدخرات، وكذلك الصناديق التعاونية الخاصة بالعمال تنضب عندما تتفشى البطالة، وزعم أن هذا ما يحدث في جلاسجو، قائلا: «عندما تتوسع الصناعة الإنجليزية، فلا بد دائما أن تعاني بعض المناطق.» وعلق قائلا إن الدولة لا يهمها ما إذا كان الجوع مرا أم حلوا؛ فهي تلقي بهؤلاء الناس في غياهب السجون، أو ترسلهم إلى مستعمرات عقابية، وعندما تطلق سراحهم، تكون الدولة «قد شعرت بالارتياح لأنها حولت الأشخاص الذين هم بلا عمل إلى أشخاص بلا أخلاق.» وضرب إنجلز مثلا بعمال مانشستر الذين عندما يتم توظيفهم يتحملون يوم عمل طوله 12 ساعة، وعندما لا يتم توظيفهم، «من يستطيع أن يلومهم إذا لجأ الرجال إلى النهب أو السطو، ولجأت النساء إلى السرقة والدعارة؟» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
كان لرائعة إنجلز التي نشرها عام 1845 ثلاثة أعمال تمهيدية أخرى، وهي مقالات كتبت ونشرت في الفترة ما بين عامي 1843 و1844، متناولة موضوعا أوسع نطاقا؛ ألا وهو: التاريخ الاجتماعي لإنجلترا. ناقش إنجلز كتاب توماس كارلايل «الماضي والحاضر» الذي كان قد نشر مؤخرا، من خلال تقديم هذا المشروع الكبير ومدح مؤلفه على «وجهة نظره الإنسانية»، لكنه بالغ في انتقاد «آثار رومانسية حزب التوري»، وكذلك عدم معرفته بالفلسفة الألمانية؛ ومن ثم فإن كل آرائه كانت «بسيطة وحدسية». وقال إنجلز إن شكاوى كارلايل من فراغ وخواء ذلك العصر، وهجومه على النفاق والكذب، ونقده للمنافسة واقتصاد العرض والطلب؛ كانت «صحيحة»، وعاب عليه أنه بالرغم من ذلك لم يتعمق ليصل إلى سبب تلك الظواهر، ومن ثم لم يكتشف الحل؛ ونتيجة لذلك «لم يوجد أدنى ذكر للاشتراكيين الإنجليز» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
وفي المقالتين التاليتين تتبع إنجلز الثورة الاجتماعية الإنجليزية من أصولها في القرن الثامن عشر، لا سيما تطور المحرك البخاري وإدخال الميكنة في مجال النسيج وتصنيع المعادن، وسرد بعض اختراعات لمخترعين أمثال واط، وودجوود، وهارجريفز، وآركرايت، وكرومبتون، وكارترايت، وأشار إلى التطورات في مجال الاتصال من خلال الطرق والقنوات والسكك الحديدية، وبالرغم من ذلك فقد رأى أن تلك التطورات لم تفد إلا قليلا من الناس واستعبدت الكثيرين، وغيرت قيم المجتمع الإنجليزي تغييرا عميقا. قال إنجلز عن هذا:
إن تلك الثورة التي حدثت في الصناعة البريطانية هي أساس كل جانب من جوانب الحياة الإنجليزية المعاصرة، وهي القوة المحركة وراء كل أشكال التطور الاجتماعي، وكانت أولى تبعاتها، كما أوضحنا بالفعل، أن وصلت المصلحة الذاتية إلى مستوى السيطرة على الإنسان. لقد استولت المصلحة الذاتية على القوى الصناعية المكونة حديثا واستغلتها لأغراضها الخاصة، وتلك القوى التي تخص الإنسان أصبحت حكرا على قلة من الرأسماليين الأثرياء ووسيلة لاستعباد الأغلبية. واستحوذت التجارة على الصناعة، وهكذا أصبحت التجارة ذات سلطة مطلقة، وأصبحت الرابط بين بني البشر، واختزلت كل العلاقات الشخصية والقومية إلى علاقات تجارية، وهذا يؤدي إلى الأمر نفسه المتمثل في سيادة الملكية والأشياء على العالم (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
وكتب إنجلز أن أهم أثر لهذا التطور التاريخي كان «تكون طبقة البروليتاريا من خلال الثورة الصناعية»، وبعد ذلك استعرض النظام الدستوري والقانوني الإنجليزي ورفضه لأنه اعتبره: «خليطا معقدا من الأكاذيب واللاأخلاقية»، لا يعلم الكثير عن المجتمع الصناعي الجديد. قال في هذا الإطار:
ناپیژندل شوی مخ
يرى الوسطيون أن من أهم مميزات الدستور الإنجليزي تطوره «تاريخيا»، وهذا يعني من وجهة النظر الألمانية أن الأساس القديم الذي شكلته ثورة عام 1688 تم الحفاظ عليه، وأن هذا الأساس، كما يطلقون عليه، تم البناء عليه إلى حد كبير، وسنرى فيما يلي الخصائص التي اكتسبها الدستور الإنجليزي بناء على ذلك؛ لكن يكفي الآن عقد مقارنة بسيطة بين الرجل الإنجليزي عام 1688 والرجل الإنجليزي عام 1844، لإثبات أن وجود أساس دستوري متطابق لدى كليهما إنما هو عبث ومحال (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
وحيث إن إنجلز قد وعد بالالتزام «بالحقائق التجريبية» بدلا من الإشارة إلى خرافات الفقيه القانوني بلاكستون، أو ميثاق الحريات العظيم المسمى بالماجنا كارتا أو قانون الإصلاح لعام 1932، فقد استعرض عناصر الحكم الملكي والأرستقراطي والديمقراطي. واختتم إنجلز استعراضه قائلا إن الملك ومجلس اللوردات فقدا أهميتهما، وإن مجلس العموم كان يتمتع بسلطة مطلقة، وكتب قائلا إن السؤال الحقيقي هو: من يحكم فعليا في إنجلترا؟ وكان جوابه هو «أصحاب الأملاك». فالطبقة الوسطى كانت مسيطرة، والفقراء ليس لديهم حقوق؛ فالدستور يلفظهم والقانون يسيء معاملتهم، واستطرد قائلا إن: «صراع الديمقراطية مع الأرستقراطية في إنجلترا» كان «صراع الفقراء ضد الأغنياء» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
إن المعركة من أجل الديمقراطية، كما قال إنجلز، هي تحول إلى الاشتراكية؛ فمعركة الفقراء ضد الأغنياء لا يمكن خوضها «على أساس الديمقراطية أو على أساس السياسة في مجملها في واقع الأمر»؛ فالثورة لا بد أن تكون «اجتماعية»، وأن تنتقل من المؤسسات السياسية إلى الحياة الاقتصادية، وإلى القيم الحاكمة في المجتمع. وفي استعراضه لتطور المجتمع الصناعي الإنجليزي وضع إنجلز شكاوى كارلايل بشأن الدفع النقدي في السياق الفلسفي الألماني الذي قال إن الشكاوى تفتقر إليه.
إن منع الاستعباد الإقطاعي جعل «الدفع النقدي هو العلاقة الوحيدة بين البشر»، ونتيجة لذلك تغلبت الملكية، ذلك المبدأ الطبيعي المفتقر إلى الروح، وطغت على المبدأ البشري والروحي في تلك المواجهة، وفي النهاية، وإكمالا لهذا الاغتراب، أصبح المال - التجريد المغترب الفارغ للملكية - سيدا للعالم، ولم يعد الإنسان عبدا لغيره من الناس، بل أصبح عبدا «للأشياء»؛ واكتمل انحراف الوضع الإنساني ... (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
ووفقا لإنجلز، فإنه قد ألف كتابه «حالة الطبقة العاملة في إنجلترا» اعتمادا «على ملاحظة شخصية ومصادر موثوقة»، وتحدى «الطبقة البرجوازية الإنجليزية» أن تثبت خطأه «ولو في حالة واحدة غير مهمة»، وأهدى هذا العمل «إلى الطبقات العاملة في بريطانيا العظمى»، وكان غرضه من تأليف الكتاب سياسيا كما أعلن عن ذلك بوضوح. وقال إنجلز إن الألمان يحتاجون لمعرفة الحقائق عن إنجلترا؛ فعلى الرغم من أن الظروف في ألمانيا ليست على غرار «النمط التقليدي» الموجود في إنجلترا، فإن كلا البلدين لديه، في الأساس، النظام الاجتماعي نفسه؛ فأسباب شقاء وقهر طبقة البروليتاريا في إنجلترا كانت حاضرة في ألمانيا، وستكون النتائج متماثلة في نهاية المطاف. ومن هذا المنطلق، فإن عمليات الاستقصاء الرسمية التي تناولت حياة الطبقة العاملة في إنجلترا - والتي كانت المصدر الرئيسي الذي اعتمد عليه إنجلز في الحصول على المعلومات الإحصائية - كانت ضرورية للغاية «للاشتراكية والشيوعية الألمانية»، تلك الحركة التي سعى لتناولها على نحو أكبر في ذلك الكتاب المكتوب باللغة الألمانية، وقد جمعت المادة البحثية للكتاب في إنجلترا، وكتب في أواخر عام 1844 وأوائل عام 1845، ونشر على الفور تقريبا (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع). وجذب الكتاب انتباه كثير من النقاد وأعيدت طباعته عام 1848، وظهرت طبعة ألمانية أخرى منه عام 1892 في أواخر حياة إنجلز، كما ظهرت ترجمة إنجليزية للكتاب ونشرت في نيويورك عام 1887. وكان إنجلز في الخامسة والعشرين من عمره عندما نشر له أول أعماله المهمة، وحاز على انتباه الكثير من القراء والنقاد.
كان كتاب إنجلز مجحفا ومتحيزا سياسيا، وكان موقفه الأخلاقي والفلسفي واضحا على مدار الكتاب، وقدم سردا لاذعا تماما عن «طبقة الملاك» ودورها في النظام الاقتصادي القائم على المنافسة، وأشار إلى قضيته العامة المرتبطة بالطبقة العاملة الإنجليزية - التي يصفها بأنها «قضية الإنسانية» - وتوقع أن يثور غضب تلك الطبقة في ثورة ستكون الثورة الفرنسية وعهد الإرهاب الذي أعقبها بمنزلة شيء ضئيل لا يذكر إذا ما قورنا بها. ومن ثم، فمن غير المفاجئ أن إنجلز استخدم مصادر غاية في الانتقائية؛ فلقد اختار تقارير مهيجة للمشاعر أحيانا من صحف اشتراكية، وكانت هذه التقارير تجسد أسوأ حالات الفقر والمهانة والمعاناة. ومن صحيفة «ذا تايمز» وصحيفة «ذا نورذرن ستار»، اقتبس إنجلز ثلاث قصص مروعة للغاية، كانت إحدى هذه القصص تدور حول امرأة تدعى آن جالواي في الخامسة والأربعين من عمرها، تسكن في 3 وايت ليون كورت، شارع بيرمنزي، لندن، مع زوجها وابنها البالغ من العمر تسع عشرة سنة، في غرفة صغيرة لا يوجد بها سرير أو أي نوع من الأثاث، وقال الطبيب الشرعي لمقاطعة سري إن تلك المرأة «ماتت جوعا وتشوهت جثتها من عضات الهوام.» ويسهب إنجلز فيقول: «جزء من أرضية تلك الغرفة كان مقتلعا، وكانت الحفرة الناتجة تستخدمها الأسرة باعتبارها مرحاضا.»
وتروي الحالة الثانية قصة ولدين مثلا أمام قاضي التحقيقات في لندن لأنهما «سرقا ساق عجل بقري نصف مطهية من أحد المحلات والتهماها على الفور»، وثبت أن والدة هذين الطفلين أرملة تعيش في فقر مدقع مع أبنائها التسعة، وأضاف:
عندما ذهب رجل الشرطة إليها، وجدها مع ستة من أبنائها مكومين حرفيا في غرفة خلفية صغيرة، خلت من قطع الأثاث باستثناء كرسيين من القش قاعدتاهما متآكلتان، وطاولة صغيرة اثنتان من أرجلها مكسورتان، وفنجان مكسور، وطبق صغير. كاد الموقد يخلو من النار، وفي أحد الأركان كان يوجد قدر من الخرق البالية الكافية لملء مئزر حريمي، وكانت تلك الخرق تستخدم باعتبارها سريرا للأسرة ... وقد رهنت سريرها لمورد الطعام لتحصل على الغذاء.
أما الحالة الثالثة التي كانت تخص أرملة تكسب قوتها من خلال تنظيف المنازل، فقد كانت مشابهة للحالة السابقة؛ فتلك المرأة وابنتها المريضة البالغة من العمر ستا وعشرين سنة، كانتا تسكنان غرفة خلفية لا تتجاوز مساحتها مساحة الخزانة، وقد باعتا أو رهنتا كل شيء كان بحوزتهما.
وفي دفاع إنجلز عن عمله، لم يستطع سوى أن يعلق بأنه اقتبس عن عمد الحالات الأكثر ترويعا، فقال: «أعلم جيدا أن ثمة عشرة أشخاص أفضل حالا إلى حد ما من هؤلاء، في حين أنه يوجد شخص مطحون تحت أقدام المجتمع» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
ناپیژندل شوی مخ
لكن عندما أخذ إنجلز قراءه في «جولات» حول مانشستر، تراجع ذكر القصص المنقولة وطغى على المشهد التاريخ والجغرافيا والجانب الاجتماعي؛ فقد أدركت ملاحظات إنجلز التعقيد في حياة سكان مانشستر - من ناحية الإسكان والصناعة والمواصلات والصحة العامة - وتفاوت الظروف بين سكان المدينة. وكان إنجلز، بطبيعة الحال، رجلا نبيلا يستطيع ارتياد مجالس الأثرياء، لكنه كان شيوعيا يرغب في أكثر من «معرفة «مجردة» بالموضوع فحسب»؛ ولذلك ذهب مع رفاق من الطبقة العاملة وارتاد الأحياء الفقيرة في المدينة (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع)، وكان أحد هؤلاء الرفاق امرأة تدعى ماري بيرنز، وهي عاملة مصنع أيرلندية، وأصبحت عشيقته وظلت كذلك حتى وفاتها عام 1863.
وكتب إنجلز أنه كان من السهل على سكان مانشستر الأغنياء تجنب القيام بتلك الجولات بأنفسهم؛ فالمدينة نفسها مبنية على نحو غريب «حيث من الممكن أن يعيش الشخص بها لسنوات عديدة، ويخرج ويدخل يوميا دون الاحتكاك بأحياء العمال أو حتى مقابلة أحدهم»، ومن خلال «اتفاق ضمني غير مقصود» و«إصرار علني مقصود» أصبحت تلك الأحياء منفصلة عن أحياء الطبقة الوسطى في المدينة؛ فالحي التجاري المركزي يصبح مهجورا في الليل، والضواحي البعيدة تخدمها الحافلات. وبين أحياء الطبقة الوسطى، توجد أحياء الطبقة العاملة التي تغطيها واجهات المحلات بطول الطرق الرئيسية. قدم إنجلز مانشستر باعتبارها نتيجة طبيعية تماما لخيار الملكية الخاصة في المجتمع الصناعي.
أعلم جيدا أن هذا التصميم المنافق شائع إلى حد ما في كل المدن الكبرى، وأعلم أيضا أن تجار التجزئة مجبرون بحكم طبيعة عملهم على الاستحواذ على الطرق الرئيسية الكبيرة، وأعلم أنه توجد مبان جيدة أكثر من المباني السيئة في تلك الشوارع في كل مكان، وأن قيمة الأرض تكون أعلى كلما كانت قريبة من تلك الشوارع مقارنة بقيمتها في الأحياء البعيدة، لكنني في الوقت نفسه لم أر قط حجبا ممنهجا للطبقة العاملة عن الطرق الرئيسية، ولم أر إخفاء بارزا لكل شيء قد يزعج أعين الطبقة البرجوازية أو يثير أعصابها، كما رأيت في مانشستر (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
إن المصانع في مانشستر تجاور الأنهار والقنوات في الأحياء التي تعيش فيها الطبقة العاملة، وفي استعراض الجغرافيا التاريخية للمنطقة، التزم إنجلز التحليل الدقيق؛ فكلامه عن مانشستر القديمة كان مزودا برسم يوضح «جانبا صغيرا من تصميم مانشستر» ليظهر «الطريقة غير العقلانية التي شيدت بها المنطقة بأكملها.» قال عن هذا:
من المستحيل أخذ أي انطباع من التكدس العشوائي للمنازل بطريقة تتحدى كل التخطيطات المنطقية، أو من تشابكها على نحو يجعلها حرفيا مكدسة بعضها فوق بعض. وليست المباني الصامدة منذ أيام مانشستر القديمة هي السبب في ذلك؛ فهذه الفوضى بلغت ذروتها مؤخرا عندما امتلأت عن آخرها كل قطعة أرض متبقية منذ أيام طريقة البناء القديمة، وأصبحت مكتظة بالمباني لدرجة أنه لم يعد هناك موطئ قدم من الأرض متاح لشغله (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
وصف إنجلز المراحيض القذرة، والأنهار الملوثة، والقمامة وزرائب الخنازير، بالإضافة إلى «الأكواخ ذات الغرفة الواحدة» وسكانها؛ لقد ضرب بكل قواعد النظافة والصحة عرض الحائط عند تأسيس هذه المنطقة. وعلى الرغم من قدم تلك المنطقة، فإن كل ما يثير الرعب والاستياء فيها كان أصله يعود لوقت قريب في عهد الصناعة (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
وماذا عن مانشستر الجديدة؟ كانت الصدفة البحتة هي ما حدد طريقة توزيع المنازل في مانشستر القديمة، وقد أطلق على المساحات الموجودة بين المنازل اسم ساحات «لعدم وجود اسم مناسب أكثر»، إلا أن تصميم مساكن مانشستر الجديدة المبنية بحيث تتشارك الجدران الخلفية أسفر عن سوء التهوية. وقدم إنجلز تصميمين، كما لو كانت المنازل مصورة من الأعلى، ليظهر الطريقتين المستخدمتين في تشييد «أكواخ» العمال، ودائما كانت تلك المنازل مبنية بأعداد كبيرة بطول الشوارع والحارات الخلفية التي تكاد تكون غير مرئية. ورأى إنجلز أن أسلوب تشييد المباني الباحث عن الربح في المقام الأول، وكذلك أسلوب إيجارها، تضافرا حتى في طريقة البناء بالطوب؛ فقد استخدموا صفوف طوب متراصة كي يصنعوا جدرانا خارجية ضعيفة ورخيصة التكلفة (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
واتفق إنجلز مع المحققين الأوائل الذين عنوا بدراسة حالة الطبقة العاملة، في الخلوص إلى أن «العمال في مانشستر وفي المناطق المحيطة يعيشون كلهم تقريبا في أكواخ قذرة بائسة ورطبة»، حيث «لا تتوافر أي نظافة ولا مرافق؛ ومن ثم فالحياة الأسرية فيها غير ممكنة»؛ فمثل هذه المساكن «لا يمكن أن يشعر فيها بالارتياح والانتماء إلا جنس من البشر معتل جسمانيا، مسلوب الحقوق الإنسانية، مذلول، متدن أخلاقيا وجسمانيا إلى مستوى الحيوانات» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
استعرض إنجلز الحالة البائسة للطبقة العاملة فيما يتعلق بالملبس والطعام وتدخين السجائر والصحة والعلاج والأخلاق وظروف العمل لكل من الكبار والصغار، ورفض قوانين العمل في المصانع واصفا إياها بأنها غير مناسبة ومطبقة على نحو سيئ. وبعد ذلك انتقل بتحليله إلى مستوى أكثر عمومية، وإلى استنتاجات تميل إلى التعميم على نحو أكبر.
أضف إلى هذا البؤس تقلبات الدورة الاقتصادية، الناجمة عن عدم التحكم في عمليتي الإنتاج والتوزيع، اللتين لم تسعيا مباشرة «لتوفير الاحتياجات، وإنما للربح، في ظل نظام يعمل فيه الجميع من أجل مصلحته وكي يحقق لنفسه الثراء.» وكان هذا النظام غير متكافئ وغير منصف في نتائجه؛ «لذلك كان البرجوازي يحتاج بالتأكيد إلى عمال، في واقع الأمر ليس من أجل كسب قوته على نحو مباشر؛ فهو عند الحاجة بإمكانه إنفاق رأس ماله، ولكن باعتبارهم وسيلة للربح، تماما مثلما نحتاج نحن لسلعة تجارية أو دابة نمتطيها» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
ناپیژندل شوی مخ
كان حديث إنجلز عن مقاومة الطبقة العاملة لظروفهم السيئة هذه مستبصرا بالمستقبل، لكنه كان مفرط المنطقية؛ فالعمال الإنجليز «لا يمكن أن يشعروا بالسعادة في ظل هذه الظروف»؛ ومن ثم «لا بد أن يسعوا لوسيلة للهروب منها.» كان أول أشكال هذا التمرد وأقلها فاعلية هو اللجوء للجريمة، وعرض إنجلز عرضا مفصلا لأسلوب تكسير الآلات والإضرابات، لكن ظلت الاتحادات العمالية عاجزة أمام القوتين الكبيرتين المتمثلتين في المنافسة والدورة الاقتصادية؛ ووجد إنجلز أن الأهمية الحقيقية لتلك الاتحادات هي أنها كانت «أولى محاولات العمال لإلغاء منافسة» بعضهم البعض، وكذلك إلغاء المنافسة في النظام الاقتصادي ككل. واستعرض إنجلز انتشار حدوث الإضرابات والمظاهرات، ووصف رد فعل الميثاقيين والاشتراكيين الإنجليز بأنه رد غير مناسب؛ قال في هذا الشأن:
وهكذا، يبدو أن حركة المقاومة العمالية تنقسم إلى قسمين؛ ألا وهما: الميثاقيون والاشتراكيون. أما الميثاقيون فهم الأكثر رجعية من الناحية النظرية، والأقل تقدما، لكنهم ينتمون بالأساس للطبقة العاملة؛ ولذلك فهم ممثلون لهذه الطبقة. وأما الاشتراكيون فهم أفضل من حيث نفاذ البصيرة، ويقدمون حلولا عملية للمشاكل، لكنهم منبثقون في الأصل عن الطبقة البرجوازية، ولهذا السبب فإنهم غير قادرين على الاندماج الكامل مع الطبقة العاملة. إن اتحاد الاشتراكية مع الحركة الميثاقية، أي إعادة إنتاج الشيوعية الفرنسية بطريقة إنجليزية، سيكون هو الخطوة التالية، وتلك الخطوة قد بدأت بالفعل. وفقط في ذلك الوقت، وبعد تحقق ذلك الأمر، ستكون الطبقة العاملة هي القائد المفكر الحقيقي لإنجلترا؛ وهكذا ستبدأ عملية التنمية السياسية والاجتماعية، التي ستدعم هذا الاتحاد الجديد، وهذا التحول الجديد في الحركة الميثاقية (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
شكل 3-1: رسوم كاريكاتورية رسمها إنجلز، في يونيو 1839 (من أعلى اليسار إلى اليمين): الضيق بالدنيا، التوتر والإجهاد العصريان، (أعلى) الخلاف في كولونيا، (أعلى اليمين) المادية الحديثة للنبلاء، (أسفل) تحرير المرأة، روح العصور، تحرير الجسد.
ومن خلال الأدلة التي اختارها - لأنه اعتقد أنها الأكثر أهمية - توقع إنجلز أن العمال سوف يدركون بمزيد من الوضوح كيف تؤثر المنافسة عليهم؛ فلقد رأوا بوضوح أكبر من الطبقة البرجوازية أن المنافسة بين الرأسماليين تسبب أزمات تجارية، «وأن هذا النوع من المنافسة أيضا لا بد من وضع حد له» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
لم يكن هدف إنجلز هو تقديم أدلة مناقضة للقضية التي كان يروج لها؛ لأن سرده للموقف لم يكن الغرض منه استعراضا فقط للظروف، بل كان يهدف إلى المساعدة في إحداث تطورات معينة في المجتمع وإحباط أخرى. وعلى الرغم من اعترافه بأن عمله كان متحيزا على نحو واضح لما اعتبره مصالح الطبقة العاملة، فإن النقاد المعاصرين لا بد أن يكونوا حذرين قبل رفض هذا العمل لعدم التزامه الموضوعية والحيادية وعدم التحيز. لكن كيف من المفترض أن يبدو السرد الموضوعي للبؤس؟ وهل يجب أن يكون المرء حياديا عند التحدث عن المعاناة؟ وما هدف البحث والتنظير إذا لم يساعدا في تغيير نظام عالم معيب؟
لم يكن تنبؤ إنجلز «بثورة عنيفة لا يمكن تجنب حدوثها» مدعوما بأدلة تؤكد صدقه (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع). غير أن جهود الطبقة العاملة لتحسين الأوضاع في مكان العمل وفي الإسكان ولمقاومة الآثار السلبية للمنافسة على الأفراد، كان لها أثر كبير في إعادة تنظيم المجتمع تنظيما سلميا إلى حد ما، وهذه العملية أسهم فيها إنجلز بأن تحدى المصلحين ونقادهم حتى يلقوا نظرة عن كثب على مأساة العمال في ظل مجتمع يتزايد فيه تطور الصناعة.
الفصل الرابع
إنجلز الثوري
لم يكن أول لقاء لإنجلز مع كارل ماركس ناجحا؛ ففي طريق إنجلز إلى إنجلترا في نوفمبر عام 1842، زار (للمرة الثانية من العام نفسه) مقر الصحيفة الكولونية الراديكالية التي كانت تنشر بعضا من مقالاته، وكان ماركس قد أصبح رئيس تحرير هذه الصحيفة في منتصف أكتوبر، واتخذ موقفا صارما تجاه الإسهامات المقدمة من مجموعة الهيجليين الشباب في برلين ؛ تلك المجموعة التي كان إنجلز منضما إليها.
كان ماركس، باعتباره عالما وفيلسوفا ومفكرا، متفوقا كثيرا عن إنجلز؛ تعلم ماركس في مدينة ترير التي ولد فيها في 5 مايو 1818، قبل عامين من ميلاد إنجلز، الأعمال الكلاسيكية اللاتينية واليونانية والفرنسية في المنزل وفي المدرسة وفي منزل حميه المستقبلي البارون فون فستفالين. كان والدا ماركس من اليهود الذين تحولوا إلى اللوثرية لأسباب سياسية، لكن لم تلعب اليهودية ولا المسيحية دورا أساسيا في تكوين ماركس مقارنة بالتقوية القمعية التي تربى عليها إنجلز. أما على الصعيدين الديني والسياسي، فقد كانت مدينة ترير بيئة أكثر ليبرالية إلى حد كبير مقارنة ببلدة بارمن، وتأثر ماركس كثيرا بمبادئ الثورة الفرنسية مقارنة بالنزعة المحافظة لمملكة بروسيا التي نشأ فيها إنجلز. وعلى النقيض من إنجلز، كان ماركس طالبا جامعيا متفرغا، درس أولا في بون ثم في برلين، حيث قاوم (بنجاح) محاولات والده في توجيهه نحو دراسة القانون؛ وقد حصل ماركس على دورات في الفلسفة والتاريخ، ودرس على نحو غير رسمي بين الهيجليين الشباب في برلين قبل وصول إنجلز. وتوقفت خطط ماركس لحياته الأكاديمية مبكرا، على الرغم من إكماله رسالة الدكتوراه في الفلسفة الإغريقية (وقبولها عن طريق المراسلة في جامعة ينا)؛ وحيث إن الراديكاليين كانوا يستبعدون من العمل في الجامعات في ألمانيا، جرب ماركس وسائل أخرى لتطوير الأفكار المتداولة بين الهيجليين الشباب، وجرب أيضا وسائل أخرى لكسب العيش.
ناپیژندل شوی مخ
لكن ماركس كان يمتلك قدرا قليلا من الخبرة في مجال الصحافة مقارنة بخبرة إنجلز فيها، وقد نشرت الأعمال الصحفية الوحيدة لماركس - التي كانت عبارة عن ثلاث مقالات - في الصحيفة الكولونية الراديكالية، وكانت إحدى هذه المقالات تتناول حرية الصحافة، والمقالتان الأخريان كانتا تتحدثان عن التبريرات التاريخية والدينية لما اعتبره ماركس ممارسات عبثية غير ليبرالية في الحياة السياسية. واستمر على هذا النسق في مشروعين من مشاريعه عندما أصبح رئيسا لتحرير الصحيفة؛ فكان أحد هذين المشروعين نقدا للقوانين الإقطاعية «المعدلة» فيما يخص جمع الأخشاب، والآخر عرضا للفقر الذي كان يسود وادي موزيل. وبعد نشر أول مقالة من هاتين المقالتين، انفصل على نحو واضح عن مجموعة برلين، وكتب إلى أرنولد روجه في أواخر نوفمبر من عام 1842 (بعد وقت وجيز من وصول إنجلز) يقول إن «دس معتقدات شيوعية واشتراكية» في مقالات النقد المسرحي يعد عملا «غير لائق، بل حتى غير أخلاقي في واقع الأمر.» ورفض تماما «الكتابات الكثيرة المشبعة بالرغبة في نشر الروح الثورية في العالم، وإن كانت خالية من الأفكار، ومكتوبة بأسلوب غير متقن مضاف إليه بعض الأفكار الإلحادية والشيوعية (التي لم يدرسها مطلقا هؤلاء السادة)» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
فلماذا إذن عندما زار إنجلز ماركس في باريس بعد ذلك بعامين في أغسطس 1844، تلقاه ماركس بالترحيب الحار والموافقة الفورية على التعاون معه في أحد الكتيبات؟
أثناء تواجد إنجلز في مانشستر، كتب مقالة في الفترة ما بين أكتوبر ونوفمبر من عام 1843 حملت عنوان «إسهام في نقد الاقتصاد السياسي»، ونشرت في فبراير 1844 في صحيفة يرأس تحريرها كل من ماركس وروجه، ودون ماركس ملاحظات، يعود تاريخها إلى أوائل عام 1844، عن تلك المقالة (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث)، ووصفها في فترة لاحقة من حياته بأنها «مخطط ممتاز لنقد الفئات الاقتصادية» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول). وكانت هذه المقالة مفخرة ماركس كلما تحدث عن علاقته بإنجلز؛ فلا بد أن تناول إنجلز النقدي للاقتصاد السياسي (النظرية الاقتصادية في عصره) قد حاز إعجاب ماركس، الذي كان يبحث الآثار العملية لنظام الملكية الخاصة الذي تقره مملكة بروسيا وتدافع عنه. بالإضافة إلى ذلك، كان ماركس مؤهلا جيدا لنقد كتاب «فلسفة الحق» الذي كتبه هيجل، وهو محاولة نظرية رائدة للتعامل مع الملكية الخاصة والحكومة، لكنه لم يكن يعرف عن الاقتصاديين الفرنسيين والبريطانيين معلومات أكثر من تلك التي أوردها هيجل في نظريته. وكان من الواضح أن إعداد دراسة نقدية عن الاقتصاد السياسي نفسه، هو الخطوة التالية لماركس في إطار اهتمامه الجاد بالمحرومين من حقوقهم الاجتماعية والسياسية في ألمانيا وفي كل مكان في أوروبا.
كان تطرق إنجلز للاقتصاد السياسي نابعا من اهتمامه بالتاريخ الاجتماعي لإنجلترا، لا سيما الثورة الصناعية التي حدثت في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، وقد كان آدم سميث، وديفيد ريكاردو، وجيمس ميل، هم أصحاب النظريات التقليدية التي تحدثت عن مزايا الملكية الخاصة والمنافسة. ونظرا لكون إنجلز شيوعيا، فقد اقترح إلغاء كل من الملكية الخاصة والمنافسة، ولم يكن اعتراض ماركس على الشيوعية (الممثلة في مجموعة برلين وغيرهم) بسبب استنتاجاتها في حد ذاتها، بل بسبب عدم وجود بحث حقيقي وحجة مقنعة لدعم تلك الاستنتاجات. وأخيرا، كانت مقالة إنجلز عملا شيوعيا يستحق القراءة.
اعتبر إنجلز أن الاقتصاد السياسي ما هو إلا علم للإثراء تطور نتيجة لتوسع التجارة، وكتب: إن «التقدم «الإيجابي» الوحيد الذي حققه الاقتصاد الليبرالي هو التوسع في قوانين الملكية الخاصة.» وهاجم في مقالته الاقتصاد السياسي بوصفه وجها آخر لنفاق الطبقة المالكة، وهذا هو موضوع عمله «رسائل من فوبرتال» وغيره من الأعمال التي كتبها في السنوات الأربع السابقة؛ إلا أنه من خلال ممارسة المنافسة التي وصفها بالنفاق، قد رأى الطريق إلى «التحول الهائل الذي يتجه إليه القرن، والمتمثل في تصالح البشرية مع الطبيعة ومع نفسها» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
أما من ناحية النقد الأخلاقي للاقتصاد السياسي، فقد كان عمل إنجلز دقيقا وحادا؛ فقد وصف التجارة بأنها تشبه السرقة، وتقوم على قانون القوي، وعلى حسد وطمع التجار المرسومة «على جباههم الأنانية البغيضة للغاية.» وقال إن المزاعم القائلة بأن التجارة هي رابطة صداقة بين الأمم والأفراد، لم تكن سوى إنسانية زائفة، وسرعان ما عادت أفكار المنافسة لتبسط سطوتها، وأضاف:
النتيجة الفورية للملكية الخاصة هي «التجارة» - مقايضة المتطلبات بين طرفين - أي البيع والشراء. وهذه التجارة، مثلها مثل بقية الأنشطة، يجب أن تصبح في ظل سيطرة الملكية الخاصة مصدرا مباشرا للمكسب لدى التاجر؛ أي يجب أن يسعى كل طرف من الطرفين إلى البيع بأعلى سعر ممكن والشراء بأقل سعر ممكن؛ ولذلك ففي كل عملية بيع وشراء يتواجه رجلان لدى كل منهما مصالح متعارضة تماما مع مصالح نظيره، وهذه المواجهة عدائية بلا شك، فكل منهما يعرف نوايا الآخر، ويعلم أن بينهما تعارضا في النوايا؛ ومن ثم تصبح النتيجة الأولى لذلك هي انعدام الثقة بين الطرفين من ناحية، وتبرير انعدام الثقة - المتمثل في استخدام أساليب غير أخلاقية لتحقيق غاية غير أخلاقية - من ناحية أخرى؛ ولذلك فإن الشعار الأول للتجارة هو السرية؛ أي إخفاء كل ما من شأنه تقليل قيمة السلعة المذكورة. وكانت نتيجة ذلك أن أصبح مسموحا به في التجارة استغلال جهل وثقة الطرف الآخر إلى أقصى حد، وبالمثل أصبح مسموحا به الافتراء على سلعة الطرف الآخر بأوصاف سيئة ليست فيها. باختصار، التجارة هي احتيال مقنن، وأي تاجر يرغب في إثبات الحقيقة يمكنه أن يقدم أدلة على أن الممارسة الفعلية للمهنة تتفق مع هذه النظرية (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
وفي العصر الحديث، أسفر النظام الاقتصادي الليبرالي عن نتائج مروعة في المصانع، أدت إلى تفسخ المصالح المشتركة حتى في الأسرة الواحدة؛ قال إنجلز في هذا الشأن:
لقد أصبح ممارسة مألوفة لدى الأطفال أنهم بمجرد أن يصبحوا قادرين على العمل (أي بمجرد بلوغهم سن التاسعة)، فإنهم ينفقون الأجور التي يحصلون عليها بأنفسهم، ويعتبرون منزل الأسرة مجرد نزل للإقامة، ويسلمون لآبائهم مبلغا محددا نظير الطعام والسكن؛ فكيف يمكن أن يكون الأمر مختلفا؟ وماذا قد ينتج أيضا عن الفصل بين المصالح بحيث يشكل أساسا لنظام التجارة الحرة؟ فبمجرد أن يدخل المبدأ حيز التنفيذ، يستمر في العمل وصولا لنتائجه النهائية، سواء أعجب علماء الاقتصاد ذلك أم لم يعجبهم (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
واستكمل إنجلز تحليله، فكتب أنه: «يقوم قانون المنافسة على سباق بين العرض والطلب كي يتمم أحدهما الآخر؛ ولذلك لا يحدث هذا مطلقا.» وتساءل إنجلز: «ما الذي جعلنا نطبق قانونا لا يمكن إثبات صحته إلا من خلال التقلبات الدورية»؛ أي الدورة الاقتصادية في الأزمات التي تحدث على نحو دوري؟ إنه «قانون طبيعي يقوم على عدم وعي المشتركين فيه» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
ناپیژندل شوی مخ
بفضل الاقتصاد السياسي، ولا سيما نظرية مالثيس الخاصة بالإنتاج والسكان، انصرف انتباهنا إلى إنتاجية الأرض وإنتاجية البشر، واستنتج إنجلز من ذلك «أقوى الحجج الاقتصادية لدعم التحول الاجتماعي»؛ فالملكية الخاصة قد حولت الإنسان إلى سلعة، والمنافسة «اخترقت كل العلاقات في حياتنا وأكملت العبودية المتمثلة في المقايضة التي جعل الناس أنفسهم عبيدا لها في الوقت الراهن.» واستطرد إنجلز قائلا إن كل هذه الأمور ستقودنا «نحو القضاء على هذا الإذلال للبشرية، من خلال إلغاء الملكية الخاصة، والمنافسة، والمصالح المتعارضة.» وبعد ذلك، إذا تم الإنتاج على نحو واع، وعلم المنتجون قدر المنتجات التي يطلبها المستهلكون، وشاركوها معهم، فستكون «تقلبات المنافسة، واحتمالية تحولها إلى أزمة أمرا مستحيلا» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الثالث).
تلك الموضوعات التي قدمها إنجلز تناولها ماركس في عمله «المخطوطات الاقتصادية والفلسفية» (وفي عمله «ملاحظات على جيمس ميل»)، الذي بدأ تأليفه في ربيع عام 1844. وعندما حقق إنجلز نجاحا، كان لدى ماركس مخزون كبير من المعلومات اللازمة لدراسته النقدية للاقتصاد السياسي، وشعور مبدئي بأن تلك الدراسة ستكون مشروعا كبيرا وصعبا إذا ما أنجزت على الوجه الأكمل. وبعد ذلك، وجد ماركس سببا أدعى لتأجيل عمله المهم للتعامل الفوري مع خصومه السياسيين، ويبدو أن إنجلز قد وافق على اقتراح ماركس بالتخلي التام عن الهيجليين الشباب؛ فهل يوجد ما يمكن أن يفعله ماركس لإتمام عمله، أفضل من الاستعانة بخدمات أحد أعضاء مجموعة برلين بعد تصحيح مفاهيمه؟
علاوة على ذلك، كانت شهرة إنجلز الكاتب تفوق شهرة ماركس، وحتى وقت المشروع المشترك المقترح، كان ماركس قد نشر حوالي اثنتي عشرة مقالة في عدد محدود جدا من الصحف والمجلات، التي كان يرأس تحرير بعضها. وعلى الرغم من تحقيق الصحيفة الكولونية الراديكالية (ورئيس تحريرها) شهرة كبيرة في أواخر عام 1842 وأوائل عام 1843، فقد اختفت تلك الشهرة سريعا؛ ومع ذلك فإن تلك الشهرة التي حققها ماركس لم تكن نابعة بقدر كبير من محتوى مقالاته، بل كانت نابعة من مزيج التوجهات الراديكالية والثورية التي كانت تعبر عنها الصحيفة ككل تحت رئاسته. وفي خطاب أرسله إنجلز إلى ماركس، سأله عن سبب وضع اسمه أولا على صفحة عنوان عملهما المشترك الذي حمل اسم: «العائلة المقدسة: نقد النقد النقدي»؛ وذلك بسبب ضآلة إسهامه فيه (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد السابع والعشرون). ولم يكن إنجلز في حاجة لطرح هذا السؤال.
لم يكن كتاب «العائلة المقدسة» عملا مشتركا كاملا، من أي ناحية؛ لأن كل فصل - بل وبعض الأقسام الفرعية - كان يحمل توقيع مؤلفه. عرفت المقدمة العمل بأنه مقدمة نقدية لأعمال منفصلة، وفيها «نقدم - كل منا متحدثا عن نفسه بالطبع - وجهة نظرنا الإيجابية بشأنها»، وتلك الأعمال هي: أعمال ماركس النقدية للاقتصاد السياسي (وأيضا مقالات نقدية أخرى عن القانون والتاريخ والأخلاق ... إلخ)، وكتاب إنجلز «حالة الطبقة العاملة في إنجلترا» (الذي كان حينها قيد الطبع)، وعمله المنتظر عن التاريخ الاجتماعي لإنجلترا. والآن بعد أن انتقل إنجلز من الفلسفة والليبرالية إلى الاشتراكية والاقتصاد، لم يعد يحمل سوى الازدراء لنقد الهيجليين الشباب؛ قال في هذا الإطار:
النقد لا يفعل شيئا سوى «تكوين صيغ من عينات ما هو موجود بالفعل»، تحديدا من الفلسفة «الهيجلية» الحالية والتطلعات الاجتماعية الحالية؛ مجرد صيغ ولا شيء غيرها. وعلى الرغم من النقد اللاذع الذي وجهته الفلسفة الهيجلية للدوجماتية، فإنها تتسم بالدوجماتية، بل إنها تتسم بالدوجماتية «النسوية». إن الفلسفة «الهيجلية» ستظل أرملة عجوزا شاحبة تصبغ وتزين جسدها الذي تضاءل إلى مستوى التجريد البغيض للغاية، وتنظر بإغواء في كل أنحاء ألمانيا بحثا عن مغازل (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الرابع).
لحق إنجلز بماركس إلى بروكسل عام 1845، وارتضى - حسب اعترافه - بدور أقل في هذه الشراكة؛ حيث شعر على الأرجح بقدرات ماركس الفائقة في التحليل ودقته الشديدة. سافر الاثنان إلى إنجلترا في صيف 1845 وزارا مانشستر، ووجدا في طريق عودتهما إلى بروكسل ردا على كتاب «العائلة المقدسة» من جانب الهيجليين الشباب؛ لذا برزت حاجة ملحة إلى تقديم عرض واضح للأفكار الاشتراكية؛ فالنقد السابق، كما في كتاب «العائلة المقدسة»، كان نابعا من افتراضات غير موضحة تماما، وبالتأكيد غير معروضة تفصيلا. وبعد ذلك شرع ماركس وإنجلز في كتابة ما يبدو أنه أول عمل مشترك حقا ، وهو «الأيديولوجية الألمانية»؛ وكان ذلك بهدف تسوية اختلافاتهما مع هيجليي عصرهما السطحيين المزعجين، وأيضا للمساعدة في «توضيح أفكارهما الذاتية» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
شكل 4-1: فريدريك إنجلز، عام 1845.
كادت مخطوطة كتاب «الأيديولوجية الألمانية» تكون مكتوبة بالكامل بخط يد إنجلز، وكانت التصحيحات والتغييرات بخط كلا المؤلفين. في بعض الأحيان، كانت الصفحات مقسمة إلى عمودين، كان النص على اليسار، والإضافات على اليمين، وكان خط ماركس يكاد لا يقرأ، وقيل إن إنجلز قد كلف بعملية كتابة النص الذي اشتركا شفهيا في تأليفه. كان العمل من الناحية الفلسفية مماثلا للأعمال السابقة لماركس أكثر مما كان مماثلا لأعمال إنجلز، وكان القسم الأول مستقى مباشرة من مقالة ماركس «أطروحات حول فيورباخ»، التي كتبها في أوائل عام 1845 قبل وصول إنجلز إلى بروكسل. وفي هذه السطور القليلة، شن ماركس هجوما على «كافة أشكال المادية السابقة» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الخامس)، وعندما تأمل إنجلز الكتاب عام 1888 بعد وفاة ماركس، اعترف بأن الأطروحات الإحدى عشرة حول فيورباخ كانت «أول عمل توجد فيه البذرة الرائعة للنظرة الجديدة للعالم» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). وفي عمل آخر وضعه في العام نفسه، كتب مرددا كلمات ماركس التي قالها عام 1859: «إن مدى التقدم الذي أحرزته بمفردي في سبيل الوصول إلى [فرضيات ماركس]، يظهر بوضوح شديد في عملي «حالة الطبقة العاملة في إنجلترا»، لكن عندما قابلت ماركس مرة أخرى في بروكسل ... فإنه كان قد أكملها بالفعل» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
وفي كتاب «الأيديولوجية الألمانية»، تعرض العديد من الهيجليين الشباب للهجوم الشديد بسبب أوهامهم؛ فقد زعموا أن: «علاقات البشر، وكل أفعالهم، وقيودهم ونقاط ضعفهم، هي نتاج وعيهم»، ولأنهم كانوا يواجهون العبارات بالعبارات، فقد كانوا «لا يعارضون العالم الفعلي القائم بأي حال من الأحوال.» تبنى ماركس وشريكه وجهة نظر معارضة لوجهة نظر الهيجليين الشباب؛ فكانت الأسس التي انطلقوا منها هي البشر - ليس «في أي حالة من حالات الثبات والعزلة الخيالية، بل في عملية تطورهم الفعلية والمحسوسة تجريبيا» - وكذلك مشروعهما المعنون «دراسة تطور الحياة الفعلية للأفراد وعملهم في كل عصر» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الخامس).
وفي الجزء الأول من كتاب «الأيديولوجية الألمانية»، كانت هناك فقرات وثيقة الشبه بأعمال إنجلز قبل تأثره بالماركسية، تلك الأعمال التي تناولت تاريخ الثورة الصناعية وتعليقاته على طبيعة الشيوعية، وكتب المؤلفان أن فيورباخ:
ناپیژندل شوی مخ
عندما لا يرى رجالا أصحاء، ويرى بدلا منهم مجموعة من الرجال المنهكين المصابين بسل الغدد الليمفاوية والسل الرئوي والهزال، كان يضطر إلى الاختباء وراء مصطلحات مثل «الإدراك الأعلى» والتمسح في مثالية «التعويض في الأنواع»؛ وبذلك يعود إلى المثالية عند النقطة التي يرى فيها الماديون ضرورة، بل ووجوبا، لحدوث تحول في كل من الصناعة والنظام الاجتماعي. (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الخامس).
كانت كتابات ماركس الصحفية ومخطوطاته المبكرة هي المصدر المحتمل للمناقشة التي تناولت الدولة والقانون والملكية في الكتاب. أما المناقشات الساخرة التي شغلت بقية الكتاب، فعكست الأعمال التي قدمها كلا المؤلفين قبل كتاب «العائلة المقدسة»، وفي هذا العمل نفسه حدث تطور أكبر في مسألة شخصنة النقد السياسي لدى كلا المؤلفين؛ بيد أن الجانب الفلسفي في كتاب «الأيديولوجية الألمانية» الذي استمر طوال الكتاب ومنحه الترابط، يمكن أن يعزى دون تردد إلى ماركس، كما قال إنجلز. وبالرغم من ذلك، يجب التأكيد على أن هذا العمل قدم الفلسفة في مقابل التفلسف الصرف؛ لأن الهدف منها كان الارتقاء بالحياة الواقعية وإعادة تنظيمها بطريقة عملية لا تحمل طابعا مثاليا.
لم تكن مقالة «أطروحات حول فيورباخ» التي ألفها ماركس صدمة لإنجلز؛ لأن أبحاثه التي أجراها عام 1844 حول التاريخ الاجتماعي والظروف الاجتماعية المعاصرة كانت متوافقة تماما مع تلك الأطروحات. كتب ماركس: «كل الحياة الاجتماعية عملية في جوهرها، وكل الألغاز التي تقود النظرية إلى التصوف تجد ضالتها العقلانية في الممارسة البشرية وفي فهم هذه الممارسة» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الخامس).
الآن، بحسب علمنا، كان إنجلز قد تخلى عن الاقتصاد السياسي وترك التحدث عنه لماركس، ولم يضف شيئا مطلقا إلى نقده الأول «الرائع»، على الرغم من وجود بعض لمحات منه في كتاب «الأيديولوجية الألمانية»، والتي من بينها :
أو كيف يمكن أن تكون التجارة، التي لا تعد أكثر من مجرد مقايضة منتجات بين العديد من الأفراد والبلدان، هي ما يحكم العالم بالكامل من خلال علاقة العرض والطلب - تلك العلاقة التي قال عنها أحد علماء الاقتصاد الإنجليز إنها تحوم حول الأرض مثل قدر الأقدمين، وتوزع بيدها الخفية السعادة والشقاء بين البشر، وتقيم إمبراطوريات وتهدم أخرى، وترفع أمما وتخسف الأرض بأخرى - في حين أنه مع إلغاء أساس التجارة، المتمثل في الملكية الخاصة، بالإضافة إلى اعتماد نظام الإنتاج الشيوعي ... سوف تتلاشى قوة علاقة العرض والطلب، وسيتحكم البشر مرة أخرى في عملية التجارة والإنتاج وطريقة تعاملهم بعضهم مع بعض؟ (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الخامس).
كان أول أعمال ماركس المنشورة الذي استعرض فيه بعض ثمار قراءاته وأبحاثه الاقتصادية في الفترة ما بين عامي 1845 و1846، هو كتاب «فقر الفلسفة»، الذي نشر باللغة الفرنسية وحمل اسمه فقط، وكان هذا عام 1847. تولى إنجلز مهمة التحدث في الصحافة عن القضية الشيوعية والترويج لها، تلك القضية التي اتخذت شكلا منظما تمثل في لجنة المراسلات الشيوعية في بروكسل. وكان الهدف الأساسي - بحسب ماركس - هو جعل الاشتراكيين الألمان يتواصلون مع الاشتراكيين الإنجليز والفرنسيين (المراسلات المختارة لماركس وإنجلز)؛ وذهب إنجلز بنفسه إلى باريس لتنظيم العمال الألمان، وأخبر اللجنة أنه حصل على دعم (بنسبة تصويت ثلاثة عشر إلى اثنين) لتعريف الشيوعية بأنها (1) تحقق مصالح طبقة البروليتاريا من خلال (2) إلغاء الملكية الخاصة واستبدال الملكية المشتركة للبضائع بها، وتحقيق الأمرين الأول (1) والثاني (2) من خلال الأمر الثالث (3) المتمثل في قوة الثورة الديمقراطية (المراسلات المختارة لماركس وإنجلز). وذهب أيضا إلى لندن، وجعل مهمته في العموم هي المساعدة في تبني المجموعات الشيوعية المبادئ الماركسية بدلا من مبادئ الهيجليين الشباب، أو غيرها من المصادر. انعقد أول مؤتمر للشيوعيين في لندن في صيف 1847، وقدم فيه إنجلز مسودة «البيان الشيوعي» بغرض المناقشة، وأعد إنجلز نسخة أخرى من تلك المسودة من أجل ماركس، حملت اسم «مبادئ الشيوعية»، وفي أواخر ذلك العام حضر كلاهما المؤتمر الثاني الذي عقد في لندن في أواخر نوفمبر وأوائل ديسمبر (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد السادس). وطلب من كل من ماركس وإنجلز استخدام هذه المسودة وغيرها في تشكيل وثيقة نهائية يمكن لكل الشيوعيين الالتزام بها.
وفي مرحلة لاحقة، اعترف ماركس وإنجلز كل منهما على حدة بأن الفكرة الأساسية للبيان الشيوعي كانت من إنتاج ماركس وحده، وتمثلت في أن وجود الطبقات في المجتمع كان نتيجة مراحل معينة في تطور الإنتاج، وأن الطبقة المطحونة المعاصرة هي فقط التي بإمكانها تحقيق التحول إلى مجتمع بلا طبقات (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلدان الأول والثاني؛ المراسلات المختارة لماركس وإنجلز). كانت تلك الفكرة الأساسية مأخوذة من فرضيات ماركس في كتاب «الأيديولوجية الألمانية»، وقدمت على نحو مفصل بالفعل في هذا البيان أيضا، على الرغم من أن هذا التفصيل، كما أشرت، حمل جوانب تشابه كبير في عدة نقاط مع كتابات إنجلز الأولى عن التاريخ الاجتماعي وتعليقاته المبكرة على الشيوعية؛ إلا أن النسخ الأولى من البيان كانت معدة بالفعل على يد إنجلز وحده، وظهرت أفكار من تلك المسودات ببعض الإسهاب في الوثيقة النهائية. علاوة على ذلك، كان أسلوب صياغة البيان (الذي يجب أن يكون قصيرا وجذابا) وغرضه (وهو كسب مناصرين وسط الشيوعيين) أمرا اهتم به إنجلز على نحو مباشر أكثر من ماركس الذي كان أكثر اهتماما، كما قال لاحقا، بتقديم تحليل مفصل لدور المجتمع البرجوازي في الاقتصاد السياسي.
وبالرغم من ذلك، تولى ماركس مسئولية صياغة البيان في النهاية؛ نظرا لسفر إنجلز إلى باريس في أوائل عام 1848، فضلا عن إلحاح الشيوعيين في لندن على ماركس لتقديم البيان في أواخر يناير؛ وبهذه الطريقة أصبح هذا البيان ينسب إليه (على الرغم من أنه كان غير موقع بطبيعة الحال). كان الهدف من البيان أيضا تقديم وجهات نظر لجنة المراسلات الشيوعية؛ ولذلك يمكن افتراض أن بعض أجزاء الكتاب عكست محاولة ماركس التصدي للاعتراضات الموجهة من الآخرين. كان باستطاعته على الأرجح تأليف البيان دون الاستعانة بمسودات إنجلز، أو حتى دون أن يقابل إنجلز على الإطلاق؛ لأن الفكرة الأساسية وتفصيلها نبعا على نحو منطقي للغاية من أعماله التي كتبها في عامي 1842 و1843. غير أن أعمال إنجلز الأولى، التي اعترف ماركس بتأثيرها عليه، لا بد أنها يسرت المضي قدما في تفصيل الفكرة الأساسية في البيان؛ ففي أعمال إنجلز الأولى، كما رأينا، قدم إنجلز في فقرات شهيرة وصفا عاما للثورة الصناعية ونفاق الطبقة البرجوازية، بالإضافة إلى تأثير العلاقات الاقتصادية التنافسية على النساء والأطفال والأسرة؛ علاوة على ذلك، فإن الدليل النقدي للاشتراكية في إنجلترا وأوروبا في الجزء الثالث من البيان أظهر موهبته في كتابة مقالات مختصرة عن النقاشات الفلسفية المعاصرة.
على أقل تقدير، كان ماركس أمام مادة بحثية مهمة مقدمة من إنجلز وتحتاج قدرا طفيفا من التعديل؛ بالإضافة إلى ذلك، ربما كانت أعمال إنجلز المبكرة وإسهامه اللاحق في تأليف كتاب «الأيديولوجية الألمانية» وكتيب «البيان الشيوعي» ضرورية لإبعاد ماركس عن الأسلوب المتكلف المعقد الذي ظهر في أعماله التي نشرها عام 1843، كي يصبح أسلوبه أسهل في القراءة. وبغض النظر عن الفضل الذي يعود لإنجلز في تأليف «البيان الشيوعي»، فإنه لا يمكن إنكار جهوده في تكوين لجنة المراسلات الشيوعية، وفي توفير الجمهور اللازم لها. وقد كان مخططا في ذلك العام ترجمة البيان إلى لغات أوروبية أخرى، ولاحقا أعيد نشره باللغة الألمانية عام 1872 بمقدمة جديدة اشترك في تأليفها الكاتبان، ثم أعيد نشره عامي 1883 و1890 بمقدمتين كتبهما إنجلز.
من المعروف أن «البيان الشيوعي» ليس له أي تأثير يمكن تعقبه على الأحداث الثورية التي وقعت عام 1848، وبالرغم من ذلك، فقد لعب ماركس وإنجلز في تلك الأحداث دورا فعالا لكنه لا يكاد يكون مؤرخا عالميا؛ فقد كان ماركس يرأس تحرير إحدى الصحف في كولونيا، وأسهم إنجلز بحوالي ثمانين مقالة في تلك الصحيفة، وكتب لغيرها من الصحف أيضا؛ ويقال إن متوسط عدد النسخ المبيعة من تلك الصحيفة تراوح ما بين خمسة وستة آلاف نسخة خلال مدة وجودها التي بلغت سنة واحدة. وكان ماركس يهدف إلى مساعدة الثورات الديمقراطية في ألمانيا وفي غيرها من البلاد، بعد اندلاع الثورة في باريس في فبراير 1848، وكانت السياسات التي حرضت عليها الصحيفة تعكس البرنامج المعلن عنه في «البيان الشيوعي»؛ كانت تلك السياسات إجراءات ليبرالية، من ناحية تسعى للقضاء على الأنظمة الرجعية، لكنها في الوقت نفسه تحمي مصالح أي طبقة عاملة تقوم بالثورة. وأدت خيبة الأمل، بسبب فشل الثوريين المنتسبين إلى الطبقة الوسطى في أبريل 1849، إلى تبني وجهة نظر أكثر راديكالية بخصوص العمل السياسي للطبقة العاملة، قبل وقت قصير من حجب الصحيفة في منتصف مايو من العام نفسه.
ناپیژندل شوی مخ
تورط إنجلز بنفسه في مصادمات ثورية غير ناجحة في بلدة إلبرفيلد مسقط رأسه في مايو 1849، لكن لم ينضم العمال والثوار إلى مجموعة المتمردين الصغيرة بأعداد تكفي لتشكيل تهديد كبير للسلطات؛ وفي يونيو انضم إلى القوات الثورية في جنوب غرب ألمانيا في حملتهم غير الناجحة ضد حكام بروسيا، وكان يريد بهذا - كما أخبر زوجة ماركس في أحد الخطابات - أن ينقذ سمعة صحيفة أستاذه ماركس (المراسلات المختارة لماركس وإنجلز). وفي أواخر عام 1849، سافر من سويسرا إلى جنوة وأبحر منها ليلحق بماركس الذي وصل لتوه إلى منفاه في لندن.
الفصل الخامس
إنجلز الماركسي
كان إنجلز أول الماركسيين، وكان تأثيره على الماركسية كبيرا؛ فقد كتب عددا هائلا من المقالات والكتيبات والمقالات النقدية، بالإضافة إلى عدد كبير من الكتب حولها طوال الفترة الممتدة من 1849 وحتى وفاته عام 1895. وفي كثير من هذه الأعمال حاول تفسير فرضيات ووجهات نظر ماركس، التي أسهم فيها إلى حد كبير. علاوة على ذلك، فقد أصبح مراجعا ومحررا لأعمال ماركس؛ إذ كان يكتب المقدمات للطبعات الجديدة من كتبه (والكتب التي اشترك معه في تأليفها)، وكذلك إعداد مخطوطات الأعمال الخاصة بماركس للنشر بعد وفاته عام 1883.
في السنة الأولى لتواجد إنجلز في إنجلترا، كان مشغولا للغاية في الفترة التي أعقبت الأحداث الثورية التي وقعت فيما بين عامي 1848 و1849، فقد كان يتوقع على نحو معقول للغاية استمرار تلك الأحداث بعد فترة من الهدوء الواضح. وعلى نحو مميز، كان أول مشاريع ماركس في ذلك الوقت هو الاستمرار في إصدار صحيفته السياسية، التي أصبحت الآن تحمل عنوانا فرعيا يصفها بأنها صحيفة نقد اقتصادي سياسي، واعدا بتقديم «استقصاء شامل وعلمي عن الأحوال «الاقتصادية» التي تشكل أساس الحركة السياسية بأسرها»؛ وكانت مهمة إنجلز هي بوضوح المساهمة في تقديم تحليل اجتماعي وتاريخي أوسع نطاقا إلى حد ما، يتناول «توضيح فترة الثورة التي حدثت للتو، وبيان شخصية الأطراف المتصارعة، والظروف الاجتماعية المحددة لوجود وصراع تلك الأطراف» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر). وخلال فترة الاثني عشر شهرا التي أعقبت نوفمبر 1849، نشر إنجلز (لكل من القراء الإنجليز والألمان) آراءه حول الأحداث الثورية فيما بين عامي 1848 و1849، والجدل السياسي الدائر حول قانون تحديد ساعات العمل للنساء والأطفال العاملين في المصانع في إنجلترا بعشر ساعات فقط؛ كما كتب أيضا سلسلة مقالات عن «حرب الفلاحين في ألمانيا»، في سعي لتذكير الشعب الألماني بالشخصيات «الخرقاء التي اتسمت رغم ذلك بالقوة والصلابة في حرب الفلاحين الكبرى.» وألقى نظرة على أحداث عام 1525 قائلا: «يمكننا أن نرى نفس الطبقات وأطياف الطبقات التي خانت الأحداث الثورية فيما بين عامي 1848 و1849 ... وإن كان بمستوى تطور أقل» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
اعتمدت طريقة إنجلز في كتابة التاريخ على تقديم الأدلة المطلوبة من مصادره لإثبات صحة وجهة نظر ماركس، القائلة بأن وجود الطبقات في المجتمع يعتمد على مراحل تطور الإنتاج، وأن طبقة البروليتاريا الحديثة هي فقط التي لديها ما يؤهلها لبدء عهد المجتمع اللاطبقي. واستعرض إنجلز تاريخ الصناعة الألمانية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر (صناعة الأقمشة وصناعة الأدوات المعدنية والطباعة)، واختلاف ألمانيا سياسيا عن النمط السائد في كل مكان في أوروبا؛ فقال في هذا الشأن:
في حين أدى ازدهار التجارة والصناعة في إنجلترا وفرنسا إلى تشابك مصالح البلد بأكمله، ومن ثم إلى المركزية السياسية، فإن ألمانيا لم يحدث بها أي شيء مغاير سوى تجمع المصالح في المقاطعات، حول بعض المراكز المحلية؛ وهذا أدى إلى انقسام سياسي؛ ذلك الانقسام الذي سرعان ما أصبح نهائيا إلى حد كبير باستبعاد ألمانيا من التجارة العالمية. وتوافقا مع تفكك الإمبراطورية الإقطاعية تماما ، أصبحت روابط الوحدة الإمبراطورية متحللة تماما؛ فالمدن الكبرى في الإمبراطورية أصبحت ذات سيادة مستقلة تقريبا، وبدأت تلك المدن من ناحية وفرسان الإمبراطورية من ناحية أخرى يكونون تحالفات؛ إما بعضهم ضد بعض أو ضد الأمراء أو الإمبراطور (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
كان تلخيصه للوضع الألماني ترديدا لما جاء في «البيان الشيوعي»؛ إذ قال: «شكلت الطبقات العديدة في الإمبراطورية - الأمراء والنبلاء والأساقفة والأرستقراطيون وسكان الحضر والعوام والفلاحون - كتلة محيرة للغاية؛ بسبب احتياجاتهم المتنوعة والمتصارعة.» وسار إنجلز على نهج كتاب «الأيديولوجية الألمانية»؛ فأظهر أن الخلافات الدينية في حقيقتها اجتماعية وسياسية، فقال: «كانت المعارضة الثورية للإقطاعية حية طوال العصور الوسطى، وقد اتخذت أشكال التصوف أو الهرطقة الصريحة أو التمرد المسلح، على حسب ظروف العصر.» وباستخدام هذا الإطار حدد إنجلز ثلاثة معسكرات أساسية؛ أولا: معسكر الكاثوليك المحافظين، وهم «كل الأشخاص الراغبين في استمرار الظروف الراهنة؛ وهم: السلطات الإمبريالية، والأمراء الذين يدينون بالولاء للكنيسة وجزء من الأمراء العلمانيين، والنبلاء الأثرياء، والأساقفة والأرستقراطيون من سكان المدن.» ثانيا: معسكر الإصلاح اللوثري الذي جذب المعتدلين؛ وهم: «كتلة النبلاء الأقل ثراء، وسكان الحضر بل وبعض الأمراء العلمانيين الذين كان لديهم أمل في تحقيق الثراء من خلال مصادرة أملاك الكنيسة.» وثالثا: معسكر الفلاحين والعوام الذي يمثل «الطرف «الثوري» الذي شرح [توماس] منتسر مطالبه ومعتقداته بمنتهى القوة» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
كان إنجلز متعاطفا للغاية مع منتسر، لكن السرد المطول لأحداث حروب الفلاحين التي دارت في عشرينيات القرن السادس عشر، لم يكن بأي حال من الأحوال مجرد مديح لبطل يساري. لقد كان القائدان لوثر ومنتسر بحق «انعكاسا» لتوجهات الطبقة التي يمثلهما؛ فتردد لوثر كان مشابها للسياسات المترددة التي ينتهجها سكان الحضر، وكان حماس منتسر الثوري مشابها لذلك الخاص بالعوام والفلاحين الأكثر تقدما، إلا أن منتسر تجاوز مطالبهم المباشرة إلى حد بعيد، وبقيامه بهذا وجد نفسه في موقف يصعب التعامل معه؛ «إن أسوأ شيء يمكن أن يحدث لقائد حركة متطرفة هو تسلم السلطة في وقت تكون فيه الحركة ليست مستعدة بعد للسيطرة على الطبقة التي يمثلها ذلك القائد.» ولم تكن حركة منتسر ولا الظروف الاقتصادية التي وجد نفسه فيها مناسبة للتغيرات الاجتماعية التي تصورها، والتي كانت متمثلة في الملكية المشتركة والتزام الجميع بالعمل، وإلغاء كافة أشكال السلطة. إن تلك التغيرات الاجتماعية على الرغم من أنها كانت ممكنة فعليا وفي طريقها للتحقق، فإنها كانت - كما رأى إنجلز - تمثل تحولا من المجتمع الإقطاعي إلى البرجوازي؛ أي إنها تقدم نظاما تجاريا تنافسيا مناقضا تماما لأفكار منتسر. وفي ظل هذه «المعضلة التي لا حل لها»، فإن الأمور التي يمكن للقائد أن يفعلها «تتعارض مع كل أفعاله ومبادئه السابقة والمصالح المباشرة للطبقة التي يمثلها، والأمور التي «يجب» أن يفعلها لا يمكن إنجازها» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
وعلى الرغم من أوجه الشبه بين الأحداث الثورية فيما بين عامي 1848 و1849 وثورة 1525 - التي قسمت وحددت القوى الثورية التي تحارب الخصوم على أساس الانتماء إلى اليمين واليسار - فقد توقع إنجلز نجاح الحركة الثورية المعاصرة؛ لأنها لم تكن شأنا محليا، بل كانت جزءا من حدث أوروبي النطاق (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر).
ناپیژندل شوی مخ
كانت دراسة إنجلز لحرب الفلاحين في ألمانيا أول مؤلف ماركسي عن «التاريخ»، وأوضح فيها إنجلز أن الصراعات التي بدت دينية لم تحل جميعها على أساس ديني، وأنه خلف «الغطاء الديني» تكمن «مصالح واحتياجات ومتطلبات» الطبقات المختلفة. وبالمثل، زعم إنجلز أن الثورة الفرنسية التي حدثت عام 1789 كانت أكبر من «مجرد جدال محتدم» حول مزايا الملكية الدستورية مقارنة بالملكية المطلقة، وأن ثورة يوليو 1830 لم يكن سببها فقط «استحالة تحقيق العدالة في ظل «فضل الرب»»، وأن ثورة فبراير 1848 لم تكن ببساطة «محاولة لحل مسألة المفاضلة بين الجمهورية والملكية»؛ فخلف هذه الصراعات السياسية توجد دائما مشكلات اقتصادية لدى الطبقات الاجتماعية (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد العاشر). وصاغ إنجلز بدرجة كبيرة مناهج ومصطلحات التأريخ الماركسي في هذا العمل الرائد.
سرعان ما انتهى التفاؤل الثوري الذي ظهر في كتاب «حرب الفلاحين في ألمانيا» الذي كتبه إنجلز في صيف وخريف عام 1850، وترك إنجلز لندن لأسباب مالية، وعمل موظفا في شركة العائلة في مانشستر؛ وبحلول عام 1851 كانت الهيئات الشيوعية التي كان إنجلز مرتبطا بها في سنوات العمل الثوري قد انهارت، وبعد ذلك لم يكن أمامه وقت كبير للانخراط الرسمي في السياسة بسبب ظروفه المهنية في مانشستر، وقد استمر ذلك حتى مع تأسيس الاتحاد الدولي (الاتحاد الدولي الأول) للعمال عام 1864 للترويج لقضية الاشتراكية؛ وكان ماركس من بين مؤسسي هذا الاتحاد، وقد كرس جزءا كبيرا من وقته لاجتماعات ولجان وبيانات الاتحاد. وانتقل إنجلز بسهولة إلى لعب دور الخبير الأكبر سنا والمستشار الأول، وليس المؤسس أو المنظم في الحركة الاشتراكية الدولية. وبعد تقاعده من مصانع غزل القطن عام 1869، تمكن من شغل منصب في المجلس العام للاتحاد الدولي للعمال عام 1870، وتحمل بعض المهام الخاصة بالمراسلات مع تزايد عدد الأحزاب والمجموعات الاشتراكية حول العالم. كان إنجلز مهتما بطبيعته اهتماما خاصا بالحزب الألماني الاشتراكي الذي تأسس عام 1869، وبعد الانهيار النهائي للاتحاد الدولي للعمال عام 1874 لعب دورا فعالا بصفته مستشارا غير رسمي لمسئولين كبار في قيادة الحزب، وكان انخراطه في الاتحاد الدولي الثاني للعمال الذي تأسس عام 1899، انخراطا عن بعد مثلما كان في السابق، على الرغم من أن إحدى آخر مرات ظهوره الرسمي كانت في مؤتمر الاتحاد في زيوريخ عام 1893.
لا عجب أن إنجلز كان يضمر الكراهية لمدينة مانشستر ولرجال الأعمال الذين كان مضطرا للتعامل معهم، وعندما ترك شركة العائلة عام 1869 انتقل سريعا إلى لندن ليكون بالقرب من ماركس. توفيت ماري بيرنز عام 1863، وحلت أختها ليزي محلها في حياة إنجلز حتى عام 1877 عندما تزوجها إنجلز قبل يوم من وفاتها؛ وبعد ذلك كانت ابنة أخت ليزي هي من تدير منزل إنجلز، وبداية من عام 1883 تبعتها هيلينا ديموت، مديرة منزل ماركس السابقة، وبعد وفاة هيلين عام 1890 أصبحت لويز كاوتسكي، مطلقة الاشتراكي الألماني كارل كاوتسكي، سكرتيرة إنجلز ومديرة منزله، وعندما تزوجت من دكتور لودفيج فريبرجر عام 1894 انضم أحد الأطباء إلى مسكنه الكائن في طريق ريجينت بارك.
كان إنجلز كريما في وقته وماله مثلما كان كريما في نصائحه. إن إحسانه إلى ماركس وأسرته أنقذهم في مرات عديدة من مصائر أشد بلاء من الفقر والشقاء اللذين عاشوا فيهما؛ ففي عام 1870 كان إنجلز قادرا على منحهم قدرا من الاستقلال المادي، في الوقت نفسه الذي كان يوفر فيه لنفسه هذا الاستقلال، واستفاد كثير من المهاجرين والزائرين الاشتراكيين من كرم ضيافته ومساعداته، كما حصل أبناء ماركس وكذلك أحفاده الذين بقوا على قيد الحياة بعد وفاة إنجلز، على جزء من تركته الكبيرة بعد وفاته بسرطان الحنجرة في 5 أغسطس 1895.
شكل 5-1: هيلينا ديموت، خادمة عائلة ماركس ولاحقا مديرة منزل فريدريك إنجلز.
في السنوات الأولى في المنفى، قام إنجلز بمساعدة ماركس أيضا من خلال كتابة المقالات نيابة عنه باللغة الإنجليزية؛ فقد طلب من ماركس أن يكون مراسلا لصحيفة «ذا ديلي تريبيون» في نيويورك، لكنه لم يكن قد أتقن حتى عام 1853 كتابة اللغة الإنجليزية إلى الحد الذي يمكنه من كتابة المقالات بنفسه؛ فعمل إنجلز مؤلفا ومترجما وتلقى ماركس الأجر. لقد ظلت سلسلة مقالات «الثورة والثورة المضادة في ألمانيا» المكتوبة في الفترة ما بين عامي 1851 و1852، والتي أعيد نشرها مرتين عام 1896 (باللغة الإنجليزية وبالترجمة الألمانية)، تنسب إلى ماركس لا إنجلز، إلى أن نشر خطاب بينهما كانا يتحدثان فيه عن هذا الأمر عام 1913. وفي هذا العمل، استعرض إنجلز بالتفصيل الأحداث الثورية التي حدثت في ألمانيا في الفترة ما بين عامي 1848 و1849، وشهدها بنفسه وسجل أحداثها في الصحافة وقت حدوثها، فقط قبل ثلاث سنين أو أقل من تأليف الكتاب. وقام ماركس بمهمة مشابهة في سلسلة مقالاته «النضال الطبقي في فرنسا» (المكتوبة في النصف الأول من عام 1850)، وفي استكمال قصة «انقلاب الثامن عشر من برومير للوي بونابرت» (المكتوبة في أواخر عام 1851 وأوائل عام 1852). أما إنجلز فلم يكمل مطلقا السلسلة التي وعد فيها أن «يلقي نظرة وداع أخيرة على الأعضاء المنتصرين في تحالف الثورة المضادة»، مثلما فعل ماركس في قصة «انقلاب الثامن عشر من برومير للوي بونابرت» التي تتحدث عن فرنسا (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الحادي عشر).
وفي كتاب «الثورة والثورة المضادة في ألمانيا»، اتبع إنجلز البرنامج الماركسي فيما يتعلق بالتاريخ المعاصر والتطورات السياسية في المستقبل، وكانت مهمته هي تفسير الأحداث الرئيسية وتقديم مؤشرات حول الاتجاه الذي سوف تأخذه الفورات الثورية القادمة في ألمانيا، أو التي ربما ليست ببعيدة عنها. ومثلما كان لزاما عدم تفسير النضال الثوري في العصور الوسطى على أساس الخلافات الدينية، بالرغم من ظاهرها الذي يوحي بذلك، كان لزاما أيضا عدم تفسير أسباب اندلاع الثورات الحديثة والقضاء عليها، بغض النظر عن ظاهرها، على أساس عدم تنسيق الجهود أو خيانة بعض قادتها، بل يجب تفسيرها في ضوء الحالة الاجتماعية و«الظروف المعيشية» لكل أمة. وعرض إنجلز الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأدبية والفلسفية لأحداث التمرد التي حدثت عام 1848 في فيينا وبرلين، وقال إنه بعد الانتصار «انقلبت على الفور ... الطبقة البرجوازية الليبرالية» على حلفائها من الطبقة العاملة - «الأحزاب الشعبية والأكثر تقدما» - وعقدت «تحالفا مع المصالح الإقطاعية والبيروقراطية المهزومة» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الحادي عشر).
وجدت هذه الثورة غير المكتملة خير مثال لها، وفقا لإنجلز، في الجمعية الوطنية الألمانية في فرانكفورت؛ فهذه الجمعية كانت تمارس «نشاطا مزيفا فضوليا لا يمكن أن يثير عقمه الشديد إلى جانب ادعاءاته المزعومة أي شيء سوى الشفقة والسخرية»؛ كل هذه الأحداث كانت معتمدة على مصير الصراعات الثورية في فرنسا؛ أولا في فبراير مع إعلان الجمهورية، ثم في العمل الحاسم في يونيو 1848، وكتب إنجلز: «يمكن خوض الصراع الثوري في فرنسا وحدها، في ظل عدم اشتراك إنجلترا في النضال الثوري، وبقاء ألمانيا مقسمة؛ لأن فرنسا باستقلالها الوطني وحضارتها ومركزيتها هي البلد الوحيد الذي يستطيع نقل زخم الاضطراب الرهيب إلى بقية البلاد المجاورة.» كانت هزيمة الطبقة العاملة في يونيو على يد الطبقات الأخرى التي دعمها الجيش مهمة، ويرى إنجلز أنه كان «واضحا للجميع أنها كانت المعركة الحاسمة الكبيرة، التي في حالة نجاحها كانت ستجر القارة بأسرها إلى ثورات جديدة، أو ستؤدي في حالة إحباطها إلى استعادة الحكم المناهض للثورات، ولو لفترة قصيرة» (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الحادي عشر).
في تحليل إنجلز كانت مهمة الثوريين الألمان في منتصف القرن التاسع عشر مروعة ومتأثرة إلى حد كبير بالأحداث التي وقعت في دول أكثر تقدما هي إنجلترا وفرنسا، وفي تشخيصه للوضع الألماني عام 1850 كشف أن ذلك الوضع يشبه على نحو مخيب للآمال الوضع عام 1525، الذي كان مأساة جديدة آنذاك؛ قال في هذا الشأن:
إن العرض القصير السابق للطبقات الأكثر أهمية، التي كونت بإجمالها الأمة الألمانية عند اندلاع الحركات الثورية الأخيرة، سيكون كافيا بالفعل لتفسير جزء كبير من عدم الترابط وعدم التوافق والتعارض الواضح الذي ساد تلك الحركة؛ فعند حدوث تصادم عنيف بين المصالح الشديدة الاختلاف والتصارع والتعارض، وعندما تختلط تلك المصالح المتنافسة في كل حي وكل مقاطعة، بنسب مختلفة، وفوق كل ذلك عندما لا يوجد مركز كبير للبلد، مثل لندن أو باريس، يمكن لقراراته، بموجب ثقلها، أن تحول دون الحاجة إلى خوض الصراع نفسه مرارا وتكرارا في كل مكان؛ فما الذي يمكن توقعه سوى أن يتحلل الصراع من تلقاء نفسه إلى كتلة من الصراعات غير المترابطة، التي يهدر فيها قدر هائل من الدماء والطاقة ورأس المال، دون أن تتحقق نتائج حاسمة في المقابل؟ (الأعمال المجمعة لماركس وإنجلز، المجلد الحادي عشر).
ناپیژندل شوی مخ
قدمت دراسات ماركس الاقتصادية، التي عكف على كتابتها مرة أخرى بجدية في خمسينيات القرن التاسع عشر، بعدا تفاؤليا إلى آراء إنجلز حول الحياة السياسية؛ ذلك التفاؤل الذي لم تستطع أن تقدمه له الأحداث الأخيرة وكذلك سياسات الهجرة؛ إذ كان ماركس يعتقد أنه يثبت أن النظام الرأسمالي لا يمكن أن يستمر لفترة أطول. وكان كلاهما يرى أن حدوث أزمة رأسمالية في أوروبا وفي العالم بالفعل هو أساس التقدم الثوري.
بعد عقد من الفقر والمرض والمقاطعات الصحفية، نشر أول جزء منشور من رائعة ماركس، الخاصة بنقد الاقتصاد السياسي، عام 1859. وهذه النسخة (الأكثر إثارة) التي كان مقدرا أن تكون، مع أعمال أخرى، الفصول الأولى للمجلد الأول من كتاب «رأس المال»؛ ظهرت باللغة الألمانية تحت عنوان «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي». وضع ماركس خطة العمل التي كان سيراجعها إنجلز، وطلب ماركس من إنجلز في خطاب بتاريخ 19 يوليو 1859 أن يكتب تعليقا مختصرا حول المنهج النقدي المتبع في العمل، والأمور الجديدة في محتويات ذلك العمل، ومن فرط توتر ماركس أرسل رسالة أخرى بتاريخ 22 يوليو إلى إنجلز يمده فيها بمزيد من الاقتراحات (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد التاسع والعشرون). ظهر جزءان من العمل (والجزء الثالث الذي وعد ماركس بتقديمه عن المحتوى الاقتصادي نفسه للعمل لم يكتب مطلقا)، وأصبح إنجلز على الفور المروج الأول لاكتشافات ماركس في علم الاجتماع، والمعلق الأول على منهجه النقدي. كانت هذه التعليقات أكبر تأثيرا من المحاولة التي فعلها ماركس فيما بعد لترويج أفكاره الاقتصادية من خلال محاضراته عن «الأجور والأسعار والأرباح»، التي ألقاها عام 1865. إن تعليقات ماركس على منهجه - التعليقات المختصرة للغاية التي نشرت في حياته، مثل الخاتمة التي كتبها لكتاب «رأس المال» والتي نشرت عام 1872، والتقييمات الأطول المأخوذة من مخطوطاته والمنشورة بعد وفاته، مثل «المقدمة» التي ظهرت عام 1857، والتي تفتتح كتاب «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» - لم تحظ بالأهمية إلا مؤخرا فحسب.
اتبع إنجلز مرة أخرى نفس المنهج الذي اتبعه في «الأيديولوجية الألمانية» و«البيان الشيوعي» في تناول إنجازات ماركس من خلال تاريخ ألمانيا الاقتصادي؛ فشلها - بعد الإصلاح وحروب الفلاحين - في تطوير ظروف إنتاج الطبقة البرجوازية الواضحة في هولندا وإنجلترا وفرنسا؛ ومن ثم أحرز علم الاقتصاد السياسي في ألمانيا قدرا قليلا من التقدم، ورفض إنجلز الكتابات الألمانية المعاصرة التي تتناول هذا الموضوع واصفا إياها بأنها: «عصيدة مكونة من كافة أنواع المواد الغريبة، مضاف إليها قليل من الصوص الاقتصادي الانتقائي، ومثل هذا المزيج سيكون معرفة مفيدة لطالب كلية حقوق حكومية يستعد لامتحان آخر العام الذي يتم على نطاق الدولة.» وعندما ظهر حزب البروليتاريا الألماني على الساحة (في أربعينيات القرن التاسع عشر)، ولد الاقتصاد العلمي الألماني، وكتب إنجلز فقال إن علم الاقتصاد الجديد كان «يقوم بصورة أساسية على «التصور المادي للتاريخ»» الذي يمكن تطبيقه على «كل العلوم التاريخية.» واستطرد إنجلز فكتب: «في أطروحتنا المادية، نثبت في كل قضية بعينها كيف كان الفعل في كل مرة نابعا من دوافع مادية مباشرة، وليس من العبارات المصاحبة للفعل» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول). وكانت عبارة «التصور المادي للتاريخ» التي قالها إنجلز هي التي أدت إلى ظهور الماركسية.
في الجزء الثاني من مراجعته النقدية، أضاف إنجلز عنصرا آخر مهما إلى هذه النظرة الأساسية، وهو «المنهج الجدلي» الماركسي. ولتوضيح هذا المصطلح، تحدث إنجلز عن ثلاثة فروق: أما عن الفرق الأول، فقد قارن إنجلز إنجازات هيجل في التعامل مع «التداخل» و«الفئات» في العلوم مع «طريقة التفكير الميتافيزيقية القديمة»، التي وجد أنها شبيهة باستخدام «الفئات الثابتة» التي تعكس «مادية علمية طبيعية جديدة ... لا يمكن تمييزها تقريبا من الناحية النظرية عن نظيرتها في القرن الثامن عشر»؛ وبعد ذلك ربط طريقة الفهم الميتافيزيقية هذه «بالفهم العادي للطبقة البرجوازية»؛ ذلك الفهم الذي «يصاب بالجمود» عند مواجهته بفصل «الجوهر عن المظهر، والسبب عن النتيجة.» وعلى الرغم من إنجازات هيجل في ربط تطور الفكر بالتاريخ العالمي، فإن الفيلسوف الكبير قد أنتج منهجا جدليا «عكس فيه العلاقة الحقيقية وقلبها رأسا على عقب.» لقد كان منهجا «تجريديا ومثاليا»؛ وحده ماركس كان مؤهلا «للقيام بعملية استخراج الجوهر المهم الذي يمثل الاكتشافات الحقيقية لهيجل من المنطق الهيجلي» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
أما الفرق الثاني الذي قدمه إنجلز في مراجعته النقدية، فقد تكون من «المنهج الجدلي» الماركسي الذي انتزعت فيه «السمات المثالية» من المنطق الهيجلي، على الرغم من أنه لم يحدد «الشكل البسيط» الذي أصبح فيه «الجدل» الماركسي يمثل «الشكل الحقيقي الوحيد لتطور الفكر» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
وفي الفرق الثالث حاول إنجلز مقارنة المنهج «التاريخي» بالمنهج «المنطقي» داخل النقد «الجدلي» الماركسي لعلم الاقتصاد، وأعلن إنجلز على نحو عام أن الأحداث التاريخية و«انعكاساتها الأدبية»، أي في النظرية الاقتصادية، تسير «من العلاقات الأبسط إلى العلاقات الأكثر تعقيدا»؛ وبعد ذلك ربط هذا التطور «بالتطور المنطقي للفئات الاقتصادية»؛ ولذلك كان المنهج المنطقي في نقد الاقتصاد السياسي مجرد اختزال «لقفزات وتعرجات» تاريخية، وهو ما تمثل في استبعاد الأمور «الأقل أهمية»، وحذف التاريخ الكامل «للمجتمع البرجوازي»؛ ومن ثم كان «المنهج المنطقي انعكاسا للمسار التاريخي في شكل تجريدي ومتسق نظريا» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
في ظل هذا التحليل المنطقي يكون لكل علاقة اقتصادية - وفقا لإنجلز - «جانبان»، وكل جانب من هذين الجانبين يتم تناوله على حدة، وبعد ذلك يتم تناول تفاعلهما معا، «وسوف تحدث متناقضات ستتطلب حلا في العملية الحقيقية للتفكير»، وليس فقط في «العملية التجريدية للتفكير.» كتب إنجلز أنه يتم التوصل إلى الحلول «من خلال تكوين علاقة جديدة سوف نضطر إلى تطوير كلا جانبيها المتقابلين، وهكذا» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
في افتتاحية مراجعته النقدية، اقتبس إنجلز كثيرا من مقدمة ماركس لكتاب «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي»؛ ذلك الكتاب الذي أوضح فيه ماركس بنفسه «الفكرة الأساسية» التي تقوم عليها دراساته؛ وبعد ذلك جاء تكوين إنجلز لمفهوم «التصور المادي للتاريخ» والفروق المنهجية الثلاثة، عن طريق التفسير. إن تقييم إنجلز النقدي وضع أسس تفسير كتاب ماركس وأسس شرح الماركسية نفسها.
وسواء أكان تأويل إنجلز صحيحا أم لا، فقد كان بلا شك مفسرا؛ ففي حين تحدث فيها ماركس عن «الفكرة الأساسية» الخاصة به، كتب إنجلز عن «التصور المادي للتاريخ». لقد كتب ماركس قائلا إن أعمال هيجل عن الاقتصاد السياسي في «فلسفة الحق» هي التي دعته لحل الشكوك المتعلقة «بما يسمى المصالح المادية» و«المسائل الاقتصادية»؛ وأضاف إنجلز إلى هذا السياق تفسيرا واضحا في ضوء الميتافيزيقا والمادية والمثالية والجدل والتفاعل والتناقض والانعكاس، كما هو موضح في الاقتباسات السابقة. وبينما قرر ماركس الانطلاق «من الخاص إلى العام» في شرحه لرأس المال، دعم إنجلز أطروحة أوسع تخص التاريخ والتطور الفكري للمجتمع الغربي (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول). وفي حين كان ماركس على معرفة تامة بنقد هيجل للمنطق التقليدي، وفي الوقت نفسه كان على معرفة بالخطأ المزعوم المتمثل في فرضيات هيجل المثالية (اعتبار الأفكار هي مكون الواقع)، لا يمكن القول بأنه استطاع توظيف المنهج الذي أوضحه إنجلز. لم يظهر ما كتبه إنجلز أدوات الاستقصاء التي كانت في متناول ماركس في عمله عن الاقتصاد السياسي؛ ذلك لأن ماركس كان يستخدم العديد من الأساليب والأمثلة المبينة للفوارق كلما وجدها مناسبة. أما أسلوب إنجلز المتمثل في التفسير وعقد المقارنات الموضحة للفروق وتقديم الحلول، فقد أعطى انطباعا بأن ماركس كان يعكس فحسب سيرا للأحداث التاريخية بدلا من إخضاع نظرية اقتصادية كبيرة إلى التحليل المنطقي والفلسفي والرياضي والاجتماعي والسياسي والتاريخي. وعاودت مفاهيم المادية والميتافيزيقا والجدل والتفاعل والتناقض والانعكاس، الظهور مرة أخرى بقدر كبير من التفصيل، في كتابات إنجلز التالية، وسوف ألقي الضوء على تلك المفاهيم في الفصلين السادس والسابع.
عندما نشر المجلد الأول من كتاب «رأس المال» في هامبورج عام 1867، نقد إنجلز العمل مرة أخرى دون الإفصاح عن اسمه، وفي هذه المرة نشر النقد فيما لا يقل عن سبع مطبوعات مختلفة ألمانية وإنجليزية؛ مما ساعد في مواجهة صمت النقاد الذين كانوا دائما يواجهون به أي عمل ينشر لماركس. وأعد إنجلز مسودتين نقديتين أخريين لكنهما لم تنشرا في واقع الأمر؛ واعتمادا على تقييم إنجلز لقراء كل مطبوعة، فقد زكى إنجلز عمل ماركس لأسباب مختلفة، لكن معظم القراء أصبحوا يدركون أن إنجلز يقدم دراسة نقدية لأحد الإسهامات المهمة لعلم الاقتصاد السياسي؛ ذلك العمل الذي يفوق إلى حد بعيد أي عمل كتب من قبله. وتكمن إنجازاته الفائقة في تفسير أصل الربح - الذي ظل لغزا لكل علماء الاقتصاد السياسي السابقين، بحسب قول إنجلز - في ضوء فئات مقدمة جديدة هي فائض القيمة وفائض قيمة العمل وشراء قوة العمل. ووصف إنجلز أسلوب ماركس في التعامل مع العلاقات الاقتصادية بأنه «طريقة جديدة تماما تعتمد على المادية والتاريخ الطبيعي»، وقارن تحليله ل «قانون» التطور التاريخي بعمل داروين وعلم الجيولوجيا الحديث بأكمله. وبعض القراء تلقوا بالإضافة إلى ذلك سردا واضحا للاستنتاجات السياسية التي توصل إليها ماركس في أثناء نقده للاقتصاد السياسي حيث قال:
ناپیژندل شوی مخ
هذه القوانين، المثبتة علميا على نحو دقيق - والتي يحرص علماء الاقتصاد الرسميون حرصا كبيرا على محاولة عدم تفنيدها على الإطلاق - هي بعض من القوانين الأساسية للنظام الاجتماعي الرأسمالي المعاصر. لكن هل هذا يوضح الأمر برمته؟ لا، على الإطلاق؛ إن ماركس يبرز بوضوح الجوانب السيئة للإنتاج الرأسمالي، لكنه بالقدر نفسه من التأكيد يثبت بوضوح أن هذا النظام الاجتماعي كان ضروريا لتطوير القوى الإنتاجية للمجتمع لمستوى يمكن عنده حدوث تطور مكافئ مناسب للبشر ولكل أفراد المجتمع. كل النظم الاجتماعية السابقة كانت أفقر بكثير من أن تحقق ذلك، وكان الإنتاج الرأسمالي أول ما كون الثروة وقوى الإنتاج اللازمتين لحدوث ذلك التطور، لكنه أوجد في الوقت نفسه، بين العمال الكثيرين المقهورين، طبقة اجتماعية أكثر إكراها على امتلاك الثروة وقوى الإنتاج لاستخدامهما من أجل المجتمع بأسره ... (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلدان الأول والسادس عشر).
وبحلول عام 1878 أصبح إنجلز أيضا، على نطاق ضيق، كاتب سيرة ذاتية عن ماركس؛ حيث أسهم بمقالة في كتاب سنوي ألماني تحدث فيه عن «الرجل الذي كان أول شخص يمنح الاشتراكية؛ ومن ثم الحركة العمالية المعاصرة برمتها، أساسا علميا»، واختار إنجلز تناول اكتشافين فقط من اكتشافات ماركس؛ ألا وهما: «تصوره الجديد للتاريخ» و«التفسير النهائي للعلاقة بين رأس المال والعمل». وسارت مناقشة موضوع التاريخ على نحو إيجابي جدا، فقال: «أثبت ماركس أن التاريخ السابق كله هو تاريخ للصراع الطبقي»، وأن «تلك الطبقات تدين بأصلها واستمرار بقائها» إلى «ظروف معينة محسوسة ماديا ينتج المجتمع في ظلها ويتبادل وسائل المعيشة في فترة معينة»؛ ومن هذا المنطلق «أصبحت كل الظواهر التاريخية قابلة للتفسير بأبسط الطرق، مع توافر معرفة كافية بالحالة الاقتصادية الخاصة بالمجتمع.» وفي النسخة المنشورة من كتاب إنجلز الذي ربما يعد أكثر شهرة: «خطاب على قبر ماركس»، ربط هذه النقطة مرة أخرى بعمل داروين، واصفا إياها بأنها: «قانون تطور الطبيعة العضوية»، وأعطاها اسما مصطلحيا هو ««قانون» تطور التاريخ البشري». وأصبحت نظرية فائض القيمة في خطاب إنجلز التأبيني هي ««القانون الخاص» بالحركة التي تحكم نظام الإنتاج الرأسمالي المعاصر». بعدها أشار على نحو غامض إلى حد ما إلى «الاكتشافات المستقلة» الأخرى لماركس، وربط ماركس العالم بماركس «الثوري» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني، مع تمييزي لبعض المصطلحات المهمة)؛ وأضاف قائلا:
اعتبر ماركس أن العلم قوة ثورية ديناميكية على مر التاريخ، وعلى الرغم من أنه كان يستقبل بسعادة بالغة أي اكتشاف علمي جديد في بعض العلوم النظرية، التي ربما كان تطبيقها العلمي مستحيل التصور إلى حد ما في ذلك الوقت، فقد كان يشعر بنوع مختلف تماما من السعادة عندما يكون الاكتشاف منطويا على تغييرات ثورية فورية في مجال الصناعة، وفي مجال التطور التاريخي في العموم (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني).
في السنوات التي أعقبت وفاة ماركس عام 1883 قدم إنجلز مقدمات لطبعات جديدة من كتيب «البيان الشيوعي» الذي ألفاه معا (خمس طبعات)، ومن كتابه «حالة الطبقة العاملة في إنجلترا» (طبعتين)، ولثمانية من أعمال ماركس؛ وهي: «الحرب الأهلية في فرنسا»، و«النضال الطبقي في فرنسا»، و«محاكمة الشيوعيين في كولونيا»، و«نقد برنامج جوته»، و«انقلاب الثامن عشر من برومير للوي بونابرت»، و«فقر الفلسفة»، و«خطاب عن التجارة الحرة»، و«العمل المأجور ورأس المال». قدم لكل هذه الأعمال ملاحظات وتغييرات تحريرية، لكن مشروعاته الأساسية باعتباره محررا لماركس تمثلت في المجلدين الثاني والثالث من كتاب «رأس المال» (مع المقدمات)، المأخوذين من مخطوطات ماركس غير المنشورة.
يمكن توضيح دور إنجلز بصفته حارسا لما اعتبره اكتشافات ماركس في العلوم التاريخية والاقتصادية، من خلال الالتفات إلى مقدمتين من المقدمات المذكورة في السابق؛ فلقد أعاد إنجلز نشر مقالات ماركس التي تحمل عنوان «النضال الطبقي في فرنسا» في صورة كتيب عام 1895 وقدمه باعتباره: «أولى محاولات ماركس في تفسير جزء من التاريخ المعاصر في ضوء تصوره المادي، وعلى أساس الوضع الاقتصادي المعروف.» وكانت مهمة ماركس، وفقا لإنجلز، هي «توضيح العلاقة السببية الداخلية» في التطور التاريخي الذي كان ضروريا ومميزا لأوروبا، وكان الهدف من ذلك هو «تتبع الأحداث السياسية بالعودة إلى آثار ما اتضح، في التحليل النهائي، أنه أسباب اقتصادية.» إلا أن القارئ الذي بحث عن قوائم محددة لتلك الأسباب الاقتصادية في كتاب «النضال الطبقي في فرنسا»، سوف يصاب بالإحباط، كما صرح إنجلز في إحدى الفقرات التوضيحية في الكتيب؛ وقد كتب إنجلز فقال إن العوامل الاقتصادية كانت «معقدة ومتغيرة باستمرار»؛ لذلك فإن «الطريقة المادية المذكورة هنا في الغالب تحصر نفسها إلى حد ما في إرجاع الصراعات السياسية إلى الصراعات بين مصالح الطبقات الاجتماعية الحالية وبعض أطياف من الطبقات الأخرى»؛ ومن ثم يمكن إثبات أن الأحزاب السياسية كانت تعبيرا سياسيا عن تلك الطبقات وبعض أطياف من الطبقات الأخرى (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
الواقع أن إنجلز كان يشير إلى مصدر خطأ كبير في سرد ماركس الذي كتبه عام 1850؛ نظرا لأن «التاريخ الاقتصادي لفترة معينة لا يمكن أبدا تناوله في وقته المعاصر»، بل يتم تناوله فقط بعد استعراض البيانات الإحصائية، على سبيل المثال، التي لا بد من جمعها في فترات تالية؛ إلا أن سرد ماركس لأحداث عامي 1848 و1849 أثبت صحته عند الخضوع لاختبار مزدوج - من وجهة نظر إنجلز - متمثل في الدراسة اللاحقة للظروف الاقتصادية لتلك الفترة، وكذلك إعادة نظر ماركس نفسه في تلك الأحداث في ضوء انقلاب نابليون بونابرت في أواخر عام 1851. ومع ذلك، فإن سرد ماركس للأحداث السياسية المعاصرة فيما يتعلق بالطبقات والأحزاب والأفراد، لا يتناسب مع القالب المنهجي الذي يتبناه إنجلز، والذي يركز على «الأسباب الاقتصادية «النهائية»» في «حركة الصناعة والتجارة» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول).
في عام 1891 عندما أعيد نشر مقالات ماركس في كتاب «العمل المأجور ورأس المال» - تلك المقالات التي كانت قد نشرت عام 1849 - تساءل إنجلز في مقدمته للكتاب عما «إذا كان ماركس سيوافق على تقديم نسخة جديدة غير معدلة من إنتاجه الأصلي» في صورة «كتيب ترويجي»، وكتب أن «ماركس كان بالتأكيد سيجعل مقالاته القديمة التي يعود تاريخها إلى عام 1849 متسقة مع وجهة نظره الجديدة»، التي فصلها في كتابه «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» الذي نشر عام 1859، وفي المجلد الأول من كتاب «رأس المال» الذي نشر عام 1867؛ ولهذا السبب حذر إنجلز القراء قائلا: «هذا الكتيب ليس كما كتبه ماركس عام 1849، بل يمكن القول إنه كما كان سيكتبه عام 1891.» كل تعديلات إنجلز تعتمد على نقطة واحدة؛ ألا وهي أن العامل، وفقا للنص الأصلي، يبيع عمله للرأسمالي مقابل الأجر، بينما في تصور ماركس الناضج كان العامل يبيع «قوة» عمله؛ هذا التعديل الذي يبدو صغيرا مكن ماركس من الخروج من مأزق اقتصادي، من خلال وضع نظرية فائض القيمة (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الأول). أما في عمل ماركس المنشور عام 1849، فقد أشار ماركس بالفعل إلى العمل باعتباره: «القوة الإبداعية التي لا يستبدل بها العامل فحسب ما يستهلكه، بل يعطي من خلالها للعمل المتراكم قيمة أكبر مما كانت لها في السابق.» كان هذا جوهر تصور ماركس عام 1859، وإن لم يكن باستخدام المصطلحات المحددة نفسها؛ وهذا ما صححه إنجلز بحماس (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد السادس).
وقت إعداد مادة الكتاب الذي بين أيدينا (عام 1980)، لم يكن الأكاديميون قد تحققوا من الكتاب الذي حرره إنجلز من مسودات المخطوطات التي تركها ماركس للمجلدين الثاني والثالث من كتاب «رأس المال»؛ لأن المخطوطات نفسها - التي قيل إنها كانت في موسكو - لم تكن متاحة لهم. وسيحين وقت نشر تلك المخطوطات خلال العقود المتبقية من هذا القرن، وحينها سوف نعلم بالضبط كيف تصور إنجلز في هذه الأعمال «حدود التحرير»، تلك الجملة التي استخدمها بنفسه في مقدمة المجلد الثالث. وفي الوقت الراهن (عام 2003)، سوف تبدأ هذه المناقشة الأكاديمية المثيرة للجدل.
منذ أن وجد نقد الاقتصاد السياسي الذي كتبه ماركس طريقه إلى الصحافة عام 1859، أصبحت آراء إنجلز حول أعمال ماركس، وأعماله الشخصية، وحول التاريخ والسياسة، تصطبغ على نحو متزايد بلغة السببية النهائية وقوانين التطور العلمية. نالت هذه الموضوعات تفصيلا مستقلا في الأعمال المهمة التي كتبها إنجلز في الفترة ما بين 1870 و1895. وتلك هي الأعمال التي قدمت - وما زالت تقدم - لملايين القراء الشروح التقليدية للماركسية.
الفصل السادس
ناپیژندل شوی مخ
إنجلز العالم
حدثت طفرة هائلة في أعداد المؤمنين بالأفكار الماركسية عام 1875 مع تكوين حزب اشتراكي كبير موحد وناجح انتخابيا في ألمانيا، وتقبل إنجلز التحدي.
في البداية اتبع منهجا غير مباشر تمثل في نقد أعمال أوجين فون دوهرينج، وهو أكاديمي تحول للاشتراكية وكان يحظى بتأثير متزايد داخل الحزب. واستجابة لمطالب الجماعة المناهضة لدوهرينج داخل قيادة الحزب، تولى إنجلز مهمة توضيح «موقفنا في مواجهة ذلك الرجل»، بتعبيره الذي قاله في خطاب لماركس في 24 مايو 1876 (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد الرابع والثلاثون). في سبعينيات القرن التاسع عشر، نشر دوهرينج مجموعة أعمال هي: «التاريخ النقدي للاقتصاد السياسي والاشتراكية»، و«مقرر في الاقتصاد السياسي»، و«مقرر في الفلسفة باعتبارها نظرة علمية صرفة للعالم ونسق حياة». وأخذ إنجلز منطقيا الكتاب الأخير كهدف أساسي لهجومه؛ لأن هذا العمل «يكشف على نحو أفضل الجوانب والأسس الضعيفة للحجج المقدمة عن الاقتصاد»، وكتب إنجلز إلى ماركس فقال إن «تفاهات» دوهرينج، عرضت «بطريقة أبسط من تلك التي عرضت بها في الاقتصاد.» كانت بنية نقد إنجلز لدوهرينج مستوحاة إلى حد كبير من الملخص غير المترابط الذي وضعه دوهرينج لما أسماه «فلسفة الواقع». وطبقا لإنجلز، قدم دوهرينج قدرا قليلا من «الفلسفة الفعلية؛ من منطق صوري وجدل، وميتافيزيقا ... إلخ»، وكان لديه منهج مضحك تمثل في اعتبار «كل ما يبدو طبيعيا أنه طبيعي في الواقع» (المراسلات المختارة لماركس وإنجلز؛ أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد الرابع والثلاثون).
ظهر كتاب «ثورة السيد أوجين دوهرينج في العلوم»، المعروف باسم «الرد على دوهرينج» على شكل أجزاء في صحيفة اشتراكية ألمانية في الفترة ما بين عامي 1877 و1878، ثم نشر في ثلاثة كتيبات، ثم نشر مرة أخرى في هيئة كتاب قبل أن يفرض قانون 1878 المناهض للاشتراكية الرقابة في ألمانيا بوقت قصير، وأسفر العمل عن اضطراب كبير داخل الحزب الاشتراكي، ونشرت ثلاثة فصول من الكتاب تحت عنوان: «الاشتراكية المثالية والاشتراكية العلمية» في ترجمة فرنسية عام 1880، وباللغة الألمانية عام 1883، وعاد الكتاب الكامل في الظهور عام 1886 وعام 1894. وبحلول عام 1892 كان كتيب «الاشتراكية المثالية والاشتراكية العلمية» متداولا، كما زعم إنجلز، بعشر لغات. وكتب إنجلز فقال: «لا أدري إذا ما كان أي عمل اشتراكي آخر - حتى «البيان الشيوعي» الذي كتبته مع ماركس عام 1848، وحتى «رأس المال» الذي ألفه ماركس - قد حظي بهذا القدر من الترجمات؛ ففي ألمانيا ظهرت أربع طبعات، إجمالي عدد النسخ فيها 20 ألف نسخة تقريبا» (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). لقد وضع إنجلز الماركسية على الخريطة وجعلها تحظى بالشهرة.
كانت لدى إنجلز ثلاثة أسباب لمناقشة كتابات دوهرينج؛ أولها «الحيلولة دون إتاحة فرصة جديدة للانقسام الفكري والبلبلة داخل الحزب، الذي كان لا يزال في بداياته وبدأ لتوه في تحقيق وحدة واضحة المعالم»؛ فقد كانت آراء دوهرينج تحظى بالقبول باعتبارها آراء اشتراكية دون أي تحفظ، هذا فضلا عن استعداد بعض الأشخاص لنشر هذا المعتقد بين العمال، وخروج البعض على سياسة التحرير الخاصة بجريدة الحزب.
أما السبب الثاني، فهو ما قال عنه إنجلز عام 1878 «فرصة لصياغة آرائي في صورة إيجابية حول الموضوعات المثيرة للجدل، التي تستأثر اليوم باهتمام علمي أو عملي عام.» وعلى الرغم من أن عمل إنجلز لم يقدم نظاما «بديلا»، فقد تمنى إنجلز «ألا يفشل القارئ في ملاحظة الرابط الكامن في الآراء المختلفة التي قدمتها.»
والسبب الثالث أن إنجلز كان يهدف إلى تحذير القراء من الأنظمة الألمانية الأخرى التي تمثل «الهراء المطلق»، والتي فيها «يكتب الناس عن كل موضوع لم يدرسوه، ويقدموا ما كتبوه على أنه المنهج العلمي الدقيق الوحيد.» لم يكن دوهرينج سوى «واحد من أكثر الأشخاص النمطيين» الذين يروجون ل «العلوم الزائفة المغالية في إثبات مصداقيتها»، ومع ذلك، اعترف إنجلز صراحة أنه هاو غير متخصص في التشريع والعلوم الطبيعية، وجعل إسهامه في تلك الموضوعات قاصرا على «تصحيح الحقائق التي ليس فيها خلاف» (الرد على دوهرينج).
وبالتدريج استحوذ المشروع الثاني - عرض «الآراء الإيجابية» - على الاعتبارات الأخرى الموجودة في ذهن إنجلز. وفي مقدمة الطبعة الثانية لكتاب «الرد على دوهرينج» عام 1885، المكتوبة بعد نحو عامين من وفاة ماركس، كتب إنجلز أن جدله «تحول إلى عرض مترابط بنحو أو بآخر للمنهج الجدلي والنظرة الشيوعية للعالم التي حاربت أنا وماركس من أجلها.» واستطرد فقال: «هذه النظرة تحظى الآن بالاعتراف والدعم حتى خارج حدود أوروبا، في كل دولة تحتوي على طبقة عاملة من ناحية، ومنظرين علميين دءوبين شجعان من ناحية أخرى.» ورأى إنجلز أن هذا الجمهور كان حريصا على نحو كاف على «تقبل الجدل المناهض لمعتقدات دوهرينج فقط من أجل التصورات الإيجابية.» وما وصفه في مقدمة عام 1878 بأنه «آرائي»، أصبح في كتابات إنجلز اللاحقة عن ذلك الموضوع آراء مشتركة بينه وبين ماركس (الرد على دوهرينج). وفي مقدمة عام 1892 لكتيب «الاشتراكية المثالية والاشتراكية العلمية»، قال إنجلز إن ترويج «الآراء التي أعتنقها أنا وماركس» هو «السبب الأساسي الذي دفعني للاضطلاع بهذه المهمة المزعجة من جميع النواحي الأخرى.» لقد منحته الشمولية المنهجية في أعمال دوهرينج فرصة لتطوير تلك الآراء المشتركة حول مجموعة كبيرة متنوعة من الموضوعات (الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، المجلد الثاني). والغريب أن ماركس هو صاحب المقدمة الأصلية للكتيب، لكنها كانت موقعة باسم زوج ابنته الاشتراكي الفرنسي بول لافارج (أعمال ماركس وإنجلز بالألمانية، المجلد التاسع عشر).
وفي عام 1894 ظهر ماركس على نحو أكبر في عرض إنجلز لكتاب «الرد على دوهرينج»؛ نظرا لأن إنجلز قد أضاف بعد ذلك بعضا من محتوى مخطوطات ماركس إلى الفصل العاشر من الكتاب. وبعد أن اقتطع إنجلز في السابق مسودات ماركس من أجل الجزء الذي يتحدث عن الاقتصاد السياسي في الكتاب، ضمن إنجلز ما اقتطعه من المسودات وكرر الشكر والتقدير الذي كان مكتوبا في طبعة 1885، وكانت هذه هي أول مرة يكشف فيها على الملأ أن ماركس قد ساعده في تأليف جزء صغير من كتاب «الرد على دوهرينج».
في الفصل الأول من العمل بصورته الأصلية التي نشره بها إنجلز، أسهب في توضيح الفروق التي تناولها عام 1859 في مراجعته النقدية لكتاب «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» - وهي: الميتافيزيقا والجدل، والمثالية والمادية، والمدخل التاريخي والمنطقي لتطور الرأسمالية - ونسب الفضل إلى ماركس في اكتشاف «التصور المادي للتاريخ»، و«سر الإنتاج الرأسمالي من خلال فائض القيمة»، وعلق إنجلز على الأمر الأول فقال:
ناپیژندل شوی مخ
لقد اتضح أن كل التاريخ الماضي كان تاريخا لصراعات الطبقات؛ وأن طبقات المجتمع المتناحرة هذه كانت دائما نتاج أنظمة الإنتاج والتبادل؛ أي باختصار نتاج الظروف الاقتصادية في عصرها. ورأينا أن الهيكل الاقتصادي للمجتمع يشكل دائما الأساس الحقيقي، الذي من خلال البدء به فقط يمكننا التوصل لتفسير نهائي للهيكل العلوي الكامل للمؤسسات القضائية والسياسية، وكذلك للأفكار الدينية والفلسفية وغيرها من الأفكار الخاصة بأي فترة تاريخية معينة.
ولخص إنجلز الاكتشاف الثاني - نظرية فائض القيمة - على النحو التالي:
لقد أوضحنا أن الاستحواذ على العمل غير مدفوع الأجر هو أساس نظام الإنتاج الرأسمالي، وأساس استغلال العامل الذي يحدث في ظله؛ وأنه حتى لو اشترى الرأسمالي قوة العمل من العامل بقيمتها الكاملة باعتبارها سلعة في السوق، فإنه سيظل يحصل على قيمة أكبر مما دفع مقابلها؛ وأنه في التحليل النهائي يشكل فائض القيمة هذا مجموعات القيمة التي منها تتراكم باستمرار الكتل الرأسمالية المتزايدة في أيدي الطبقات المالكة (الرد على دوهرينج).
كان إنجلز مؤسس المادية الجدلية والتاريخية، والمعتقدات الفلسفية والتأريخية التي طورها الماركسيون في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وأصبحت تلك المعتقدات أساس الفلسفة والتاريخ الرسميين في الاتحاد السوفييتي وفي معظم البلدان الأخرى التي أعلنت أنها بلدان ماركسية؛ كما أصبحت أيضا نقطة جدل مهمة داخل المجموعات السياسية الماركسية في البلدان غير الماركسية، وأصبحت مصطلحات هذه المعتقدات مألوفة في الفلسفة الأكاديمية وفي علم التأريخ، والسبب في ذلك يرجع في الأساس إلى أعمال كتاب ليس لهم صلة بالاتحاد السوفييتي. لقد طور إنجلز آراءه الجدلية على النحو الذي عبر به عنها عام 1859 في أول طبعة لكتاب «الرد على دوهرينج» (1878)، على الرغم من أن تلك الآراء كانت بعيدة عن الصياغة المنظمة. وفي الفصل الأول، كتب إنجلز عن «الميتافيزيقا» فقال:
يعتبر الميتافيزيقي الأشياء وانعكاساتها الذهنية المتمثلة في الأفكار، مواضيع للبحث بعضها منفصل عن بعض، ينظر إليها واحدا بعد الآخر، وواحدا دون الآخر، وهي ثابتة وجامدة ومعطاة مرة واحدة وإلى الأبد. إنه لا يفكر إلا في التضاد بين الأشياء، دون توسط بينها، ويقول: «نعم نعم، لا لا؛ وما زاد عن ذلك، فهو ضرب من الشر.» بالنسبة إليه، الشيء يكون إما موجودا وإما غير موجود ؛ فالشيء لا يمكن أن يكون نفسه وشيئا آخر في الوقت نفسه؛ فالموجب والسالب يتنابذان تماما، والسبب والنتيجة يقف كل منهما للآخر في حالة تناقض صارم (الرد على دوهرينج).
وزعم إنجلز على النقيض من ذلك أن «قطبي التناقض» يتداخلان فعليا، فكتب أن الجدل، خلافا للميتافيزيقا (التي تغفل التداخل)، «يفهم الأشياء وتمثيلاتها بترابطها، ويتابعها وحركتها وأصلها ونهايتها الأساسية»، وأن «الطبيعة دليل على الجدل»؛ ولهذا السبب احتضنت المادية الحديثة «معظم الاكتشافات الحديثة في العلوم الطبيعية»، وكانت «جدلية في الأساس» (الرد على دوهرينج). وفي الفصول التالية استعرض إنجلز «الكم والكيف» و«نفي النفي»، وهما قانونان آخران من القوانين الجدلية، وكتب فقال إن: «الجدل لا يعدو أن يكون علم القوانين العامة للحركة وتطور الطبيعة، والفكر والمجتمع البشري» (الرد على دوهرينج).
عند استعراض «التصور المادي للتاريخ» في كتاب «الرد على دوهرينج»، ربط إنجلز هذه النظرة بنظرته «الجدلية» للعلوم، زاعما أن «القوى الاجتماعية تعمل بالضبط مثل القوى الطبيعية»، وأن «الأسباب النهائية لكل التغيرات الاجتماعية والثورات السياسية يجب البحث عنها ... في التغيرات في أنماط الإنتاج والتبادل ... ليس في الفلسفة، وإنما في «النظام الاقتصادي» الخاص بكل حقبة محددة» (الرد على دوهرينج). وفي مقدمة عام 1885 لكتاب «الرد على دوهرينج»، ربط إنجلز ربطا أكثر وضوحا بين آرائه حول الجدل وعمل ماركس عن الاقتصاد السياسي وتطور المجتمع الصناعي المعاصر، فقال: «كنت أنا وماركس إلى حد كبير الشخصين الوحيدين اللذين أنقذا الجدل الواعي من الفلسفة المثالية الألمانية، وطبقناها في التصور المادي للطبيعة والتاريخ.» واستطرد إنجلز في موضوعه فكتب أنه كان يهدف إلى إقناع نفسه تفصيلا «بالأمور التي لم أكن في شك منها في العموم»:
إنه في الطبيعة، وسط فوضى التغيرات التي لا تعد ولا تحصى، تفرض القوانين الجدلية الخاصة بالحركة نفسها، تماما مثل تلك القوانين التي تحكم وقوع الأحداث عن طريق المصادفة في التاريخ، وهي القوانين نفسها التي تكون على نحو مشابه السمة السائدة على مدار تاريخ تطور الفكر البشري، وترتقي تدريجيا إلى الوعي في عقل الإنسان (الرد على دوهرينج).
إن استخلاص الأفكار الرئيسية لجدل إنجلز الموجود في مقدمة عام 1885 يجعل كتاب «الرد على دوهرينج» واضحا ومفهوما، على النقيض من العمل غير المنظم المنشور عام 1878 والمنسوب لماركس.
كانت فكرة إنجلز عن الميتافيزيقا غير مألوفة؛ حيث عرفها بأنها موقف فلسفي معين (أي: الاعتقاد بأن المفاهيم لديها مرجعيات ثابتة، وأن الحقيقة والزيف هما الصفتان الوحيدتان والواضحتان للفرضيات)، بدلا من كونها مجرد إطار للمفاهيم العامة المجردة يمكن ملؤه بالآراء الفلسفية الجوهرية المتعلقة بالموجودات وسبب وجودها. إن حديثه عن الجدل باعتباره عملية تطور من خلال التعارض (أو التناقض أو التضاد)، يتفق مع جهود هيجل في تحديد المتناقضات المختلفة التي تظهر في تطور الظواهر التي فحصها، إلا أن كلا من هيجل وإنجلز كان يكتب كما لو كان الجدل يعكس عملية ضرورية وحتمية من عمليات التطور التي تتبع لها - أو حتى تخضع لها - عملية الاختيار الإنساني في نهاية المطاف، واعتبر كل من هيجل وإنجلز أن العمليات الطبيعية جدلية «في حد ذاتها»؛ مما يوحي بوجود نوع من المعرفة أنكرها معظم الفلاسفة المعاصرين. على النقيض من ذلك، استنتج ماركس من خلال سرده الاقتصادي والسياسي للمجتمع الرأسمالي أن الثورة كانت - إن جاز القول - جيدة مثلما كانت حتمية، دون الاستعانة بفكرة الضرورة التاريخية. وبالمثل، لم يتطرق إلى النطاق المعقد المتمثل في الرابط السببي بين الظواهر المادية والسلوك البشري، فيما عدا فكرة أن الظروف المادية للإنتاج تخلق احتمالات للاختيار الإنساني، وفي الوقت نفسه تضع قيودا على ما يمكن إنجازه. وفي الخاتمة التي كتبها للمجلد الأول لكتاب «رأس المال»، عرف الجدل العقلاني بأنه ذلك المتضمن في فهمه الإيجابي للظروف فهما لنقيضه. وفي حين أن هيجل لم يقترب من تعريف الجدل باستثناء تعليقه الذي قدمه في مقدمة كتاب «علم المنطق»، قائلا إنه إدراك للأمور الإيجابية الموجودة في الأمور السلبية، فقد ربط إنجلز الجدل بالقوانين الطبيعية المرتبطة بالحركة في الطبيعة، والحركة في التاريخ (تطور الأحداث على الأرجح)، والحركة في الفكر (قواعد المنطق الصوري على الأرجح)؛ وأكد فحسب على الرابط المزعوم بين المادة الموجودة في حالة حركة (التي درسها إنجلز في الكيمياء والفيزياء) والتاريخ والفكر، ومن غير المفاجئ أنه لم يحدده مطلقا. وبالرغم من ذلك، لم يكن هيجل أو إنجلز أو ماركس من السذاجة بحيث يستعينون بالصيغة الثلاثية المتمثلة في الإثبات والنفي ونفي النفي، في كل ما فهمه كل منهم على حدة من خلال الجدل، وتلك الصيغة الثلاثية طالما نسبت إليهم عن طريق الخطأ. وبالفعل سخر ماركس بوضوح من هذا الأسلوب المستخدم في فهم الفلسفة الهيجلية. وقد اخترع الصيغة الثلاثية هاينريش موريتس تشاليبيوس، وهو من أوائل المعلقين على فلسفة هيجل بعد فترة قصيرة من وفاته، وهذا التفسير لم يوضح الفكر الهيجلي - بل فعل النقيض - وكانت له نتيجة أخرى تمثلت في إساءة تفسير منهج ومحتوى أعمال ماركس وإنجلز على نحو خطير.
ناپیژندل شوی مخ